٨
عندما عاد تانيا للبيت كان أبوه في حالةٍ سيئة، فقالت أمه توبِّخه: إن أباك يُوشِك على الموت وأنت بالخارج طَوال هذا الوقت، في أيامي …
قاطعَها تانيا قائلًا: لقد ذهبتُ إلى المقبرة.
– إن السحلية تترك موتاها دائمًا، وتذهبُ للعَزاء في موتى الآخرين.
قال تانيا وقد فقَد رشده: وهل كان بوسعي عملُ شيءٍ لو بقيتُ هنا؟ … أخبريني … هل كان باستطاعتي إنقاذه؟
قالت أونيا: أتوسَّل إليكما؛ فالموقف الآن لا يحتمل أن تتعاركا، وأنتِ يا جدَّتي تشعرين بالتعب، فهيا اذهبي لتنامي.
قالت الجدة وهي تتحسَّس طريقَها خارج الكوخ: نعم يا ابنتي؛ فإنه من الصعب على مَن هم في مثل عمري …
تبعَتها أونيا، وقد لاحظ تانيا شعورَها الباردَ نحوه هذه الليلة؛ فهي لم تتحسَّس كتفَه عندما أحضرَت له الطعام، كما أنها خرجَت دون أن تُبادِلَه تحية المساء.
رقد تانيا إلى جوار أبيه فوق السرير دون أن يلمسه، لكنه لم يستطع أن ينام؛ لأنه كان وحيدًا في الكوخ مع أبيه المريض، وراح يفكِّر في أحداث الليلة الماضية حتى أصبح مشدودًا كحبل الغسيل وهو يتذكَّر حُبه لتلك المرأة.
انطفأ موقد الكيروسين ولم يشأ أن يُشعِلَه رغم اقتراب زجاجة الكيروسين منه، وظل يحدِّق في الفتيلة ويفكِّر: إن الرجل الذي يستيقظ متثائبًا في الصباح، ويريد أن ينام مرةً أخرى، هو في الحقيقة نفس الرجل الذي يَعرَق في الحقل أثناء الظهيرة، أو نفس الرجل الذي يمارس الحب بالليل، ثمَّة حلقةٌ تربط الأيام ببعضها، فهل من الممكن أن تكون هناك حلقةٌ بين تلك المرأة التي سأتزوَّجها وبين أبي الذي يموت، والذي قد لا يكون أبي على الإطلاق؟ … وهل انجذابي نحو تلك المرأة ليس إلا مجرَّد نشوةٍ أو ذهول، وهل هو ردُّ فعلٍ طبيعي لكل معاناتي في هذا العالم الذي رفَض مصافحَتي؟
رأى تريسا في حلمه وهي تسير معه نحو الغرب، ولم يكن هو سوى ولدٍ صغير بينما هي فتاةٌ كبيرة، وكانت أصواتُ الحيوانات الكثيرة تتخلَّل ظلام حُلمه، خيل إليه أنه يسمع صوتَ أحد أصدقائه الذي يريد أن يُبلغَه رسالة، فحاوَل أن يتراجع، لكن تريسا قالت له: إذا رجعتَ فسوف يأكلك النمرُ أو أحدُ الحيوانات المفترسة، علينا أن نسارع في اتجاه المنزل قبل أن نتأخَّر.
اعترضَ تانيا: لكن بيتي ليس في هذا الاتجاه.
تبعَته تريسا وأمسكَت يده وهي تسير معه في اتجاه الغرب لفترةٍ قصيرةٍ فقط، لكنه عندما نظر إليها عرف أنها ليست تريسا، وإنما امرأةٌ غريبةٌ سرعان ما اختفت في الهواء، كما اختفى الجنُّ الشرير في إحدى الحكايات التي روَتْها له جدَّته ذات يوم، فوقف في مكانه مشتَّتًا حتى لم يعُد يسمعُ صوتَ صديقِه الغريب، وعند هذا الحد تراجَع حُلمُه، وراح في نومٍ عميق.
استيقَظ تانيا قبل الفجر، ولم يُسعِفْه الوقت لتفسير حُلمه؛ فقد كانت يدُ أبيه تستقر فوق صدره، حاول أن يبدو هادئًا أمام موت أبيه فلم يتألم، لكنه أمسَك يدَ أبيه بهدوء، ووضعَها فوق جسده، حتى يبدو كصور المومياوات المصرية القديمة.
وقف تانيا خلف الكوخ في مواجهة الغرب يحدِّق في كرة الشمس الحمراء، وما هي إلا لحظاتٌ حتى أشرقَت الشمس ببطء، فانحنَى تانيا على الكوخ، كمن يُخاطب أحد الأصدقاء.
كان يفكِّر في كيفية دفن أبيه وقد تحرَّر من أرَق الانتظار وشعَر بالحرية.