الفترة المُعاصِرة
هناك صعوبات خاصَّة تواجهنا حين نعالِج فلسفة الأعوام السبعين أو الثمانين الأخيرة. ذلك لأنَّنا ما زلنا قريبين من هذه التطوُّرات إلى حدٍّ يصعُب علينا معه أن ننظُر إليها من بُعد، وبالتجرد المطلوب. فالمُفكرون الأقدم عهدًا قد صمَدوا لاختبار التقويم النقدي الذي تقوم به الأجيال التالية لهم، وبمُضيِّ الزمن تحدُث عملية انتقاءٍ تدريجي تساعد على تيسير مهمَّة الاختيار. ولم يحدُث إلا في حالاتٍ نادرة جدًّا أنِ استطاع مفكرٌ ثانوي أنْ يُحرِز في المدى الطويل قدرًا من الشهرة لا تُبرِّره أعماله، وإن كان يحدُث بالفعل أن يلحق الظُّلم بأشخاصٍ لهم أهميَّتُهم، فيغيبون في زوايا النسيان.
أما في حالة المُفكِّرين المُنتمِين إلى الفترة القريبة، فإنَّ مسألة الاختيار تزداد صعوبة، كما تقلُّ فُرَص الوصول إلى نظرةٍ متوازنة. وعلى حين يكون من المُمكن بالنسبة إلى الماضي، تأمُّل مراحل التطور في مُجملها، فإن الحاضر أقرب إلينا من أن يُتيح لنا التمييز بين مختلف عناصر القصة بنفس القدر من الثقة واليقين. والواقع أن الأمر لا يمكن أن يكون على خلاف ذلك. فمِن السهل نسبيًّا أن يكون المرء حكيمًا بأثرٍ رجعي، وأن يصِل إلى فهم تطوُّر التراث الفلسفي. أما لو تخيَّلنا أن من الممكن استنباط دلالة التغيُّرات المعاصرة بكل تفاصيلها النوعية المُميزة، لكان ذلك وهمًا هيجليًّا. وأقصى ما يُمكِننا أن نأمُل فيه هو أن نُدرك بعض الاتجاهات العامَّة التي يمكن ربطُها بأحداثٍ أسبق عهدًا.
لقد تميَّزت الفترة المتأخِّرة من القرن التاسع عشر بعددٍ من التطوُّرات الجديدة التي كان لها تأثيرها في المناخ العقلي لعصرنا الحاضر. فهناك أولًا انهيار الأساليب القديمة في الحياة، التي كانت جذورها ترجع إلى عصر ما قبلَ التصنيع. ذلك لأنَّ النمو الهائل في القدرة التكنولوجية جعل الحياة عمليةً أعقدَ بكثيرٍ جدًّا مما اعتدْنا أن نراها عليه من قبل. وليس من مهمَّتِنا هنا أن نُقرِّر إن كان هذا خيرًا أو شرًّا، بل يكفينا أن نلاحظ أنَّ المطالب المفروضة على عصرِنا أشدُّ تنوعًا بكثير، وأنَّ الشروط المطلوبة منَّا لكي نواصِل حياتنا المُعتادة أشدُّ تعقيدًا بكثيرٍ مما كانت عليه في أي وقتٍ مضى.
هذا كلُّه ينعكس على المجال الثقافي والعقلي بدَوره. فعلى حين أنه كان في وسع شخصٍ واحدٍ من قبل أن يكون مُتمكنًا من عدَّة فروع علمية، أصبح من الصَّعب على نحوٍ مُتزايد في الوقت الراهن، أنْ يكتسب شخصٌ واحد معرفةً متينةً حتى بميدانٍ علمي واحد. والواقع أنَّ تفتيت الميادين العقلية إلى أجزاء يزداد نطاقها ضِيقًا بالتدريج، قد أدَّى في العصر الحاضر إلى ارتباكٍ حقيقي في لغة الحوار، وهذه الحالة غير الصحية إنما هي حصيلة تغيُّراتٍ مُعيَّنة فرضَتْ نفسها مع نمو المجتمع التكنولوجي المعاصر، فحتى عهدٍ ليس بعيدًا في الماضي كانت تسُود في كافة أرجاء أوروبا الغربية، لا في بلدٍ بعينه فحسْب، خلفية مشتركة يتقاسَمُها كل من بلغوا مستوًى مُعيَّنًا من التعليم، وبالطبع لم تكن هذه مظهرًا للشمول أو المساواة في الفُرَص؛ فقد كان التعليم عادة، في تلك الفترة، مرتبطًا بامتيازٍ خاص، وكان من نصيب قلةٍ محظوظة، وهو وضع أُزيل في الوقت الراهن إلى حدٍّ بعيد. فالمعيار الوحيد المقبول الآن هو الكفاءة، التي هي ميزةٌ من نوعٍ مختلف. على أنَّ هذا الأساس المشترَك للتفاهم قد اختفى منذ ذلك الحين، وأصبحت مطالب التخصُّص وضغوطه تُوجِّه الشباب إلى قنواتٍ أضيق، قبل أن تُتاح لهم فرصة تنمية اهتماماتٍ أوسع، وفهمٍ أفضل للعالم. ونتيجةً لهذا كلِّه أخذت تزداد إلى حدٍّ بعيد صعوبة الاتصال والتفاهُم بين أولئك الذين يكرِّسون أنفسهم لفروعٍ مختلفة في البحث.
ومن السِّمات الجديدة الأخرى للحياة العقلية في القرن التاسع عشر، الانفصال بين النشاط الفني والنشاط العلمي. ويعدُّ هذا الانفصال تراجعًا إذا ما قُورِن بالمزاج العقلي الذي كان سائدًا لدى أصحاب النزعة الإنسانية في عصر النهضة. فعلى حين أنَّ هؤلاء المفكرين الأسبق عهدًا كانوا ينشُدون العِلم والفن في ضوء مبدأ عام واحد من التوافُق والتناسُب، فإنَّ القرن التاسع عشر قد تمخَّض، بتأثير الحركة الرومانتيكية، عن ردِّ فعلٍ عنيف ضدَّ الأضرار التي بدا لهم أن التقدُّم العلمي يُلحِقُها بالإنسان. فقد خُيِّل إليهم أن الأسلوب العلمي في الحياة بمَعامِلِه وتجاربه، يخنق روح الحرية والمغامَرة التي لا يستغني عنها الفنان. ومن الغريب أنَّ الرأي القائل بأن النظرة التجريبية لا تكشف أسرار الطبيعة، قد أعرب عنه جوته من قبل، وكان ذلك قطعًا في إحدى حالاته الرومانتيكية. وعلى أية حالٍ فإن التضادَّ بين المعمل ومَرسَم الفنان يُعبر بوضوحٍ عن الانفصال الذي أشرْنا إليه.
وفي الوقت ذاته حدَث نوعٌ من التباعُد بين العلم والفلسفة، فخلال القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، كان أولئك الذين قاموا بدورٍ هامٍّ في الفلسفة، في معظم الأحيان. أشخاصًا لا يمكن أنْ يوصَفوا بأنهم مجرد هُواةٍ في المسائل العلمية. غير أنَّ هذا الاتِّساع في نطاق النظرة الفلسفية اختفى خلال القرن التاسع عشر، في إنجلترا وألمانيا على الأقل، وكان ذلك راجعًا في المحلِّ الأول، إلى تأثير الفلسفة المثالية الألمانية. أما الفرنسيُّون فكانوا في ذلك الحين، كما ذكرْنا من قبل، مُحصَّنين ضد تأثير تلك المثالية الألمانية، لسببٍ بسيط هو أن لُغتهم لا تتلاءم بسهولةٍ مع هذا النوع من الفكر التأمُّلي، ونتيجة لذلك، لم يكن للانفصال بين العلم والفلسفة نفس القدْر من التأثير في فرنسا، ولكن هذا الانشقاق استمرَّ على وجه العموم منذ ذلك الحين. صحيح أنَّ العلماء والفلاسفة لا يتجاهل كلٌّ منهم الآخرين تجاهلًا تامًّا، ومع ذلك يبدو من المعقول أن نذكُر أنَّ كل فريقٍ كثيرًا ما يُخفِق في فَهم ما يقوم به الفريق الآخر. وهكذا فإنَّ مغامرات بعض العلماء المُعاصِرين في ميدان الفلسفة ليست في أغلب الأحيان، أكثر توفيقًا من محاولات الفلاسفة المثاليِّين في الاتجاه المضاد.
أما على الصعيد السياسي فإنَّ القرن التاسع عشر كان في أوروبا عصر خلافاتٍ قومية مُتزايدة، على خلاف القرْن الأسبق الذي لم يكن ينظُر إلى تلك المسائل بمِثل هذه الحدَّة. ففي القرن الثامن عشر كان في وُسع النبلاء الإنجليز أن يقضوا شهور الشتاء على سواحل البحر المتوسِّط، كما اعتادوا من قبل، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تخُوض حربًا ضدَّ إنجلترا، وهكذا كانت الحرب، مع كلِّ قُبحها، أخفَّ إلى حدٍّ بعيد مما أصبحت عليه بعد ذلك. ولكن الوضع قد اختلف في الحروب القومية الكُبرى التي نشِبت خلال الأعوام المائة الأخيرة، فأصبحت الحرب أكفأ بكثير، شأنها شأن العديد من الأمور في حياتنا المعاصرة. والشيء الوحيد الذي أنقذ العالم من الدَّمار الكامل هو انعدام الكفاءة الأزلي في حُكَّامه. ولو قُدِّر لشخصٍ في مثل عبقرية أرشميدس أن يُمسِك بمقاليد الحُكم في أيَّامنا هذه، بحيث تكون الآلات الموضوعة تحت تصرُّفه قنابل ذرية بدلًا من المنجنيق، لكان مصيرنا الفناء الفوري.
على أنَّ الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر لم تستطع أن تتنبَّأ بكلِّ هذه التطوُّرات، بل كان يسود، على العكس من ذلك، نوع من التفاؤل العلمي جعل الناس يؤمنون بأنَّ مملكة السماء أوشكت أنْ تحِلَّ في الأرض، وأدَّى التقدُّم السريع الذي تحقَّق في العلم والتكنولوجيا إلى الاعتقاد بأنَّنا أوشكْنا على حلِّ جميع مشكلاتنا، وكان المتوقَّع أن تكون فيزياء نيوتن هي الأداة التي تضطلع بهذه المهمة، غير أنَّ كشوف الجيل التالي قد أحدثت صدمةً عنيفة لدى أولئك الذين ظنُّوا أن كل ما تبقَّى أمامنا هو تطبيق المبادئ المعروفة للنظرية الفيزيائية على الحالات الخاصة التي تعرِض لنا. كذلك فإنَّ الكشوف المتعلِّقة بالتركيب الداخلي للذرَّة قد أدَّت في عصرنا الراهن، إلى زعزعة النظرة الهادئة المُستقرَّة التي كانت سائدةً عند نهاية القرن الماضي.
