٩
إن الموت في كاشا وانجا كالهجرة إلى قريةٍ أخرى، ولكن بدون عودة، أو كأنه حفلُ وداعٍ أخير إلى قريةٍ أخرى تُعَد مصيرًا نهائيًّا لكل شخص.
كان تانيا يفكِّر في مراسم الجنازة، وكيفية دعوة كبار القرية للعَزاء، وعن الوقت الذي يذبح فيه البقرة وهو لا يزال يحدِّق في شروق الشمس، وقد شعَر بأن خطأً ما في شروق الشمس، التي كانت ترتعش في الصين على غير العادة، وكأنها شخصٌ فقَد رشده.
دخلَت جدَّته الكوخ، وأبصرَت ابنها ميتًا، فعادت مسرعةً وهي تشُق سُترتَها وتُبلغُ رسالتَها بالصُّراخ عَبْر الوادي، ثم ظلت ترقص حول المكان وتستجدي دموعها المخزونة … كان بطنها يتحرك إلى أعلى وأسفل وكأنها حاملٌ تُوشِك على الولادة، ركعَت في اتجاه الغرب وقالت بهدوء: خذه … خذه فأنت لم تسمح له أبدًا بالراحة … خذه فأنتَ شخصٌ جائع … لقد سرقتَ لبني لأنني امرأةٌ عجوزٌ وضعيفة.
شدَّت صدرها بيدها، وصبَّت فيه الرمال باليد الأخرى، ثم استطردَت: خذه فأنت لم تعرف أبدًا مدى ألمي وأنا أقشِّر الموز النيِّئ للطفل؛ لأن أثدائي كانت جافة.
كان تانيا واقفًا إلى جوارها، فركَع بجانبها وراح يُساعِدها في تلطيخ جسدها المرتجف بالرمال، فأصبحَت تشُد أثداءَها بيدَيها الاثنتَين.
ذهبَت أونيا مع الصغار إلى بيت ميريشو، وكانت تمسحُ دموعَها بظهر يدها وتردِّد قليلًا: مام … مام!
سألها الأخ الأصغر: إلى أين نحن ذاهبون؟
فأجابت أونيا: سوف تبقى في بيت ميريشو بعض الوقت؛ لأن جدنا ذهب في رحلة، وسيزورُنا كثيرٌ من الناس.
– وهل ذلك هو السبب في بكائك؟
– نعم، خاصةً وأننا لا نملك طعامًا لهم.
– يمكننا ذبح البقرة «كيبيا» لهم.
– أعتقد أننا مضطَرُّون لذلك.
انطلق بكاءُ الأم وعويلُها عَبْر الوادي، حتى لم يعُد من اليسير سماع غناء الطيور، رغم أن ابنها لم يكن محترمًا أو محبوبًا بما يكفي في كاشا وانجا، ولكن كان له أولاد وبناتٌ مما جعل الناس تشارك الأم بكاءها كي لا يموت أولادُهم، فانتشر البكاء من منزلٍ إلى آخر منذ الصباح الباكر كلٌّ يبكي على حاله … كانت بعضُ النساء يُرضِعن أطفالهن وبعضهن يُلقين البطاطين الممزَّقة فوق أكتافهن كي لا تتعرَّض أثداؤهن للعُري، وكن يرقُصن جيئة وذهابًا بإيقاعاتٍ غيرِ منتظمة وهن يتقدَّمن خطواتٍ قليلةً للأمام ثم خطوةً واحدةً للخلف، وبين ذلك الحشد من النساء كانت تريسا تمسح عينَيها من النوم غيرَ قادرةٍ على مشاركتهن الرقص.
فَزِع الأطفالُ من نومهم، وراحوا يحدِّقون في الرجال والنساء بأفواهٍ مفتوحة، كما يحدُث كثيرًا في كاشا وانجا؛ حيث لا يُخبِرون الأطفالَ بما يحدُث، ولا يسمحونَ لهم بمغادرة بيوتهم. كان الأصدقاء في المقدِّمة يتبعون النساء، وكانت دموعهم مترسبة فوق رموشهم وشواربهم، وكانوا يبصُقون مرارةَ نشوقِ الليل القديم.
