٥
كانت العائلة كلها تلتف حول والد تانيا، كما كان الناس يحتشدون حول الرجل العجوز في منزل ماريا. وعندما وصل تانيا كان والده يتألم ويتنفَّس بصعوبة وكأن العالم بأَسْره يجثُم فوق صدره المصاب بالسل، رفع ذراعَيه بيأس ولوَّح بهما كمن يتخلَّص من عبءٍ ثقيل أو شيطانٍ رجيم، ثم راح في نوبة سُعالٍ متقطِّع. دخل تانيا من الباب الصغير لكوخ أبيه فتجمَّعَت العائلة حوله ليس لاتهامه وإنما اعتقادًا منهم بأنه سيُنقِذ الرجل المريض … ربَّت تانيا فوق كتف أمه التي شعَرَت بحضوره، فاستطاعت أن تفهَم، وتخلَّت عن مكانها؛ حيث جلس تانيا عند قمة السرير، ثم وضع رأس أبيه فوق حجْرِه.
في ضوء الكيروسين المحترق لاحظ تانيا أنهم جميعًا يبكون.
همسَت الأم للأولاد: «اذهبوا الآن للنوم يا أولاد … اذهبوا للنوم … إن تانيا موجود.» أمسك الأخُ الأصغَر بيدَيها، وتبعَها بقية الأولاد. ألقت أونيا نظرةً رحيمةً إلى أخيها، وربَّتَت فوق كتفه وخرجَت، ثم عادت بعد دقائقَ قليلةٍ ومعها طاسةٌ من اللحم وزجاجةٌ مليئةٌ باللبن الرائب وبعض البطاطس المسلوقة التي يُحبها تانيا كثيرًا، لكن شهية لم تكن قابلةً للأكل في مثل هذه اللحظة. قطعَت أونيا اللحم إلى قِطعٍ صغيرة وناولَتْه في فمه مع قِطعٍ من البطاطس، ثم قدَّمَت له زجاجةَ اللبن، وكانت تودُّ لو تمضغُ له الطعام إذا ما أراد … مضَغ تانيا الطعام، وابتلعَه بطريقةٍ ميكانيكية، وقد ساعده اللبن في ابتلاع البطاطس واللحم، ثم هزَّ رأسَه علامةَ الشبع، فجمعَت أونيا الأواني نصف الفارغة، وألقت فجأةً نظرةً سريعة إلى أبيها النائم، ونظرةً أخرى طويلة إلى أخيها، ووضعَت ذراعَيها فوق كتفه، ثم تنهَّدَت وبكت قليلًا، وسارعَت بالخروج دون أن تقول له تحية المساء.
ساد الظلام، وظل تانيا يُحدِّق في الجمرات حتى تلاشت تمامًا، وكانت عيناه مثبَّتة عند النقطة التي تلاشى عندها آخر ضوء؛ حيث أصبح الظلام حالكًا، فلم يشعر بفرقٍ كبيرٍ بين فتح عينَيه أو غلقِهما، لكن عقله كان يقظًا، وكان يفكِّر بقلق ورأسُ أبيه ما يزال فوق حجره يرتعش من ضعف اللحظات الأخيرة.
كان تانيا يتصبَّب بالعرق رغم برد الليل، أغلق عينَيه، وأحكم قبضته في انفعال، وبدأ عقلُه يعود للوراء وكأنه يبحث عن بذرةٍ مفقودةٍ في الأعشاب المحترقة … تذكَّر نفسه حين كان ولدًا صغيرًا حيث كان بمقدوره اكتسابُ تجاربَ وخبراتٍ عديدة، واستطاع أن يتذكَّر ذلك اليوم القاسي في المدينة حين اضطُرَّ للذهاب مع امرأةٍ لعوب، وبدلًا من أن يدفع لها راح يضربها ويمزِّق ثيابها؛ فالإنسان لا يعرف السبب في إصابته بالسل الرئوي.
