١١
قبل أن تصل إلى السور الذي يحيط بالكوخ سمعَت تريسا أنينَ الأولاد الذين يحملون الكفنَ الثقيل، ثم أبصرَت العَرق المتصبِّب فوق وجوههم … وضعوا الصندوقَ على الأرض بجوار حفرةٍ كبيرةٍ وعميقة، ثم التقت عينا تريسا مع عينَي تانيا، الذي كان ممسكًا بورقة من أوراق الموز لحماية جدَّته من حرارة الشمس … نظر إليها وكأنه يراها للمرة الأولى، ثم سلَّم ورقة الموز لجيمس، ومشى ببطء لمساعدة الشباب الواقفين بارتباكٍ إزاءَ ذلك الكفنِ الثقيلِ دون أن يقدر على إخفاء دموعه.
تلاقت نظراتُهما مرةً ثانيةً دون أن يتبادلا أي كلمة، بينما كانت نظراتُ الأقرباءِ المحيطين بالحفرة مثبَّتة في اتجاه تريسا، التي تناولَت ورقة الموز من جيمس، ومضت بصعوبةٍ نحو الجدَّة، ثم ركعَت إلى جوارها لحمايتها من الشمس الملتهبة.
كان الجو حارًّا، وبدت كاشا وانجا هادئة وكأن القرية كلها موجودةٌ حول الحفرة الكبيرة، وظل الجميع في انتظار قدوم ميلا، الذي ذهبَت أونيا لإحضاره لكنها لم تعُد، فساد القلقُ وشعَر بعضهم بالتعب من كثرة الوقوف، فلم يتردَّدوا في الجلوس فوق رمال التربة الباردة، التي استخرجوها من الحفر، أما الجدة فقد جلسَت كالحجَر دون أن تقول شيئًا، ولم تستطع التحرك من مكانها للاحتماء من حرارة الشمس التي أصبحَت فوق كتفَيها وقدمَيها، قدَّموا لها شرابًا من بيرة الذرة لكنها كانت ترفُضه في كل مرة، فتقدَّم ابن أخيها حاملًا طاسة البيرة التي تناولَتها تريسا هذه المرة، ووضعَتها بيدٍ واحدةٍ فوق شفتَي العجوز التي رفعَت عينَيها الضعيفتَين دون أن تهزَّ رأسها، وراحت تشرب البيرة وسط اندهاش الجميع.
فکَّر تانيا قائلًا: مَن سيتلو الكلماتِ الأخيرةَ إذا لم يأتِ ميلا؟ … يا لها من معتقدات! إنهم يرغبون في سماع التنهُّداتِ الخرساءِ ليس لشيءٍ سوى للتخفيفِ عن أنفسهم.
كان ميلا قد سقَط على الأرض وهو قادمٌ بصحبة أونيا، فشعَر بألم في ساقه، ولم يستطع مواصلة السير حتى تصادف مرورُ شابَّين ساعداه على النهوض، وقاداه إلى مكان الدفن … كانت أونيا تحمل ثلاثةَ أقداحٍ سوداء، فوضعَت واحدًا فوق ساق جدَّتها، وقدَّمَت القدحَين الآخرَين لتانيا، الذي تناولهما دون النظر إليهما، ثم ركعَت إلى جوار جدتها في الجانب الآخر، لمساعدة تريسا في الإمساك بورقة الموز.
جلس ميلا فوق المقعد في مواجهة الشمس الحارقة، بجوار براميل البيرة الثلاثة ذات الرغاوي الكثيرة، وقال: يا أم الأولاد، يا أبناء كاشا وانجا الذين تمتلئ بطونُهم الفارغةُ اليوم بالدموع … نحن نجتمع هنا وأيادينا فارغة، وننظر بعينٍ واحدة إلى الحفرة في الأرض، وبالعين الأخرى نتطلع إلى الشمس … بمقدورنا أن نبكي جميعًا، لكنكم تعرفون أن بكاء الصمت أكثر عمقًا، فلنَحترِس إذن ونبكِ بهدوء لأن الحجر لن يتأثر من ضربات الرأس، وليس بإمكاننا أن نُعيدَ الرجلَ الراقدَ هناك … هكذا هي الحياة يا أبناء كاشا وانجا.
ظل ميلا يتحدث وهو يتطلع إلى اليمين وإلى اليسار، لمعرفة إذا ما كان عزاؤه قد خفَّف عن الناس أم لا، لكنهم كانوا ينظرون إليه ببرود وعداءٍ خاصٍّ حين بدأ في رش الملح والفلفل والبهارات هنا وهناك، وراح يستدعي تاريخ المُتوفَّى.
قال ميلا: إن المرء لا يستطيعُ الكذبَ أمام قبر المتوفَّى، وإذا كان الرجلُ قد أخطأ في حياته فلا بُد أن نذكُر الأشياءَ الحسنةَ التي فعلَها.