ورغم هذا كله فما زال هناك قدْرٌ من هذه النزعة التفاؤلية العلمية سائدًا؛ إذ يبدو أن إمكانات تشكيل العالَم عن طريق العلم والتكنولوجيا لا حدَّ لها، وفي الوقت ذاته هناك شكٌّ متزايد، حتى بين الخبراء أنفسهم، في أن العالَم الجديد الذي تخلُقه هذه التكنولوجيا قد لا يكون نعمةً خالصة كما يتخيَّل أنصاره المُتحمِّسون؛ ذلك لأنَّ جيلَنا الحالي قد أُتِيحت له فرصٌ عديدة لكي يلاحظ أثناء حياته إحدى النتائج المؤسِفة لهذا العالَم الجديد، وهي أنَّ من الممكن إلغاء قدْرٍ كبير من الاختلافات بين البشر، هذا الإلغاء قد يجعل المجتمع أكثر كفاءةً وأكثر استقرارًا، ولكنه سيكون بالتأكيد بداية النهاية بالنسبة إلى كلِّ جهدٍ عقلي، في العِلم أو في أي ميدانٍ آخر. والواقِع أنَّ هذا النوع من الحلم هو في أساسه وَهْم هيجلي، يفترِض أن هناك حالات نهايةٍ قصوى يُمكن بلوغُها، وأن البحث العقلي عملية يمكن أن تقِف عند حد. غير أن هذا رأيٌ باطل، والصحيح، على العكس من ذلك، هو أنَّ البحث لا حدودَ له، وربما كانت هذه الحقيقة الأخيرة هي التي ستَحمينا آخِر الأمر من ذلك النوع من الأهداف الذي يحلُم به صنَّاع الأوهام الطوباوية من آنٍ لآخَر.
إنَّ الاتساع الهائل في نطاق السيطرة العلمية يُثير مشكلاتٍ اجتماعية جديدة ذات طابع أخلاقي. ولو نظرْنا إلى كشوف العُلماء واختراعاتهم في ذاتها لكانتْ مُحايِدة من الوجهة الأخلاقية، ولكن القوة التي تُكسِبنا إيَّاها هي التي يمكن تحويلها في اتجاه الخير أو الشر. والواقع أن هذه ليست مشكلةً جديدة بالمعنى الصحيح، ولكن ما يجعل نتائج العِلم أشدَّ خطورةً في أيامنا هذه هو الفعالية المُرعِبة لأدوات الدَّمار المتوافرة في الوقت الراهن. وهنالك فارق آخر بين الوضع الراهن والأوضاع السابقة، هو أنَّ المصادر العلمية الحديثة للقوة والسيطرة تتَّخِذ طابعًا لا تمييز فيه حين تُستخدَم من أجل التدمير. وهكذا ابتعدْنا كلَّ الابتعاد عمَّا كانت عليه الأوضاع أيام الإغريق، حين كان من أفظع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها اليوناني في زمن الحرب، قطْع أشجار الزيتون.
ولكننا بعد أن وجَّهنا كل هذه التحذيرات، ينبغي أن نتذكَّر أنَّ من أصعب الأمور رؤية المرء لعصره من منظورٍ صحيح. وفضلًا عن ذلك فلم تحدُث حتى الآن طوال تاريخ حضارتنا، حالةٌ واحدة لم يتمكَّن فيها ذوو البصيرة والعزم في نهاية الأمر، من الوصول إلى طريقةٍ لإصلاح الأوضاع في الوقت الذي كان يبدو فيه أنَّ كل شيءٍ قد ضاع، ورغم ذلك فمن الواجب أن نؤكد أننا نُواجِه موقفًا مختلفًا عن كل ما حدَث في الماضي. ففي الأعوام المائة الأخيرة طرأتْ على الغرْب تغيُّرات مادية لم يسبق لها في التاريخ مَثيل.
لقد كان ردُّ فِعل العلم ضد الفلسفة، في المُحصِّلة النهائية، إحدى نتائج وضعية كونْت، فقد رأيْنا في هذا الصَّدد أنَّ كونت كان حريصًا على استبعاد وضع الفروض، وكان يرى أنَّ ما يجِب عمله إزاء الظواهر الطبيعية هو وصفُها لا تفسيرها، ومثل هذا البرنامج يرتبط على نحوٍ ما بالحالة العامة للتفاؤل العلمي في العصر؛ إذ لا يمكن أنْ يظهر موقفٌ كهذا إزاء التفكير النظري إلَّا حين يسُود الشعور بأنَّ العمل العِلمي قد وصل إلى درجةٍ من الاكتمال وأنَّ النهاية باتتْ على مرمى البصَر.
ومن الجدير بالملاحظة، بالنسبة إلى هذا الموضوع بالذات، أنَّ هناك فقرةً كتبها نيوتن، يقتبِسها الكثيرون بمعزِلٍ عن سياقها، فيؤدي ذلك إلى تشويهها، ففي معرِض حديث نيوتن عن الطريقة التي تسير بها الأشعة الضوئية قال بطريقةٍ حذرة أنه لا يضع فروضًا، فهو لا يحاول أن يقدِّم تفسيرًا، ولكنَّه لا يقصد أنَّ هذا مُستحيل. ومع ذلك يُمكننا أن نعترِف بأنه حين تُطرَح نظرية قوية مثل نظرية نيوتن، تَظلُّ تُستخدَم طوال وقتٍ ما استخدامًا فعَّالًا دون حاجةٍ إلى مثل هذه الفروض. وبقدْرِ ما اعتقد العلماء أن فيزياء نيوتن توشِك على أنْ تحلَّ جميع المشكلات الباقية، كان من الطبيعي أن يؤكدوا أهمية الوصف على حساب التفسير. ومن جهةٍ أخرى فإن الفلاسفة المثاليين كانوا يَميلون، على الطريقة الهيجليَّة، إلى الجمْع بين كافة فروع البحث في نسَقٍ واحدٍ شامل. وفي مقابل ذلك رأى العلماء أنَّ أبحاثهم ينبغي ألَّا تُدرَج ضمن فلسفةٍ واحدية كهذه. أما المطلب الوضعي بضرورة التزام حدود التجربة ووصفها، فقد تمَّ الربط عن وعيٍ بينه وبين العودة إلى «كانْت» وأتباعه. ذلك لأن البحث عن تعليلاتٍ للظواهر والسعي إلى تقديم تفسيرات، يعني الخَوض في ميدان الأشياء في ذاتها، حيث لا تنطبق المقولات المُستخدَمة في التفسير أصلًا. لذلك لا بدَّ أن تكون مهمَّة تقديم التفسيرات مهمَّةً وهميَّة خدَّاعة.
هذا الموقف من النظرية العلمية هو الطابع المُميِّز لمجموعةٍ كاملة من العلماء المُهتمِّين بالنتائج الفلسفية لأعمال البحث العلمي، ولكن ينبغي أن نلاحظ، في صدَدِ استخدامهم لاسم «كانْت» في هذه المسألة، أنَّ وجهة النظر التي يُمثلها هؤلاء المفكرون ليست كانْتيَّة بالمعنى الأصلي للكلمة. ذلك لأنَّ نظرية المعرفة عند «كانْت»، كما رأينا من قبل، تجعل إطار مقولات التفسير شرطًا ضروريًّا للتجربة. وفي هذا السياق الحالي يوصَف التفسير بأنه غير عِلمي؛ إذ يفترِض أنه يتجاوز التجربة. ولذا لا يمكن أن يُقال عن هؤلاء العلماء الوضعيين أنهم فهموا «كانْت» فهمًا سليمًا.
والواقع أنَّ الفلاسفة العِلميين، في محاولاتهم إيجاد بدائل علمية لا يُطلقون عليه بازدراء اسم «الميتافزيقا». قد وقَعوا في كثيرٍ من الأحيان في مشكلاتٍ ميتافيزيقية خاصَّة بهم، وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب. فعلى الرغم من أنه قد يكون لهم بعض الحقِّ في رفض التأمُّلات الميتافيزيقية للفلاسفة، فإنهم لم يُدركوا أنَّ البحث العلمي ذاته يمضي في طريقه على أساس فروضٍ مُسبقة مُعيَّنة. وإلى هذا الحد، على الأقل، يبدو أنَّ «كانْت» كان على حق. فالفكرة العامة للسببية مثلًا، شرط مُسبق للعمل العلمي، وهي ليست نتيجة بحث، وإنما هي افتراضٌ مسبق، حتى ولو كان ضمنيًّا فحسْب، يستحيل بدونه السَّير في طريق البحث. ولو نظرْنا، في ضوء هذه الملاحظات، إلى التجديدات الفلسفية التي ظهرَتْ مؤخَّرًا في كتابات العلماء لما وجدناها مُثيرةً للاهتمام إلى الحد الذي تبدو عليه للوهلة الأولى.
أما بالنسبة إلى دلالة القضايا وإجراءات البحث العلمية، فقد كان الاتجاه يسير نحوَ طرْحها جانبًا لصالح شكلٍ من أشكال الطقوس الرياضية، فقد أدَّت كشوف العِلم إلى زعزعة النظرة النيوتونية إلى العالَم، بكل ما كانت تتَّصِف به من صلابةٍ واكتمال. غير أنَّ العلماء بدلًا من أن يحاولوا توسيع مدى النظرة، اكتفَوا — على وجه العموم — بمُعالجة مشكلاتهم عن طريق الاستعانة بنظرياتٍ رياضية يُمكن أن تأتي بنتائج مُرضية إذا ما فُسِّرت بالطريقة المناسبة. وهكذا فإنَّ الخطوات الوسطى، المُتعلِّقة بالحساب والتحويل، تُترَك وحدَها، وتقوم بوظيفة مجموعةٍ من القواعد فحسْب. والواقع أنَّ هذا الموقف، الذي هو واسع الانتشار، وإن لم يكن ساريًا على الجميع، يُذكِّرنا إلى حدٍّ بعيدٍ بالنزعة الصوفية العددية عند الفيثاغوريين وأتباعهم في عصر النهضة المُتأخِّر.
أما في الفلسفة ذاتها فقد أدَّت هذه الاتجاهات العامَّة إلى إيجاد حركةٍ متباعِدة عن العِلم، ولا يتمثَّل ذلك فقط في عودة ظهور الاتجاهات المثالية في القارة الأوروبية، بل إنه يصدُق أيضًا على الفلسفة الإنجليزية التي تسير في اتجاهٍ لُغوي إلى حدٍّ بعيد. فإذا بدأنا بالحديث عن هذه الأخيرة (أي الفلسفة الإنجليزية) لوجَب أن نوافق على الرأي القائل إنه ليس من مهمَّة الفلسفة بالفعل أن تقوم باكتشافات، بل إنَّ مهمَّتها تنحصِر في تقدير مزايا الطرُق المختلفة في الكلام عن الأمور التي تعترِف بها جميع الأطراف. وهذه، على أية حال، إحدى المهام التي كانت الفلسفة تقوم بها على الدوام. ومع ذلك فإنَّ الآراء الفلسفية المختلفة قد تساعد على تقدُّم البحث العلمي أو تعُوقه بدرجاتٍ مختلفة.
وهكذا فإنَّ ميدان الفكر، ومعه العلم، يشوبه التناقُض، ومن ثَم فهو ينتمي إلى ميدان المظهر لا الحقيقة. والواقع أنَّ برادلي يصِل هنا، ولكن بطريقةٍ مُلتوية تدعو إلى الدهشة، إلى نفس النتيجة التي وصل إليها هيوم، وإن كانت الأسباب التي أدَّت به إلى ذلك مختلفة. ولكنه مِثل هيوم يرفض فكرة الذات لأنها تنطوي على علاقات. أما ألوهية الأديان التقليدية فتنتمي بدَورها، ولنفس السبب، إلى ميدان المظهر.
