علمه وأدبه
جمع ابن المقفع بين ثقافتَي العرب والفُرْس، وإذا قلنا ثقافة الفرس ضممنا إليها حكمة الهنود وفلسفة اليونان؛ لأن الفرس ترجموا كتب الهند واليونان لا سيَّما والإسكندر فتح بلاد فارس، فشاعت بها الفلسفة اليونانية، وابن المقفع ترجم عن الفارسية كتبًا من وضع الهند واليونان، منها أدبي ومنها فلسفي مثل كتب المنطق، وذلك لا يكفي للقيام به معرفة اللغة المترجم عنها فقط، بل يقتضي إتقان علم المنطق والتبصر به، قال القفطي في أخبار الحكماء: ابن المقفع أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور، فهو في هذا العلم معدود من الأوائل، وله فضيلة السبق في نقله إلى العربية، وكذلك فإن بعض المستشرقين يظن أن ابن المقفع هو الذي شرع طريقة تدوين التاريخ في اللغة العربية؛ لأنه ترجم كتاب خداينامه «سير ملوك العجم»، فكان مثالًا للعرب في كتابة التاريخ.
أما بلاغته، فإنه أحد بلغاء الناس العشرة، بل هو معدود في طليعتهم، وهاك أسماءهم كما رتبها ابن النديم:
«عبد الله بن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، محمد بن حجر، أنس بن أبي شيخ، سالم، مسعدة، الهرير، عبد الجبار بن عدي، أحمد بن يوسف.»
وسواء أكان بلغاء الناس عشرة أم أكثر أم أقل، فابن المقفع في السابقين منهم، وقلَّ منهم من اجتمع له من أدوات النبوغ كما اجتمع لابن المقفع: علم واسع، وعقل راجح، وذكاء حاد، وطبع فيَّاض، ولغة شريفة، وقد قيل: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع، ولقد كان الخليل يحبُّ أن يجتمع بابن المقفع، فجمع بينهما عبَّاد بن عباد المهلبي، فمكثا ثلاثة أيام ولياليهن يتحادثان، فلما افترقا سُئل الخليل عن ابن المقفع فقال: ما شئت من علم وأدب إلا أن علمه أكثر من عقله. وسُئل ابن المقفع عن الخليل فقال: ما شئت من علم وأدب إلا أن عقله أكثر من علمه.
وأية شهادة أعظم خطرًا من شهادة الخليل بن أحمد سيد الأدباء وأعظمهم اختراعًا وتوليدًا في الوضع والتأليف، على أن البقية الباقية من كتب ابن المقفع خير دليل على ذلك الأدب الغض والعقل الحكيم.
والجاحظ يعترف لابن المقفع في البلاغة وفنونها، ولكنه ينكر عليه معرفته في علم الكلام، قال: ومن المعلمين ثُمَّ البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، كان مُقدَّمًا في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله، وكان يتعاطى الكلام ولا يُحْسِنُ منه لا قليلًا ولا كثيرًا، وكان ضابطًا لحكايات المقالات، ولا يعرف من أين غُرَّ المغتر ووثق الواثق، وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت من خُلَّص المتكلمين ومن النَّظَّارين فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية، فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم، وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم فيظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بعد به.»
قد يكون الجاحظ مصيبًا في حكمه؛ لأن علم الكلام كما يريده الجاحظ لم يكن أثمر في زمن ابن المقفع، كما أن ابن المقفع نفسه لم يكن عالمًا مُختصًّا بالكلام يناظر الناس في عقائدهم ومذاهبهم، ولكن الجاحظ مع ذلك أثبت له «جودة الحكاية للدعوى»، وذلك أقصى ما يُطْلَب من الناقل والمترجم، وابن المقفع مترجم في الفلسفة لا واضع، على أن له آراء حكيمة في الدين والحياة والأخلاق تُعدُّ مثلًا أعلى في السمو، ولكن ليست على طريقة المتكلمين والمناظرين، سيأتي الكلام عليها في غير هذا المكان.
ترك ابن المقفع ثروة عظيمة للأدب العربي وأمثلة رفيعة يطبع على غرارها بلغاء هذه الأمة، فترجم وألَّف مقدارًا غير قليل من الكتب عدا الرسائل التي كان يكتبها للأمراء، وهو لم يعش أكثر من ست وثلاثين سنة، فلو عمَّر أطول من ذلك لرفد أدبنا بأضعاف ما رفد، ولله ما أصدق قوله:
ولقائل أن يقول: ما بال الناس يغلون في رفع منزلة ابن المقفع وأكثر تآليفه مترجمة عن الفارسية ليس له منها إلا الصوغ والرصف؟ وقد فاته أن الترجمة في كثيرٍ من الأحيان أشق من التأليف، والمجوِّدون بها قليل جِدًّا، والكتب التي تُتَرْجَم في عصرنا الحاضر أوضح دليل، فما كان علميًّا منها يتعثَّر بالعجمة من حيث المصطلحات، وما كان أدبيًّا منها لم تأنس به نفوس القراء لبعده عن أساليب العربية اللهم إلا النزر اليسير، فإذا قارنت هذه التراجم بترجمة ابن المقفع ظهر لك تفوُّقه ونبوغه، على أن له من بنات أفكاره ما يستهوي العقول ويسحر الألباب، حتى زعم بعضهم أنه عارض القرآن في كتاب الدرة اليتيمة، هذا فضلًا علن أن عصر ابن المقفع كان عصر ترجمة في أكثر العلوم.