لحن قصير
جذب بيده ستائر النافذة، فتوارى آخر شعاع للشمس الغاربة، ثم تحرك صوب الباب، لكنه لم يخطُ حتى رنَّ في أذنَيه صوتٌ رفيعٌ، ينساب في إعياء مناديًا الممرضة: فاطمة، أشرب، أريد أن أشرب.
وأدار زر الكهرباء، فانبعث نور المصباح الهادئ في فضاء الغرفة، وبدا وجهها الذابل خلاله كأنه رأس تمثال من الشمع.
وسار نحو المنضدة، وحمل كوب الماء واقترب من فراشها، وفتحت عينها على صوته وهو يقدم الكوب، ويده وهي ترفع رأسها في رفق، فقالت في حنان: أنت دائمًا يا دكتور منير … إنني أُتعبك كثيرًا، إني آسفة.
ولمست حافةُ الكوب شفتيها، ولمست يداها يده وهي تطبق على الكوب، ورشفت آخر قطرة من الماء، ومرت لحظة قبل أن ترفع يده بالكوب لتعيده إلى المنضدة، لحظة ظلَّت يداها خلالها تطبقان على يده، وتضغطان في حرارة، وأخيرًا رفعت عينَيها نحو وجهه، كانت عيناه تحدقان في بريق غريب، والتقى ذهوله بذهولها فأفاقا، فرفعت يداها ورفع الكوب.
وغادر الحجرة مرة أخرى في خطًى متباطئة، وأغمضت عينَيها واستسلمت لحلم طويل.
وجلس الدكتور منير بعد لحظات إلى مكتبه في المستشفى، يحاول أن يقرأ، وفتح كتابًا، ولكنَّه أغلقه بعد قليل، وفتح غيره ثم أغلقه بعد لحظات.
وعبثًا حاول أن يفعل شيئًا غير التفكير في تلك الراقدة على قيد خطوات من حجرته، واستسلم آخر الأمر لأفكاره، فراح يستعرض ما حدث منذ أربعة شهور، حين دخلت كوثر المستشفى؛ لتعالَج من مرضها الخطير، وحين نشط الطب ليعرف المرض، وحين تضاربت الآراء في تعليله وتشخيصه، ثم انتهى الطبُّ إلى رأي، ثم نقضه، ثم تبين أخيرًا أنه الداء — داء السرطان — يتسلل إلى القلب في خفة وثقة، مكتسحًا ثدييها فصدرها هاصرًا في طريقه، وفي غير رحمة عودَ شبابها، ناشرًا الموت البطيء على صفحة وجهها في صورة شُحوب يتزايد ويتراكم، ويتخطف ما بقي في وجنتَيها من دماء، ويمتص ما على شفتيها من رواء، ويقف متربصًا عند حافة عينيها لا يجرؤ على الدنوِّ.
كل شيء تغير في كوثر إلا هاتين العينين، نال المرض من جهودها، فتداعى جسمها، وتخاذلت أعضاؤها، لكن عينيها ظلتا كما كانتا منذ اليوم الأول، يوم دخلت إلى المستشفى تخطر على قدميها في رشاقة ومرح، والتقت عيناهما، وأحس بجسده يرتعد، وأحس بعينيها تجفلان في سرعة، وتنظران إلى فضاء الحجرة.
وقُدِّر عليه منذ ذلك اليوم أن يزورها مرة في الصباح ومرة في المساء، وأن تلتقيَ عيناهما في كل مرة، وأن تتكرر قصة اليوم الأول، فتجفل عيناها وتهرب عيناه.
ويتهاوى جسدها كالبناء، ويمضي كل يوم بجزء من نضارتها، وتمر الشهور ويتبين الداء، وتوشك الدموع أن تطفر من عينيه، حين يرى ميكروبه تحت المجهر، ويسمع اسمه بأذنيه من زميله الذي يعاونه في علاجها.