وبعد أن تخلَّص برادلي من المظهر على هذا النحو، يجِد الحقيقة في «المُطلَق»، الذي يمكن تَشبيهه «بالواحد» في المدرسة الإيلية، ولكنَّنا نستشعِره من الداخل على مستوًى أقربَ إلى الطابع المباشر من الفكر العقلي. في هذا المُطلَق تتَّحِد جميع الاختلافات وتُحَلُّ جميع الصراعات. ولكن هذا لا يعني إلغاء المظاهر؛ ففي حياتنا اليومية نُفكر في العلم ونُمارسه، ممَّا يجعلنا نندمج في المظهر. وبالمِثل فإنَّ الشر الذي يرتكِبه الناس مُتغلغِل في العالم اليومي العادي، بوصفه مظهرًا. غير أن هذه النقائص تختفي في المطلق.
ولكن ينبغي أن نعترِف بأنَّ كروتشه، على الرغم من كل ما رفضَه من هيجل، يظلُّ يحتفظ في كتاباته بقدرٍ معقول من الجدل، فهو يتحدَّث في كتابه عن عِلم الجمال بطريقةٍ تذكِّرنا بمنطق هيجل إلى حدٍّ بعيد، ولنستمِعْ إليه وهو يقول: «إنَّ الرابطة الوثيقة بين الخطأ والصواب تنشأ من أنَّ الخطأ البحت، الخالص، لا يمكن تصوُّره، ونظرًا إلى أنَّ من المستحيل تصوُّره، فهو غير موجود. إنَّ الخطأ يتكلَّم بصوتَين، أحدهما يؤكد البطلان، ولكن الآخر يُنكره، وهذا تصادُم بين نعم ولا، يُسمَّى بالتناقُض.» هذا النصُّ يفيد أيضًا في إبراز فكرة كروتشه القائلة إنَّ الذهن مُطابق للواقع، فليس في العالَم شيء لا يُمكننا أنْ نكتشِفَه من حيث المبدأ. وأي شيء يستحيل تصوُّره لا يمكن أن يكون موجودًا، ومِن ثَمَّ فإنَّ ما هو موجود هو أيضًا قابل لأن يُتصوَّر، وممَّا تجدُر ملاحظته أنَّ برادلي يؤمن بالشكل العكسي لهذه القضية، إذ رأى أنَّ ما يمكن تصوُّره لا بدَّ من أجل ذلك أنْ يكون موجودًا، وقد صاغ فكرته هذه على النحو الآتي: «ما يمكن وجوده، وينبغي وجوده، موجود.» وأخيرًا فإنَّ التأثير الهيجلي هو الذي جعل كروتشه يعرِض فيكو كما لو كان فيلسوفًا عقلانيًّا ينتمي إلى القرن التاسع عشر، على حين أنه كان في الواقع أفلاطونيًّا ينتمي إلى القرن السابع عشر.
إلى هذا الحدِّ تُذكِّرنا مشكلة برجسون بمشكلة برادلي. غير أنَّ الحلَّ الذي أتى به برجسون للمشكلة مختلفٌ كل الاختلاف. فقد كانت ميتافيزيقا برادلي مرتبطةً في النهاية ارتباطًا وثيقًا بالنظريات المنطقية التي تُبنى عليها، ومرتبطة بوجهٍ خاص بنظريةٍ عن الحقيقة تقوم على فكرة الرابط. أما عند برجسون فإنَّ المنطق ذاته هو العنصر الذي ينبغي تجاوزه. وبهذا المعني يمكن أن يُوصَف برادلي بأنه عقلي، على حين أنَّ برجسون لا عقلي.
إنَّ فلسفة برجسون، على العكس من الفلسفات الواحدية، من مثاليةٍ ومادية، في القرن التاسع عشر، تعود إلى النظرة الثنائية إلى العالم. غير أنَّ القِسمَين اللذَين أرجع الكَون إليهما، يختلفان عمَّا قالت به النظريات الثنائية السابقة، فأحدهما هو المادة، كما كانت الحال عند ديكارت، أما الآخر فهو نوع من المبدأ الحيوي يختلف عن الشطر الذهني في العالَم، الذي قال به الفلاسفة العقليُّون. هاتان القوَّتان الكبيرتان: الحيوية من جهة، والمادية من جهة أخرى، تشتبِكان في صراعٍ دائم يحاول فيه الاندفاع الإيجابي للحياة أن يتغلَّب على العقبات التي تضعها أمامه المادة الجامدة. وفي هذه العملية تتشكل القوة الحيوية إلى حدٍّ ما، بالظروف المادية التي تعمل فيها، ولكنها تحتفِظ مع ذلك بصفةِ الحرية الأساسية فيها، ويرفُض برجسون نظريات التطوُّر التقليدية نظرًا إلى ميولها العقلانية، التي لا تسمح بانبثاق أيِّ شيءٍ جديد بصفةٍ أساسية. فاللاحق يبدو مُتضمَّنًا على نحوٍ ما في السابق، أو محكومًا به، مما يُهدِّد بضياع حرية الفعل التي ينسبها برجسون إلى القوة الحيوية. فالتطوُّر في رأيه يُنتج تجديدًا أصيلًا، وهو خلَّاق بالمعنى الحرفي. هذه النظرية تُعرَض في أشهر كتبه، الذي يحمِل عنوان «التطوُّر الخلَّاق». والواقع أن نوع المسار التطوُّري الذي يفترضه برجسون مأخوذ مباشرةً من تشبيه الخلق أو الإبداع الفني، فكما أن ما يُحرِّك الفنان إلى الفعل هو نوع من الحافز الخلَّاق، كذلك تعمل القوة الحيوية في الطبيعة، أي أنَّ التغيرات التطوُّرية تحدُث عن طريق اندفاعاتٍ خلَّاقة مستمرَّة تهدف إلى إيجاد سماتٍ جديدة مُعيَّنة لم يكن لها وجود من قبل.
أما بالنسبة إلى الإنسان، فإنَّ العملية التطورية قد أوصلتْنا إلى حيوانٍ طغى فيه العقل على الغريزة. ويرى برجسون أنَّ هذا أمر مؤسف، تمامًا كما رأى روسو من قبل. فقد اتَّجَه عقل الإنسان إلى خنق غرائزه، وسلبَه بذلك حُريته. ذلك لأن العقل يفرِض قيوده الذهنية الخاصة على العالم، فيقدِّم بذلك صورةً مشوَّهة له. وهكذا نرى إلى أي حدٍّ تبتعِد هذه الآراء عن موقف العقليين الذي يرى في العقل قوةً تُحقِّق لنا التحرُّر.
وأعلى أشكال الغريزة هو الحدْس، الذي هو نوع من النشاط الروسِّي يتوافق بصورةٍ مباشرة مع العالم. فعلى حين أنَّ العقل يُشوِّه التجربة، نجد الحدْس يندمج فيها على ما هي عليه. والعَيب الذي يشُوب العقل في رأي برجسون هو أنه لا يتطابق إلَّا مع الانفصال السائد في العالَم المادي. وواضح أنَّ هذا الرأي يرتبِط بفكرة اللغة بوصفِها إطارًا يضمُّ مفاهيم يسُودها الانفصال. أما الحياة فهي في جوهرها مُتَّصِلة، ومن ثَمَّ يعجز العقل عن فهمها، ولذا ينبغي علينا أن نعود مرةً أخرى إلى الغريزة.
وترتبط نظرية الزمان عند برجسون بالوصف الذي يُقدِّمه للذاكرة. ففي الذاكرة يصطنع العقل الواعي نوعًا من الاتِّصال بين الماضي والحاضر؛ ذلك الماضي الذي لم يعُد يُمارَس فعلًا، والحاضر الذي هو فعَّال الآن. وبالطبع فإنَّ هذه الطريقة في الكلام تفترِض نفس ذلك الزمن الرياضي الذي حرَص برجسون في غير ذلك مِن المواضع على استبعاده لصالح الديمومة، فلا بدَّ أن يكون الماضي والحاضر منفصِلَين حتى يكون هنالك معنى للقضية السابقة المُتعلِّقة بالفعل. وفضلًا عن ذلك، فهناك خلط ينشأ من المعنى المزدوَج الذي يُنسَب إلى كلمة الذاكرة، إذ نعني بالذاكرة أحيانًا النشاط العقلي المتعلِّق بالتذكُّر هنا، وفي الوقت الراهن، ونعني بها أحيانًا أخرى الحدَث الماضي الذي يتمُّ تذكُّره على هذا النحو. وهكذا فإنَّ الخلْط بين النشاط الذهني وموضوعه يؤدي إلى الكلام عن الماضي والحاضر وكأنهما ممتزِجان.
ولقد كان هذا الاتجاه المضاد للعقلانية في تفكير برجسون هو الذي أدَّى به إلى أنْ ينصرِف على وجه العموم، عن تقديم أسبابٍ مقنعة أو غير مقنعة، للآراء التي يدعُونا إلى قَبولها، وبدلًا من ذلك اعتمد على الطابع الشعري في تقديم نماذج لآرائه. وهذا يؤدي إلى أسلوبٍ مُشوِّق جذَّاب، ولكنه لا يُقنِع القارئ بالضرورة. بل إنَّ هذه صعوبة تعترض أية مجموعة من القضايا التي تستهدِف تضييق نطاق العقل. ذلك لأنَّ الكلام عن أسبابٍ لقبول رأي مُعيَّن، هو في ذاته التزام بميدان العقل.
ولعلَّ أفضل فهمٍ لنظرية برجسون هو أن تنظُر إليها على أنها تعرِض علينا بعض السِّمات النفسية، لا المنطقية، للتجربة. وبهذا المعنى تكون متمشِّيةً مع بعض الاتجاهات في النظرية النفسية، وهو حُكم ينطبق بالمِثل على الوجودية. ولقد كان أهم تطوُّر جديد في ميدان علم النفس هو نظرية التحليل النفسي، ولكن قبلَ أن نُقدِّم عرضًا موجزًا لها، ينبغي علينا أن نتحدَّث عن اتجاهٍ آخر في علم النفس كان مضادًّا للتحليل النفسي في نواحٍ متعدِّدة، أعني ذلك الاتجاه الذي يُطلَق عليه، بصورة عامَّة اسم «السلوكية».
والأمر الذي يُفترَض أنَّ هذه الأبحاث تهدف إلى إثباته هو أنَّ الموقف العيني، القابل للملاحظة يكشف عن أحداثٍ مُعيَّنة متَّصِلة به، لها ارتباطات يمكن تغييرها إلى حدٍّ ما عن طريق غرس عاداتٍ معينة. وفي هذه النقطة نجد أنَّ التفسير يستخدِم علم النفس الترابُطي بطريقةٍ تقليدية إلى حدٍّ كبير، تُشبِه طريقة هيوم، ولكن يبدو أنَّ هناك نتيجةً أخرى تُستخلَص من ذلك، هي أنه لا حاجة بنا إلى افتراض كياناتٍ غامضة كالفكر، فكلُّ ما يمكن أن يُقال تُغطِّيه الحوادث المترابطة، القابلة للملاحظة.
