١
عند النهايةِ الجنوبيةِ من القرية كانت الظلالُ المائلةُ تُعانِق الواديَ المتعرِّج، فاستطاع تانيا أن يخمِّن الوقت، وكان عليه أن يُواصلَ السير سبعةَ أميالٍ أخرى.
مسَح العَرق المتصبِّب فوق وجهِه بأكمامِ قميصِه الممزَّقة، فتسلَّلَت قطراتٌ من العَرق إلى عينَيه وفمه، ثم بصَق بغضَب وراح يفُكُّ عقدةَ المنديلِ القذِر من فوق رقبته وهو يلعَن العالم والحياة وأولئك المُتخَمين في عرباتهم الرشيقة.
أصابه اليأسُ فسقَط فوق الحشائشِ الساخنةِ مغشيًّا عليه ولم يعُد يشعُر بالدم المتدفِّق من جرحه فوق بنطالِه الممزَّق.
كانت حوالي الخامسة وما تزال الشمسُ حارقةً ولم يكن تانيا مدركًا لعُريه شأن كل المنسحقين الذي يعيشون فرادى ولا يُحسُّون بالعُري … حاول أن يتجنَّب حرارةَ الشمس فعاودَتْه مشاعرُ الألم وأحسَّ بأحشائه تتلوَّى من الجوع، وكأنه في حُلمٍ أو كابوسٍ حتى أصبح حلقُه جافًّا ولم يعُد بمقدوره ابتلاعُ شيء … تطلَّع حوالَيه فأدركَ أنه فقَد حقيبتَه التي تحتوي كلَّ ما يمتلكُ في الحياة، بالإضافة إلى إنجيل سانت جون المكتوب باللغة السواحلية والذي لم يقرأه بعدُ، كان الإنجيل يمثِّل قيمةً كبيرةً بالنسبة له ليس لشيء سوى أنه هديةٌ من أمه … كانت بالحقيبة أيضًا بعض النقود القليلة وبعض لُقَم الطعام التي تكرَّمَت عليه بها سيدة.
أصبح ظلُّه أكثر طولًا، وبالنظر إلى الرصيف المؤدي إلى قريته تراءى له الطريقُ كالأفعى الملتوية التي تلاشى ذيلها في الأفق المليء بالأعشاب الساخنة. حاوَل التخفيفَ عن نفسه قائلًا: يجب أن أصل إلى قريتي قبل أن يموت أبي!
ظلَّت الذكرياتُ تُلاحِقه وهو يُجاهِد من أجل الوصول، فأبصَر أمه حين قالت له ذاتَ يومٍ وهي تنحني فوق الأرض وتصحن الفول: إن بذرتك متعفِّنة كما أنك تعاني مرضًا خطيرًا.
لم يكن تانيا يعتقد في مثل ذلك الكلام، لكنه تذكَّر طفولتَه ووجهَه الدميم وساقه المتقوِّسة ورأسه المليء بالندوب … لم يكن تانيا سريعَ البديهة، وكان الأولاد يسخَرون منه ويَدْعونه بصاحب الرأس البرميل، وهكذا عَرف العُزلة ولم يعُد يلعب إلا مع أخته التي راحت بدَورها تدعوه بالبنت … كانت أختُه أمينة أقربَ الناس إليه وكان يُحبها، ولم يحدُث أن أطلقَت عليه صاحب الرأس البرميل إلا بعد عشر سنواتٍ من اللعب معًا، وحينئذٍ ألقى عليها بحجرٍ كبيرٍ في غضب فكسر قدمَيها، وكان هذا الحدث سببًا في تغيير حياته إلى حدٍّ كبيرٍ مما جعله يختفي في القرية ثلاثةَ أيامٍ عَرفَ خلالها التعَبَ والعجزَ عن مواجهة أي شيء، إلى أن وجدَه ماسينا العرَّاف في حالةٍ شديدةٍ من الجوع والإغماء وهو يلفُّ رقبتَه بمنديلٍ يُخفي تحتَه محاولةً للانتحار.
تذكَّر تانيا ابتسامةَ الاعتذارِ فوقَ وجهِ أختِه وهي راقدةٌ فوقَ أرضيةِ الكوخ مربوطة القدمَين في عمودٍ وضعَه ماسينا لمثل هذه الأغراض.
تذكَّر كلماتِ أمينةَ الأخيرةَ النابعةَ من أعماق روحها: «أنتَ لستَ مخطئًا يا أخي، لكنك تختبئ وراء قُبحِك … إنني آسفةٌ جدًّا، وأرجوك أن تغفر لي.»
