السلم هو جثة الحرب
لا شيء، لا شيء.
لا شيء غير هياكل الأشجار المحترقة.
أشجار الحبحب، المهوقني، المانجو، والتك العملاقة.
لا شيء غير هياكل من الفحم والرماد.
أما القشدة، الأناناسات، البابايات، غيرها من الشجيرات الهشة التي تنمو على جوانب التلال الخصيبة الممتدة ما بين الدَّغل الأوسط والشرقي عبر قرى «لالا».
«شاري».
«فترا».
وكهوف «الكا» المتفرقة فيما وراء بحيرة التماسيح، قبيلة «الكا» المرعبة تمتد خلفها سلسلة جبلية وعرة، يقولون إنها أم البحيرات، تحتضنها منذ أن خلق الله رجلًا أسود جميلًا وسيدة سوداء ورمى بهما من السماء في أفريقيا على قمة شجرة جوغان، هذه الشجيرات الهشة لا وجود لأشباح هياكلها؛ لأن النيران التهمتها تمامًا، النيران التي يطفئها المطر ثم تشعلها قذائف الراجمات، قنابل الأنتينوف البرميلية والشحنات النووية الصغيرة محدودة الأثر التي تمت صناعتها لتفعيل الحروب التقليدية في رقعة من الأرض محدودة عشرة أعوام على التوالي، الأرض سوداء ليس نتيجة خصوبة أو أن الله خلق لها طينًا في بشرة الإنسان، لكن لأنها محترقة، أيضًا تتناثر عليها بين مكان وآخر شظايا المقذوفات المدفعية الهاون/الراجمات/الدوشكا/م. د.
فوارغ فوارغ فوارغ.
جثث الآلات العسكرية الثقيلة، إطاراتها، هياكلها، خوذات العسكر، البنادق المهشمة، الألغام الفاسدة، وهي طفلات غير شرعيات لألغام لئيمة صامدة تنتظر تحت الأرض: تسبح بحمد الله، عسى الله أن يرزقها عثرة، هياكل عظمية.
هياكل عظمية يا حبيبتي.
هياكل عظمية.
قطط مشوية.
قردة مشوية.
صقور مشوية.
أرانب مشوية.
أسد، كلب، قط، ولد، ولد، ولد، نساء مشويات يَنَمْنَ قرب جنائز الآلة.
أشجار مشوية.
أحذية، أحذية عليها بقايا أرجل بترتها الألغام.
أحذية تدوس على أزرار دبابات هالكة.
أحذية هالكة، أحذية عسكر يا حبيبتي.
عسكر، أموات، أموات.
مقابر جماعية، هاونات معطوبة.
جندي محترق نصفه الأعلى، نصفه الأسفل في الخندق، سحلية لا رأس لها، سحليتان، خوذ حديدية بداخلها رءوس، حِراب ودروع من جلد وحيد القرن.
نمل شديد السواد منكمش على نفسه، الأرض سوداء.
يدل على وجود القرية الأواني الفخارية التي دائمًا ما يُحمِّلها البشر البائدون مهمة أن تعلن عنهم في الزمن القادم، زمن ليس بزمانهم، يدل عليها الأطفال المقليُّون المشويُّون المتناثرون بين هنا وهنالك، تدل عليهم بقايا كهوف.
تدل عليها قِرَب الماء المشوية.
تدل عليها الأغنام والأبقار المشوية.
تدل عليها الدَّجَاجات وهي ريشٌ الآن منثور. يدل عليها طفل على صدر أمه، هيكلان يتحاضنان تحت هيكل شجرة ويتساقط الرماد منها عليهما.
سلامًا.
سلامًا.
كلما عبثت بها ريح لم تمت، هل تموت الريح؟ ثم، ثم.
عند منتصف الوادي على بعد مسيرة أيام قليلة من مدينة نيلو الحدودية يوجد حطام لمبنى، شيد من الحجارة والمواد المحلية الأخرى، يبدو أنه المبنى الوحيد بالوادي شُيِّد بالحجارة، المبنى المهدم، لكنه علامة تدل على أثر إنسان. واضح أيضًا أنه اتُّخذ في وقت ما حامية مؤقتة للجيش، فبقايا موتهم تدل عليهم، تشير إلى حياتهم السابقة.
