حكمته وآراؤه
جمع ابن المقفع بين عقل الحكيم وتفكيره وطبع الأديب وذوقه، فليست حكمته حقائق عارية، وليس أدبه من هواجس النفس ونزغات الأهواء، وإذا حاولنا عزل حكمته عن عاطفته وجدناها حكمة مشرقية، وأعني بذلك أنها غير مادية، بل هي في كثير من نواحيها روحية مبنية على الرحمة وحب الخير وبث الفضيلة ومساعدة الناس، فالحقيقة عنده مرغوب فيها ما نفعت أو ما كان نفعها أكثر من ضررها، فإذا كان تمحيصها يؤدي إلى تعاسة أو بؤس فالأفضل أن يُغْفَلَ أمرها أو يُحَوَّل ضررها إلى منفعة، وهذا النوع من حكمة المتفائلين أقرب إلى علم تهذيب الأخلاق منه إلى الفلسفة الخالصة.
ولكنه مع ذلك لا يقنع بهذا القدر الحكيم من حب الخير، فبين جنبيه نفس أديب تأبى عليه الرضا بذلك المقدار، وتُكَلِّفه المبالغة والغلو، فيضيف إلى حكمته الإيثار والمروءة والشجاعة والأريحية والنبل والشرف والشهامة، فهو يستحسن الغنى إذا كان مقرونًا بالجود، والعدل مُضافًا إلى الرحمة، والعقل إذا كان مع الورع، والقوة مع العفو، والشرف مع التواضع، واللذة مع التصون، والصداقة مع الإيثار، وقد مرَّ بك خبر عبد الحميد الكاتب لما التجأ إليه، وخبر جاره الذي أراد أن يبيع داره.
ترجع حكمة ابن المقفع إلى مصادر شتى، فالإقدام والشجاعة والحمية والأنفة والكرم والإيثار عربي، وحب الخير وتعظيم أمر الدين والمساواة والتقوى والاهتمام بأمور الآخرة إسلامي، وما سوى ذلك كالرضا والقناعة وسعة الصدر والأخذ بالحزم والتدبير في شئون الفرد والجماعة وعبادة الجمال هندي وفارسي ويوناني.
على تلك الأصول تعتمد حكمته، وعنها تتفرَّع آراؤه في الدين والحكومة والأخلاق وحياة الفرد والجماعة، أما الدين فإنه يعظِّم من شأنه كثيرًا ويعتده أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده ويرى الوقوف عند حدوده، وأمَّا الحكومة فيجب أن تقوم على العدل، فتجزي المحسن بإحسانه وتجازي المسيء بإساءته، ولا فضل لأحد على أحد عندها إلا بالطاعة والإخلاص، وأمَّا رأس الحكومة فمقدس وواجب الإطاعة والمداراة، ولا تصلح الناس إلا به إذا كان عادلًا، وما أجلَّ خطر الملك عند ابن المقفع في أمور الدين والدنيا! فبصلاحه صلاح الرعية وبفساده فسادها، وحقه على الناس أعظم من حق الناس عليه، وذلك رأي فارسي؛ لأن الفرس كانوا يعتقدون أن الأكاسرة يستمدون سلطتهم من الله، وقد شغل السلطان جزءًا كبيرًا من حكمة ابن المقفع، فمن ذلك قوله: «الناس على دين السلطان إلا القليل، فليكن للبر والمروءة عنده نَفَاق، فسيكسد بذلك الفجور والدناءة في آفاق الأرض.»
وقوله: «لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، فإن كنت حافظًا إذا ولَّوك حَذِرًا إذا قرَّبوك أمينًا إذا ائتمنوك، تُعلِّمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدِّبهم وكأنك تتأدَّب بهم، وتشكر لهم ولا تكلِّفهم الشكر، ذليلًا إذا صرموك، راضيًا إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كل البعد والحذر منهم كل الحذر، وإن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فاستغن به، فإنه من يخدم السلطان بحقه يَحُلْ بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومَنْ يخدمه بغير حقه يحتمل الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة.»
وقوله وهو غاية في طاعة السلطان ومداراته: «جانب المسخوط عليه والظنين عند السلطان، ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرن له عذرًا، ولا تثن عليه عند أحد.»