ويقضي ليلة لا تقل عن لياليها هولًا وفظاعة، ليلة تحترق فيها مع عشرات السجائر قطرات من دمه، ويطالعه الصباح فيهرع إلى غرفتها، وفي هذه المرة يطيل إليها النظر، وفي هذه المرة لا تخشى عيناه أن تكتما داءه، فتكشفان عن دائه ودائها معًا، وعبثًا تحاول الألفاظ أن تتدخل، لقد تلقت عيناها نبأ غرامه ومصيرها جنبًا إلى جنب، وقرأت سطور الحب كما قرأت سطور الفزع.
ويقترب ذات يوم من فراشها وهي نائمة، فيطيل التحديق في وجهها، ولا يرى وجه المريضة الفانية، وإنما ذلك الوجه الذي رآه أوَّل مرة منذ شهور نضِرًا، تقطر الحياة والدماء من شفتيه.
ويقترب رأسه حتى يستشعر أنفاسها الدفيئة تهبُّ على وجهه، ويوشك أن يلمس جبينها بشفتيه، ولكنه يرتد في اللحظة الأخيرة، ويسير في حذر نحو الباب، وتتمتم شفتاه وهو يخطو نحو غرفته: إنها زوجة.
إنها زوجة. ذلك ما خاطبه به عقل الطبيب كل يوم بعد ذلك اليوم، وذلك ما استكان له قلب الشاب العاشق في كل مرة، حتى كان أمس، حين اجتمع مع زميلين من زملائه حول فراشها، ودرسوا حالها في عناية، وانتهَوْا إلى رأي خطير!
إنها لن تعيش غير شهر واحد، على أكثر تقدير.
عندئذٍ تنبه قلب الشاب العاشق في حناياه على حقيقة مروعة؛ لقد خرجت من زمام زوجها إلى يد القدر، وهو لا يملك فيها شيئًا بعد اليوم، إنَّ الأيام القليلة الباقية ملكها وحدها، وليس لغيرها أن يشاركها فيها، هكذا حدَّثه قلب الشاب العاشق منذ الأمس!
وعبثًا حاول عقل الطبيب أن يرده، وعندما دخل اليوم عند الغروب إلى حجرتها، كانت عيناها مقفلتين ومع ذلك فقد خُيل إليه أنه يرى هاتين العينين، يراهما ويُحس نداءهما الذي لم ينقطع طيلة أربعة شهور، وسار على أطراف قدميه حتى حاذى فراشها، ومال برأسه حتى أحس حرارة أنفاسها، ثم … ثم راجعته نفسه، وتحرك نحو النافذة فجذب أستارها، وأراد أن يعود من حيث أتى، فسمع نداءها وسقاها.
وفشلت جهوده في أن يقرأ سطرًا واحدًا من كتاب، ودقت التاسعة، وسكت كل شيء في المستشفى، ونطق قلب الشاب العاشق في صدره بكلام رهيب.
وتحرك مرة أخرى تاركًا حجرته وسار نحو حجرتها.
كانت الممرضة تهرول خارجة، وقد علاها الذهول، وجمد في مكانه مصعوقًا، ورأته الممرضة فاتجهت نحوه، ولم ينتظر ليسمع ما تقول، بل صاح بها في فزع: ماذا حدث؟
وترددت الممرضة، وحاولت أن تتمالك نفسها، ثم قالت في اضطراب: لا شيء! إنها تهذي! منذ نصف ساعة بدأت تتكلم وهي نائمة، تكلمت عن زوجها أولًا، ثم … جعلت تشكرك على عنايتك، ثم تطرقت إلى الحديث عنك، سألتك أكثر من مرة لماذا تتركها وحيدة و…
إنه لم يعِ شيئًا مما قالت بعد ذلك. كان يسير ببطء إلى باب غرفتها، وعندما فتح الباب، وصار أمام فراشها تلفت حوله.
كانت الممرضة قد غادرته عند الباب، وأصبح وحيدًا أمامها، مدَّ يده نحوها، وأمسك يدها بكلتا يديه، ومال ليلثم اليد الذابلة، واقتربت شفتاه فترامى إلى أذنيه همس ضعيف، فرفع رأسه إلى وجهها فَتَمَلَّكه الخجل!
كانت قد استيقظت ورأته يلثم يدها في حذر، فعلت شفتيها ابتسامة هادئة، وأشرق جبينها المضني.