انحنَى إلى جوارها متأثرًا، وألقى برأسه فوق وجهها، ثم بكَى بمرارةٍ دون أن يقولَ شيئًا، ودون أن تتوقف الدموعُ الغزيرةُ التي ظلت تتدفَّق فوق وجنتَيه الكبيرتَين، ثم شعَر بفجوةٍ بينه وبين أخته، وأبصَرَها نقيةً كالوادي الذي رآه ذات يومٍ في حُلمه.
كانت أختُه في ذلك الوقت تتَّسِم بهدوءٍ مخيفٍ وكان ماسينا دائمًا يردِّد: «إن فترةً من الهدوء تنتاب المرءَ قبل موته هي بمثابة السلوى الأخيرة.»
زحف تانيا فوق ركبتَيه ولوَّح بإحدى يدَيه فوق وجه أمينة لطرد الذباب بينما ضغَط بيده الأخرى فوق الأرض وكأنه يقول لها: «لا داعي للاعتذار.»
لاحت أمامه صورةُ جدَّته التي ترى بعينٍ واحدةٍ حين سارت بهدوء وهي مُثقَلةٌ بأحزانها وشيخوختها ثم رفعَتْه فوق حَجْرها، وراحت تهزُّه برقَّة حتى غلبَه النوم، ولم يستيقظ إلا على صوت الجيران والأقارب الذين ظلوا يتطلعون إليه بنظراتٍ ملؤها الاتهامُ والشفقةُ في آنٍ واحد.
ساد الحزنُ داخلَ كوخ العائلة وخارجَه، وعلَت في الأفق صرخاتُ النسوة العجائز اللاتي وجدن الفرصةَ للبكاء على أبنائهن وأقربائهن الموتى.
كانت أختُ أمينة، ذاتُ الأعوامِ الثلاثة، تضغط فوق كتف جدَّتها وتقول: «ماما … كم من الوقت ستبقى أمينةُ هنا … أما زالت أمينةُ نائمة؟!»
داعبَتْها الجدَّة برقَّة ولم تقُل شيئًا، وسرعانَ ما ظهر الحزن واضحًا فوق وجهها.
لم يستطع تانيا بعد استيقاظه أن يفهم شيئًا وسط صُراخِ وعويلِ النسوةِ العجائز، وحين حاول جاهدًا كان كل شيءٍ كقوسِ قُزَح بلا ملامحَ محدَّدة … حاوَل أن يتذكَّر ذلك المشهدَ جيدًا، لكنه لم يستطع النبشَ في ذاكرته أكثر من ذلك.
كان محطَّمًا كالقضيبِ المعدنيِّ الضعيف، وها هو ينظر دون أن يرى ويتصنَّت دون أن يسمع، لكنه استطاعَ فقط أن يتذكَّر مشهدَ المقبرة الذي جال بخاطره ملايينَ المرات حين كانت أمينةُ ملفوفةً في جلد الماعز المبلَّل، ويقومون بإسقاطها في الفتحة مع غصنٍ من النبات، وقد أقاموا سياجًا بالقرب منها حتى لا يَحفِر أحدٌ مكانها.
كانت تلك هي الذكريات التي اجتاحت تانيا وهو راقدٌ فوق الأرضِ القذِرة التي ابتلعَت أمينةَ منذ عشر سنوات، تناوَل حفنةً من التراب في يده، ثم وضعها في اليد الأخرى تسيلُ بين أصابعه لتعودَ إلى الأرض مرةً ثانية، وكانت أشعة الشمس هناك فوق التلال، وقد أصبحَت الحرارةُ أقلَّ حدَّةً حتى لم يعُد يؤرِّقه العطَش رغم أن حلقه كان جافًّا ما يزال … حاوَل النهوضَ لمواصلةِ السَّير لكن مفاصله كانت تؤلمه، وظل يترنَّح قليلًا في سَيره، فبدا ظله طويلًا، وراح يضحك ضحكاتٍ غريبةً ويقول لنفسه: «إن ظلِّي هذا هو الصديقُ المخلصُ الوحيدُ الذي لم أصادِف مثلَه في حياتي.»
مضى في سيره بخطواتٍ أكثرَ حدَّة كحيوانٍ يُجبرونه على السير، كان يترنَّح قليلًا وهو يصعَد حافةَ تلالِ القريةِ الجنوبية، ظل ينظُر إلى أسفلَ مستمتعًا برؤية القرية من فوق التلال، القرية بدونِ أهلها، بحماقاتهم، وأمراضهم، ومعاناتهم، وموتهم المحقَّق.
