نسب ابن المقفع ووطنه
كل مَنْ ترجم لابن المقفع لم يذكر غير اسمه واسم أبيه «روزبه بن داذويه»، وأن كنيته قبل أن يسلم أبو عمرو وبعد أن أسلم سُمِّيَ عبد الله، وكُنِّيَ بأبي محمد، وأنه من أصل فارسي، إلا ابن النديم فإنه عرَّفنا باسم جده «المبارك» وأن آباءه من خوز.
وبلاد خوز — وتُعْرَف بخوزستان ويسميها العرب الأهواز — قريبة من البصرة، نزلتها القبائل العربية منذ الفتح، قال ياقوت في معجم البلدان: أرض خوزستان أشبه شيء بأرض العراق وهوائها وصحتها، وأمَّا لسان أهل خوزستان فإن عامتهم يتكلمون بالفارسية والعربية، غير أن لهم لسانًا آخر خوزيًّا ليس بعبراني ولا سرياني ولا عربي ولا فارسي، والغالب عليهم الاعتزال، وفي كورهم جميع الملل.
أما داذويه والد ابن المقفع فقد كان مجوسيًّا مُستعربًا، ولاه الحجاج بن يوسف الثقفي خراج بلاد فارس، فنال شيئًا من مال السلطان، فضربه الحَجَّاج حتى تقفعت يده، فلُقِّب بالمقفع، وعُرِفَ ابنه بابن المقفع.
وُلِدَ ابن المقفع حوالي سنة ست ومائة، وسماه والده روزبه، ونشأ بالبصرة في ولاء آل الأهتم، والبصرة بلدة اختطَّتها العرب في خلافة عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — وكانت لعهد ابن المقفع أعظم مدن العلم والأدب في الإسلام، لا سيَّما اللغة والفصاحة وفنون الأدب؛ لأن بغداد لم تكن بُنِيَت بعد، وهي منذ القرن الأول مجمع أهل العلم والأدب، فيها المِرْبد الذي خلف سوق عكاظ في الجاهلية، كان يؤمه الشعراء مع رواتهم للمناضلة والمناشدة، وفيه مجالس للعلم والأدب وحلقات للمناشدة والمفاخرة، ومن أشهر حلقاته حلقة الفرزدق وراعي الإبل، ورجال الأدب الذين نبغوا في البصرة أعظم من أن يُحصوا في مثل هذه الرسالة، ويكفيك أن أبا الأسود الدؤلي أول مَنْ شرع وضع النحو هو بصري، وكذلك جماعته الذين أتوا من بعده كابن أبي إسحاق الحضرمي أول مَنْ علل النحو، وعيسى بن عمر الثقفي أول مَنْ ألَّف فيه، وهارون بن موسى أول مَنْ ضبطه، وسيبويه أول مَنْ أجاد في تأليفه، والبصرة إذ ذاك مجتمع فصحاء الأعراب أيضًا، يفدون إليهم فيلقون كل تجلَّة وإكرام من رواة اللغة والأدب الذين يتلقون عنهم شوارد العربية ونوادر الإعراب.
ولم تكن مدينة تناظر البصرة في تلك النهضة العلمية غير الكوفة، فهما مدينتا العلم والأدب في الإسلام، ولكن البصرة كانت الراجحة، وللبصريين والكوفيين مذاهب في العربية، احتدم الجدال بشأنها وأُلِّف فيها عدد من الكتب.
وفي البصرة نبغ قتادة بن دعامة، وبشار بن برد، وصالح بن عبد القدوس، والرقاشي، وابن مناذر، وسلم الخاسر، وأبو نواس، والسيد الحميري، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه، وغيرهم من أئمة الأدب في القرن الذي عاش فيه ابن المقفع.
وفي البصرة كان الحسن البصري يعقد حلقته ويُلْقِي دروسه العامة، ومن تلك الحلقة نبغ واصل بن عطاء الغزال رئيس المعتزلة، إذ ترك حلقة أستاذه واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد؛ ولذلك غلب الاعتزال فيما بعد على أهل البصرة.
بمثل تلك المدينة الفاضلة نشأ ابن المقفع في ولاء آل الأهتم، وآل الأهتم معروفون بالبلاغة والفصاحة واللَّسَن والخطابة والشعر في الجاهلية والإسلام، ومنهم عمرو بن الأهتم الذي كان يُضْرَب به المثل في البلاغة، والذي كان في وفد بني تميم إلى النبي ﷺ قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: «وفي بني الأهتم رجال معروفون خطباء يطول الكتاب بأسمائهم.» وهكذا فقد أُتِيحَ لابن المقفع أن يشبَّ بين معدن الفصاحة في مدينة العلم والأدب.