كانت تريسا تندفع بين النساء اللاتي يتحرَّكن ببطء كي تصل إلى حبيبها، وكذلك حاول جيمس أن يشُق طريقَه وسطَ حشدِ الرجال، حتى أصبح كلاهما قريبًا من الآخر، حين بدأ الرجال والنساء يُغَنون أغنيةَ الموت التي يعرفها جميعُ أهلِ كاشا وانجا.
ظلوا يردِّدون أغنية الموت هذه كثيرًا دون أن يتوقَّفوا عن البكاء، بينما تريسا تجاهد في طريقها دون الالتزام بإيقاع أو خطوات الناس، على العكس من جيمس الذي كان يتحرك معهم بإيقاع وهو يردِّد كلمات الأغنية التي يعرفها منذ وقتٍ طويل، ولكنه لم يفكِّر فيها من قبلُ.
كان تانيا يضع جدَّته فوق حجْرِه عندما وصلوا إلى المقبرة، فاندفعَت تريسا وركعَت أمامه بينما كانت أونيا تُزيل التراب من أنف العجوز المرتعشة ومن فوق حواجبها، وبعد العودة إلى الكوخ أصبح عددٌ كبيرٌ من شباب كاشا وانجا يحيطون المكان وقد انسحب الصغار إلى الخلف، وواصلَت الأم بكاءها. وكانت بعض النساء يُطلِقن الصرخاتِ من وقتٍ لآخر تأثرًا بالموقف، أو تذكُّرًا لوفاة رجلٍ ما، وربما كنَّ يفكِّرن في أولادهن وكِبَر أعمارهن. كان غالبية الرجال واقفين يعَضُّون شفاههم أو يُعلِّقون رءوسهم، وقليلٌ من الأقرباء والأصدقاء كانوا يسكُبون دموعَهم فوق الأرض العَطْشى.
أشرقَت الشمس من ارتفاعٍ كبيرٍ في السماء حتى أصبح ظل الإنسان في اتجاه الغرب يعادل طولَه تمامًا، وكان الصبية والغرباء قد أصابهم الملل، فتبعثر بعضهم، وجلس آخرون في الشمس انتظارًا لبداية الطقوس التي يقوم بها ميلا، كبير القرية، ذو العظام القليلة الواضحة في جسده.
مشى ميلا للأمام قليلًا في اتجاه الأم، وبعد أن تنحنَح راح يردِّد ما قاله أكثر من مليون مرة في مثل هذه المناسبات: «الأمهات العجائز … لقد بكت كلُّ واحدةٍ منكنَّ يما يكفي، وإذن فلتَتركْن الباقيَ لنا؛ لأن شجرة البامبو العجوز ليست بها عصارةُ نباتٍ كافية، كما أن البكاء يُزعِج الموتى الذين ذهبوا دون أن يخبرونا … يجب أن نذرفَ الدموع بعينٍ واحدة وننظُر إلى بركاتنا بالعين الأخرى … إنه لم يمُت ولكنه عَبَر الوادي إلى الجانب الآخر بحثًا عن دفء الشمس … إنه ينظر إلينا كلما غربَت الشمس، وهم هناك يملكون الفرصة للبدء من جديد، وسوف نندهش جميعًا عندما نذهب إلى هناك؛ إذ ربما نجده رئيسًا فيما وراء الليل والنهار، فلا تبكي أيتها الأم الطيبة، وكفَى أيها الأولاد؛ لأننا جميعًا سنموت.»
أصبح الجو حارًّا، فأمسك ميلا بذراع المرأة العجوز، وقادها إلى الظل، وكانت البناتُ والقريباتُ قد شعَرن بالكآبة والإرهاق، ورحن يتبعن أونيا وهي تحمل قرعةً من الماء، ثم اختفى الناسُ واحدًا بعد الآخر، وظل الشباب في الخلف انتظارًا لما سيقومون به من عمل.
عرف تانيا مسئوليته الجديدة، والتي يجب أن يكون كفُؤًا لها بصفته كبيرَ العائلة، وبعد أن ذهب الناس توجَّه مع موجيا وجيمس وميلا إلى مكانٍ محدَّد خلف الكوخ، ثم راح ينظر إلى الشمس ويفكر في أحداث اليوم … تبادلوا الحوارَ حولَ ما يجبُ عملُه، ثم أخبروا الشباب المُنتظِر بما سيفعلون.