١٤
بعد موسم الحصاد يشعُر الناس بالشبع فلا يهتمُّون كثيرًا بحضور حفلات الزفاف أو طقوس العزاء؛ لأنهم ليسوا في حاجة لوجبات الذرة واللحوم والبيرة التي يقدِّمونها في الأفراح والمآتم. وهكذا كان زفاف تانيا وتريسا هادئًا، لم يتجاوز الحاضرون فيه عشرين شخصًا، فشعَرَت تريسا بالأسى الشديد، وتسلَّق الحزنُ قلبَ تانيا حين أبصَر زوجةَ ميلا جالسةً فوق مقعد جدَّته، التي ماتت منذ أسابيع قليلة أثناء نومها.
لم يتأثَّر أحدٌ بموت الجدَّة، كما لم يقدِّم أحدٌ العزاء فيها، لكن الناس في كاشا وانجا كانوا يقولون: إنها امرأةٌ محظوظة؛ فقد كانت بلا خطيئة.
شعَر تانيا بفقدانها وهو يُعاوِد النظر إلى مقعدها، وتمنَّى لو أنها موجودةٌ حتى لو بدأَت تشكو مرةً أخرى من حرارة الشمس.
بدأ الناس يُغادِرون المكان واحدًا تلو الآخر مخلِّفين وراءهم هداياهم من الماشية والماعز والدجاج، مع تمنِّياتهم بأجمل الأمنيات.
شعَر تانيا في البيت الجديد بالعذوبة والانتعاش، وظل يفكِّر مع تريسا فيما سيفعلانه من الآن فصاعدًا … لم تكتمل فرحة تريسا تمامًا لعلمها أن تانيا يعرف بأنها ليست عذراء، وأنها بلا أهل يأتون في الصباح التالي لذبح الماعز من أجلها، كما أنها شعَرَت بالضيق خشيةَ ألا تقدر على إشباعه، لكن تانيا كان قويًّا حتى إنها زعقَت من أعماقها: شيءٌ جميل … الحياةُ جميلةٌ جدًّا.
عرفَت تريسا شيئًا آخر، وقدَّم العالَم نفسَه أمام عينَيها المغمضتَين في صورةٍ جديدةٍ متعددةِ الألوان، وراحت تردِّد طَوالَ تلك الليلة قائلة: إنها بدايةٌ طيبة.
وكان تانيا يكرِّر مرةً تلو الأخرى: نعم … إنها بدايةٌ طيبة.
ولم تكن تريسا تشعُر بالرغبة في الاغتسال كما كانت تفعل في بيت ماريا، كما لم تُحسَّ طعمَ المرارة أبدًا في فم تانيا عندما كانت تنام في سلام.
مضت الأيام بفرحٍ، ثم تمثَّلَت أفراحُهما بعد ذلك في العمل وتناوُل الطعام معًا، وبعد وقتٍ ليس بطويلٍ أصبحا مثلَ كلِّ أزواج الدنيا، وبدأ تانيا يشعُر بالتعب.
فرح كلاهما مرةً أخرى عندما تزوَّجَت أونيا من جيمس، فمضت الأيام سريعةً ومتلاحقة، وتحوَّلَت أرض كاشا وانجا إلى اللون البني مرةً أخرى، فأصبح لزامًا على تانيا أن يُواصِل عملَه في الحقل بجد، بينما كانت تريسا في البيت تقوم بأعمال الغسيل والطهي في انتظار عودته كل يوم.
كانت تطهو له الطعام باهتمامٍ وحُب بالغَين، وعندما يكون اللحم قليلًا كانت تقدِّم للصغار قِطعًا صغيرة، وتكتفي هي بالشم فقط، كي تحتفظ بالنصيب الأكبر لزوجها، الذي يعود للبيت بجبينٍ مليءٍ بالعرق … كانت تريسا تقدِّم له الصينية الخشبية، وتجلس إلى جواره وهو يأكل، وعندئذٍ تُحِس بالرضا الكامل، لكن تانيا كان يطلب منها أحيانًا أن تشاركه الطعام، فكانت تدَّعي أنها تناولَت طعامَها رغم الجوع الذي تُحِس به.
كان تانيا يأكل ويشرب إلى حد الشبع، ثم يمضي ليستريح قليلًا في الشمس بعد أن يقول لها: شكرًا يا ماما.
عاد للبيت ذات يومٍ فلاحظ أن تريسا أكثر سعادة من أي وقتٍ مضى، ولم تكن تلك السعادة بسبب ترقية جيمس وذهابه للعيش مع أونيا في مدينةٍ كبيرة، أو بسبب الطرد الذي تركَه جيمس لتانيا، والذي يحتوي على بنطلونَين وقميص، وإنما كانت سعادة تريسا بسبب شيءٍ آخر أدركه تانيا بسرعة، فوقف على أصابعِ قدمه وظل يصيح، ثم مضى نحوها وأمسَك رأسَها بيدَيه المليئتَين بالعَرق، وقال بهدوء: لقد أنقذتِ حياتي يا حبيبتي. أشعُر الآن بالتحقُّق، وأمسِك بين يدي الآن ما لا أستطيع أن أفهَمَه.
نظرَت تريسا إليه ولم تقُل شيئًا، ثم بكت بشدة ونظرَت إلى الأرض، لكن تانيا رفع رأسَها مرةً أخرى، واتجه ناحيةَ الغرب، إلى لا مكان في اتجاه الشمس الغاربة.
كان يُراقِب بطن تريسا وهو يكبر يومًا بعد يوم بنظراتٍ خجلةٍ كما يُراقِب الطفل حبَّات الفول التي زرعها … عرفَت تريسا أنه يُراقِب بطنها المستدير، فأصبحَت تنظر إليه نفس النظراتِ الخجولة، حتى التقت نظراتُهما ذاتَ مرةٍ ففهم كلاهما الآخر وراحا يضحكان.
أنجبَت تريسا ولدًا، فأطلق عليه تانيا اسم «تيرينيا»، وكان يدعوه بالمنتقم … تبادَل العناية به مع تريسا، وعاشا معه لحظاتِ نمُوه بنفس الفرح والقلق الذي عاشا به لحظاتِ نمُو بطن تريسا.
اقتربَت ملامحُ الطفل من ملامحِ أبيه، فأبصَر تانيا صورةَ أبيه في وجه ابنه وعينَيه وأذنَيه، ثم ذهب إلى قبره المهجور؛ حيث ركع فوق الأعشاب الناعمة، وقال وهو يبكي بمرارة: أبي … سامحني؛ فلقد أخطأتُ في حقكَ خطأً كبيرًا … سامحني أرجوك.
عاد إلى البيت بعد زيارة قبر أبيه فكانت تريسا تلعب مع المنتقم.
أشار إليه تانيا، لكن الطفل هزَّ رأسه، وجرى نحو أمه.
ضحك تانيا وقال: هكذا هي الحياة … إنها مثل الدائرة.
اقتربَت تريسا من زوجها حاملةً الولد فوق ذراعَيها، ثم ركعَت إلى جواره، وقالت بقلق: ماذا تعني؟
داعَب تانيا أرضيةَ الكوخِ الناعمة، ووضع يدَه فوق كتفها، ثم قال: انظري إلى إصبعي … إنني أبدأ هنا.
رسَم بإصبعه دائرةً فوق الأرض البنية الناعمة، وأضاف: وها أنا ذا أنتهي من حيث بدأتُ تمامًا، وهكذا هي الحياة.
لم تفهم تريسا شيئًا، لكنهما تبادلا الضحكات بينما كان المنتقم نائمًا، فحملَته تريسا ووضعَته فوق السرير.