وربما كانت هذه صياغةً متطرِّفة للقضية، ولا يمكن قبولها قطعًا إلا في ضوء تحفُّظات مُعينة، ومع ذلك فيكفينا، بالنسبة إلى هدفِنا الحالي، أن نُشير إلى الاتجاه العام، ونستطيع أن نجد في الفلسفة تطوُّرًا مُماثلًا في بعض أشكال علم اللغة التي تستغني عن المعنى، بمفهومه التقليدي، وتستعيض عنه بالاستخدام الفعلي للغة، أو بالاستعداد لاستخدامها بطرُقٍ مُعيَّنة في الظروف المناسبة، وهكذا تفترِض هذه الاتجاهات أنَّنا، مثل كلاب بافلوف، يسيل لُعابنا بدلًا من أن نفكِّر.
إنَّ ما يُميز الحلم عن حالة الوعي واليقظة هو أنه يسمح بنوعٍ من الحرية والتخييل لا يستطيع أن يصمُد، خلال حياة اليقظة، للوقائع الصُّلبة التي تواجِهنا، ولكن حرية الحالِم هذه، مع ذلك، وهمية وليست حقيقية، وتلك هي النتيجة التي ينبغي أن تُوصِّل إليها أية نظرية عامة في الأحلام. والفرْض العام الذي تتضمَّنه مؤلَّفات فرويد هو أنَّنا في هذه الحرية نصِل إلى إشباع رغباتٍ تظلُّ في حياتنا العادية مكبوتةً لأسبابٍ مختلفة، ولا يتَّسع المقام ها هنا للخَوض في آلية الكبْت والتركيب التفصيلي للجهاز النفسي للفرْد، بل يكفي أنْ نُشير إلى أنَّ الحالم يكون لدَيه قدْر مِن الحرية في إعادة تشكيل وإعادة بناء عناصر متنوِّعة لها أساسٌ في التجربة المباشِرة ويقوم بهذا العمل نفسه، لا بالنسبة إلى الرغبات المكبوتة التي ظهرَتْ في اليوم نفسه فحسْب، بل أيضًا بالنسبة إلى الرغبات التي قد تكون أحيانًا راجعةً إلى الطفولة المبكِّرة ذاتها. ومهمَّة التفسير هي إماطة اللثام عن المعنى الحقيقي للحلم. وهذا يقتضي التعرُّف على رموز معيَّنة تتدخَّل في عملية الكبْت، من أجل إخفاء حقيقةٍ غير مؤكدة، أو تجنُّب ذكر الحقائق باسمِها الصحيح، إذا لم يكن ذلك مقبولًا. وقد وضع فرويد خلال هذه التفسيرات مجموعةً كاملة من الرموز، وإنْ كان الإنصاف يقتضي أن نُقرِّر أنه كان في استخدامه لها أكثر تحوُّطًا بكثيرٍ مما كان أتباعه. أما من الجانب العلاجي، الذي كان يُهمُّ فرويد لأنه كان طبيبًا، فإن الكشف عن هذه العمليات أو تحليلها نفسيًّا كان يُعَدُّ أمرًا ضروريًّا من أجل التخلص من الاضطرابات الناجمة عن الكبْت. صحيح أنَّ التحليل لا يكفي لتحقيق العلاج، ولكن أية محاولةٍ للعلاج تُصبح بدونه مُستحيلة. وبطبيعة الحال فإنَّ النظرة العلاجية إلى المعرفة ليست جديدة؛ إذ قال بها كما رأينا سقراط. كما أنَّ أصحاب مدرسة التحليل اللغوي المعاصرة يقولون برأيٍ يقرُب من هذا كل القُرب عن الألغاز الفلسفية، التي يشبِّهونها بحالات عُصابٍ لغوي يَشفينا منها التحليل.
أما عن النسيان، فإنَّ فرويد يربط بينه وبين آليةٍ مُماثلة للكبْت. فنحن ننسى لأنَّنا، بمعنًى ما، نخاف أن نتذكَّر. ولا بدَّ لكي نُشفى من نسياننا أن نصِل إلى فهمٍ وإدراك للعوامل التي تجعلنا نخشى من التذكر.
لقد كانت الميزة التي اتَّسمَت بها النظرية الفرويدية هي أنها قد بذلَتْ محاولةً جادة لتقديم تعليلٍ علمي عام للأحلام. ولا شكَّ أن بعض تفصيلاتها لا تُقنعنا إقناعًا تامًّا؛ إذ يبدو مثلًا أنَّ قاموس الرموز الفرويدي ليس مقبولًا كله. ولكنَّ الشيء الذي لفَتَ الأنظار إلى التحليل النفسي بقوةٍ تزيد عمَّا كان يمكن أن تكون له في الظروف الأخرى، هو اعترافه الصريح بالسلوك الجنسي وكبْتِه، وفي الوقت نفسه فإنَّ هذه الحقيقة ذاتها جعلت التحليل النفسي هدفًا لكثيرٍ من التشنيع غير المُرتكِز على فهمٍ سليم.
وفيما يتعلَّق بهذه المسألة العامة، أعني الاستغناء عن الحقيقة بمعناها المطلق، نستطيع أن نوجِّهَ نفس النقد الذي تحدَّثْنا عنه من قبلُ في صدَد بروتاجوراس. فلنفرِض أنَّ شخصًا أكَّد أنَّني إنسان يبعث على الضجَر؛ عندئذ، لو سألته بروحٍ برجماتية، عمَّا إذا كان لدَيه ما يُبرِّر به هذا الحكم، فماذا عساه يُجيب؟ الواقع أنه ربما كان من المُفيد له أن يعتنِق مثل هذه الآراء عنِّي، وفي هذه الحالة قد يشعُر بالمَيل إلى أن يُجيب عن سؤالي بالإيجاب، ولكنه سواء أجابَ بنعم أو لا، فإنه يتجاوز بذلك، على الفور، نطاق مبادئه البرجماتية؛ ذلك لأنَّ المسألة لا تعود عندئذٍ مسألة تبرير، فهو لا يُفكِّر في ذرائع ثانوية أو مُبرِّراتٍ على الإطلاق، لأنَّ هذا يؤدي به إلى تسلسُلٍ لا نهائي، بل إنه حين يُجيب بنعم أو لا. يفترِض ضمنيًّا معنًى مُطلقًا للحقيقة، ولا يُغير من ذلك احتمال أن يكون مُخطئًا في حُكمه على هذه المسألة، أو أنه قد يُقدِّم بنيةٍ حسنة إجابة يتَّضِح بُطلانها. فمع هذا كله، ينبغي أن يقبل ضمنًا بمعيارٍ مطلَق حتى يستطيع تقديم أية إجابة على الإطلاق. هذا النوع من النقد لا ينطبق فقط على النظريات البرجماتية عن الحقيقة، بل على أية نظرية تسعى إلى تعريف الحقيقة من خلال أيَّةِ معايير أُخرى.
والواقع أنه ليس من الصَّعْب أن نُدرِك من أين تأتي هذه المحاولة من أجل إدراج المنطق ضِمن إطار الفعل، فمصدرها، في الأساس هو النقد البرجسوني القائل إنَّ النظريات الموضوعية التقليدية في المنطق لا تسمح بظهور أيِّ شيءٍ جديد وأصيل في العالم. فالمنبع الذي تستلهِمُه هذه الطريقة في التنظير هو الرغبة في التجديد وفي التوسُّع الاجتماعي. وهنا نستطيع أن نجد، في نهاية المطاف، خلطًا بين تنوُّع النشاط البشري وبين الإطار الثابت الذي نُعبِّر من خلاله عن هذا النشاط في اللغة والمنطق. ولو لم يُدرِك الإنسان هذه المعايير ويعترِف بها لَتَعرَّض بسهولةٍ لتجاوز نطاق المعقول وإغفال الحدود التي لا تتعدَّاها قُدراته.
إنَّ هوايتهد يرى أنَّ علينا، لكي نفهم العالم، ألا نُتابع تراث جاليليو وديكارت، الذي يُقسِّم عالم الواقع إلى صفاتٍ أو كيفيات أوليَّة وثانوية. فمِثل هذا الطريق لا يُوصِّلنا إلا إلى صورةٍ تُشوِّهها المقولات العقلانية، بل إنَّ العالَم يتألَّف من مجموعةٍ لا نهائية من الأحداث العينيَّة التي يبدو أنَّ كلًّا منها يُذكِّرنا بمونادة ليبنتس. ولكن الأحداث، على خلاف المونادات، وقتية وتتلاشى لكي تُفسِح الطريق لأحداثٍ أخرى. هذه الأحداث تحدُث على نحوٍ ما للأشياء، وهكذا نستطيع أن نُشبِّه مجموعات الأحداث بصيرورة هرقليطس، والأشياء بأفلاك بارمنيدس. وبطبيعة الحال فإنَّ هذه، إذا ما أُخذِت منعزلة، كانت تجريدات، ولكنها في عملياتها الفعلية ترتبِط فيما بينها ارتباطًا لا ينفصِم.
أما عن الاتِّصال الفعلي بالواقع، فيبدو أنه يحتاج إلى معرفةٍ من الداخل، وإلى تقارُب بين العارف وموضوع معرفته بحيث يُصبحان كيانًا واحدًا وهنا نجد ما يُذكِّرنا باسبينوزا، وقد ذهب هوايتهد بالفعل إلى أنَّ كل قضيةٍ ينبغي أن يُنظَر إليها، آخِر الأمر، في علاقتها بالنسَق الشامل، ومن الواضح أنَّ هذا شكلٌ من أشكال المثالية المذهبية، وإنْ كان مختلفًا إلى حدٍّ ما عن العناصر المثالية في فلسفة ديوي. فعلى حين أنَّ تصوُّر ديوي للكل والواحد يرتَدُّ إلى هيجل، نجد أن هوايتهد أقرب إلى المفاهيم العضوية في فلسفة شلنج المتأخِّرة.
هذه باختصارٍ شديد، هي الموضوعات الرئيسية في ميتافيزيقا هوايتهد، وأنا لا أزعُم لنفسي القدرة على معرفة المكانة التي سوف تكتسِبها في تاريخ الفلسفة. غير أنَّ ما له أهمية مباشرة هو الطريقة التي ينبثِق بها، في هذه الحالة، مذهبٌ ميتافيزيقي، بصورة مباشرة، من الانشغال بمشاكل عامة في العِلم. ولقد رأينا شيئًا كهذا يحدُث بين الفلاسفة العقليين في القرن السابع عشر، وبين المثاليِّين في القرن التاسع عشر، وهكذا فإنَّ النظرية العلمية، بقدْر ما تحاول أن تضمَّ العالم كلَّه، تستهدِف غايةً مُشابِهةً لغاية الميتافيزيقا، وما يختلف فيه العِلم هو إحساسه الأشدُّ حدَّةً بالمسئولية تجاه الوقائع الصُّلبة العنيدة.
