أهل الكهف
لا يدري متى خلد للنوم، عندما استيقظ كانت الشمس على هامات الأشجار، ولأنه ينام في موقع فضاء أصابته أشعة الشمس من اتجاهات عدة، قربَه على بعد ثلاثة أمتار ترقد جثة الذئب، قذرة متضخمة وعنيدة، حوله خارج السياج كانوا جميعهم على ما يبدو ذكورًا، يحيطون خصورهم بقلائد من الخرز وأنياب الحيوانات المتوحشة ويُخفون ما بين السرة وما فوق الركبة بقليل، بجلود أو أردية من النباتات، من أعناقهم تتدلى التمائم، يقفون حول السياج حاملين حرابًا لها مقابض طويلة من القنا، البعض يحمل سهامًا، البعض يحمل فئوسًا وأسلحة بُدائية، ينتعلون جلودًا سميكة، ربما كانت مصنوعة من جلد فرس البحر أو الجاموس، سود مثله، غير أن قامتهم عالية بعض الشيء وأجسامهم نحيفة متناسقة تشع قوة ورشاقة كأنهم نُمُر، تقاطيع وجوههم وسيمة قاسية حادة، بدا من الواضح لديه أنهم محاربون من قبيلة بدائية تقيم بمقام ليس ببعيد، سمعوا إطلاق الرصاص أو رأوا لهب النار بالليل، يستطيع أن يؤكد لنفسه أنهم ليسوا أكلة لحوم البشر؛ «الكا» تقيم بعيدًا جدًّا عن هذا الموضع حسب وعيه بجغرافية المكان السكانية، ربما كانوا من قبيلة «لالا».
لكن السؤال الساخن الآن هو: ماذا سيفعلون بي؟ هل سيرمونه بالحراب إذا خرج من ناموسيته ظنًّا منهم أنه سيبادرهم بالهجوم؟ هل أبدأ أنا بإطلاق النار؟ رصاصتان في الهواء ترعبهم فيهربون فزعًا، ثم أهرب أنا بدوري أم أنتظر لأرى رد فعلهم؟ لا، لا، يكون ردي متأخرًا بعد فوات الأوان، تريث يا سلطان تيه، تريث، أتُرى ما سيكون تصرف الصادق الكدراوي إذا كان في ورطتي؟ أإذا كنا معًا؟ لا بد أنه سيختلق فعلًا يجعلهم يرمون أسلحتهم ويعانقوننا واحدًا واحدًا، ومن ثَمَّ يأخذوننا إلى مساكنهم ويؤمِّنون لنا الطعام والشراب، ثم يكرموننا بأجمل فتاتين في القرية كعادة كثير من القبائل البدائية في كرمها للضيف. لكن أين الصادق الكدراوي؟ أطلق الرصاص في الهواء، انتظر … تريث، لا تفعل شيئًا، إن كثيرًا من القبائل البدائية لها طبع مسالم، أطلق، لا تنطلق، كانوا صامتين كأنهم يستنبطون ما يدور في ذهنه.
بعيدًا عن ذهن سلطان تيه كان الصباح جميلًا ومشرقًا، طيور زرقاء ذات مناقير حمراء ترك على أغصان شوكة، تغرد نغمًا خفيفًا حلوًا ثم تطير فجأة نحو الغرب، من بعيد يأتي نشيد المغني؛ طائر صغير الحجم له ذيل طويل، به لونان، في الغالب الأزرق والأبيض، كان نشيده الحلو يعمِّق براءة الصباح، يزيده بهاء.
سلطان تعلم التفاؤل بسماع المغني منذ أول صباح عانقه بالدغل ولو أنه لم يره غير مرة واحدة نسبة لاختبائه بين أوراق الأشجار العريضة، بعيدًا عن وعيه المشوش بالمأساة إيقاع الطبل الآتي من عمق المسافة جميل أيضًا، يحتاج لكي يتبول، يعلو صوت الطبل، يقترب، كلما دنا أكثر اتضح صوت الجوقة التي تتبع الإيقاع والنشيد، بأسرع مما توقع ظهرت طلائعهم بين الأشجار الغزيرة.
