تمهيد
قارئي العزيز …
أُسائل نفسي وأنا أكتب هذه السطور: هل من الخير أن يقول الإنسان كل الحق؟! ولمن يجب أن يقول هذا الحق، إذا كان من الخير أن يقوله؟
إنني أستطيع أن أملأ بضع الصفحات المحددة للمقدمة في حديثٍ لا يُغنيك ولا يضيرني عن تاريخ القصة، وعن مكانها في الأدب، وعن تطوُّرها، وعن عشرات المواضيع التي لا تتصل من قريبٍ ولا بعيدٍ بما سوف تقرؤه بعد لحظات حين تنتهي من هذه السطور. فعلمك بتطور القصة ومكانها في الأدب لن ينفع شيئًا في تهيئتك لقراءة قصة. إنَّ كتابًا في تاريخ الموسيقى قد يفيدك في الحديث عن لحنٍ أو موسيقار، ولكنَّه لن يسيغ في أذنك نغمًا باردًا ولو كان مؤلفه موضوع فصل كامل بين تاريخ المؤلفين.
إنَّ الذي ينفعك في سماع اللحن السخيف والنغم البارد — إن كان هناك نفع أو أمل في النفع — هو التهيئة الصالحة لسماع هذا اللحن؛ كأنْ تدرك مثلًا أنه يصوِّر سخفًا في الحياة، أو اضطرابًا فيها، أو معنًى باردًا من معانيها …
وهذه هي مهمة المقدمة التي أريد أن أكتبها لك.
فهذه القصص التي بين يديك، والتي ستقرأها بعد حين إن كنت من الصابرين، تحتاج منِّي إلى تهيئةٍ وإعداد، كما تحتاج منك إلى جَلدٍ وسماحة طبع.
إنَّ فيها قصصًا رضيت أنا عنها، وأخرى رضي عنها قراء، وثالثة رضي عنها أصحاب صحف ومجلات … ولكن ليس فيها قصة واحدة رضي عنها الجميع.
قصة «أقوى من الحب» مثلًا عانقني عليها أحد الأصدقاء وأطنب في إطرائها، ثم تبيَّنتُ بعد حينٍ أنَّ كل ما أعجبه فيها، هو أنَّ الزوج بطل القصة عاد إلى زوجته بعد فترة من شرود العاطفة، ولحضرة المعجب الفاضل شقيقة كان زوجها قد هجرها حينًا عاشتْ فيه عبئًا على أخيها ثم عاد منذ أيام؛ أي إن المسألة كلها ظروف شخصية تتصل بجيبه، لا بتفكيره الأدبي وذوقه الفني!
وقصة «المغفل الثالث»، وهي قصة شاب وقع في حبائل غانية أمهر من غيرها. هذه القصة أعجبت عددًا من القراء لا بأس به، ولست بحاجة لأنْ أحدثك عن الأسباب؛ فستعرفها بعد قراءتها، وأغلب الظن أنها ستروقك أنت أيضًا.
وقصة «شارع الذكريات» لم يشاركني في الرضا عنها إلا شاب مهذَّبٌ مجروح! جُرح قلبه ذات يوم والْتَأم الجرح، ثم بقي الأخدود تسير فيه ذكرياته، كما سارت ذكرياتي في الشارع القديم.
وهكذا لو شئت أن أحدثك لوجدت أن دافع الإعجاب دائمًا عامل شخصي، لا تدخُل فيه عوامل الفن، ومطابقة القوانين، ومراعاة المناهج. هذه العوامل إنما تقرر رأي الناقد لا القارئ، وإنَّ رأي القارئ أيضًا — كما ترى — رأيٌ ذاتي في أغلب الأحيان، فهل ينقص ذلك من قيمته؟
أغلب الظن أن لا؛ فالإنسانية مجموعة الناس ذوي الظروف الخاصة والأحاسيس. والإحساس الواحد يُحسُّ به كل فرد في فترات مختلفة؛ فيُحسُّ أحدنا الحزنَ، ويُحسُّ الآخر الفرح. ومشاعر الحياة واحدة لكل فرد، مختلفة في ترتيب مروره بها؛ فكلنا نُحسُّ فقْدَ الأصدقاء، ولوعةَ الحُبِّ، ونعيمَ الوصال، وشقاءَ الغدر، ولهيبَ الغَيرة، ووقرَ الندم. من هذه الأحاسيس ومن غيرها تتكوَّن مقومات مشاعرنا، وإنما يسمو الكاتب إلى النطاق الإنساني في تعبيره حين يمسُّ هذه المشاعر، وقد تجرَّد قلمه من نزعة الذاتية. إنَّ حزن القروية على جرَّة اللبن التي تكسرت حزنٌ، وحزن السياسي الداهية على فشل برنامج ضخم حزن، وإذا وصل الكاتب إلى أعماق النفس البشرية فأخرجت ريشتُه الحزنَ عاطفةً إنسانية، فقد وصل — بقلمه — إلى نفس السياسي وبائعة اللبن على حدٍّ سواء، وإلى كل نفس بشرية أحسَّتِ الحزنَ من أقصى جنوب الأرض إلى أقصى شمالها، وإنما يعيب الكاتبَ أن يكون مقررًا لا مصورًا.