وابن المقفع يحبُّ الشجاعة والكرم، ويكره الجبن والحرص، قال: «الجبن مقتلة والحرص محرمة، فانظر فيما رأيت وسمعت، مَنْ قُتِلَ في الحرب مُقبِلًا أكثر أم من قُتِلَ مُدْبِرًا؟ وانظر مَنْ يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو نفسك له بالعطية أم مَنْ يطلب إليك بالشره والحرص؟»
وهو يبغض الحسد، ويراه من أكبر النقم على صاحبه، حتى يرثي لمن ابتُلي به، قال: «أقلُّ ما لتارك الحسد في تركه أن يصرف عن نفسه عذابًا ليس بمدرك به حظًّا ولا غائظ به عدوًّا، فإنَّا لم نر ظالمًا أشبه بمظلوم من الحاسد، طول أسف ومحالفة كآبة وشدة تحرُّق، ولا يبرح زاريًا على نعمة الله، ولا يجد لها مزالًا، ويكدر على نفسه ما به من النعمة فلا يجد لها طعمًا، ولا يزال ساخطًا على مَنْ لا يترضاه، ومتسخطًا لما لن ينال فوقه، فهو منغَّص المعيشة دائم السخط محروم الطِّلْبة، لا بما قُسِمَ له يقنع ولا على ما لم يقسَم له يغلب، والمحسود يتقلَّب في فضل الله مباشرًا للسرور منتفعًا به ممهلًا فيه إلى مدة، ولا يقدر الناس لها على قطع وانتقاص.»
وكذلك فإنه ينهى عن الكذب ولو بالهزل، قال: «لا تهاونن بإرسال الكذبة في الهزل، فإنها تسرع في إبطال الحق.»
والبخل عنده من أسوأ الأخلاق، قال: «الحرص والحسد بكرا الذنوب وأصل المهالك، أما الحسد فأهلك إبليس، وأمَّا الحرص فأخرج آدم من الجنة.»
وحب المدح والتقريظ معدود عنده من ضعف الرجل، قال: «إياك إذا كنت واليًا أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثُلْمة من الثُّلَم يقتحمون عليك منها وبابًا يفتتحونك منه وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منك لها، واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على ردِّه، فإن الرادَّ له ممدوح والقابل له معيب.»
والثناء والإكرام لسلطان أو مال جديران بالرد والامتهان، قال: «إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان فلا يعجبنَّك ذلك، فإن زوال الكرامة بزوالهما، ولكن ليعجبك إن أكرموك لدين أو أدب.»
وهو ينفر من الدَّين ويراه عنوان الذل، قال: «الدَّين رق، فانظر عند مَنْ تضع نفسك.»
أما رأيه في النساء فمن أسوأ الآراء، قال: «إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهنَّ إلى أَفْن وعزمهن إلى وَهْن، واكفف عليهنَّ من أبصارهنَّ بحجابك إياهنَّ، فإن شدة الحجاب خيرٌ لك من الارتياب، وليس خروجهنَّ بأشد من دخول مَنْ لا تثق به عليهنَّ، فإن استطعت أن لا يعرفن عليك فافعل، ولا تُمَلِّكَنَّ امرأة من الأمر ما جاوز نفسها، فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها وأدوم لجمالها، وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تعد بكرامتها نفسها ولا تعطها أن تشفع عندك لغيرها، ولا تطل الخلوة مع النساء فيَمْلَلْنَكَ وتملَّهن، واستبق من نفسك بقية، فإن إمساكك عنهن وهن يُرِدْنك باقتدار خيرٌ من أن يهجمن عليك على انكسار، وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة منهنَّ إلى السَّقْم.»
وفي رأيه أن اللذة في الحياة أخت التدبير والتقوى إذا كانت حلالًا، قال: «على العاقل ألَّا يكون راغبًا إلا في إحدى ثلاث: تزوُّد لمعاد أو مَرَمَّة لمعاش أو لذة في غير محرم.»
وقال: «لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجد من لذة دنياه، وليس من العقل أن يحرمه حظَّه من الدنيا بصرُه بزوالها.»
وهناك أمور أخرى تتفرَّع عن هذه الأصول، تعمل كلها على تهذيب الأخلاق ورياضة النفس على المكارم، ستطَّلع على كثيرٍ منها في الفصل الذي سيُعْقَد للمختار من كلامه.