١٣

شعَرَت أونيا بالسعادة والرضا بعد أن طلب تانيا من تريسا أن تتوقف عن عَزقِ الأرض، ومضت الأيام بطيئةً دون أن يشعُر بها أحد، وما بين شروق الشمس ومغيبها ساد الملَل وسط عائلة تانيا طَوالَ أيام العَزاء المريرة، حتى إن الصغار كانوا حذرين في لهوهم وضحكاتهم، لكن الكبار حين توقَّفوا عن مراقبتهم راحوا يضحكون بأصواتٍ عالية، ويلعبون مع جدَّتهم وكأنهم لم يفقدوا أباهم.

مع مرورِ الأيامِ نسي الجميع فقدانَ الأب وكأنهم قد تطهَّروا بوفاته، وبدا وجه الجدَّة بعد العَزاء متلألئًا ومتعارضًا مع التجاعيد القديمة … كانت تجلسُ سعيدةً في الشمس طَوال اليوم حتى ينام الدجاج تحت أشجار الموز، ثم تمدِّد أطرافها قرب النار التي يصنعون فوقها وجبة العَشاء، وتحرِّك أصابعَ يدَيها وقدمَيها نحو اللهب إلى أن تمتلئ بسواد الفحم … كانت تشعُر بمزيدٍ من السعادة والرضا بعد تناوُل طعام الموز.

كانت أونيا تقلِّدها أحيانًا، فتضحك الجدة بينها وبين نفسها، ثم تذهب للنوم وعلى شفتَيها ابتسامةٌ متردِّدة.

تغيَّرَت أحوالُ الجميع إلى الأفضل، وبدت وجوههم مضيئةً ما عدا تانيا، الذي أصبح أكثر نحافةً وخشونةً واكتسى وجهُه ببعض التجاعيد، وبعد انتهاء فترة الحداد ظل يعمل بجدٍّ طَوالَ اليوم، ويبني الأسوار حول الأرض تمهيدًا لزراعتها، وانتهى بمساعدة أونيا من عملِ صومعةِ غلالٍ للموسم القادم … لم يكن يتحدث إلى أي شخص، وبعد الانتهاء من عمله كان يعود لعائلته، ويجلس بجوار أخيه الصغير وهو يحدِّق في النار حتى يتم إعداد الطعام، ثم يُهرَع إلى النوم دون أن يقول شيئًا لأحد.

ظل تانيا هكذا في موسم الزرع أيضًا، فبدا كئيبًا وسط إخوته، الذين رأَوا فيه نسخةً مطابقةً من أبيهم، ثم أصبح لزامًا عليه أن يتوجَّه لزيارة تريسا وجيمس، وهناك كان يجلس عاقدًا أصابعه لا يدري شيئًا عن اضطراب وغيظ تريسا من صمته، وغضب وتساؤلات جميس عن السبب في زيارته.

استمر تساقُط الأمطار أيامًا كثيرة، واشتدَّت أصوات الرعد والبرق التي سرعان ما كانت تُعاوِد دويَّها بعد توقُّفها لحظاتٍ قصيرة، فاستقبلَت الأرضُ وابلَ الأمطار بشغف، ورفَع الناسُ أياديهم المفتوحة تعبيرًا عن الشكر والامتنان، وتمايلَت أغصانُ الأشجار لتأخذَ نصيبَها الكافي من الماء، وفي بداية الأمر تجاهَل الصغارُ ألعابَهم، وراحوا يُحدِّقون بعيونٍ متسائلةٍ من فتحاتِ الأبوابِ ومن الشقوقِ إلى تلك الأمطارِ الغريبة، ثم يتهامسون: أليس هذا عجيبًا؟!

مع مُضي الأيام تجرَّدوا من ملابسهم، وخرجوا يلعبون في الماء ويقذفون بعضهم بكُراتِ الطين وهم يصرخون ويلعنون بعضهم بغضب بريء، ولكن أونيا في ذلك الوقت كانت تجد صعوبةً في فهم ثرثرة جدَّتها وأحزان أخيها، وذاتَ يومٍ ألقت الصغيرةُ كرةً من الطين أصابت بها عينَ أحد الأولاد، فانتقم منها بتلطيخ وجهها بالطين، وظل كلاهما يتربَّص بالآخر حتى سنحَت الفرصة للولد، فوضع الطين في فمها وأنفها وعينَيها، وما كان من «مواتا» إلا أن ضربَتْه بقوة في بطنه، بينما كانت أونيا واقفةً ويداها فوق خصرها، فراحت تتحسَّس قطراتِ المطرِ فوق رقبتها، ثم أصدَرَت لهم الأمر بالتوقُّف، وعندئذٍ اصطحَب الأطفالُ الكبارُ «مواتا»، وغسَلوا وجهَها بالماء النظيف.