عندما دخلوا الأرض الفضاء عدهم واحدًا واحدًا من داخل ناموسيته، كانوا عشرين شخصًا من بينهم امرأة جميلة سوداء، تلبس رداء جيد الصنع من الجينز، صدرها عارٍ، عليه ثديان نَزِقَان، تتدلى ما بينهما تميمة كبيرة الحجم من العاج، من بينهم رجل أبيض البشرة يلبس مثلهم، أشقر، عيناه خضراوان كقط، في الحق كانت له عين واحدة، الأخرى مفقوءة، يبدو كما خيِّل لسلطان تيه أن هذا الأبيض حواري، الحواري كما يعرفه سلطان تيه ليس من الجن بل هو مولود نتيجة طفرة وراثية من أب وأم أسودين، الطفرة هي نتيجة تفاعلات كيميائية أو فيزيائية في الجينات، وهذا بالضبط ما تعلمه من أستاذ الأحياء بالثانوي، لكن قفزت في وعيه مسألة مستر ومسز جيني، يكون هذا من مخلفاتهما؟
انفجر الصمت بوصول القادمين، أخذ الجميع في شرب شيء أتى به القادمون في قِرب كبيرة من الجلد وأوعية من القَرع والفخار، كانت رائحة المشروب ذكية أثارت فيه شهية الشرب، شهية الشرب كشهية الموت، تبدأ بأَكَلان في القلب، لا تنتهي إلا بنهاية الجسد.
لا يأبهون به كأنه لم يكن، هو يهتم بكل تفاصيل فعلهم؛ خصلات الأشقر المجنونة، أسنة رماحهم، أطيارهم الراكة على شوكة، ذئبهم أو ذئبه لا فرق، طبلهم الذي صمت ونام على شجرة عرديب طفلة، سمائهم الزرقاء ذات السحيبات البيض الخفيفات، هو نفسه أسيرهم القابع تحت ناموسيته يرغب الموقف ويؤسس لفعل إما أن ينجيه، أو أن يميته، أو أن يخوْزِقَه، والعياذ بالله من الخازوق! لوقوعه في مسافة ما بين النجاة والموت.
وقفت الجماعة لشخص قادم احترامًا، ظهر من بين الأعشاب يمتطي حمارًا وحشيًّا أليفًا، يلبس رداءً ثقيلًا حول خصره، تتدلى على جانبي الحمار وعلى صدره تمائم وعقود، على كتفه فراء ناعم يغطي كثيرًا من صدره، من الواضح أن القادم ذو شأن، كان كبيرًا في العمر، بدا عليه التعب والإرهاق، برفقة جماعة راجلة وحامرة أيضًا. جلس الجميع في دائرة في أحد طرفيها القادم الكهل.
وبعد مداولات طالت برطانة لا يفهم سلطان تيه منها شيئًا، أزاح المحاربون الشبان الأشواك، قام نفر منهم بجر جثة الذئب إلى حيث الطبل القابع الساكن الساكت تحت العرديبة الطفلة، حدث ذلك برفق شديد، أدى الجمع صلاة صامتة في شكل رقص حزين، أتبعته نقرات خفيفة على الطبل أداها الأبيض الأشقر الأعور، مخلفات آل جيني، أو كما يظن. يبدو أنني قتلت شيئًا مهمًّا، شيئًا مقدسًا.
تورطت يا سلطان تيه.
