شارع الذكريات
إنه لا يزال يذكر …
عشرون عامًا مرَّتْ منذ وطأتْ قدماه أرض هذا الشارع لآخر مرة، حين ألقى عليه نظرة هائلة مودِّعًا كل ما فيه، وقد صمم على أن لا يراه إلى الأبد، بل وقد صمم على أن ينسى أنه سكن فيه ذات يوم، بل عاش فيه صباه السعيد.
عشرون عامًا كاملة، مشت فيها الحياة مسافات طويلة، فأجهدت في جسده كلَّ شيء، حتى شعرات رأسه البيضاء بدت وكأنها قطرات العرق قد تبلورت عند مفرقيه وفوق جبينه، وحتى أقدامه بدت وكأنما تعبت من السير، فغدت تخطو مثقلة بعبء السنين.
يا للهِ من غدرات الأعوام!
هذه الأقدام نفسها كم قطعت هذا الشارع في لمح البصر خلف الكُرة! وكم كرَّت وفرَّت فيه فما أحسَّتْ جهدًا ولا ضنًى!
أجَل، هذه الأقدام نفسها كم كانت تحب أرض هذا الشارع، فلا تطيق لحظة واحدة تقضيها في المنزل حتى تهبط إلى الشارع الحبيب! تهبط غير عابئة ولا مصغية لقول أمه، وهي تشيعه بغضبها الباسم قائلة: انت رجلك بتاكلك على الشارع؟ مش تستريح شوية يا ابني؟
لم يكن إذ ذاك يفقه كلمة الحب؛ فلم يقل لها مرة إنه يحبُّ هذا الشارع، وإن راحته الكبرى في أن يطلق ساقيه للريح على أرضه مع رفاقه.
هذه الأقدام نفسها هي التي تدبُّ في سكون الليل بعد عشرين عامًا في تثاقل وإعياء، كأنما تخطو على أشواك.
ومشى يخوض عباب الذكريات، وقد عادت إليه دفعة واحدة. عادت وقد امتشقت عصًا سحرية جعلت تهوم بها يمينًا وشمالًا، فتمحو الدُّور والعمائر التي اكتساها الشارع خلال غيبته الطويلة؛ ليحل محلها الشارع القديم الذي عاش فيه، بدُوره المتلاصقة ذات المشربيات المتقابلة كأنها طيور تتعانق على استحياء.
لقد تغير كل شيء، وها هو ذا يخطو في الشارع، لأول مرة في حياته، إن ذكرى يوم وعيه الأول تبدو غامضة، إنه لا يكاد يتخيل نفسه طفلًا، لكنه يذكر ما كان حواليه جيدًا، يذكر الخادمة النوبية التي كانت تحرسه حين يهبط إلى ميدان لعبه الفسيح إذ ذاك — وهو عتبة الدار — ويذكر رفاق ذلك اللهو من الأطفال، ويكاد يتبيَّن من بينهم ذلك الوجه الصغير، وجه «سناء»؛ الوجه الذي ارتبط به بعد ذلك عشرة أعوام كاملة، من الطفولة اللاهية إلى عتبة الدار إلى المعهد المشترك الذي ضمَّهما طفلين … إلى ذلك اليوم الذي صار فيه صبيًّا وأصبحت هي فتاة، وفرَّقت بينهما جدران ذلك المعهد نفسه، هي في قسم البنات، وهو في قسم البنين.
إنه ليذكر الخواطر الغريبة التي خالطت تفكيره الساذج إذ ذاك؛ كان يخطر له أحيانًا أن يتسلق ذلك الحائط الذي يفصل بين القسمين في أوقات الفُسح؛ ليجريَ «خلف سناء» أو تجريَ خلفه.
كم كان يمضه ويؤلمه أن يسمع تصايح الفتيات الصغيرات خلف الجدران! لقد كان ظلمًا بيِّنًا في نظره أن تلهوَ «سناء» مع غيره.
وتكبر الأيام ويكبر معها.
