نصوص من كلام ابن المقفع
أمثلة من الأدب الصغير
-
(١)
على العاقل — ما لم يكن مغلوبًا على نفسه — أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يُفْضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على الساعات الأُخَر، وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل بُلْغة.
-
(٢)
وعلى العاقل أن لا يكون راغبًا إلا في إحدى ثلاث: تزوُّد لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم.
-
(٣)
أحقُّ الناس بالسلطان أهل المعرفة، وأحقهم بالتدبير العلماء، وأحقهم بالفضل أعودهم على الناس بفضله، وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديبًا، وأحقهم بالغنى أهل الجود، وأقربهم إلى الله أنفذهم في الحق علمًا وأكملهم به عملًا، وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله، وأصوبهم رجاءً أوثقهم بالله، وأشدهم انتفاعًا بعلمه أبعدهم من الأذى، وأرضاهم في الناس أفشاهم معروفًا، وأقواهم أحسنهم معونة، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلجهم بحجة أغلبهم للشهوة والحرص، وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسه حُبًّا، وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعًا، وأطولهم راحة أحسنهم للأمور احتمالًا، وأقلهم دهشًا أرحبهم ذراعًا، وأوسعهم غنى أقنعهم بما أوتي، وأخفضهم عيشًا أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالًا أظهرهم حصافة، وآمنهم في الناس آكلهم نابًا ومخلبًا، وأثبتهم شهادة عليهم أنطقهم عنهم، وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمة لهم، وأحقهم بالنعم أَشْكَرهم لما أوتيَ منها.
-
(٤)
أفضل ما يورث الآباء الأبناء الثناء الحسن والأدب النافع والإخوان الصالحون.
-
(٥)
إذا هممت بخير فبادر هواك لا يغلبك، وإذا هممت بشر فسوِّف هواك لعلك تظفر، فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك هو الغنم.
-
(٦)
لا يمنعك صغر شأن امرئٍ من اجتناء ما رأيت من رأيه صوابًا والاصطفاء لما رأيت من أخلاقه كريمًا، فإن اللؤلؤة الفائقة لا تُهان لهوان غائصها الذي استخرجها.
-
(٧)
أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك.
-
(٨)
ومن أحسن ذوي العقول عقلًا مَنْ أحسن تقدير أمر معاشه ومعاده تقديرًا لا يفسد عليه واحدًا منهما نفاد الآخر، فإنْ أعياه ذلك رفض الأدنى وآثر عليه الأعظم.
-
(٩)
وكان يُقال الرجال أربعة: اثنان تختبر ما عندهما بالتجربة، واثنان قد كُفِيت أمر تجربتهما.
فأمَّا اللذان تحتاج إلى تجربتهما فإن أحدهما برٌّ كان مع أبرار، والآخر فاجر كان مع فجار، فإنك لا تدري لعل البَرَّ منهما إذا خالط الفجار أن يتبدَّل فيصير فاجرًا، ولعل الفاجر منهما إذا خالط الأبرار أن يتبدَّل بَرًّا، فيتبدل البَرُّ فاجرًا والفاجر بَرًّا.
وأمَّا اللذان قد كُفِيتَ تجربتهما وتبين لك ضوء أمرهما فإن أحدهما فاجر كان في أبرار والآخر بَرٌّ كان في فُجَّار.
-
(١٠)
حقٌّ على العاقل أن يتخذ مرآتين، فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه فيتصاغر بها، ويُصْلِح ما استطاع منها، وينظر في الأخرى في محاسن الناس فيُحَلِّيهم بها، ويأخذ ما استطاع منها.
-
(١١)
وكان يُقال: عمل الرجل فيما يعلم أنه خطأ هوى «والهوى آفة العفاف»، وتركه العمل فيما يعلم أنه صواب تهاون «والتهاون آفة الدين»، وإقدامه على ما لا يدري أصواب هو أم خطأ جماح «والجماح آفة العقل».
-
(١٢)
أمور لا تصلح إلا بقرائنها: لا ينفع العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير جود، ولا المروءة بغير تواضع، ولا الخفض بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق.
-
(١٣)
اغتنم من الخير ما تعجَّلت، ومن الأهواء ما سوَّفت، ومن النَّصَب ما عاد عليك، ولا تفرح بالبطالة ولا تجبن عن العمل.