أين الصادق الكدراوي؟
هل سيقتلونني كما قتلت؟
هل يربطونني لأبناء الذئب ينتقمون مني؟
هل؟ هل؟
أخذ بعض المحاربين يسلخون الذئب، بينما اتجه الرجل الشيخ نحوه، معهم الفتاة الناهد الجميلة، بعض المحاربين وقفوا حوله في حلقة، كان رجلًا شجاعًا سلطان تيه، وهو يرتعد من الخوف في انتظار المصير المجهول، لا وقت لديه لقراءة التعاويذ أو ذكر أسماء أهل الكهف وكلبهم. بينما هو في شتاته إذا بصوت الفتاة يأتيه بكل وضوح:
بلغة إنجليزية سليمة دون أية لكنة كأنما هي لغتها الأم، أحس بطمأنينة بالغة كأنما قفز من حِضن الغول إلى حضن أمه مباشرة، دون مقدمات أزاح الناموسية ببطء، أطل بوجهه نحو الجمع الذين كانت دهشتهم أكبر لتبينهم أنه ليس إلا رجلًا أسود مثلهم، وجهه كوجوههم، كل شيء فيه فيهم إلا أسلوب لباسه الذي رأوه من قبل عند مسز ومستر جيني في أيامهم الأولى ورأوه بين حين وآخر يلبسه الصيادون، ورآه من يذهب منهم للمدينة حيث يلبسه الشرقيون، يلبسه الحكوميون الذين كثيرًا ما اصطدموا بهم، يلبسه العسكر الحكوميون، رأوا فيه شخصًا عاديًّا، ربما كان صيادًا ضل طريقه.
من أنت؟
قال إنه باحث أكاديمي في طريقه إلى بحيرة التماسيح لأنه يعد رسالة مهمة عن التماسيح، ضحكت الفتاة فجأة ضحكًا أثار غيظه، ضحكًا أثار فضول أصحابها، ارتفعت أصواتهم احتجاجًا لعدم الفهم، وأنهم يريدون ترجمة فورية لما يقال، نظرت نحو الشيخ المنتظر تفسير ما يضحك، رطنت، وما إن خلصت من القول حتى اندلق الجميع في وحل الضحك، ثم تحدث الكواكيرو، وهو الشيخ بلغة «لالا»، قالت المترجمة لسلطان تيه: «يقول الكواكيرو إنك صائد تماسيح، وإنك صائد ماهر وقتلك للحارس دليل.» أكد سلطان تيه أنه دارس أكاديمي، استمات في برهنة ذلك لأنه يعلم أن الدغليين لا يحبون اثنين: سلطات الشرق، والصيادين.
طلب منهم فحص متعلقاته، طلب منه الكواكيرو أن يعطيهم السلاح الذي قتل به الحارس، أمَّن المسدس بهدوء وأعطاه للفتاة، ناولته بدورها للكواكيرو، قلَّبه يمنة ويسرة، بكل حرفية أخرج خزانة الرصاص، ثم أعطى المسدس والخزانة لأحد المحاربين، وضعه في سلة من السعف، قاموا بفحص معداته بدقة متناهية، فحصوا كفتي يديه وكتفه، وجدوا علب طعام محفوظة، وجدوا كتبًا بها تماسيح مصورة، كاميرا، فأس صغيرة، مدية صغيرة، أقلام، لم يجدوا أنيابًا نادرة أو عاجًا أو جلد حيوان نفيس، أو مصل حية.
ولكنك قتلت الحارس.
أتدري ما عقوبة ذلك إذا كنت صيادًا؟
لكنك طالب علم.
نحن نقدر لك ذلك، ولو أنك تدرس شيئًا تافهًا لا فائدة منه، ترجو شيئًا تسكنه خمسون روحًا شريرة.
لكنك قتلت الحارس.
نعرف أنه لولا قتلك له لقتلك، أنت تدافع عن نفسك نعرف ذلك.
لكن هذا لا يسقط عنك عقوبة قتل الحارس، فأنت قتلت الحارس.
عقوبة ذلك في العادة أن تحل روحه فيك، وأن يحل جسده فيك.
أما روحه فإنها في اللحظة التي قتلته فيها دخلتك.
أما جسده، نقوم بحبسك أعلى الجبل إلى أن تأكل آخر قطعة منه، عندها سيحل جسده فيك، حينها سنطلق سراحك مذءوبًا.