إذا كان من الممكن أن يُقال عن القرن التاسع عشر إنه أحدثَ في العالم تغييرًا يفوق ما أحدثتْه أية فترة أخرى حتى ذلك الحين، فإنَّ هذا الحكم يصدُق أيضًا على السنوات الستِّين الأخيرة، التي كان التحوُّل فيها أشدَّ؛ فقد كانت الحرب العالمية الأولى تُمثِّل نهاية عصرٍ كامل.
كانت الفكرة المحورية التي ظلَّ الناس يَستوحونها قبل ذلك بأجيالٍ عديدة هي فكرة التقدم، فقد بدا أنَّ العالم يسير نحوَ وضعٍ أفضل وأكثر تحضرًا، تكون فيه أوروبا الغربية هي السيِّد المِعطاء، ويكون فيه بقيَّة العالَم معتمدًا عليها سياسيًّا وتكنولوجيًّا. ولقد كان لهذه النظرة إلى العالَم ما يُبرِّرها في نواحٍ مُعيَّنة، فمن المؤكد أنَّ الغرب كان هو المُهيمِن سياسيًّا، كما كانت الصناعة تضمَن له سيطرةً في القوة المادية. كل ذلك كان يُسانده شعور هائل بالثقة بالنفس، وإحساسٌ بأنَّ الله يقِف إلى جانب التقدُّم. ولقد أدَّى نمو المجتمع الصناعي إلى زيادةٍ سريعة في السكان، فتضاعفَتْ أعدادهم خمس مرات خلال قرنٍ واحد في إنجلترا، دون أن تتحقَّق برغم ذلك تنبؤات مالثوس المتشائمة. بل لقد كان الأمر على عكس ذلك؛ إذ إنَّ قدرة المجتمع الصناعي على تذليل مصاعبه الأولى أدَّت إلى مزيدٍ من اليُسر في أسلوب حياة المجتمع بوجهٍ عام.
ونتيجة لهذه التغيُّرات شاع إحساس بالتفاؤل والثقة بالمُستقبل، وهو إحساس لم يعُد له نفس هذا القدْر من الرسوخ، على وجه العموم، منذ ذلك الحين، ولقد كانت كافَّة الاتجاهات العقلية في القرْن الماضي تشارك في هذا التفاؤل العام، لمذهب المنفعة، والبرجماتية، والمادية، كلهم كانوا مُتشبِّعين به، وربما كان أبرز الأمثلة هو النظرية الماركسية، التي نجحَتْ في الاحتفاظ بإيمانها بحتمية التقدُّم حتى في الوقت الحاضر، وبذلك كانت هي النظرية السياسية الوحيدة التي تمكنَّت من المحافظة على اعتقادها على الرغم من الاضطرابات التي تفشَّت في العالم منذ ذلك الحين. وهكذا يمكن القول إنَّ الماركسية، في اتجاهها القطعي الجامد، وفي نظرتِها الطوباوية، هي أثرٌ من آثار القرْن التاسع عشر.
في مناخ التقدُّم هذا، بدا للناس أنَّ العالَم مرتكِز على أُسسٍ راسخة. ولم تكن هذه الفكرة المُسبقة تصبِغ تفكير أولئك الذين كانت حالتهم المادية تسمح لهم باتِّخاذ مثل هذا الموقف التفاؤلي فحسْب، بل إنَّ المُستضعَفين بدورهم شعروا بأن مصيرهم يمكن أن يتحسَّن، وسوف يتحسَّن، وهو على أية حالٍ أمَلٌ لم يخِبْ مع مُضيِّ الوقت، وأدَّى توفير التعليم الشامل إلى إيضاح الطريقة التي يستطيع بها الناس تحسين أوضاعهم؛ إذ كان في استطاعة من لا يملكون مزايا المركز الاجتماعي، في مثل هذا المجتمع الجديد، أنْ يعلوا على مركزهم بالمعرفة والقدرة.
كان هذا العنصر التنافُسي شيئًا جديدًا في الميدان الاجتماعي، وبالطبع فإنَّ المنافسة بين التجار كانت قديمة قَدَم التجارة ذاتها، ولكن الفكرة القائلة إنَّ الناس يستطيعون تحسين أوضاعهم بجهودهم الخاصَّة كانت فكرةً أحدث عهدًا بكثير، ففي العصور الوسطى كان الجميع يُسلِّمون بأن المرء يرتكب خطيئةً لو حاول أن يتدخَّل في نظامٍ قضتْ به المشيئة الإلهية، ولكن مفكري عصر النهضة تشكَّكوا في هذه الآراء القديمة، على حين أن القرن التاسع عشر قضى عليها قضاء مُبرمًا.
وبطبيعة الحال فإنَّ الأوضاع التي نصِفُها ها هنا لا تنتمي إلَّا إلى مناطق العالم التي أصبح للتصنيع فيها موطئ قدَم، وهي تشمل إنجلترا وبعض أجزاء أوروبا الغربية. وينبغي أن نذكُر أنَّ هذه المناطق لا تُمثِّل إلَّا جزءًا صغيرًا من سكان المعمورة، لذلك كان التأثير الذي مارسَتْه هذه البلاد على التاريخ العالمي نتيجةً لتقدُّمها الزائد، أعظم بكثيرٍ مما يتناسَب مع حجمها. ولكن هذا بدَوره ليس شيئًا جديدًا بالنسبة إلى أحوال البشر، فقد كانت الإمبراطورية الفارسية القديمة، من حيث الحجم، أضخمَ بكثيرٍ بالقياس إلى اليونان، ولكنَّ تأثيرها كان ضئيلًا.
لقد بدا أنَّ من المُمكن، بالنسبة إلى من عاشوا في هذه الفترة وتأثَّروا بفكرة التقدُّم، وضع خطط للمستقبل بثقةٍ تامَّة، فقد كانت الأوضاع مستقرةً إلى الحدِّ الذي يُبرِّر للناس أن يتأمَّلوا مُستقبل حياتهم بنظرةٍ شاملة. وفي الوقت ذاته كانت هذه الخطط مسألةً شخصية تمامًا، ففي استطاعة المرء أن يكتسب مكانةً واستقرارًا عن طريق جهوده الشخصية الدائبة. أما الموقف إزاء المُستضعَفين، فكان يتَّخِذ طابع الإحسان والمساعدة الخيرية التي يُقدِّمها مواطنون كُرَماء شاعرون بالمسئولية. ومن الغريب حقًّا أنَّ بسمارك كان هو الذي اتَّخذ أولى الخطوات في سبيل توفير الرعاية الاجتماعية، إذ استحدَث شكلًا من أشكال التأمين الصحي للعمَّال لكي يسحب البساط من تحت أقدام خصومه الاشتراكيين.
ومن السِّمات الأخرى البارزة لهذه الفترة، نظرتها التي كانت في عمومها ليبرالية إلى السياسة، فقد كان من المُسلَّم به أنَّ الحكم نشاط هامشي، مهمَّتُه الفصل بين المصالح المتعارِضة، ولم يكن يخطُر ببال أحدٍ أن تتدخَّل الحكومة في إدارة الصناعة أو التجارة. وإذا كنَّا نرى الحكومات ذاتها، في أيَّامِنا هذه تُدير أنواعًا شتَّى من المؤسَّسات الاقتصادية، فقد جاء ذلك نتيجةً لتأثير الماركسية على نظرتنا العامة إلى المسائل الاجتماعية. أما حرية التنقُّل فكانت طليقة تمامًا في معظم أرجاء أوروبا، وإن كانت روسيا تُمثل عندئذٍ كما هي الآن، استثناءً من هذه القاعدة. فقد كان في وُسعك أن تسافر في أي مكانٍ في أوروبا الغربية دون أيِّ نوعٍ من الأوراق إلا في إمبراطورية القيصر، حيث كان جواز السفر ضروريًّا. ولكن ينبغي أن نُلاحظ أنَّ الناس لم يكونوا يسافرون عندئذٍ بنفس المُعدَّل الحالي، نظرًا إلى ضخامة النفقات، ممَّا قيَّد حركة الأشخاص الأقل ثراءً. أما القيود التي أصبحتْ تُفرَض منذ ذلك الحين فتدلُّ على مدى انهيار الثقة بين الدول.
وفي الميدان السياسي تمتَّعت أوروبا منذ عام ١٨٧٥م بحوالَي خمسين عامًا من السلام، ولكن هذه الحالة السعيدة لم تكُن سائدة في العالم كله؟ إذ كانت هناك حروب استعمارية في إفريقيا، وفي الشرق الأقصى لقِيَت روسيا هزيمةً على يد اليابان، التي خطَتْ خطوات سريعة في محاولتها استيعاب حضارة الغرب التكنولوجية. ومع ذلك فقد بدا العالم في نظر من يعيش في أجزائه الغربية، مكانًا هادئًا آمِنًا إلى حدٍّ معقول.
كان هذا هو الوضْع إلى ما قبل ستِّين عامًا فقط. وحين يعود المرء بنظرِه إلى هذه الفترة، يشعُر بأنَّ الناس كانوا في ذلك العصر يعيشون في عالَم من الأحلام.
ولكن هيكل القِيَم والأفكار المُسبقة قد انهار كله بقيام الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨م). فعلى الرغم من ازدياد الوعي القومي خلال القرن التاسع عشر، فإن الاختلافات بين الدول لم تُخفِ حدَّتها، وأدَّى ذلك خلال فترة الحرب هذه إلى إغراق العالم في بحرٍ من الدماء لم يُعرَف له حتى ذلك الحين مثيلًا. واقترن بهذه الكارثة انهيار للثقة في التقدُّم، ونموٌّ لجوٍّ من الشكِّ والارتياب لم يُفِق منه العالم تمامًا حتى وقتنا هذا.
أما من الناحية التكنولوجية الخالصة فإنَّ الحرب العالمية الأولى أظهرتْ إلى أيِّ حدٍّ تجاوز التقدُّم في الأسلحة كلَّ الأفكار التكتيكية للعسكريين. وكانت النتيجة مذبحةً هائلة غير حاسِمة أضعفَتْ أوروبا الغربية إلى حدٍّ كبير. ولقد كان الوضع الضعيف وغير المُستقرِّ لفرنسا منذ عام ١٩١٨م هو إلى حدٍّ بعيد من نتائج الجرح الغائر الذي أصابها عندئذ، وفي الوقت ذاته بدأت الولايات المتَّحِدة تلعَب دورا متزايد الأهمية في الشئون العالمية. ومن جهة أخرى قامت الثورة البلشفية في روسيا، ومكَّنتْها من بناء مجتمعٍ صناعي جديد أقوى بكثيرٍ مما كانت عليه إمبراطورية القيصر في أي وقت. أما تلك المشاعر القومية التي كانت تفور تحت السطح منذ مؤتمر فيينا، فقد وجدَتِ الآن تعبيرًا عنها في صورة الدول القومية الجديدة، التي كانت كلٌّ منها تنظُر إلى جارتها بعَين الشك. وأصبحت حرية التنقل مقيَّدة بقيودٍ لم تبدأ في الاختفاء مرة أخرى إلا في الأيام الأخيرة.