-
(١٤)
من استعظم من الدنيا شيئًا فبطر، واستصغر من الدنيا شيئًا فتهاون، واحتقر من الإثم شيئًا فاجترأ عليه، واغترَّ بعدوٍّ وإن قل فلم يَحْذَرْه، فذلك من ضياع العقل.
-
(١٥)
إن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأيًا فهو يزداد برأيه رأيًا كما تزداد النار بالوَدَك ضوءًا.
-
(١٦)
أربعة أشياء لا يُسْتَقَلُّ منها قليل: النار، والمرض، والعدو، والدَّين.
-
(١٧)
وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضا، وأحق ما صُبِرَ عليه ما لا سبيل إلى تغييره، وأفضل البِرِّ الرحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون، وطيب النفس حسن الانصراف عما لا سبيل إليه، وليس من الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا فيها غم يعدل غم فقدهم.
-
(١٨)
لا تَعُدَّ غنيًّا مَنْ لم يشارك في ماله، ولا تَعُدَّ نعيمًا ما كان فيه تنغيص وسوء ثناء، ولا تَعُدَّ الغُنْمَ غُنْمًا إذا ساق غُرْمًا، ولا الغُرْمَ غُرْمًا إذا ساق غُنْمًا، ولا تعتد من الحياة ما كان في فراق الأحبة.
-
(١٩)
ومن المعونة على تسلية الهموم وسكون النفس لقاء الأخ أخاه، وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه ببثِّه، وإذا فُرِّقَ بين الأليف وأليفه فقد سُلِبَ قراره وحُرِمَ سروره.
أمثلة من الأدب الكبير
-
(١)
إنما يحمل الرجل على الحلف إحدى هذه الخلال: إمَّا مهانة يجدها في نفسه وضَرَع وحاجة إلى تصديق الناس إياه، وإمَّا عِيٌّ بالكلام حتى يجعل الأيمان له حشوًا ووصلًا، وإمَّا تهمة قد عرفها من الناس لحديثه فهو ينزل نفسه منزلة مَنْ لا يُقْبَل منه قوله إلا بعد جهد اليمين، وإمَّا عبث في القول أو إرسال اللسان على غير روية ولا تقدير.
-
(٢)
لا تعتذرن إلا إلى مَنْ يحب أن يجد لك عذرًا، ولا تستعيننَّ إلا بمن يحب أن يظفر لك بحاجتك.
-
(٣)
لا تجترئن على خلاف أصحابك عند الوالي ثقةً باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك، فإنَّا قد رأينا الناس يعرفون فضل الرجل وينقادون له ويتعلمون منه وهم أخلياء، فإذا حضروا ذا السلطان لم يرض أحد منهم أن يُقِرَّ له وأن يكون له عليه في الرأي والعلم فضل، فاجترءوا عليه بالخلاف والنقض، فإن ناقضهم كان كأحدهم وليس بواجد في كل حين سامعًا فهمًا وقاضيًا عدلًا، وإن ترك مناقضتهم صار مغلوب الرأي مردود القول.
-
(٤)
ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بِشْرك وتحيتك، ولعدوك عدلك، واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد.
-
(٥)
إن آثرت أن تفاخر أحدًا ممن تستأنس إليه في لهو الحديث، فاجعل غاية ذلك الجد، ولا تَعْدُوَنَّ أن تتكلَّم فيه بما كان هزلًا، فإذا بلغ الجد أو قاربه فدعه، ولا تخلطن بالجد هزلًا ولا بالهزل جدًّا، فإنك إن خلطت بالجد هزلًا هجنته، وإن خلطت بالهزل جدًّا كدرته، غير أني قد علمت موطنًا واحدًا إن قدرت أن تستقبل فيه الجد بالهزل أصبت الرأي وظهرت على الأقران، وذلك أن يتوردك متورد بالسفه والغضب فتجيبه إجابة الهازل المداعب برحب من الذراع وطلاقة من الوجه وثبات من المنطق.
-
(٦)
إن رأيت صاحبك مع عدوك فلا يُغضبنك ذلك، فإنما هو أحد الرجلين: إن كان رجلًا من إخوان الثقة فأنفع مواطنه لك أقربها من عدوك لشرٍّ يكفه عنك وعورة يسترها منك وغائبة يطَّلع عليها لك، فأما صديقك فما أغناك أن يحضره ذو ثقتك، وإن كان رجلًا من غير خاصة إخوانك فبأي حق تقطعه عن الناس وتكلفه أن لا يصاحب ولا يجالس إلا مَنْ تهوى؟!