أولًا: سارت مجموعة المحاربين الشبان يحملون شرائح لحم الذئب على عصي طويلة من البامبو، كل اثنين يحملان قناة واحدة طويلة، تتدلى على جوانبها شرائح اللحم تقطر دهنًا، كان حيوانًا شَحِمًا، تبعه حامل الإيقاع، الرجل الأبيض ذو العين الواحدة القِطِّية والخصلات الشقراء، يقرع الطبل بإيقاع حزين ممل خفيض. ثم سلطان تيه على ظهره حاجياته كلها، خلفه مجموعة من المحاربين الشبان يحملون حرابهم وعصيهم، يغنون لحنًا حزينًا موقَّعًا بطبل الرجل الأشقر الأعور، أصواتهم تعلو فجأة حتى تصبح الهتاف ثم تنخفض فجأة لتصير الهمس.
همسًا عميقًا.
وفي حركة أخرى تتدرج أصواتهم ما بين الهمس والهتاف، تتنقل من الأول للأخير بكل سلاسة وحرفية، ثقافتهم في مجال الغناء والموسيقى أحلى وإلا وجد اسمًا مناسبًا لما يقومون بأدائه، أما الآن فهو يسمي ذلك «هارموني» أو يسميه تماهيًا، لو استطاع أن يمتع نفسه بذلك دون تعارف لتمكن من طرد كثير من السؤالات السوداء.
كيف تتحدث هذه الصبية المتخلفة اللغة الإنجليزية وكأنها لغتها الأم؟ لكن عندما هدأت أعصابه قليلًا اطمأن قلبه، عاد وربط ذلك بمستر ومسز جيني.
ما هو مصيري؟ أنت في ورطة، هل سأخرج سالمًا من هذه الورطة؟
ما بين القرية والغابة أرض تخلو من الأشجار الضخمة، لكنها مغطاة تمامًا بالأعشاب الناعمة ذات الأشواك الدقيقة، بعض المهوقنيات والتك في أعمار صغيرة. بدت له القرية من على البعد قبابًا صغيرة مصنوعة من مادة بنية، شكلت لها خلفية طبيعية في هضبة عالية خضراء عليها الأشجار زاهية الخضرة تحرسها، وكما هو موضح في الخريطة يوجد منبع مائي صغير أعلى الهضبة، ها هو الجبل يفوق تصوره، في الحق لم تكن لديه تصورات سابقة عن المكان، كل تصوره كان ينصب على بحيرة التماسيح، موقعها بين الجبال، شكلها، مائها، تماسيحها، رمال التماسيح البيضاء الباردة تحتها يرقد بيضها، كاميرته تسجل حركة التماسيح وعلاقتها الأسرية والجنسية والغذائية، الآن وجد نفسه في موقف يجبره على إجلال جمال المكان وإحساس تفاصيل عظمتها، كلما اقترب أكثر من القرية تميزت الألوان الحجرية الزاهية التي طُليت بها الكهوف. ثم جاء أطفال القرية كأنهم النعام بسوقهم الغَبْشاء وأعينهم النجلاء، رءوسهم عليها قنابيرهم، ليسوا كما رأى من أطفال، كانوا هادئين طيبين، لاحظ ذلك عندما اقتربوا من موكب المحاربين، جلسوا على جانبي السبيل على العشب احترامًا لموكب الكبار، ولو أنهم شُحنوا بالفضول، كانوا يحملقون في لحم الذئب وقاتله بعيون سئولة وحب استطلاع يكبته الأدب والطقس، هكذا تراصَّوْا إلى مدخل القرية، النسوة الجميلات حزانى يجلسن على قارعة الطريق أيديهن على رءوسهن، أنغام الإيقاع القِطِّي الحزين، يبكين، يصدرن مواء عميقًا جعله يحس حقيقة الجرم الذي ارتكبه، ثم يعلو صراخهن ونقعهن عندما يمر أمامهن موكب لحم الحارس المقتول، دن، دم دم، دم، دن، دم دم، دن …
كان الرجل الأبيض ذو العين القطية جميلًا يدق الطبل.
حزينًا جدًّا …
طاف الموكب الحزين كثيرًا أزقات القرية، نهرته كلابها، هربت من بين أرجل المتكوكبين، دجاجاتها البرية المستأنسة وهي «تكيك»، إلى أن توقف أخيرًا أمام دار ذات فناء متسع، دخل اللاحمون بذئبهم، دخل هو، كان شجاعًا وهو يحس برعدة الخوف تصعقه في عمق السؤال، ذات السؤال الجبان؛ بئس المصير! أنت في ورطة.