وتكبر «سناء»، ويظلُّ هو يذهب إلى المدرسة، وتمكث «سناء» في البيت تتهيأ لكي تكون ربة دار. كان أبوها لا يرى أن تتعلم البنت أكثر من القراءة والكتابة، فاحتجزها حين تمَّت دراستها الابتدائية. لكنَّه كان يراها كل يوم عند مآبه من مدرسته، كان يلقاها بعينيه عند الشرفة، كأنما تترقَّب عودته، وكان يلقاها بعد ذلك بحديثه كلما اجتمعت الأسرتان في المساء تتحدثان، كان يقصُّ عليها كل ما حدث، وكانت وحدها التي تستمع بين خمس نفوس تجلس في الحجرة، وكان لها وحدها يقصُّ، وكانت عيناها فقط هما اللتان ينظر إليهما، وكان في حياته هو و«سناء» كل شيء يعنيه.
ويأخذ عقله ذات يوم في التفكير إثر إحساس غريب؛ فقد اصطدمت يده عفوًا بصدر «سناء»، فأحسَّ شيئًا لا يدري كنهه، وقد لمست يده يدها مرةً ثانية، فأحس الإحساس الغامض نفسه، ثم مرة ثالثة … جلسا يتصفحان مجلة، وقد أوشك رأساهما أن يتلاصقا، فأحسَّ بأنفاسها تميل نحو وجهه دافئة، فتبعث ذلك الإحساس. وأخذ عقله يفكر، وأخذت حواسه تنمو، وكانت الطبيعة قد عاونته على أن يفهم، وكان الناس قد ساهموا أيضًا في ذلك، وترامت إلى أذنيه أقاصيص رجال أحبوا نساءً، وقرأ أقاصيص حُبٍّ، وسمع أغانيَ تدور حول الرجل والمرأة …
إنه لا يزال يذكر هذا اليوم أيضًا، حين عاد إلى المنزل وقد أدرك أنه لم يعد طفلًا، ولم تعد «سناء» طفلة، عبثًا حاول في ذلك اليوم أن يملك صوته المرتعش، وعبثًا حاول أن يستعيد نظراته الساذجة الغريرة، بل عبثًا حاول أن يرد عينيه عن نظراتهما الملتهبة التي بدأت ترى في «سناء» غير عينيها.
ولمس يدها في ذلك اليوم عن قصد، وأحسَّ بها كما لم يُحس من قبل، ومال حديثه عن شئون الدنيا، وحمل تحت ألفاظه كلمات مبهمة أحسَّ أنه يدريها وتدريها، وقال لها دون ألفاظ إنه لم يعد طفلًا ولم تعد طفلة …
وتطور أمرهما سريعًا؛ فقد اختطفت منه مجلة وحاول أن يستعيدها. طالما حدث ذلك من قبل، لكنه كان يحدث أمام الأسرة دون أن يثير شيئًا. في هذه المرة جرت إلى حجرة أخرى، ولوى ذراعها فالتقى وجهاهما وتلامست شفاههما، وأدركا أنهما يفعلان شيئًا لا يجوز أن تراه الأسرة، وأدركا أنهما بحاجة دائمة إلى هذا الشيء، وفي حاجة إلى أن يحدث بعيدًا عن الأنظار.
والتقى وجهاهما بعد ذلك كثيرًا، والتقى قلباهما أيضًا، بل اجتمع هذان القلبان في قلبه هو حينًا طويلًا، بل وقفا على حافة تفكيره، يصبغان هذا التفكير ويوجهانه. أصبح ذهابه إلى المدرسة لا يعني ما كان يعنيه قبلًا من تلقِّي العلم، وإنما فراق «سناء»، وأصبحت أَوْبته منها لا تعني انتهاء الدراسة، وإنما نهاية ساعات الفراق.
هل كانت تدري الأسرة شيئًا؟
هل تعلم أمها ما بينهما؟ ذلك ما لم يكن يدريه.
أمَّا أمُّه هو فإنه لا يزال يذكر ذلك اليوم الرهيب، حين وقف يُحكم رباط رقبته أمام المرآة، ووقفت هي خلفه وقد بدا وجهها الحبيب أمامه، وارتفع صوتها الحنون هادئًا رقيقًا كأنما يسير في أخدود خطر: انت بينك وبين «سناء» حاجة يا ابني؟
وأراد عقله أن يكذب، لكن قلبه وقف في الطريق.
وقال وهو يدير رأسه: ليه يا ماما؟
– أنا شايفة انكم بتقعدوا كتير مع بعض، وهي بنت! وانت شاب!
ولم يملك زمام قلبه هذه المرة، واختفى عقله بعيدًا وأفسح الطريق، وانسابت الكلمات على شفتيه.
