عصر ابن المقفع
نشأ ابن المقفع في أواخر الدولة الأموية يوم كان عنصره الفارسي مغلوبًا على أمره خاضعًا للعرب في الدين والدنيا، والعرب إذ ذاك يسمون الفرس بالموالي بعد أن كانوا يسمونهم في الجاهلية أبناء الأحرار.
وشهد ابن المقفع ثورة الفُرْس على العرب، تلك الثورة التي قادها أبو مسلم الخراساني، فكانت أكبر عامل في قيام الدولة العباسية وتقويض الدولة الأموية، فتنفَّس الفُرْس الصُّعَداء وثأروا لتيجان الأكاسرة من عمائم العرب.
ولقد كان مروان بن محمد — آخر خلفاء الأمويين المتعصبين للعرب — يُحذِّر قومه من الدعوة العباسية المستنصرة بالعجم، إذ كتب عنه كاتبه عبد الحميد بن يحيى رسالة لفرق العرب حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد قائمين بالدولة العباسية، قال فيها:
«فلا تمكِّنوا ناصية الدولة العربية من يد الفئة العجمية، واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة ونصحو من هذه السكرة، فسينضب السيل وتُمْحَى آية الليل، والله مع الصابرين، والعاقبة للمتقين.»
ولكن قُضِيَ الأمر، فانقرضت دولة بني أمية وقامت دولة بني العباس، ولم ينسَ بطلهم أبو جعفر المنصور صنيعة الفُرْس، فأقصى العرب عن أعمال الدولة واستوزر من الفُرْس واستعمل واستقضى، وكان من الوصايا التي بُنِيَت عليها سياسة الدعوة العباسية:
«إن قدرت أن لا تُبْقِي بخراسان مَنْ يتكلم بالعربية فافعل.»
على أن أبا جعفر كان أحزم من أن يدع غلاة الفرس يعيدون الدولة الفارسية كسروية كما كانت قبل الفتح العربي، فمكر بهم ومكروا به حتى قتل أبا مسلم، راميًا من وراء ذلك أن يضع حدًّا لأحلامهم، وله من خطبة بالمدائن بعد قتل أبي مسلم: «إن مَنْ نازعنا عروة هذا القميص أجززناه خبيء هذا الغمد، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا على أن مَنْ نكث بنا فقد أباح دمه، ثُمَّ نكث بنا فحكمنا عليه حكمه على غيره، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه.»
وكأن هذا الدواء لم يكن حاسمًا، فخرج في خراسان رجل مجوسي اسمه سنباذ، كان من أصحاب أبي مسلم وصنائعه، فأظهر غضبًا لقتل أبي مسلم، وأعلن أنه يريد أن يمضي إلى الحجاز ويهدم الكعبة، وتبعه كثيرٌ من المجوس والمزدكية والرافضة والمشبهة، ولكن المنصور أبادهم أيضًا.
وأخذ أبو مسلم بعد قتله صفة دينية، فالمسلمية — وهم أصحابه — يعتقدون إمامته، ويقولون إنه حي يُرْزَق، وإنه سيخرج إليهم، وعلى هذه العقيدة قام إسحاق التركي أحد أصحاب أبي مسلم وادَّعى أن أبا مسلم رسول بعثه زرادشت صاحب دين الفرس.
فانظر كيف حاول غلاة الفُرْس أن يستعيدوا ملكهم ودينهم ولغتهم؟! ولكن بالرغم من كل ذلك فقد كان من المستحيل أن تتحقَّق أمانيهم بعد أن دان أكثر الفرس بالإسلام وشاعت بينهم العربية.
ذلك الانقلاب في السياسة والاجتماع ترك أثرًا عميقًا في الأدب العربي، وكان فاتحة عصر سار فيه الأدب أشواطًا بعيدة، وطبعه بطابع استساغته الأذواق، بل قُلْ إنه هيَّأ أذواقنا لفهمه والأُنْس به والارتياح إليه والاهتزاز له، فالشعر العربي مثلًا في العصر العباسي أقرب إلى شعورنا منه في العصر الأموي وصدر الإسلام والجاهلية.
لست من المُغالين في أثر الفُرْس في الأدب العربي، فأنا لا أدَّعي أن تطوُّر أدبنا كان نتيجة سيطرة الآداب الفارسية عليه، ولكني لا أجحد أثر العقلية الفارسية الذي كان عُنصرًا قويًّا في تطور الأدب العربي، وليس هنا محل الإفاضة في إقامة الحُجَّة على أن العرب أثروا في الفرس أضعاف ما أثَّر الفرس في العرب، ولعلنا نعالج هذا الموضوع مفصَّلًا عند الكلام على ابن العميد والصاحب ابن عبَّاد، ولكن لا مندوحة من الإلمام به هنا على سبيل الإيجاز.
دان الفرس بدين العرب بعد الفتح وتسمَّوْا بأسمائهم وتعلموا لغتهم، وهجروا الخط الفارسي واصطنعوا الحروف العربية، وأصبحت اللغة الفارسية بعد الفتح غيرها قبله؛ لكثرة ما دخل عليها من الألفاظ العربية، فالفرس والحالة هذه رفدوا الآداب العربية كمستعربين مطبوعين بطابع الروح العربية ومأخوذين بسحرها، إلا ما اقتضته طبيعة العرق والإرث من طراز التفكير والفهم والحس والخيال.
لم يكن الانقلاب العباسي انقلابًا سياسيًّا فحسب، بل نجم عنه انقلاب في الحياة الاجتماعية والفكرية، وهبَّت على أثره حركة علمية قوية، فدُوِّنَت الكتب وتُرْجِمت كتب اليونان والفُرْس، وظهرت آراء في الدين والفلسفة، ورَفَعَت الشعوبية عقيرتها، ونغض الزنادقة والملاحدة رءوسهم، وقاموا بدعوات مصدرها دين زرادشت ومزدك.
أما الحياة إذ ذاك فقد اقتضت طبيعة الحضارة أن يرتاح القوم إلى متعها ولذاتها، ويأخذوا بنصيب غير يسير من شهواتهم، فشاع الغناء والشراب، وظهر الخلعاء والمُجَّان والإباحيون على كثرة المنكرين لتلك الأعمال من العلماء الأتقياء والزُّهَّاد الصالحين.
كل ذلك فتح للأدب العربي أبوابًا لم تكن مفتوحة على مصراعيها من قبل، فتنوَّعت الأغراض وكثرت الفنون وتعدَّدت المناحي وظهر التأنُّق في النثر والشعر، وطُلِبَت الرقة والدماثة، فضلًا عما أَوْحَتْهُ تلك الحياة من سمو في الخيال وعمق في التفكير مع المحافظة على فصاحة العربية والأخذ بأساليبها.
والحق أن مرونة العربية وسعة مادتها ساعدتها على تقبُّل تلك العناصر الجديدة وصبغها بصبغة عربية لا عجمة فيها، وذلك من خصائصها التي مازتها عن كثير من اللغات، ولولا ذلك لما أُتيح لها أن تكون لغة الدين والسلطان والعلم والأدب.
هذا هو العصر الذي كان ابن المقفع أحد أعلامه ومفاخره.