انحنَت أونيا وملأَت يدَها بالطين وألقت به في فمها، ثم بصقته على الأرض، ولم يكن من اليسير رؤية التلال الغربية، أو الإحساس بملابسها الملتصقة بجسدها بطريقةٍ فاضحة … شعرت أونيا بالأرض حولها وكأنها تلهث بحياةٍ جديدة، وعندما توقَّفَت الأمطار بعضَ الوقتِ مخلفةً وراءها بردًا شديدًا استطاعت أن ترى التلال الغربية عَبْر القرية، وبدا لونُ الأرض جديدًا وكأنه عامٌ جديد وحياةٌ جديدة.

مضت نحو قطعة الأرض التي زرعَت فيها بذور الذرة وهي تحلُم أن تراها مثمرة، وفي الطريق مرَّت بجوار قبر أبيها، فأبصرَت الأعشابَ الخضراءَ فوق القبر، والتقَطَت أحد هذه الأعشاب كما يلتقط المرء وردة، ثم واصلَت المسير.

كانت بذور الذرة قد أثمرَت فشدَّت واحدةً منها، وأمسكَت بها في نفس اليد التي التقطَت بها العشب الأخضر من فوق قبر أبيها، ونظرَت إليهما وقد لاحظَت ذلك الاخضرار اللامع واللون الأصفر الملطَّخ بالطين، ثم فتحَت يدَها وألقت بهما إلى الأرض المبلَّلة، وعندئذٍ شعَرَت بأن شيئًا ما يتحرَّك داخلها … تحسَّسَت ثديَها وبطنَها فارتعش جسدُها، وشعَرَت بالإحباط حين تذكَّرَت تانيا وحالتَه التي لا تُوحي بأي تقدُّم، فقالت لنفسها: «سوف أهرُب بعيدًا … سوف أهرب إلى أي مكان … ربما أهرب إلى المدينة حيث أستطيعُ أن أجدَ عملًا … أي نوعٍ من العمل، كما لو أنني اعتنيتُ بنفسي قليلًا، وتعلَّمتُ اللغة السواحلية أكثر لاستطعتُ أن أتزوَّج رجلًا متعلمًا، وأنجب منه أطفالًا.»

كانت أونيا تهزُّ قبضة يدها وتبكي، حتى لم يكن من اليسير معرفةُ إذا ما كان السائلُ النقيُّ فوق خدَّيها متدفقًا من عينَيها أم من المطر.

عندما عادت إلى البيت كانت جدَّتُها تكرِّر بغضب: سوف أموت.

لم يكن تانيا موجودًا؛ فلا بُد أنه عند جيمس، وكان الصغارُ بعد أن تصالحوا يلعبون عند الكوخ الشمالية غيرَ مبالين بالأم العجوز … ركعَت أونيا إلى جوار جدَّتها ووضعَت مزيدًا من الخشب في النار، ثم غطَّت نفسها جيدًا، وقالت: لا … يا أمي … سوف تعيشين هذا الموسمَ وكثيرًا من المواسمِ الممطرةِ الأخرى.

لم ترُدَّ عليها المرأةُ العجوزُ لأنها لم تسمعها، أو لأنها لم تُصدِّق كلماتِها، فشعَرَت أونيا عندئذٍ بذنبٍ كبير، لمجرد أنها فكَّرَت في الهرب وهَجْر عائلتها، وظل يُطارِدها هذا الإحساسُ بالذنب حتى انعكس في نوعيةِ وكميةِ عَشاء تلك الليلة … في طريقها للنوم أقسمَت لنفسها ألا تترك العائلة أبدًا حتى لو وجدَت الرجل الذي تحلُم به؛ لأنها في حاجةٍ لجدَّتها تفوقُ حاجةَ جدَّتها لها، ولأن وجودها لا يجعلُها تشعُر باليتم …

… مضت كالطفلِ الخائفِ من الرعدِ الهادرِ بالخارج نحو سريرِ جدَّتها في الظلام، ووضعَت يدها فوقَ كتفِ العجوزِ المليءِ بالعظام، وظلت تُربِّت برفقٍ عليه حتى نامت بجوارها.