وقالت في حنان: شكرًا يا دكتور، إنني أعرف كل شيء، أعرف أنها أيامٌ قلائل، ثم … ثم أنتهي، لكنني سعيدة جدًّا.
وحاول أن يغير مجرى حديثها، فقال متكلفًا الابتسام: إنك واهمة، لسوف تُشفين قريبًا، وتعودين إلى حياتك وبيتك، و…
ولكنَّها لم تدعه يتم كلامه، بل قالت في إشفاق: لقد سمعت كل شيء بالأمس، رأيت الدموع وهي تكاد تطفر من عينيك، لكن أيمكن؟ أيمكن؟!
وتداعى صوتها، وسبحت عيناها في سقف الحجرة، وسادهما الصمت لحظة، كانت يداه تطبقان على يدها وتضغطان في حرارة، وكانت يدها اليسرى قد امتدت، وأخذت تربت على يديه، وكان كل شيء يتحدث إلا لسانها ولسانه.
وأجفل مذعورًا آخر الأمر، وسحب يديه مسرعًا، وتمتم دون أن يعي: لكن … لكن، ليس لي الحق، إنني آسف، لكن … وتملكتها قوة خارقة، وغلبها سلطان لا يقاوم، كانت كأنما تهذي.
– لكن ماذا؟ إنَّ لي الحق، إنني حرة ولست لأحد، ثم ما ذنبي أنا؟ لقد قاومت ما استطعت، ثم …
وعلا نحيبها، أحسَّ بكل قطرة من دموعها جمرات من النار، تتساقط في فؤاده، لم يدرِ ماذا فعل إلا حين رأى شفاهه ترتعش، وهي تغادر جبينها الملتهب، كانت قبلته قد حملت إلى جبينها كل شيء، وعبثًا حاول عقل الطبيب أن يسترد سلطانه، أحس أنه يريد أن يبكي، وتساقطت قطرات دمعه على يديها، ومرَّت دقائق قبل أن يستعيد جأشه، وعندما هدأت ثورة بكائه سار مثقل الخطوات دون أنْ ينظر وراءه، لو أنه نظر لكان رآها، رأى المريضة المتهالكة تبتسم في فرح، وقد ملأت عينيها الدموع!
ومرت الأيام سريعة متلاحقة، وعاش منير إلى جوار فراشها ساعات طويلة، كان يحدثُها عن الشفاء العاجل، فتحدثه عن السعادة القصيرة، كان يقوِّي عزيمتها، فتسخر من الأمل ولا ترجو المستقبل.
وقال لها ذات يوم كان الموت يتحسس طريقه إلى قلبها متعجلًا قلقًا: ماذا؟ أتُحسِّين شيئًا الآن؟
وتحركت في ألم، وقالت وهي تبتسم في أسًى: أُحس أنني سعيدة، وأود لو متُّ هكذا!
وتضاحك في استخفاف قائلًا: لكنك لن تموتي، لقد قلت لك سوف تُشفين!
وضحكت في صوت مبحوح، وجرَّت الألفاظ جرًّا: أرجو ألا تَصْدق نبوءتك، إنني أريد الموت، أتعرف ماذا سأفقد لو شُفيت؟ إنني سأفقد كل شيء، أفقد الحب الوحيد الذي ذقته في حياتي، إنني سأموت سعيدة، كل ما يحزنني أن موتي سوف يعكِّر عليك حياتك، لو أنك تُحسُّ إحساسي، لو أنك تفعل ما أفعله، إنني أعيش في الأغنية الحلوة القصيرة التي منحتْنا إياها الأقدار، عِشْ معي هذه الأيام، وانفض يدك بعد ذلك عن اللحن وصمَّ أذنَيك، إني لأتمنى ألا يطول … ألا يطول، إنه جميل هكذا، كما نعيشه الآن!
وأطاع القدر هوى كوثر، فسكت اللحن ذات صباح، وآوى منير في المساء إلى غرفته، كان الظلام حالكًا، وكان كل ما حواليه يشعر بالوحشة، ولكنه لم يفكر في إنارة المصباح، بل تداعى على مقعده حائرًا، وأنصتت أذناه.
كان يريد أن يعيش لحظات مع أصداء لحن حبه القصير.