وظل يطوف بذهنه هنا وهناك بعيونِه المغلَقة والعَرقِ المتصبِّب منه، لكنه طَوالَ الوقت كان يلاطف رأس أبيه الهادئ رغمًا عنه، فتذكَّر ذلك اليوم منذ سنواتٍ عديدةٍ حين استيقظ في حالةٍ سيئةٍ بعد وفاة أمه بسنواتٍ قليلة، وكانت رقبته تؤلمه، وأمعاؤه منقبضة، وعقله مضطربٌ من ذلك الحُلم الذي رأى فيه أمه تندفع في اتجاهه، وهو يرقد متوسلًا بعد أن سقط على الأرض، فشَعَر بأنه مشدود مثل كلمة في بدايةِ جملةٍ مجهولة، وذهب في الصباح مشوَّشًا حيث كانت الأمطار والأرض المبلَّلة بالطين، وكان عليه أن يسير ميلَين كالمعتاد للوصول إلى المدرسة التي التحق بها منذ أربع سنوات … كان المطر والرعد، لكن تانيا مضى في طريقه وقد حرَّر نفسه من أية أفكار أو قلاقل، حتى إنه لم يشأ أن يقطع ورقة الموز لحماية نفسه من الأمطار، غير أن سؤالًا واحدًا ظل يشغلُه طَوالَ الطريق: لماذا يذهب أساسًا إلى المدرسة؟ لماذا المدرسة؟ ولِمَ لا يذهبُ إلى السوق أو الغابة أو إلى ذلك الكوخ الذي يسكُنه الأجانب والمصلون الذين يتضرعون من أجل المطر؟ … هل للمدرسة ذلك الطابعُ المغناطيسيُّ الخاصُّ بالنسبة لأولئك الذين ضاعوا في الصحراء؟
كانت الأمطار تُبلِّل أرض المدرسة غير أن لونها كان بنيًّا لمرورها على سقف القش المتعفِّن، تأخَّر تانيا عن المدرسة، فكان عقابُه أن يقف عند الركن حيث الأمطار أكثر تدفقًا، لكنه لم يشعر بها، وكان المدرس شابًّا هادئًا وجذابًا بطريقةٍ خاصةٍ وقصيرًا بلون الفول السوداني، وكان ذائع الصيت لمروءته وحماسه الوظيفي، ربما لإخفاء حقيقة أنه لا يجيد فعل أي شيءٍ آخر، وقد تباهي ذات مرة أنه عضو في مؤسسة منتجي ومستهلكي المعلومات، سأل تانيا في درس الحساب عن الجذر التكعيبي للجذر التربيعي لواحد: ٩ وبدأ كأنه يسأل تانيا عن لون الله أو اليوم الذي سيموت فيه، فنظر إليه تانيا مرتعشًا ليس من الخوف وإنما من البرد، وأجاب بهدوء بأنه لا يعرف، وأراد يومها تانيا أن يضيف بصوتٍ عالٍ أنه لا يبالي بالجذور التكعيبية، لكنه أصبح مشغولًا بملابسه المبلَّلة التي التصقَت بأجزائه الأمامية، وراح يُعدِّل من وضعها، فتعجَّب المدرس من هدوئه وعدم اهتمامه، وظل يهذي بينما التصقَت ملابس تانيا بمؤخرته، لكنه لم يُبالِ هذه المرة.
كان اللوح الحديدي المتجعِّد يحمي المدرس من الأمطار البنية اللون، ورغب تانيا أن يحكيَ حُلمَه للمدرس والفصل، وتمنَّى لو أن هناك مدرسةً يستطيع فيها الحديثَ عن أحلامه وأحاسيسه التي يشعُر بها الآن وقد التصقَت ملابسُه بجسده من الأمطار … ماذا ينبغي أن يفعل بالجذور التكعيبية بعد حُلمه بمجيء أمه كي تُحرِّره من نكبته؟
انتهى الدرس، وكان المدرس يمشي إلى جوار تانيا وهو يهزُّ رأسه بيأس؛ فلقد أدرك أنه أحدُ أولئك الأولاد الذين لا يصلُحون للمدرسة … قال المدرس لتانيا بأنه سيطرُدُه من المدرسة إذا لم يتراجع بعيدًا عنه. وأوشَكَ تانيا على القول بأنه لن يعود إلى ذلك المكان مرةً أخرى، لكنه كان مشغولًا بمراقبة الأمطار النظيفة التي تتساقط بالخارج.