وصل تانيا إلى منزل جيمس في ذلك المساء الصاخب بالرعد فأبصَر تريسا جالسةً بمفردها فوق العتبة، وقدماها ممدَّدتان فوق الأرض المبلَّلة بماء المطر … كانت شاردةَ الذهنِ وهي تصنع سلةً من أوراق الموز … ارتعشَت بشدة، وأصابها التوتُّر أكثر مما حدَث لها حين رؤية تانيا أول مرة في بيت ماريا، ولم تتحرَّك من مكانها وتُفسِح له الطريق للدخول تجنبًا للأمطار، لكنه عرف طريقَه، ولم يكن جيمس بالداخل.

جلس تانيا بجوار المائدة وهو يعبث بأصابعه، بينما تُواصِل تريسا عمل السلة من أوراق الموز … فتح تانيا فمَه ثم سارع بإغلاقه؛ فلم يكن يعرف ما يريد أن يقول أو كيف يقول، وكذلك حاولَت تريسا، لكنْ كلاهما لم يفعل حتى مضى وقتٌ ليس بقليل ألقت تريسا بعده بالسلة في المطر ومشت نحو تانيا، ثم وقفَت أمامه دون أن تلمسَه أو تبتسم، وبعد أن حدَّقَت فيه بعضَ الوقت وضعَت يدَها فوق ركبته، واستدارت حتى أصبحَت في مواجهة المطر … ركَّزَت نظراتِها فوق عتبة الباب وقالت لتانيا بصوتٍ عالٍ: ما هو مصيرنا؟

اهتزَّ جسد تانيا، وأفاق من أحلامه التي ظلت تُلاحِقه طَوال الأسابيع الماضية، لكنه لم يدرك ما تعنيه تريسا، وحين كرَّرَت سؤالها أجاب: أوه … لا أعرف، لكنني أعتقدُ أنه نفسُ الشيء الذي يحدُث لكل الناس.

لم تكن إجابةً كافيةً بقَدْر ما كانت إعلانًا عن وجوده، لكنه شعَر ببعض الذنب، فاستطرد: سوف نتزوَّج في أسرعِ وقت.

استدارت تريسا مرةً أخرى فأصبحَت في مواجهته، ولم يكن وجهُها يُوحي بالسرور، قالت والدموع تتعانق فوق رموش عينَيها ببطءٍ وألَم: أنا لا أعني ذلك.

وماذا تعنين إذن؟

لا أعرف … لا أعرف كيف أشرح الأمر؛ لأنك قد لا تفهمني … لقد حلَمتُ بالحياة معك، لكن الأمر يبدو الآن وكأنني لن أحصُل على شيءٍ سوى الحياة الكئيبة في منزل ماريا.

ابتعدَت عنه، ثم عادت إلى مكانها فوق العتبة وقد بدا عليها الهدوءُ والراحةُ بعد أن انتهت من كلامها.

تحرَّك تانيا وجلس بجوارها، ثم وضع يده فوق رقبتها وقال: لا أفهم ما تقصدين! لم تكن قادرةً على مقاومة لمساتِه حين قالت: لم أستطع أبدًا أن أفهم الآخرين، ولم أعُد قادرةً على فهم نفسي، ولكن.

توقفَت ثم قالت: ماذا حدثَ لك يا تانيا؟ لماذا تسعى إلى تدمير نفسك وتدميري، ثم تلقي باللوم على الآخرين؟ … لقد مات والداك مثلما يموت كل الناس، ولقد فقدتَ وظيفتَك وتفكِّر دائمًا أنك ابنٌ غيرُ شرعي و… لكن كل هذه الأشياء وأكثر منها حدثَت للآخرين دون أن يعملوا على تدمير حياة الآخرين …

لماذا يا تانيا خاصةً وأنك رجلٌ كامل؟

دسَّت وجهها في صدره، فتدفقَت دموعها رغمًا عنها حتى وصلت إلى بطنه، ثم أضافت: إنني في حالة انتظارٍ دائم … كل يوم بعد عودتي من الحقل أظل في انتظارك يا عزيزي لأسمعَ منكَ شيئًا واحدًا جميلًا … كلَّ يوم أنتظر مجيئكَ لتقول لي بأنك تُحبني أو تحتاجني … كان من اليسير في منزل ماريا أن أواصِلَ تلك الحياةَ البغيضةَ لأنني لم أكن أعرف سواها، لكنكَ جئتَ وعلَّمتَني أشياءَ أخرى … علَّمتَني الحب، وها قد مضت أيامٌ كثيرةٌ حتى أثمَرَت بذورُ الذرة التي قمتُ بزراعتها، وأصبحَت تُلامِس خاصرتي، وأنت ما تزال تتحركُ وتحومُ حول المكان كالشبح … أرجوك لا تدمِّرني … أرجوك!