ماذا قال لأمه ذلك اليوم؟ قال لها إنه يحب «سناء»، وإنه يريد أن يمضيَ حبهما إلى نهايته، إلى الزواج.
وأنت تعرف ذلك كما يعرفه هو و…
ولا يذكر بعد ذلك إلَّا صوت أمه ينهى إليه في أسًى متخاذل. إنه يدرك الآن فقط فجيعة أمه في أحلام ابنها وآماله، وقلبه، يدرك سرَّ هذا الحزن الذي غمر صوتها وغلَّفه حتى كاد يبدو مخنوقًا.
– «سناء» أكبر منك بسنتين! سنها الآن تسعة عشر عامًا، وأنت سبعة عشر عامًا، وعندما تتم دراستك بعد ثلاثة أعوام تكون هي زوجة ولها أولاد!
ولا تطاوعه بعد ذلك الذكريات. إنَّ عقله يقفز إلى عامٍ تالٍ، إلى يوم مشئوم في نهاية شهر مارس، يوم تدوي الزغاريد في الشارع، وتجري فيه الخادمة النوبية التي رعت طفولته لتعصف بشباب آماله وهي تصيح فَرِحة من غير قصد: ستِّي «سناء» قرءوا فاتحتها! على واحد دكتور!
وتتابعت الأحداث كأنها أشباح في عالم الذكريات. وقف ساكنًا يتلقَّى صدمات القدر، كأن العامين اللذين يفصلان بينها وبينه يُكبِّلان إرادته وهواه، وكانت الأعوام الثلاثة التي تفصل بينه وبين حياة الرجل الذي يملك شئون نفسه تُلجم لسانه وتشل تفكيره، وكان خلف ذلك كله عشرون عامًا، بدأت تقطعها الحياة لكي تملك فتاةٌ حقَّ تقرير مصيرها، وتلامست شفاههما تلك الليلة لآخر مرة، تلامست في قبلة طويلة عميقة بعد منتصف الليل، لم يكن ذلك في اليقظة، وإنما في حلم ساخر، قبَّلها وهي توشك أن تركب قطارًا في رحلة طويلة، نحو عالَم آخر! وصحا من النوم مفزوعًا، وتحسس شفتيه فوجدهما دافئتين لم تغادرهما بعدُ حرارة القبلة، وتحسس رأسه فوجده ساخنًا كأنه ما زالت تغطيه خصلات شعرها الناعم.
إنه لا يزال يذكر أيضًا ذلك اليوم بعد عام، حين تبيَّنت له الحقيقة المروعة، حين أدرك أنه ما زال يحب «سناء»، حين نام صدره بعام كامل يبيت فيه ساهرًا، وقد تعلقت عيناه بالسقف، فوقه تمامًا كانت «سناء» تنعم بليالي شهر العسل مع الرجل الآخر الذي يملكها دون أن يدفع ما دفع هو من سهر، ودموع، وأعصاب!
وصاح بأبيه ذات يوم وقد اغرورقت عيناه بالدموع: ما الذي يُبقينا في هذه الدار؟
وقال أبوه وهو يبسم في أسًى: سنبحث عن دارٍ أخرى، وسنغادر هذا الحي بأكمله. وغادرت الأسرة الحيَّ بعد أيام.
ودارت السنون تطوي طريق حياته الطويل، فتخرَّج من كليته وسافر إلى الخارج وعاد إلى الريف، وتزوَّج وأنجب أولادًا، وفَقَد أباه وأمه.
خطت الحياة أخدودين عميقين في صفحة فؤاده، طالما تعثرت فيهما لحظات الهناء.
وبالأمس فقط مرَّ من الشارع القديم، فأحسَّ أنه يخوض عباب الذكريات. لقد تغير في الشارع كل شيء؛ لقد غدا شيئًا آخر لا يعرفه! لكن خياله مع ذلك قد استطاع أن يُعيد الماضي، يعيد الشارع القديم بكل ما فيه، استطاع أن يرى الدُّور القديمة بمشربيَّاتها المتقابلة المتعانقة، واستطاع أن يرى شبح «سناء»، يكبر رويدًا رويدًا، ويملأ الشارع، ويطوي خلفه نعيمًا تقضَّى منذ عشرين عامًا!