خنادق، فوارغ القذائف، صفائح الأطعمة الجاهزة؛ بعضها فارغ، بعضها محترق بما فيه، هياكل عظمية، خوذات الحديد بها جماجم ناضجة، بقايا سترات عسكرية، جسد مشنوق على شجرة مانجو وهي على شيء من الخضرة، أوراقها مشوَّهة وبليدة تنمو على أشكال مرعبة.
الجثة المشنوقة.
جسد جافٌّ تمامًا لم تمسسه حتى الأطيار الجارحة أو الديدان، لشاب في مقتبل العمر لم تنبت له لحية بعدُ ولا شوارب، كان عاريًا، على عنقه تتدلى تميمة كبيرة بين نابين لنمر أبيض كالبَرَد، شعره مرسل، أشقر. أيضًا بسهولة يمكن التأكد من أن له عينًا واحدة فقط، الأخرى مفقوءة. إذا جاز — وهذا مستحيل بالطبع — لأحد أبناء القرية أن يصحو من موته أو يأتي من حيث ادخره الله ورأى هذه الجثة، لصاح في ألم قائلًا: إنه بانارودنا.
إنه دائمًا أسوأ الناس حظًّا.
كانت الريح تدور في المكان وتَصِرُّ صريرًا مرعبًا، تعبث برماد الأشياء، تُعمي أعين الموتى الفارغة، أعين الدبابات المحترقة، أعينها السرية جدًّا، لا أثر للحياة في الأرض؛ لا إنسان، لا حيوان، لكنك يا حبيبي إذا تطلعت إلى السماء بعينيك الحلوتين لرأيت من وقت لآخر أسرابًا من النسور الصلعاء تدور في حلقات، فاردةً أجنحتها تحملها تيارات الهواء حيثما شاءت. هنالك أيضًا أسراب الطيور المهاجرة تعبر المكان متجهة نحو الجنوب أو الشرق، نحو الغرب، إنها لا تهبط إطلاقًا. أما في الليل، الليل يا حبيبتي زهرة تعشقينها، دائمًا الليل يا حبيبتي قنديل، الليل نعاس لذيذ وقبلة، أما في الليل بعد أن يختفي آخر شعاع خصه الله بالشمس، وهو خير الخاصِّين، عندها يا حبيبتي …
عندها يحيا الموتى.
يتمطَّوْن.
تطقطق عظامهم الجافة العطشى موقظةً البنادق والآلات الحربية المعطوبة، فيرعون الألغام، يبنون الحواجز الترابية والأسلاك الشائكة، يطلقون قذائف الهاون والراجمات في الهواء فيحيلون الليل الساكن الساكت الشجي، ليلك الجميل، ليل عينيك السِّنجابيتين، فيحيلون ليلك جمرة كبيرة مستعرة، يقتلون بعضهم البعض، ينشدون ممجدِّين الظلام والكلاب الضالة، لاعنين مِثْقاب الداعرات بمنهاتن ومومباي ومدينة ود مدني وتسني، حتى إذا بزغ الفجر بلياليه العشر عادوا إلى موتهم، ماتوا فيه موتًا أشد سكوتًا وسكونًا من موتهم الأول.
فوق الأرض بقليل، دون السماء إلى أعلى الهضبة توجد البحيرة، حليقة من العشب والشجيرات التي تحيط بها في زمانٍ ما قبلُ.
ماء البحيرة غاية الصفاء، يمكن رؤية قاعها بكل سهولة ويسر، لكن الموت، الموت، الموت لمن شرب من مائها؛ لأن شيطانًا كيميائيًّا ينام فيها منتشرًا بين مسامِّ مائها.
المطر يهطل بين الحين والحين ليسقي الأرض التي لا ترتوي، يغسل الأشجار، الآليات، والجثث من الرماد والغبرة العالقة بها، يداعب الموتى مضيئًا إياهم بالبرق، هي لعبة يسميها الأطفال فيما قبل: غمضت لبدت …
تنبت نباتات غريبة لا عهد للوادي بها، تجري الخويرات بماء أسود ثقيل لتصب في النهر البعيد في البلاد المجاورة، تخنق الأسماك، يصاب المواطنون بالإسهال الذي يعالج بالموت.
يا حبيبتي، الموت البارد حيث لا دم فيه هو ثمن السلام الدائم.