وعلى الرغم من ذلك كله، فقد أصبح من الواضح أنَّ الاقتتال الداخلي بين الأمم الأوروبية كان كفيلًا بأن يُهدِّد، منذ ذلك الحين، بقاء الحضارة الغربية ذاتها. وكانت هذه هي القوة الدافعة الرئيسية من وراء إنشاء عُصبة الأمم في ١٩١٩م. وكان من أقوى أنصار هذه المحاولة التي بُذِلت من أجل إرساء أُسُس التعاون السِّلمي بين الأمم، الرئيس وِلسون، رئيس الولايات المتحدة، ولكنَّ اقتراحاته لم تلقَ في النهاية تأييدًا من بلده ذاته، ممَّا كان له دَور كبير في إضعاف مركز عُصبة الأُمم منذ بداية نشأتها، ومن ناحيةٍ أخرى فقد أدَّت هزيمة ألمانيا إلى ردِّ فعلٍ تمثَّل في إحياء روح قومية أشدَّ شراسة وتصلبًا من أية حركة ظهرتْ من قبل. وهكذا أدَّت دكتاتورية الاشتراكية الوطنية في ألمانيا إلى نشوب الحرب العالمية الثانية بعد عشرين عامًا من إنشاء عُصبة الأمم، وفاقت هذه الحرب في مداها وتخريبها أية حربٍ أخرى في التاريخ؛ ذلك لأنَّ استخدام تكنولوجيا أكثر تفوقًا في التسليح، ونشوب الصراع بين إيديولوجيات شديدة التعارُض، كل ذلك حوَّل الحرب بين الجيوش إلى حربٍ شاملة، أثَّرت مباشرةً في المدنيين بقدْر ما أثَّرت في العسكريين. وشهِدَت الحرب الذرية أول استخدامٍ صارخ لها في اليابان. والواقع أنَّ هذا الإنجاز الذي لا يفوقه إنجاز آخر في القوة التدميرية. أدَّى في وقتِنا الحالي إلى وضع إمكانية التدمير الذاتي في مُتناوَل يدِ الإنسان. وسوف تُثبت الأيام إنْ كنَّا حكماء إلى حدِّ مقاومة هذا الإغراء. والمأمول أن تنجح هيئة الأُمَم، التي حلَّت محلَّ عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية، في الحيلولة بين البشَر وبين تفجير بعضهم البعض إلى حدِّ الفناء التام.
لقد كانت القوَّتان الرئيسيَّتان اللتان أعطتا قوةً دافعة خاصَّة للتطوُّر التكنولوجي، طوال التاريخ، هما التجارة والحرب، وهذا ما أثبتَتْه الأحداث الأخيرة بصورةٍ صارخة. فقد أدَّى تقدُّم الهندسة الإلكترونية وهندسة الاتصالات إلى ما يُطلَق عليه الآن اسم الثورة الصناعية الثانية، وهذه الثورة تقوم الآن بتحويل العالَم أمام أعيُنِنا بصورةٍ أشدَّ ثورية حتى من الثورة الصناعية الأولى، التي كان قوامها الآلة البخارية.
وبالمِثل طرأت على وسائل المواصلات تغييرات لم يكُن أحدٌ يحلُم بها حتى القرن الماضي، ذلك لأنَّ أساليب السَّفر لم تتغيَّر إلا تغيُّرًا طفيفًا منذ العصر الروماني حتى اختراع السكك الحديدية. ولكن، منذ ذلك الحين، حوَّل الإنسان أسطورة إيكاروس إلى حقيقة. فقبل مائة عام فقط بدا من الأمور المُغرِقة في الخيال أن يكون المرء قادرًا على أن يدور حول العالم في ثمانين يومًا، أما اليوم فقد أصبح ذلك مُمكنًا في نفس العدد من الساعات.
هذه التطوُّرات البعيدة المدى قد تجاوزت أحيانًا، في تلاحُقها، قدرة الإنسان على التكيُّف مع الأوضاع الجديدة المُحيطة به، فمن الملاحَظ أولًا أنَّ الصراعات الدولية الهائلة قد أسهمتْ في القضاء على الإحساس بالأمان، الذي ساد في القرن السابق. إذ لم يعُد من الممكن التطلُّع إلى المستقبل بنظرةٍ بعيدة المدى كما كانت الحال من قبل، وفي الوقت ذاته فإنَّ ممارسات الدول أخذت تتعدَّى بشدَّة على حرية التصرُّف التي كان يتمتَّع بها الأفراد من قبل. ولهذه الظاهرة أسباب مُتعدِّدة أولها أن التعقيد المتزايد للحياة الاقتصادية في البلدان الصناعية جعلها شديدة الحساسية لكافة أنواع القلاقل والاضطرابات، ولو قارنَّا مجتمعنا الحالي بالعصور الوسطى لوجدناه أقلَّ منها استقرارًا بكثير؛ ولذا كان من الضرورة ممارسة قدرٍ من السيطرة على القوى التي تستطيع الإخلال بسياسة الدولة. ومن جهةٍ أخرى فقد أُثيرت مشكلة إحداث نوع من التأثير المُتوازِن لتعويض أثَر التقلُّبات التي تحدُث حتميًّا، مما يستتبِع تدخُّل الدولة في المسائل الاقتصادية، وثالثًا فإنَّ فقدان الأمان الذي تحقَّق على نحوٍ مُستقل، أصبح يعوِّضه الآن إلى حدٍّ ما، تلك الخدمات التي تقدِّمها الدولة. هذه التغيُّرات ليست لها إلا علاقة واهية جدًّا بالنظام السياسي لبلدٍ ما، وإنما هي تتوقَّف أساسًا على تكنولوجية حضارتنا، بل إنَّ من المُلفِت للنظر حقًّا مدى تشابُه البلاد ذات الأنظمة الشديدة الاختلاف في هذه الأمور.
ولقد أدى الضغط الرهيب للتنظيم في حياتنا الحديثة إلى ظهور تياراتٍ جديدة من الفكر اللاعقلي في الفلسفة، ويمكن أن تُعدَّ هذه الانبثاقات بمعنًى معيَّن، ردَّ فعلٍ على فلسفات القوة التي استوحتْها أنظمة الحكم الاستبدادية المُعاصرة، وهي أيضًا تمثِّل تمرُّدًا على الخطر الذي يُعتقَد أن العلم يهدِّد به الحرية الإنسانية.
ويتمثَّل التيار اللاعقلي الرئيسي في الفلسفة، في إعادة إحياء نظرياتٍ وجودية كان لها في الآونة الأخيرة دورٌ أساسي في الفلسفة في فرنسا وألمانيا، وسوف ننتقِل بعد قليلٍ إلى إبداء بعض التعليقات الموجَزة على هذه النظريَّات التي ينبغي أن نلاحظ أنها شديدة التبايُن إلى حدِّ أنها كثيرًا ما يتعارَض بعضها مع البعض.
ولقد اقترن إحياء النظريات الوجودية، في داخل القارة الأوروبية، بعودةٍ إلى المتيافيزيقا التقليدية، أما في بريطانيا فقد أخذت الفلسفة في الفترة الأخيرة تسير في الاتجاه اللغوي، بحيث إنَّ الفجوة بين الفلسفة داخل القارة والفلسفة الإنجليزية لم تُصبح في أيِّ وقتٍ بهذا القدْر من الاتِّساع الذي أصبحتْ عليه الآن. بل إنَّ كل طرفٍ لم يعُد يعترِف بأنَّ ما يقوم به الطرف الآخر يستحقُّ بالفعل اسم الفلسفة.
هذا، بإيجازٍ شديد، هو إطار المسرح الفلسفي المعاصر. وحين يغامِر المرء برسْم تخطيطٍ عام لا يتعرَّض لخطر التشويه فحسْب، بل أيضًا للافتقار إلى المنظور، وهو أمر لا علاج له، ومع ذلك يُمكننا أن نُشير إلى نتيجة واحدة هامة: فالشيء الذي أتاح للحضارة الغربية من قبل أن تُسيطر على العالَم هو تكنولوجيتها، مقترنةً بالتراث العلمي والفلسفي الذي أدَّى إلى ظهورها، ولا تزال هذه القوى تبدو مسيطرة في الوقت الحاضر، وإن لم يكن هناك في طبيعة الأشياء ما يُحتِّم أن يظلَّ الأمر على هذا النحو. فمع امتداد المهارات التكنولوجية التي طُوِّرت في الغرب إلى سائر أرجاء العالم الحالي، يمكن أن تهبط مكانة الغرب من مستواها الرفيع.
إنَّ الفلسفة الوجودية داخل القارة الأوروبية هي في جوانب مُعيَّنة أمر مُحيِّر. بل إنَّ من الصعب أحيانًا أن يرى المرء فيها أيَّ شيءٍ يمكن التعرُّف عليه بوصفه فلسفةً بالمعنى التقليدي. ومع ذلك يبدو أنَّ نقطة البداية العامة التي تشترك فيها الحركة بأسرِها هي النظر إلى المذهب العقلي في الفلسفة على أنه عاجز عن تقديم تفسيرٍ سليم لمعنى الوجود الإنساني. فالعقلاني حين يستخدِم نسقًا من المفاهيم، يقدِّم أوصافًا عامة لا تلتقِط المذاق المُميز للتجربة الإنسانية الفردية. وهكذا عاد الوجوديون، من أجل التغلُّب على هذا الإخفاق الظاهر، إلى ما كان كيركجور قد أسماه بالأحوال الوجودية للتفكير، فالعقلانية، إذ تتناول العالم من الخارج، لا تُعطي التجربة الحيَّة في طابعها المباشِر حقَّها، بل ينبغي أن تُدرَك هذه التجربة من الداخل. مثل هذا المأزق يمكن أن يعالَج على أنحاء متباينة. فقد يشعُر المرء بالمَيل إلى القول بأنَّ الحياة الإنسانية بلا معنى أو دلالة، إذا فُهِمت هذه الكلمات بالطريقة المطلوبة في مثل هذه التأمُّلات النظرية. فهدف الحياة هو أن نحياها بأكثر الطرُق طرافةً وتشويقًا، وكل ما عدا ذلك من الأهداف إنما هو أوهام، وفضلًا عن ذلك فهناك ضَعف أساسي في نفس تصوُّر أحوال الفكر الوجودية: فإذا فكَّرت في وجود أي شيءٍ وجب عليك أن تُفكر في شيءٍ من نوعٍ معيَّن، أما الوجود وحدَه وفي ذاته فهو تجريدٌ لا مهرَب منه، وهذه نتيجة كان هيجل ذاته واعيًا بها.
ولكن هذه حُجَج متكلَّفة. إنها صحيحة بلا شك، ولكنها خليقة بأن تُخفي عنَّا ما يريد هؤلاء المُفكِّرون قولَه. لذلك ينبغي أن ننظُر إلى الوجودية نظرةً أرحب، ونحاول أن نُبيِّن بإيجازٍ ما تريد أن تقوله.
ويمكن القول إنَّ الوجوديين أنفسهم قد اعترفوا بذلك إلى حدٍّ ما، ومن ثَم كانوا أحيانًا يُحبذون الصمت، حتى ولو لم يكونوا قد مارَسُوه بأنفسهم. أما ياسبرز فقد كان واعيًا بهذه الصعوبة، وحاول التخفيف منها بالقول إنَّ العقل له أهميته في نهاية المطاف.