أبصَر الخوفَ مرتسمًا فوق وجوه الرجال، فأغلق عينَيه واستطرد بهدوء: في أحد الأيام الممطرة بغزارة اشتد البرق والرعد، وكان طفلٌ صغيرٌ يسير بجوار الشجرة في حالةٍ سيئة، فانطلَق هذا الرجل الذي يستريح الآن، وأمسَك الطفل وأنقذَه من موتٍ محقَّق … هذا هو نوعُ الرجال الذي افتقدناه … أوه يا أم الأولاد، لقد كان رجلًا شجاعًا وطيبًا.
لم يقدِّموا شيئًا للناس حول الحفرة سوى موزةٍ ناضجةٍ لكل شخص، فشَعَروا بخيبة أمل، وقالوا: هل هذا هو كل شيء؟ هل هذا هو كل شيء؟!
قال ميلا: اللعنة على كل شيء.
تذكَّر تانيا تلك الليلة المظلمة التي قابل فيها تريسا، فازدادت دقاتُ قلبه، وبدَت على وجهه علامات الحَيْرة حتى إن ملابسه التصقت بجسده، ليس بسبب حرارة الشمس، وإنما بفعل الغضب الشديد بداخله، والكراهية والمرارة التي يشعُر بهما تجاه أبيه … ظل يرتعش وشفتاه تتحركان حين تذكَّر أنه لم يكره أيَّ شخصٍ في حياته قَدْر كراهيته لأبيه رغم آماله في التصالُح معه … لقد تمنَّى تانيا أن يأتيَ والدُه في يومٍ ما ويناديَه قائلًا: تعالَ يا بني لنجلس معًا ونتحدث سويًّا، لقد كان رأسي مشبعًا بالضوضاء؛ ولهذا كنتُ أتصرف كما رأيتَ لأنني أحمل حجرًا في كبدي.
لو أن تانيا سمع من أبيه كلامًا كهذا لغسَل أقدامَه بالدموع، واعتذَر للجميع شارحًا لهم كل شيء، ولكنَّ أباه راقدٌ الآن في الحفرة ميتًا.
أقسَم تانيا وهو ينظُر إلى الكفن: إنه والله لخداعٌ لعين!
ثم أضاف وهو يمسَح عَرقَه بأصابعه: إن أمك تجلس هنا بإذلال، وثمَّة رجلٌ بندوبٍ يثرثر بشفاهه المرتعشة كالطفل أو المراهق، في محاولةٍ منه لإزالة الرائحة العفنة التي تركتَها فوق الأرض … إنك ها هنا في الأرض ستُلوِّث الخراء … أين القوةُ التي كنتَ تتمتَّع بها … أين هي الآن؟
كاد أن يُخبِر الحاضرين عن معاملة أبيه السيئة لأولاده وزوجته وأمه، ورَغِب في القول: دعونا نلقي به عند الدغل كالكلب لتأكله الضباع.
لكنَّ شيئًا ما منعه، ربما كان غضبه الشديد.
امتلأَت السماء بالسُّحب السوداء الغامضة حين شقَّت أونيا الجزء العلوي من فستانها، كما هي العادة، ولطَّخَت نفسها بتراب الحفرة، ثم تناولَت الأقداح وملأَتها، وقدَّمَت القدح الأول لجدَّتها والثاني لتانيا والأخير لميلا.
لم تشرب الأم من القدح كما ينبغي، وإنما بلَّلَت ريقَها فقط، ثم ناولَت القداح للآخرين من حولها وهي مرفوعةٌ فوق الأكتاف القوية للنساء الصغيرات حتى ارتوى آخرُ شخص، بينما ألقى ميلا قدحه في الحفرة، وكذلك فعَل تانيا دون أن يشرب شيئًا. تحرَّك ميلا بمقعده إلى جوار القبر دون أن ينهض، ثم ألقى بقطعةٍ من اللحم داخل الحفرة، وقال: والآن نحن نأكل سويًّا.
رشَّ قطراتٍ من البيرة، وأضاف: والآن نحن نشربُ سويًّا.
لم يبكِ أحدٌ أثناء نزول التابوت في الحفرة، وعند اصطدام صوت التابوت بالقاع أمسكَت الأم الضعيفة الأرض بأظافرها، وهزَّت رأسها، ثم دحرج تانيا الحجر داخل القبر، ووضع غُصنًا فوقه كعلامة.
قبل انتهاء طقوس الدفن كانت الأمطار قد هطلَت بغزارة، فسارع بعضُ الناس بالاختفاء تحت الأشجار وداخل الأكواخ، غير أن تانيا ظل كما هو ولم يُحاوِل تجنُّب الأمطار … مشى ببطءٍ فاختلطَت الأمطار بالعَرق المتصبِّب من وجهه وجسده.
تساقطَت قطراتٌ كبيرةٌ من المطر ودوَّى الرعد في اتجاه الشرق، فازدادت همساتُ الناس، وكانت الشمس تُواصِل رحيلَها عن القرية وهناك — فيما عدا الركنَ الجنوبيَّ من كاشا وانجا — كانت السُّحبُ السوداءُ الكبيرةُ تُغطِّي السماء.