-
(٧)
وإذا رأيت رجلًا يحدِّث حديثًا قد علمته أو يخبر خبرًا قد سمعته فلا تشاركه فيه ولا تتعقَّبه عليه؛ حرصًا على أن يعلم الناس أنك قد علمته، فإن في ذلك خفةً وشحًّا وسوء أدب وسخفًا.
-
(٨)
احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضا، وذلك أن العدو خصم تضربه بالحجة وتغلبه بالحكام، وأن الصديق ليس بينك وبينه قاضٍ فإنما حكمه رضاه.
-
(٩)
حبب إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه، ويكون هو لهوك ولذتك وسلوتك وبلغتك، واعلم أن العلم علمان: علم للمنافع وعلم لتزكية العقل، وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يُحَرَّض عليه علم المنافع، وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصِقالها وجلاؤها فضيلة منزلة عند أهل الفضل في الألباب.
-
(١٠)
ليكن مما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسودًا، فإن الحسد خلق لئيم، ومن لؤمه أنه يوكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأَكْفاء والخلطاء، فليكن ما تقابل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون حين تكون مع مَنْ هو خير منك، وأن غُنْمًا لك أن يكون عشيرك وخليطك أفضل منك في العلم فتقتبس من علمه، وأفضل منك في القوة فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال فتفيد من ماله، وأفضل منك في الجاه فتصيب حاجتك بجاهه، وأفضل منك في الدين فتزداد صلاحًا بصلاحه.
-
(١١)
لا تجالس امرأً بغير طريقته، فإنك إن أردت لقاء الجاهل بالعلم والجافي بالفقه والعي بالبيان، لم تزد على أن تضيع عقلك وتؤذي جليسك بحملك عليه ثقل ما لا يعرف وغمِّك إياه بمثل ما يغتم به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمي الذي لا يفقه. واعلم أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عادوه ونصبوا له ونقضوه عليك وحرصوا على أن يجعلوه جهلًا، حتى إن كثيرًا من اللهو واللعب الذي هو أخف الأشياء على الناس ليحضره مَنْ لا يعرفه فيثقل عليه ويغتم به.
-
(١٢)
اتق الفرح عند المحزون، واعلم أنه يُحْقَد على المنطلق ويُشْكَر للمكتئب.
-
(١٣)
اعلم أن خفض الصوت وسكون الريح ومشي القصد من دواعي المودة، إذا لم يخالط ذلك بَأْو ولا عُجْب، أما العُجْب فهو من دواعي المقت والشنآن.
-
(١٤)
تعلَّم حسن الاستماع كما تتعلَّم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى يقضي حديثه، وقلة التلفُّت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول.
-
(١٥)
إذا كنت في قوم ليسوا بلغاء ولا فصحاء، فدع التطاول عليهم في البلاغة أو الفصاحة.
-
(١٦)
اعلم أن بعض شدة الحذر عون عليك فيما تحذر، وأن شدة الاتقاء تدعو إليك ما تتقي.
-
(١٧)
إنِّي مخبرك عن صاحب كان أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما أَعْظَمَه عندي صغر الدنيا في عينه، كان خارجًا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يُكْثر إذا وجد، وكان خارجًا من سلطان فرجه فلا يدعو إليه مؤنة ولا يستخف له رأيًا ولا بدنًا، وكان خارجًا من سلطان الجهالة فلا يقدم إلا على ثقة أو منفعة، وكان أكثر دهره صامتًا، فإذا قال بذَّ القائلين، وكان يُرَى ضعيفًا مستضعفًا، فإذا جاء الجدُّ فهو الليث عاديًا، وكان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراء ولا يدلي بحجة حتى يجد قاضيًا عدلًا وشهودًا عدولًا، وكان لا يلوم أحدًا على ما قد يكون العذر في مثله حتى يعلم ما اعتذاره، وكان لا يشكو وجعًا إلا إلى مَنْ يرجو عنده البرء، ولا يصحب إلا مَنْ يرجو عنده النصيحة، وكان لا يتبرَّم ولا يتسخَّط ولا يتشهَّى ولا يتشكَّى ولا ينتقم من الولي ولا يغفل عن العدو، ولا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه بحيلته وقوته.
فعليك بهذه الأخلاق إن أطقت، ولن تطيق، ولكن أخْذ القليل خير من ترك الجميع، وبالله التوفيق.