وعلى أساس هذا التقسيم للوجود، يرى ياسبرز أنَّ العلم، الذي هو بالضرورة ذو طابعٍ تفسيري، لا بدَّ أن يُخفِق في التوصُّل إلى إدراكٍ أصيل لحقيقة الواقع … ذلك لأنَّنا حين نسمح بوجود تمييزٍ بين التفسير وموضوعه، نعترِف ضِمنًا بهذا الإخفاق، والفكرة الضمنية هي أنَّ كل القضايا إنما هي تشويه للوقائع، لمجرَّد أنَّ القضية ليست هي الشيء الذي تتحدَّث عنه.
وهكذا فإنَّ القضايا، نظرًا لكونها مُتعلِّقة بشيءٍ آخر، توصَف بأنها غير مطابقة، وينبغي أنْ يلاحظ أنَّ القضية تعدُّ هنا غير مطابقة حسب طبيعتها ذاتها، وليس لأنها — كما تقول المثالية — تنعزِل عن مجموعة القضايا الأخرى التي تكتسِب القضية في داخلها معناها الكامل.
وفي رأي ياسبرز أنَّ الفلسفة تنتمي إلى ميدان الوجود المُتعالي، أو الوجود في ذاته، أو لِنقُل على الأصح إنَّ الفلسفة هي الجهد الذي يبذُله الفرد في محاولته أن يصِل إلى التعالي، أما الحياة الأخلاقية للفرد فتقع ضِمن دائرة الوجود الشخصي، ففي هذا المستوى يتفاهم الناس ويُمارسون الشعور بالحرية. ولمَّا كانت الحرية تقع خارج الإطار العقلي، فإنَّنا لا نستطيع أن نُقدِّم تفسيرًا عقليًّا لها، وعلينا أن نكتفي بالاعتراف بمظاهرها في أحوالٍ مُعيَّنة، وهكذا يقول ياسبرز — مُستعيرًا تعبيرًا من كيركجور — إنَّ شعورنا بأننا أحرار يرتبط بحالةٍ مُعينة من الجزع أو القلق، ونستطيع أن نقول، بوجهٍ عام، إنه إذا كان العقل هو الذي يسود على مستوى الوجود — هناك فإنَّ الأحوال الداخلية هي التي تسوء على مستوى الوجود الشخصي.
إنَّ ما تنصبُّ عليه مُعارضة سارتر هو مفهوم الضرورة العقلاني، كما نجِده عند ليبنتس واسبنيوزا، وكما توارَثه الفلاسفة المثاليُّون. وينبغي أنْ نذكُر أنَّ هؤلاء المفكرين كانوا يرَون أنَّ كل ما يوجَد يمكن أن يُنظَر إليه من حيث المبدأ على أنه ضروري، بشرط أن تكون نظرتُنا واسعةً بما فيه الكفاية. عندئذٍ لا يكون هناك مفرٌّ من أن تتَّخِذ فكرة الحرية الصورة التي نجدها عند اسبينوزا أو هيجل، أي أن تكون الحرية هي التمشِّي مع مسار الضرورة. ولكن حين يرفُض المرء هذه النظرة إلى الحرية كما فعل سارتر تتوالى بقية النتائج من تلقاء ذاتها. فالنظرة العقلانية إلى الضرورة تسُود، كما لاحظنا من قبل، في ميدان العلم النظري. لذلك ينبغي رفضها بمجرَّد أن نأخُذ بفكرة الحرية الوجودية. وبالمِثل ينبغي التخلِّي عن اللاهوت العقلاني، وإن كان يبدو أنَّ سارتر قد ذهب إلى أبعدِ ممَّا ينبغي في محاولته أن يربط هذا الموقف بالإلحاد. ذلك لأنَّنا لو كنَّا أحرارًا بالمعنى الذي يؤمن به سارتر، لكان في استطاعتنا أن نختار ما نشاء. والواقع أن المفكرين الوجوديين المختلفين قد اختاروا في هذه المسألة مواقف مُتباينة كما رأيْنا من قبل.
والحق أنَّ الوجودية في نقدِها للنظرة العقلية إلى الضرورة، تلفِت أنظارنا إلى مسألة هامة، ولكن ما تقوم به ليس نقدًا فلسفيًّا بقدْر ما هو احتجاج انفعالي قائم على أُسُس نفسية. فتمرُّد الوجودية على المذهب العقلي مُنبثِق من حالة شعورٍ بالاضطهاد، وهذا يؤدي إلى موقفٍ غريب وشخصي إزاء عالَم الواقع يُشكل عقبةً في وجه الحرية. فبينما يرى العقلاني حريته في معرفة الطريقة التي تعمل بها الطبيعة، يجِدها الوجودي في الاستسلام لحالاته النفسية الباطنة.
أما النقطة المنطقية الأساسية التي تكمُن وراء هذا كله فترجع إلى نقد شلنج لهيجل. فالوجود لا يمكن أن يُستنبَط من مبادئ منطقية عامة. وهذا نقد يمكن أن يُرحِّب به أي تجريبي مُتمسِّكٍ بمذهبه. ولكنَّنا بعد أن نُصدِر هذا الحكم، لا نحتاج إلى أن نُضيف إليه شيئًا. بل إنه ليبدو أنَّ المرء يهدِم هذا النقد السليم إذا ما استنبط على أساسه عِلم نفسٍ وجوديًّا كما تفعل نظرية سارتر، ففي هذه النظرية نجد ملاحظاتٍ طريفة وقَيِّمة في وصف حالاتٍ نفسية متنوِّعة، ولكنَّ سلوك الناس وشعورهم على هذا النحو ليس نتيجةً منطقية للحقيقة القائلة إنَّ الوجود ليس له ضرورة منطقية، ولو سِرْنا في الاتجاه الآخر لكان معنى ذلك قَبول قضية شلنج ورفضها في الآن نفسه، وعلى ذلك فبينما يحقُّ لنا الاعتراف بصحَّة الملاحظات النفسية ودقَّتها، فإنَّ هذه المادة لا يصحُّ تحويلها إلى مبحثٍ في الوجود (أنطولوجيا). ولكن هذا بالضبط هو هدف دراسة سارتر المُسمَّاة: «الوجود والعدَم» وهو كتاب يتمشَّى تمامًا مع الطريقة الألمانية في التأليف، من حيث غموضه الشِّعري وغرائبه اللفظية. أما محاولته أن يُحوِّل موقفًا خاصًّا من الحياة إلى نظرية أنطولوجية فتبدو خارجة عن المألوف في التراث الفلسفي، سواء أكان هذا التراث مُنتميًا إلى المعسكر العقلي أم التجريبي. وهي أشبَهُ بتحويل روايات دستويفسكي إلى كتُبٍ مدرسية في الفلسفة.
ولنلاحِظ أنَّ الوجوديين سيرفضون نقدَنا، على الأرجح، على أساس أنه خارج عن الموضوع، قائلين إننا نستخدِم في هذا النقد معايير عقلانية. فبدلًا من أن نتصدَّى للمشكلات الوجودية، نتحرَّك في ميدان المنطق العقلي. وقد يكون الأمر كذلك بالفعل. ولكن من الممكن استخدام هذا الاعتراض ضدَّ من يُوجِّهونه؛ إذ إنَّ هذا تعبير آخَر عن القول إنَّ أية معايير، مهما كان نوعها، تدور في إطار الميدان العقلي. وهذا ينطبق على اللغة بدورها ومن ثَم كانت هنالك خطورة في استخدامها من أجل دعم النظريات الوجودية. وفي مقابل ذلك ففي وسع المرء بالطبع أن يكتفي بنوعٍ من التدفُّق الشاعري يستخدِمه كلُّ شخصٍ كما يشاء.
ومِن المشكلات التي يهتمُّ بها مارسيل، مشكلة العلاقة بين الجسم والذهن. وقد برزت هذه المشكلة نتيجةً لانشغاله بمحنة الإنسان، كما تُصيب الفرد في موقفٍ واقعي مُعيَّن. ويُذكِّرنا النقد الذي وجهه إلى ثنائية ديكارت بنقد باركلي لأولئك الذين يخلطون بين الإبصار وبين عِلم البصريات الهندسي، ونستطيع أن نقول إنَّ فصل الذهن عن الجسم يفترِض مُقدَّمًا صورةً مجازية تنظُر إلى الذهن على أنه يُحلِّق على نحوٍ ما فوق الشخص، ويرى نفسه والجسم على أنهما شيئان متميزان. هذه على ما يبدو، هي وجهة نظَر مارسيل، وهي صحيحة إلى حدٍّ بعيد، غير أنه يربط حلَّ المشكلة بممارسة التفكير التركيبي، على حين أنَّنا نَميل إلى القول بأنَّ قليلًا من التحليل اللغوي يكفي للكشف عن موضع الخطأ.
كان هذا المذهب، كما يدلُّ اسمه، وضعيًّا في المقام الأول؛ فهو يرى أنَّ العلم هو الذي يزوِّدنا بمجموع معارفنا، وأنَّ الميتافيزيقا بنمطها التقليدي، هي ثرثرة لفظية فارغة، فليس ثمَّة ما يمكن معرفته وراء التجربة. وفي هذا نجد بعض التشابُه بينهم وبين أفكار كانْت، إذا حذفْنا منها الشيء في ذاته، ويقترِن تأكيدهم للملاحظة التجريبية بالأخذ بمعيارٍ للمعنى يرتبط إلى حدٍّ ما بالبرجماتية التي يُطلقها العالِم في مختبره خلال عمله اليومي. ويتمثَّل هذا المعيار في مبدأٍ مشهور هو مبدأ قابلية التحقيق، الذي يذهب إلى أنَّ معنى القضية هو طريقة تحقيقها، وهذا المعني مُستمَدٌّ من ماخ، الذي طبَّق هذه الطريقة ذاتها في تعريف الألفاظ المستخدَمة في الميكانيكا.
لقد ساد الحركة الوضعية كلها احتقارٌ للميتافيزيقا، واحترام للعِلم. أما فيما عدا ذلك فكانت هناك فوارق ملحوظة في مسائل المنطق والمنهج العلمي، وقد أدَّى مبدأ قابلية التحقيق، بوجهٍ خاص، إلى ظهور عددٍ من التفسيرات المُتباينة. والواقع أن تاريخ الحركة يدور بالفعل حول المناقشة التي جرَتْ بشأن أهمية هذا المبدأ ومكانته.
إنَّ من الانتقادات الأولية الموجَّهة ضد النظرية القائلة إنَّ المعنى هو قابلية التحقيق، أنها تواجه نفس الصعوبة التي تواجهها نظرية الحقيقة عند البرجماتيين. فلنفرِض أنَّنا وجدْنا طريقةً ما للتحقُّق من صحة قضية، فإذا ما قدَّمنا عرضًا وصفيًّا لهذا الإجراء، كان من حقِّنا أن نتساءل عن معنى هذا العرْض ذاته، ويؤدي ذلك على الفور إلى تسلسلٍ لا نهاية له، للمعاني التي ينبغي تحقيقها، ما لم نعترِف في مرحلةٍ ما بأن معنى القضية، ببساطة، واضح كالشمس. ولكنَّنا إذا اعترفْنا بذلك، كان معناه القضاء على المبدأ الأصلي، وكان من حقِّنا عندئذٍ أن نُسلِّم بأننا نستطيع إدراك المعاني مباشرةً على الفور.