كانت الدموع ما تزال تتدفَّق من عينَيها لكنها شعَرَت بالراحة والهدوء، فطلب منها تانيا أن تجلس إلى جواره، ثم قال بهدوءٍ بعد لحظاتٍ من الصمت: كل شيء كان يبدو عبثيًّا، وكانت محاولةً لمعرفة الحُلم من الواقع … يا إلهي … أنتِ تعرفين بأنني أحبكِ أكثر من أيِّ شيءٍ آخر يا تريسا، لكن الرجل حين يُعاني من الجربِ في ظهره فإنه يستخدم الملعقةَ التي يأكُل بها في حكِّ ظهره، أما أنا فقد كنتُ أحاوِل حكَّ الجربِ لكنني لم أستطع تحديدَ مكانه، وربما لا أستطيع ذلك أبدًا.

قالت تريسا وهي تربِّت فوق ظهره: دعني إذن أحُك لك ظهرَك.

أضاف تانيا وكأنه لم يسمعها: أعتقد أنه في يومٍ ما لا بُد أن نُدمِّر بعضُنا بعضًا، ولا أقصد أنا وأنت فقط وإنما كل العلاقات الإنسانية، التي تؤدي مباشرةً بطريقةٍ أو بأخرى إلى الدمار والخراب مثلما تؤدي الحياة إلى الموت؛ فنحن يا عزيزتي نملك بذرة الدمار داخلنا، ونعمل على انتشارها كالمرض، وهكذا فعل أبي حين التقَط هذه البذرة من مكانٍ ما ونقلَها لي كي أنقلَها بدوري لكِ وهكذا … لا يقلقني أنني ابنٌ غير شرعي أو أنني فقير لكنه شيءٌ آخر أكثر عمقًا، أكثر عمقًا بكثير! … إن شيئًا ما بأعماقي هو سببُ كل هذه الأعراضِ وأنتِ على حقٍّ فيما يتعلق بأنني لستُ الوحيد الذي يعاني، حتى إن بعضَ الناسِ اعتاد هذه المعاناة، وبعضهم الآخر يُحاوِل التخفيف عن نفسه بأشكالٍ مختلفةٍ كما تفعلين أنت، وثمَّة آخرون يضربون رءوسهم في الحائط مثلي، ويقرِّرون كما قرَّرتُ أنا الآن، إلقاءَ أنفسهم في بِركة الحياة القَذِرة التي لا يستطيعون تنظيفها.

لم تفهم تريسا كلَّ ما قاله تانيا، وربما لم يفهم تانيا نفسُه ما كان يتحدث عنه، لكنها فهمَت تمامًا تلك الأحاسيسَ وذلك الارتجافَ بين أحضانه، فرفعَت بصرَها وعدَّلَت من نفسها، ثم راحت تجفِّف دموعها من فوق عينَيها ومن فوق صدر تانيا كالطفل الصغير، وأوشكَت أن تقول قولًا جميلًا، كما بدا في حركات شفتَيها، لكن حضورَ جيمس وبصحبته ماري جعلها تتوقَّف.

كان جيمس يحمل سلةً كبيرةً فوق كتفه، فقال وهو يُحاوِل تنزيلها: لن أسبِّب لكما أي قلق؛ فإنني أيضًا مشغول.

قفزت تريسا لمساعدته في تنزيل السلة الثقيلة، وقالت: حقًّا … من … من؟

أجاب جيمس: لا داعي للعجلة؛ لأنكِ ستعرفينَ في الوقت المناسب.

كان جيمس مخمورًا، ويبدو عليه السرور أكثر من أي وقتٍ مضى … وضع يده فوق كتف تانيا وقال: بارانيا … يجب أن تسعد لأجلي اليوم، لا بُد أن تسعد لأجلي.