تذكَّر قول أمه منذ زمنٍ بعيد: «سيأتي يوم يعيش فيه الناسُ سُعداء وأصحَّاء، ولن يموت إلا الكبار.» كان صغيرًا ولم يستطع وقتَها أن يفهم ما قالته أمه، التي ماتت وهي تلِد في موسم الحصاد التالي، وتمنَّى لو أنها عاشت لتُفسِّر له ما قالت.
تسلَّق الانحدارَ الأخيرَ فأصبَح في مواجهة قرية «كاشا وانجا» الجميلة، وكان غروب الشمس يُصوِّب أشعَّته الذهبية فوق القرية وكأن فتاةً شريرةً ترقُص الكانجا أمام المراهقين، «كاشا وانجا» تلك القرية الشهيرة التي تُطوِّقها الجبال، وليس لها سوى طريقَين للدخول أو الخروج؛ أولهما من الشمال حيث يفتح الشيطانُ أمعاءَها للجلَّادين وغَزو الغرباء والأمراضِ الكريهةِ القادمةِ مع الرياح والفيضانات القديمة، والطريق الثاني من الجنوب حيث يفتحُ الله طريقًا للهرَب من كل الأحزان والمصائب.
ذاب قلبُ تانيا وهو يتطلَّع إلى القرية من أعلى، وتبدَّت له الأشجارُ أكثَر طولًا وغموضًا وكأنها أرادت أن تؤكِّد نفسَها قبل غروب الشمس … كان دخانُ العَشاء المُنبعِث من الأكواخ يُداعِب انحسارَ الضوء بحياءٍ عند جوانب التل واللونُ البرتقاليُّ يتقدَّم بحذَر نحو أركان القرية الشرقية … ظل تانيا يتنفَّس بشدة ليملأ رئتَيه القويتَين بهواء القرية الناعم وكان قلبُه يدقُّ بشدة كما تنجذبُ روحُ رجلٍ نحو امرأةٍ فاتنةٍ وغريبة.
كانت بدايةُ المساءِ حيث تعود الماشيةُ إلى القرية، وتخور من أجل صِغارِها الذين يصرُخون خوفًا من فزَع الليل، وحيث الأمهاتُ مشغولاتٌ بأواني الطهي لملءِ بطونِ الرجالِ فيُصبِح من اليسير رؤيةُ النارِ المشتعِلة متفرقةً عَبْر القرية مع نعيقِ البوم الذي يجلبُ الموت … استطاع تانيا أن يستمع إلى البكاءِ الصادرِ من الرسالة التي تسلَّمها، وراح يتهادى في مشيته ببطء ولامبالاة حتى وصل إلى باب البيت، وقال: هودي!
كانت هودي، أختُه الصغرى، أوَّل من سمعه، ولم تُخطئ في التعرُّف على صوتِه، فألقت بعُنقودِ الموز الذي قطعَته للعَشاء، وهُرعَت إلى الخارج، ثم صرخَت قائلة: «تانيا في البيت … تانيا في البيت.» … ساد هَرْجٌ ومَرْجٌ كبيرٌ بين أهل البيت، وسارع كلٌّ من أخوَيه وأخته الأخرى إلى الخارج حتى التصقوا بباب الكوخ، وهتَفوا: «مرحبًا بك يا تانيا.» ثم جذَبوه إلى الداخل ليعبُر الباب إلى دفءِ الكوخ المليء بالدخان.
تقدَّم نحو جدَّته التي تسمع وترى بصعوبة، وركع إلى جانبها، فقالت: «ابني … اقترِبْ أكثر حتى أشعُر بك.»
دنا منها حتى لامسَها فاستطردَت: «أمُّك لم تعُد ترى جيدًا.»
جلس تانيا بينها وبين بقايا النار المنطفئة التي كانوا يُعِدُّون عليها العَشاء، وبالنظر حوالَيه أبصَر ظلًّا مُشِعًّا فوقَ الحائطِ المصنوع من الأعشاب يصعُب تحديدُ شكله، وكانت أختُه وأخواه الواقفون حواليه في هدوء وكأنهم يراقبون ميلاد أحد الماعز.
تحسَّسَت أم تانيا بيدها الخشِنة المليئةِ بالعِظام وجهَ تانيا ورقبتَه وأكتافَه كما يتحسَّس الطبيبُ جسدَ مريض، ثم تنهَّدَت بعمقٍ وسالت الدموعُ فوق وجهِها القديم … خفَض الحاضرون رءوسَهم كما يحدُث في الصلاة، وقالوا: «هل مات يا أمي … هل مات الأب؟» فراح تانيا يسأل عن أبيه.