ماذا سيفعلون بي؟
أين الصادق الكدراوي؟
وبدخوله واللاحمين في الدار ذات الفناء المتسع، تفرق المحاربون، تفرقت النائحات يتبعن صغارهن النعام، أصواتهن تختفي تدريجيًّا، تتلاشى تمامًا.
وسط فناء الدار توجد مظلة كبيرة من البامبو مسقوفة بحصير ناعم بدقة وأناقة ذكَّرته بالكنيسة التي في أحد أحياء المهجَّرين في الشرق، توجد بالمظلة مقاعد خشبية مصنوعة من حطب العرديب والمهوقني، بعض الشيوخ يجلسون بالمكان، طلبوا منه إنزال ما بظهره، أن يجلس على أحد المقاعد الخشبية، أن يشرب ما قُدِّم إليه، أن يستمع للقول المترجم بواسطة الناهد، أن يرد، أن يقال إليه أخيرًا: اتبع هذين المحاربين إلى كهفك، هنالك أعلى الهضبة.
يخرج وعلى ظهره حاجياته، لمح ما يشبه عربة جيب في مظلة من البامبو عند ركن بعيد بالدار، من جاء بعربة كهذه هنا؟ ماذا يفعل هؤلاء البُدائيون بها؟ لا تشغل نفسك بأمور جانبية يا سلطان، الأهم كهفك، ذئبك، سجنك، بحثك، طعامك، فليكن الجيب أو فلتكن طائرة نفاثة، لا تشغل نفسك، لا، لا …
الناهد ذات الصدر العاري بارعة جدًّا في التحدث باللغة الإنجليزية، ذات مهارات ترجمانية عالية، كانت تستخدم اصطلاحات لا يعرفها هو القارئ المواظب على اللغة الإنجليزية، وكثيرًا ما كان يردد: آسف، آسف.
تعيد صياغة السؤال بلغة أسهل، كلمات أبسط، ولو أنها كانت لا تدري أية لغة هي الأسهل وأيها … المهم كانت تقوم باستعمال مترادفات تسهل عليَّ معرفة السؤال بالتالي الإجابة. هي جميلة، جامحة، رشيقة، ينقصها فقط شخص كالصادق الكدراوي ليقيس مدى تماشي مؤهلها الجمالي الظاهر مع … الإمتاعية، أو كما يسميها الكدراوي: إيقاعها السري ما دون السري.
سوداء، ربما كانت أكثر سوادًا منه، بشرتها ناعمة ملساء ذات لمعان خفيف ساحر كأنها مدهونة بزيت سحري، جميلة في زيها البسيط المكون من رداء الجينز الأزرق الباهت والخرزات الملونة، قالت له وهما يسيران خلف المحاربين: أنت ستبقى بالكهف دون حراسة، يجب عليك ألا تحاول الهرب؛ لأن القبيلة تحيط بالجبل بيوتها، لأن الذئاب تحيط بالقبيلة، لأن برم بجيل يحيط بالذئاب. أنت بغير سلاحك فمن ينجيك؟ لعنة الحارس تطاردك دائمًا، طالما لم تكن أنت جسده؛ لأن روحه تريد أن تستقر في جسده هو، بالذات جسدك أنت.
أنا لا أفهم شيئًا …
قالت الحسناء ذات الجينز الباهت: عليك أن تأكل كل قطعة من لحمه يؤتى إليك بها، عليك أن تفترش جلد الذئب لحافًا لك، عليك أن تحتفظ برأسه معلقة على باب كهفك، عليك أن تلبس نابيه قلادة، عليك ثم عليك …
كان تعبًا مرهِقًا من جراء المشوار الطويل والحمل والخوف من مفاعيل المشروب في جسده، فلم يقل شيئًا …
فقط يريد أن ينام.