وعيب القصة المصرية إلى الآن هو أنها قصة تقريرية؛ الحزن فيها حزنٌ مصريٌّ محدودٌ بالإقليم والظروف والمناخ، والفرح فيها فرح محلي، والعواطف فيها مدموغة بأسماء المدن والأقاليم. وهذا لونٌ من الأدب يفيد الباحثين عن الجديد الطريف، فيسر القارئ الأمريكي مثلًا أن يقرأ القصة المحلية المصرية، بالضبط كما يسره أن يرى الجمل، ويتفرَّج على أبي الهول، ويرى قوافل البدو.
وهذا اللون من الأدب تمر به كل حياة أدبية لكل قُطر، لكنَّها لا تقف عنده؛ فهناك الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي … ولكنْ هناك أدب آخر هو الأدب العالمي؛ أدب يساهم فيه كل شعب متمدين، من فروعه القصةُ والشعرُ والمسرحيةُ والمقالةُ … إنه الأدب الإنساني الذي أشيرُ إليه، والذي أطمع أن نصل إلى مستواه.
ما شأن هذا كله ومقدمة الكتاب؟
إنَّ له شأنًا أي شأن؛ فأنت القارئ في حاجة إلى بعض الإقناع لكي ترضى عن هذا الكتاب.
أولًا: أريد أن أقرر لك أنَّ هذه القصص ليست بداية فألتمس لها العذر وأطلب منك الترفُّق في الحكم عليها، وليست نهاية ما أصل إليه فأقول لك إنها آية في الفن، ولا أستطيع أن أقول ذلك لأنني كاتب قصة ولستُ بشاعر … ولا أدري شيئًا عن هذا التقليد الجائر الذي يُبيح للشاعر أن يشيد بشعره ويمجِّد نفسه، ويفخر بسلطانه على المعاني وملكيته للدرر والجواهر … ولو كان شعره حصًى مرصوفًا في طريقٍ مهجور. لا أدري شيئًا عن هذا التقليد، ولكنني أحترمه وأنزل إلى مرتبة القصَّاصين فأتقدم إلى القارئ في استحياء لا يوصف به الشعراء، أتقدم إليه لأقول هذه قِصصٌ في منتصف الطريق، ليست في ليونة الغصن الناشئ، ولا في صلابة الجذع المتمكن، لا أبرأ منها، ولا أفخر بها … كل ما في الأمر أني أحتمل تبعتها، أحتملها في صبر لا يقلُّ عن صبرك عند قراءتها، وحين تُرضيك منها واحدة لن أزهو؛ فأنا أعرف السبب، إنه ليس سموي إلى النطاق العالمي، ولكنه انحصار ذهنك أنت في النطاق المحلي الضيق، وإذا أعجبتك قصتان فسأبتسم؛ لأني عرفت من أمر حياتك ناحيتين، وإذا زدت عن ذلك، فلن أشكَّ لحظة واحدة أنك فارغ البال تبحث عما يشغلك ويملأ فراغك.
لقد سبقتك — أيها القارئ — فأبديت رأيي فيك قبل أن تُبديَ رأيك فيَّ، وتلك مزيَّة سوف تجرح رأيك مهما كان. إياك أن ترميَ قصة بالسخف، وإياك أن تخلع على قصة ثوب الإعجاب، وإياك أن تترك الكتاب كله قبل أن تُتمه؛ إنك إذنْ تكون ظالمًا لنفسك قبل أن تظلمني، فما أدراك أنك سترى نفسك قُبيل الصفحات الأخيرة إن لم تجدها على الغلاف أو ما بعد الغلاف!
هذه قصصٌ لا بأس بها في مجموعها وتفصيلها، هذا رأيي أنا في قصصي، مع تحفُّظٍ واحد أسوقه إليك: لا بأس بها على أن تقرأها وأنت ذاكر ما سُقته لك أول الأمر عن القصة المصرية. هذه قصص محلية، فيها إنسانية محلية، وأؤكد لك أني ما قصَّرتُ في أن أسموَ إلى النطاق العالمي، بل سعيت إليه في بعض القصص، وأحسست أحيانًا بمشاعر بعض من رسمتهم فيها، أحسستُه ولم تكن مهمتي تعدو التصوير، حتى قد خُيل إليَّ أني قد وصلت إلى أن أبث فيهم مشاعر إنسانية صادقة، أحسست بحزنِ بعضهم كما لو أنهم بشر لا غير، بشر من أي مكان، وفي أي مكان.
ومع ذلك فأنا — كما قلت لك — في منتصف الطريق، ولستَ أنت خيرًا منِّي.