اتجه تانيا مباشرةً من المدرسة إلى قبر أمه الذي لم تنبُت الزهور فوقه بعدُ، وجلس فوق الطين رافعًا يدَيه فوق الرابية التربية، ثم راح يبكي فاختلطَت دموعُه بقطرات المطر المتساقطة فوق الرابية … بعد توقُّف الأمطار اتجه نحو البيت وقد قرَّر أنه لن يعود أبدًا إلى المدرسة؛ إذ ليس بمقدوره أن يتعلم الجذور التكعيبية بعد أن بكَى فوقَ قبر أمه، لقد حرَّرَته الدموع من الطفولة وحب المعلومات عن القسمة والضرب أو الثورة الصينية، لقد تحرَّر بدموعه التي تساقطَت فوق القبر من الأحاسيس العادية كالأمنيات والاهتمامات … ماذا كان سيحدث لو أن أمه كانت ما تزال تعيش فوق الأرض وفمها مليء بالطين؟ … لقد قالت أمه ذاتَ مرةٍ إنها لا تخشى الموت ولكنها تخشى الغياب بعد الموت، وتخاف ذلك السكونَ الذي يتبعُ النار المُطفَأة … إن الميول والرغبات ترقُد في النهاية تحت القبر المتجمِّد قبل أن تنالَ حظَّها من التحقيقِ فما فائدة التعليم إذن، إن المتعلمين والناجحين يتجنَّبون النتائج الحقيقية ومعظمهم سيئون.
أثناء سيره كان يُتمتِم بالصلاة ليس لأحدٍ أو إلَهٍ بعينه؛ فأعظمُ الصلواتِ لا تتوجَّه إلى إلَهٍ أو شخصٍ بعينه، وإنما تخرُج ببساطةٍ كالرغباتِ والأمنياتِ المفكَّكة التي لا تتحوَّل أبدًا إلى حقيقة.
فشل في استعادة بعض التفاصيل؛ فالإنسان غالبًا ما يتذكَّر فقط الصوتَ الداخليَّ في حلقِ امرأةٍ مارس معها الحب، لكنه لا يتذكَّر لونَ فستانها. وعند اقترابه من كوخ أبيه لاحظ أن بومتَين أو ثلاثَ بوماتٍ تُغني عند شمال الكوخ، وشعر بحفيفِ أوراقِ الموز التي يسقفُون بها الكوخ، ثم تحسَّس طريقه في الظلام بحثًا عن زجاجة ماء؛ لأنهم دائمًا يقدِّمون الماء لأي شخصٍ يُوشِك على الموت؛ لأن المُوشِكين على الموت لا بد أن يفعلوا شيئًا ما، وطلب الماء هو أقل هذه الأشياء … تذكَّر تانيا امرأةً قتلَها اليأسُ بعد وفاة ابنها الوحيد حين قالت: «لماذا، إن ابني الصغير لم يكَد يشرب الماء الذي أمسكتُ به أمام شفتَيه، لماذا تحدث مثل هذه الأشياء أيها الرب؟ ولماذا أسألكَ وأنتَ لا تعرف الإجابة؟» ثم انخرطَت في بكاءٍ مرير.
أحضَر نانيا زجاجةَ الماء، وفي طريق عودتِه ضرَب رأسَه بالعمود، وكانت شفاه العجوز جافةً وميتةً لكنه شرب بسرعة من يد ابنه وعاد للنوم فلم يكن الماء مرًّا … شرب تانيا من نفس الزجاجة، ووضع شفتَيه في نفس المكان الذي وضع فيه أبوه شفتَيه، ليس لأنه يشعُر بالعطش، ولكن لأنه لا يعرف السبب، ربما لأن أباه شرب كثيرًا دون أن يكون عطشانًا، أو لأن ابنه هو الذي قدَّم له الماء.
بدأ تانيا يتساءل مرةً أخرى بينما رأسُ والده فوق حجره، غير أنه لم يعُد قادرًا على التفكير بشكلٍ منتظم.
كان البومُ يصيحُ وكان رأسه يؤلمه، وتحوَّل النسيم في الجو إلى رياحٍ موسمية، فشعر تانيا بالنوم يغالبه بينما رأسُه مستندٌ إلى الحائط ورأسُ أبيه راقدٌ فوق حجره.