لا أكثر …
يريد أن ينام، آه! همم، م، م م …
يقع الكهف في قمة الهضبة، كهفًا كبيرًا، حُفر في صخر ضخم، لا يستطيع سلطان تيه أن يتخيل مجرد تخيل كيف حُفر هذا الكهف، من الذي حفره، لماذا، في الحق الدغليون أنفسهم لا يعرفون تاريخًا أو حدثًا أو شخصًا يؤرخ لهذا الكهف، لكنهم يعرفون كيف يستخدمونه. غمره إحساس أولي بأن هذا الكهف هو مسكن ما يعرفهم بأهل الكهف، لو أنه مدرك في وعي حقيقي أن أهل الكهف كانوا على بعد آلاف الأميال من هذا الموقع، على مدن ترقد، نحو البحر الأبيض المتوسط. في قمة الهضبة أرض مسطحة متسعة تمتد على مدى ما يبصر، بها غابات وجبيلات، مجارٍ مائية، حيوانات، عين أو بحيرة، قرأها في الخريطة، وما لم يعلم …
ليس لديه ما يقوله لها، لا شيء، فقط يريد نومًا هادئًا عميقًا، عندما أستيقظ فليطعمونني عظام الذئب لا أبالي.
كان شجاعًا وهو يحس بفراغ الكهف يسري في قلبه، كالأَكَلان البارد المرعب، كما لو أن حية انزلقت على ظهره وهو عارٍ، كان يخاف في شجاعة منقطعة النظير رهبة الفراغ.
في هذا الركن كما ترى كومة من الحطب الجاف، بإمكانك استخدامها للتدفئة وطرد البعوض والذبابة الرملية وذبابة النوم، توجد بكثرة في هذه البلدة، تحتاج النار للإضاءة، يقول الجد برمبجيل: الضوء رجل شجاع، حارس أمين، وامرأة لا تكذب.
لا يريد أن يعرف من هم «لالا»، لا يريد أن يعرف من هو جدهم برمبجيل …
لا يريد أن يعرف من هو الضوء، يريد فقط أن يبقى أحد المحاربين بجانبه.
سنعود الآن تاركين لك مدية ورمحًا وعصاة، تحتاج بين الحين والآخر للدفاع عن نفسك من يدري، لا … لن يقرب الحارس كهفك هذا أبدًا؛ لأنه لا يوجد في قمة هذا الجبل غير الأرانب والثعابين وبعض الغزلان …
هل تريد شيئًا؟
كان الكهف كبيرًا خاليًا، يحس الآن بصداع حاد، في حاجة للذهاب للمرحاض، هنا كل مكان لا يراك فيه أحد مرحاض، أينما اختليت بنفسك أنت في مرحاض.
بسم الله …
تبول …
سوف آتيك أيضًا غدًا، تحتاج شيئًا؟ على كلٍّ سيداول المحاربون على مدك بالماء، الطعام وما تريد، الشمس تغيب الآن، خلفها شفق في لون الدم أو البرتقال، وفقًا للحالة النفسية للمشاهد ونبض قلبه، يود لو استطاع أن يجعل الشمس لا تغيب، أن تبقى جمرة مشتعلة، نور يضيء به ظلمات الخوف، تبعد عنه مسافات، كلما غامت الرؤية أحس بوحدة أحجر، أحس أكثر بفراغ الكهف.
ليالٍ طويلة قضاها في ظلمات الدغل محيطًا نفسه بالتعاويذ، العصي والصلاة، تحوم حوله المخافات، لأول مرة في حياته يحس الخوف.
إذن، هل كنت أستمد شجاعتي من المسدس، أُخذ المسدس أُخذت الشجاعة؟ أم أن فراغ الكهف هو الذي أشعل قصاصات الخوف فيه، أو …؟ ثم صلى صلاة المغرب، قرأ جهرًا كلمات من حزب الأمان كان قد حفظها عن أبيه عرضًا، ونتيجة لتكراره لها ليلة تلو ليلة، مخافة تلو مخافة، ما أكثر المخافات! ما كان يهتم بقراءة والده اهتمامًا فعليًّا، يرى فيها شيئًا مكرورًا مملًّا، الآن أمام جلال الفراغ الأمر يختلف، من بين أوراد والده يعشق صلاة النقطة، يعشق لغتها الصوفية الشفيفة، لكنه لا يحفظ منها أية كلمة …
ولو أنه يحس موسيقى روح لغتها تحلق الآن، تملأ الكهف غناء صامتًا …
ولو أنه يتلمسه الآن بنبض قلبه.