ثم هزَّ إصبعه أمام تانيا، وراح يرقص رقصةً خفيفة، وقال بصوتٍ مخمور: إنني سعيدٌ جدًّا اليوم، وإذا لم تشاركني «سعادتي» فسوف أحطِّم رأسك … دعنا نحتفل باستقلال «ياكامباث» مع هذه السلة … أعتقد أنه اليوم … أليس كذلك؟ لم يسمع كلٌّ من تانيا وتريسا عن ذلك الاسمِ الغريبِ من قبلُ، لكنهما قالا وهما يضحكان: بلى.

ثم نظَر كلاهما للآخر وازدادت ضحكاتُهما حتى إن الدموع تساقطَت من عينَي تانيا من شدة الضحك على ذلك البلد الغريب الذي نال استقلاله، فبدا وكأنه كان يدَّخر ضحكاتِه منذ زمنٍ طويل … هُرعَت تريسا إليه خوفًا من أن يكون قد أصابَه شيءٌ لكنه توقَّف، وحين التقَت عيناه بعينَي تريسا ضحك من جديد.

توقَّف تانيا أخيرًا عن الضحك، وقطَّب وجهه، فلاحظَت تريسا اختفاء الطيَّات الثلاثِ فوق حاجبَيه ثم همسَت له: لا داعي لأن يُدمِّر كلانا الآخر يا حبيبي.

وقف تانيا وقال: اللعنة … لا داعي لذلك، وافتحي زجاجة البيرة.

بدءوا يشربون على شرف «ياكامباث»، ثم قال تانيا بعد أن شرب زجاجةً كاملة: إنه ليس الاحتفال باستقلال هذا البلد بالتأكيد، فبأي شيء تحتفل يا بارانيا؟

هل ارتفع راتبك؟

قال جيمس وهو يُداعِب رغوة البيرة بلسانه وقد بدا مخمورًا تمامًا: لو أنني امرأةٌ لكان لي خمسةٌ من الأبناء غير الشرعيين الآن.

ضحكوا جميعًا وقالوا: نعم … بالتأكيد.

حاول جميس أن يتَّسِم بالجدية لكنه لم يستطع إخفاء الابتسامة الصغيرة التي كانت تطفو فوق أحد أركان فمه، ثم قال: لا … يا بارانيا فلقد قابلتُ اليوم — أثناء جولاتي الضريبية — امرأةً عجوزًا دعَتْني لمشاركتها في تناول الذرة بالفول السوداني على الغَداء، وكما تعرف أنني لم أعِش هذه الحياة من قبلُ … إنها ياتانيا، أرملةٌ ذات أقدامٍ متورمةٍ بداء الفيل، ولا تستطيع أن تتحرك، لكنها سعيدةٌ جدًّا … لقد جعلَتني أرى الحياة من جديد، وأشعُر بالمتعة التي افتقدتُها، وعندئذٍ قدَّمتُ لها وعدًا بأن أهبها جزءًا من راتبي كل شهر … لقد عرفتُ أن هناك كثيرًا من الأشياء تستحق أن يحيا الإنسان من أجلها، فلماذا يا عزيزي يُبدِّد كلٌّ منا نفسه في الشكوى الدائمة من أشياء تافهة، مثلما تفعل بعض النساء الناضجات اللاتي يمتنعن عن مضاجعة الرجال ثم يقدِّمن الشكوى من عدم الإنجاب؟ … إن تلك المرأة العجوز تعيش حياةً بسيطةً وسعيدةً لأنها لا تملك شيئًا، وهكذا قرَّرتُ أن أتزوَّج وأنجب أطفالًا، وهذا هو ما أحتفل به.

ضحكوا مرةً أخرى، وكانت البيرةُ قد أدارت رءوسهم جميعًا، لكنهم لم يتوقَّفوا عن الشراب، حتى لم يعُد جيمس قادرًا على التماسُك.

نهض تانيا وقال متجاهلًا تريسا: وأنا قرَّرتُ أيضًا الزواج، لكنني لا أطمح في الإنجاب، رغم أن الطرف الآخر يطمح في ذلك.

ابتسمَت تريسا ونظرَت إلى الأرض كي تُداريَ خجلَها.

قال جيمس وهو في الطريق إلى سريره: لماذا لا تنامُ هنا الليلة؟

أجاب تانيا: لأنني لو نمتُ هنا وأنا مخمورٌ فإن شخصًا ما سوف يعاني … طابت ليلتكم.

ثم اختفى في الظلام.