ويواجِه الموقف الوضعي صعوبةً أخرى هي رفض كلِّ تأمُّلٍ فلسفي بوصفه لغوًا. ومصدر الصعوبة هو أنَّ نظرية قابلية التحقيق هي ذاتها نظرية فلسفية، وقد حاول شليك أن يتجنَّب هذه العقبة بالقول إنَّ مبدأ قابلية التحقيق هو في الحقيقة مُتأصِّل في سلوكنا، وكل ما نفعله حين نعرِضه بهذه العبارات هو أن نُذكِّر أنفسنا بالطريقة التي نسير عليها بالفعل. ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، لكان المبدأ صحيحًا في نهاية الأمر؛ ومن ثَم فهو يُحدِّد موقفًا فلسفيًّا. ذلك لأنَّ من المُتَّفَق عليه بين جميع الأطراف أنه ليس من قضايا العلم التجريبي.
وهنا نجد أنَّ شليك يحاول تجنُّب التسلسُل إلى ما لا نهاية في عمليات التحقيق المتعاقبة. فهو يرى أنَّ المعاني تُستمَدُّ في نهاية المطاف من تجارب تُلقي الضوء على ذاتها، وتُضفي بدورها معنًى على القضايا. ولقد استهدف كارناب غايةً مُماثِلة، عندما حاول أن يضع صيغة نسَقٍ منطقي شكلي يردُّ المشكلة الإبستمولوجية (المعرفية)، إلى أفكارٍ بدائية تربط بينها علاقة أساسية وحيدة هي التعرُّف على التشابُه.
ولقد تحوَّل اهتمام كارناب، آخر الأمر، إلى موقفٍ مختلف كلَّ الاختلاف إزاء المشكلة الرئيسية للفلسفة الوضعية المنطقية. فلو استطاع المرء اختراع لغةٍ صورية مركَّبة بحيث لا يمكن أن تُصاغ فيها قضية غير قابلة للتحقيق، عندئذٍ يؤدي الأخذ بمِثل هذه اللغة، إلى تلبية جميع المطالب الوضعية؛ إذ سيكون مبدأ التحقيق جزءًا لا يتجزَّأ من بنية النسَق ذاته، غير أنَّ هذه الطريقة في معالجة المشكلة غير كافية بدَورها. ومن أسباب ذلك أنَّ مسائل المعنى لا يمكن إرجاعها إلى تركيباتٍ في البنية اللغوية، التي تتعلَّق بأساليب الربط بين الكلمات. وفضلًا عن ذلك فإنَّ بناء مثل هذا النسَق يفترض ضمنًا أنَّ جميع الكشوف قد تمَّ إنجازها من قبل. ففكرته من هذه الزاوية مُعادلة في بعض جوانبها لبناء النسَق الهيجلي، الذي كان مَبنيًّا على رأيٍ مُماثل هو أن العالم قد انتقل إلى مرحلته النهائية.
لقد تفرَّعت الحركة الوضعية عدة فروع مُتباينة، من أهمها مدرسة التحليل اللغوي التي سيطرتْ على الفلسفة الإنجليزية خلال العقود الأخيرة. وهي تشترك مع الوضعية المنطقية الأصلية في القول بأنَّ جميع الإشكالات الفلسفية إنما نتجَتْ عن الاستخدام الفضفاض للغة، وهكذا يرَون أن كل سؤالٍ صِيغَ على نحوٍ سليم له إجابة واضحة دقيقة، ومهمَّة التحليل هي أن يُبين أن المسائل الفلسفية، إنما تنشأ عن إساءة استخدام اللغة نتيجة للإهمال، وما إن يتم الكشف عن عناصر الغموض في هذه الأسئلة ويُلقى عليها ضوء ساطع، حتى يتَّضِح أن المشكلات لا معنى لها، وتتلاشى من تلقاء ذاتها، وهكذا فإنَّ الفلسفة إذا ما استُخدِمت على النحو الصحيح، ينبغي النظر إليها على أنها ضربٌ من العلاج اللغوي.
ولنضربْ لهذا المنهج مثلًا بسيطًا، وإنْ لم أكُن أنا شخصيًّا أقبل الحجَّة المتعلقة بهذه المسألة؛ فكثيرًا ما يحدُث أن يتساءل شخص عن كيفية بدء كل شيء، فما الذي بدأ مسيرة العالم، ومن أية نقطةٍ بدأ مساره؟ ولكن بدلًا من أن نقدِّم إجابة، دعُونا ندقِّق في صياغة السؤال. إنَّ الكلمة المركزية في السؤال هي (البدء)، فكيف تُستخدَم هذه الكلمة في الحديث العادي؟ لكي نجيب عن هذا السؤال الفرعي، ينبغي أن ننظُر إلى نوع الموقف الذي نستخدِم فيه الكلمة عادة، فقد نتحدَّث عن حفلٍ موسيقي قائلين إنه يبدأ في الساعة الثامنة، وقبل البداية ربما كنَّا قد تناولْنا العشاء في المدينة، وبعد الحفل نعود إلى البيت، والشيء الهام الذي ينبغي ملاحظتُه هو أنَّ الكلام عمَّا حدث قبل البداية وبعدَها كلام له معنى، فالبداية هي نقطة في الزمان تُحدِّد مرحلةً لشيء يحدُث في الزمان، فإذا ما عُدنا الآن إلى سؤالنا الفلسفي اتضح لنا على الفور أننا نستخدم فيه كلمة «البداية» بطريقةٍ مختلفة كل الاختلاف؛ إذ ليس المقصود هنا أنْ يكون في وُسعنا الكلام عما حدَث قبل بداية كل شيء، بل إنَّنا حين نصُوغ المسألة على هذا النحو، نستطيع أن نُدرك جانب الخطأ في السؤال، فالسؤال عن بدايةٍ لا يسبقها شيء أشبَهُ بالسؤال عن مربَّع دائري، وحين يتَّضِح لنا ذلك سنكفُّ عن طرح السؤال، لأننا نُدرِك أنه سؤال لا معنى له.
ولقد أدخل فتجنشتين، في معرض تقديمه لآرائه، تشبيه «الألعاب اللغوية» الذي يعني به أنَّ الاستخدام الفعلي لجزءٍ معيَّن من اللغة هو أشبه بلعبةٍ كالشطرنج مثلًا، ولهذه اللعبة قواعد مُعيَّنة ينبغي على كلِّ من يُمارسونها أن يراعوها، كما أنَّ هناك قيودًا مُعيَّنة على الحركات المسموح بها، ويرفض فتجنشتين عالَمَه المنطقي السابق كما عرَضَه في الدراسة، رفضًا تامًّا. فقد بدا له عندئذٍ أنَّ من الممكن تحليل جميع القضايا إلى مكوِّنات نهائية بسيطة لا تقبل مزيدًا من التجزيء. ومن ثَم كان يُطلق على هذه النظرية أحيانًا اسم «الذرية المنطقية»، وهي تشترك في الكثير مع نظرياتٍ أسبق منها عن المكوِّنات النهائية البسيطة التي قال بها العقلانيون. وهذه الفكرة هي أساس جميع محاولات وضْع لغةٍ كاملة تُعبِّر عن كل شيء بأقصى قدرٍ من الدقة، أما في المرحلة المتأخِّرة فقد أنكر فتجنشتين إمكان إيجاد مِثل هذه اللغة، فمن المُستحيل أن نقضي على الخلط قضاءً مبرَمًا.
وهكذا فإنَّنا حين نتعلم كيف نلعب عددًا من الألعاب اللغوية المتنوِّعة، نكتسب معنى الكلمات عن طريق استخدامها ومن خلاله. وفي بعض الأحيان نُعبِّر عن ذلك بطريقةٍ أخرى فنقول إننا نتعلَّم «النحو» أو «المنطق» الخاص بكلمةٍ مُعيَّنة، وهو تعبير فنِّي أصبح شائعًا على نطاقٍ واسع في التحليل اللغوي، وهكذا فإن إثارة المشكلات الميتافزيقية ينجم عندئذٍ عن نقصٍ في إدراك «النحو» الخاص بالكلمات. ذلك لأنَّنا بمجرد أن نفهم القواعد فهمًا صحيحًا، لا تظلُّ لدَينا رغبة في طرح مثل هذه الأسئلة، بعد أن يكون العلاج اللغوي قد شفانا من هذه الرغبة.
لقد كان لفتجنشتين تأثيرٌ كبير في الفلسفة اللغوية. ومع ذلك فإنَّ التحليل اللغوي قد سار في طرُقِه ودروبه الخاصة إلى حدٍّ ما، ونخصُّ بالذِّكر ظهور اهتمام جديد بالتمييزات اللغوية بغضِّ النظر عن أيٍّ علاجٍ مفيد يمكن أن يُسفِر عنه ذلك. وهكذا ظهر نوع جديد من النزعة المدرسية وهو يخنق نفسه كما فعل سلفُه القديم في العصر الوسيط في مسارٍ ضيِّق. والشيء الذي تشترك فيه معظم تيَّارات التحليل اللغوي هو الاعتقاد بأنَّ اللغة العادية كافية، وأنَّ الإشكالات الفلسفية إنما تنشأ عن سوء الاستخدام. هذا الرأي يتجاهل حقيقةً واضحة هي أن اللغة العادية تحتشِد ببقايا النظريات الفلسفية الغابرة.
إنَّ المَثَل الذي قدَّمناه من قبلُ يُبين الطريقة التي ينبغي أن يُفهَم بها العلاج المرتكِز على الاستخدام الشائع. فمن المؤكد أن هذا النوع من التحليل سلاح يفيد في التخلص من كثيرٍ من التعقيدات الميتافيزيقية المتشابكة الغامضة، ولكنه من حيث هو نظرية فلسفية، ينطوي على بعض نقاط الضَّعف. بل إنَّني لأعتقد أنَّ الفلاسفة كانوا طوال الوقت يفعلون هذا الشيء على وجه التحديد، ولكن بصمت. وإذا كان الناس لا يعترفون بذلك اليومَ فإنَّ مردَّ هذا إلى نوعٍ من ضيِّقِ الأفق العقلي الذي أصبح شائعًا بيننا في الآونة الأخيرة. والأخطر من ذلك هو تمجيد اللغة العادية باتِّخاذها حَكَمًا في جميع المنازعات؛ إذ إنني لا أستطيع أنْ أُدرك على الإطلاق لماذا لا تكون اللغة العادية ذاتها مليئةً بالخلط. وأقل ما يمكن أن يُقال هو أنَّ النظَر إليها كما لو كانت شكلًا من أشكال مِثال الخير، دون أن نتساءل ما هي اللغة، وكيف تنشأ وتعمل وتنمو، هذا كله أمر محفوف بالخطر. والافتراض الضِّمني هو أنَّ اللغة كما تُستخدَم عادةً تنطوي على نوع من العبقرية الرفيعة أو الذكاء الخفي، وهناك مُسلَّمة أخرى، ترتبط بهذه على نحوٍ غير مباشر، هي الاعتراف بإمكان تجاهُل كل معرفةٍ غير لغوية، وهو نعمة يستمتِع بها أنصار هذا الاتجاه على نطاقٍ واسع.