لماذا لم يصبح شخصًا متصوفًا بصورة جادة قاطعة كوالده؟
النار كانت شهية دافئة، هدأ، شاء أن يرتب أفكاره بصورة منتظمة، عندما يقضي مدة سجنه سيذهب مباشرة إلى بحيرة التماسيح، كم من الوقت سيقضيه هناك؟
يريد أن يعود للمدينة الآن.
وطواط يزعجه ضوء النار يخرج مندفعًا نحو الخارج. لم يستطع سلطان تيه أن يتبين أن رائحة جسده أصبحت سيئة ولا تطاق، ربما لأن رائحته توحدت برائحة الكهف، برائحة الذئب، لحمه المجفف، رائحة الخوف …
قالت له نفسه: هنا وضع أهل الكهف رءوسهم المتعبة قبل أن يخطوا نحو نومتهم الطويلة، لا بد أن كلبهم كان آخر النائمين، لا بد أنه نبح كثيرًا قبل أن ينام، لا بد أنه أكل عدة أرانب كبيرة في طريقه إلى النوم، لا بد أنه تذكر كلبة حاول أن يلتصق بها، كلبة سيلتصق بها غدًا، كلبة أخرى وكلبة، لا بد أنه قبل أن يرقد واضعًا رأسه بين قائمتيه الأماميتين محنيًا إياه جهة اليسار قليلًا وفوق عينيه تحوم ذبابتان …
ماذا لو كانت رنا الآن معه؟
نعم، رنا الصبية بنت الجيران التي كان يحبها في سرية. قضم قطعة حلوى خطفها طفل مستغفلًا والدته، يقضمها في توحش مصموت، بين الراكوبة وباب الشارع، في سرية ابتلع لعابه الحلو، في سرية مسح شفتيه وجانبي فمه وهو عائد إلى موقع مخطوفته، في سرية انطباع لون الحلوى الأحمر القاني على لسانه كشاهد خبيث على الاختطاف. ما كان الأمر يحتاج لكل هذه السرية لأنه لا يوجد من يغضبه حب سلطان تيه لرنا، ورنا ذاتها كانت ستسعد كثيرًا إذا عرفت أنه يحبها، وما كانت ستبخل عليه بما شاء من تواصل، والأبعد من ذلك، هذا شيء لن يعلمه، سوف لا يخطر بباله إلى الآن أنها لا تمانع أن تعطيه نفسها.
هكذا بكل بساطة.
إذا وفر على نفسه الليالي التي قضاها مؤرقًا يرسم نهديها وردفيها وبسمتها في فراغات حجرته، يرسم صوتها ثم يستدعيها لتنام قربه إلى أن يؤذن الصبح، فيغتسل شاويًا نفسه بالماء البارد.
لوفرت على نفسك عذابات الاستمناء.
إذا كانت تنقصه الخبرة، الكنز الذي تهديه المغامرة والتجربة والوقت للإنسان يمتلكه صديقه الصادق الكدراوي …
لا لم يكن خجولًا، بل هو جريء، لكنه لا يعرف كيف، متى يستخدم جرأته، فيم ومع من؟ إذ إن مشكلته الحقيقية هي مشكلة إيقاع.
كروانان يتناديان يفرق بين نداءيهما نداء بوم أجش، البوم نذير شؤم، الكروان فأل خير، سيصلي صلاة العشاء …
كيف هرب عنه النوم والتعب؟ في المكان الذي هيأه لصلاة المغرب صلى العشاء. في الحق لم يكن منتبهًا تمامًا لما يقرأ ويفعل في صلاته، كان منشغلًا بشكل تام عن الله، هو الآن يقوم بأداء حركات اعتاد عليها، باله منشغل بمشاكل الوحدة والخوف.
كان عواء الذئب يأتي من بعيد، من كل اتجاهات الظلام الستة.