لاحقته تريسا بنظراتها، وبعد أن اختفى تمامًا شعَرَت به داخل قلبها، فقالت وهي تمضي لتنام في كوخ المرأة: طابت ليلتُك يا حبيبي، ولتعتنِ بنفسك.

١٣٣ كان الحصاد وفيرًا في ذلك العام، وكانت النباتاتُ الخضراءُ تغطِّي كل مكان، وتتمايل مع الرياح، وكذا كانت أشجارُ الموز التي مالت حتى اقتربَت من الأرض بعناقيدها الخضراء الطازجة، والكاسافا، وأيضًا البطاطا التي تشقَّقَت فوق سطح الأرض، فسادَ الفرحُ في كل أنحاء كاشا وانجا، وامتلأَت قلوبُ الأمهات والآباء بالبهجة، لكنهم كانوا خائفين من الإعلان عن فرحتهم وبهجتهم قبل أن يصل الحصادُ إلى أماكن التخزين، خشية أن يهجُم الجرادُ أو الطيورُ الغريبة على المحصول فتنتَشر الأمراضُ ويفسَد ذلك المحصولُ الوافر.

فرح الصغار ولمعَت وجوههم، كما اتسم شجارُهم بالعنف بسبب بطونهم المليئة بالذرة المغلية والموز … ظلوا يأكلون الذرة كما يأكل السنجاب حبَّات الفول السوداني، وعندما كان التعبُ يصيبهم من كثرة الطعام كانوا يمضغونَه أو يصنعونَ منه كراتٍ يتقاتلون بها، ثم يعودون إلى بيوتهم في المساء قانعين سُعداء، فيرتمون فوق حجر أمهاتهم، ويقولون: نريد أن نشرب يا ماما.

كانت الأمهاتُ تبتسمن بمزيدٍ من الرضا؛ فلا شيء في كاشا وانجا يبعَث على الفرح أكثر من بطنٍ مستدير ومليء بالطعام.

أصبحَت الليالي هادئةً في كاشا وانجا بعد أن توقَّف الصغار عن اللعب، وظل الشباب يتطلَّع بقلقٍ نحو الشمال خوفًا من قدوم الجراد، ونحو الشرق خوفًا من الرياح الحمقاء، لكن شيئًا لم يحدث، وساد الأرضَ هدوءٌ غريب، وفي كل مكانٍ من كاشا وانجا كان الناس يتهامسون في انتظار موسم الحصاد.

مضت الأيام فأثمرَت بذور الذرة، ولم يعُد ثمَّة احتمالٌ لهجوم الجراد، فراح الشبابُ يقارن أحجام الموز والفاكهة وحبات الذرة، ويقول كل واحدٍ منهم: إن التي معي أكبر حجمًا.

ثم يضحكون وقد تلاشى الخوفُ تمامًا.

امتزج قلبُ تانيا أيضًا بخليطٍ من الفرح والخوف، لكنه بعد أن أصبح مشغولًا ببناء كوخ زفافه لم يجد الوقت الكافي للتفكير في ذلك الخليط … كان يضع الطين فوق الحوائط الخارجية للكوخ حين شعَر بالفرح أكثر من أي شيءٍ آخر، وتذكَّر فجأةً أنه لم يعُد يفكِّر في أبيه إلا في المرات القليلة التي زار فيها قبرَه الأخضَر، وعرف بينه وبين نفسه أن خطوبة أونيا وجيمس كانت سببًا كبيرًا في إحساسه بالفرح.

ذاتَ يومٍ كان تانيا وتريسا يُزيِّنان سقف الكوخ المصنوع من القش حين تذكَّر تانيا أباه، وقال: شيءٌ غريب … أليس كذلك؟ شيءٌ غريبٌ ألا يحدُث حصادٌ بهذه الوفرة على مدى أجيال في كاشا وانجا إلا بعد وفاة أبي!

قالت تريسا: لا تفكِّر هكذا يا تانيا؛ فليست هناك علاقةٌ بين موت أبيك وحصاد هذا العام.

لم يكن تانيا قد سمع شيئًا حين استطرد: حتى ذلك الغُصن فوق قَبره قد أثمَر.

قالت تريسا بقلق: ماذا تعني؟ ولِمَ لا يثمر؟

أجاب تانيا: لا أعرف … هاتي السكين.

وكانت هي المرة الأخيرة التي تناوَلَا فيها هذا الموضوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