الأستاذ بغبغان
– تأمل يا محمود ريشه الأحمر ورقبته الزرقاء، هذا الخليط من الألوان الزاهية، يا له من منظر جميل!
وأدار رأسه نحو محمود، فوجده منصرفًا عن حديثه، لا ينظر نحو الببغاء، إنما نحو رجل طويل القامة ممتلئ الجسم، يرتدي يا للعجب! نفس الألوان؛ طربوش أحمر فاتح الاحمرار، جاكتة خضراء زاهية اللون، كأنما شرب كل ما في أوراق الشجر قُبيل الربيع من خضرة، وحذاءً رماديًّا يلتمع كالفضة، ورباط رقبة قد احتشدت على بساط زرقته مجموعة من الألوان تتنافس في الظهور.
ولم يكن هذا كل شيء؛ كانت هناك عصًا قصيرة صفراء، وكانت هناك أيضًا عروتا السترة، قد حُليت كلٌّ منهما بشارة مستديرة، قد رُسم عليها بالألوان صورةٌ لرجل، على ما أذكر كانت إحداهما لسعد زغلول، والأخرى لمصطفى كمال «عفريت اليونان» كما كُتب تحت الصورة إذ ذاك، ولم يكن هذا كل شيء أيضًا؛ كانت مجموعة المناديل المتدلية من جيب سترته، كأنها أعلام تزين حانوت بقال، تخطف بألوانها الأبصار.
وأحسَّ محمود بعين شقيقه تتأمله، فرفع رأسه الصغير نحوه في سذاجة وقال: أكنت تحدثني يا أخي؟
وأجاب الأخ قبل أن يفيق من دهشته لما رأى: طبعًا كنت أحدثك، لكن عن هذه الببغاء المتعلقة بأسلاك القفص.
وأجاب ببراءة: وهذا يا أخي ما هو؟
وضحك الأخ الكبير، ولكن ما لبث أن تملكته الحيرة إزاء سؤال الصغير الساذج: هو إنسان، ببغاء من نوع آخر.
وقال محمود، وهو يضحك بكل ما وسعت طفولته من صفاء: إنه كالببغاء إنه كاﻟﺑﺑ… وغلبه الضحك السعيد، وضاعت بقية الحروف في ثنايا الحنجرة المنتشية.
وسارا في حديقة الحيوان من جديد يستأنفان جولتهما، ورأى محمود في هذه الجولة كل الطيور، وكل الزواحف وكل الحيوانات، وأحسَّ قلبه الرعدة لصوت الأسد، وطفق يستمع إلى قصص أخيه الضابط عن الأسود التي رآها في السودان، وكان يمتلئ زهوًا كلما قصَّ عليه أخوه مغامرة من مغامراته التي صاد فيها الأسود، وعاد من رحلته آخر اليوم بنفسٍ عامرة بالأحاسيس، وصحا في الليل مرات على زئير الأسد ودمدمة رصاص أخيه، وهو يحصد أرواح الأسود كأنه يقطف ثمار شجرة مكتظة بالثمار، ومرت الأعوام وكبر محمود وصار طالبًا بالجامعة.
وتعوَّد أن يذهب مع أصدقائه كل أسبوع إلى حديقة الحيوان، يجولون فيها حتى يغلبهم التعب، فيأوون إلى جزيرة الشاي ليريحوا أجسادهم، ويقطعون الوقت حتى موعد الغداء في تسلية بريئة؛ يُلقون قطع الخبز الصغيرة للطيور السابحة على سطح البحيرة، ويلقون نظرات للعيون السابحة خلف الموائد، كانت هذه العيون تتجمع حول فُتات النظرات العابرة كما يتجمع البط على فُتات الخبز، وتبدأ معركة الكسب لحظة ثم تنتهي حين تظفر بطة وحدها بالفُتَات، وحين تظفر عين وحدها بالنظرة العابرة، وعندما تحين الظهيرة الراكدة كان البطُّ يأوي إلى الصخور قانعًا بما كسب من فُتاتٍ، وتأوي العيون إلى الأجفان قانعة بما نالت من نظرات، وتبدأ فترة خمول، كان محمود ورفاقه يتغلبون عليها بالتجوُّل مرة ثانية في جنبات الحديقة، وينتهي المطاف عند الباب قريبًا من أقفاص الببغاوات، هناك كانت تطول وقفتهم، يتأملون الألوان الزاهية كيف تجمَّعت على جسدٍ واحد، وفي كل مرة كان محمود يذكر أول مرة رأى فيها الببغاء، ورأى الرجل الزاهيَ الألوان كالببغاء، يذكر جملة أخيه: إنه ببغاء من نوع آخر.
وخرج محمود إلى الحياة بعد سنوات، وعمل موظفًا بإحدى الوزارات، وجلس في حجرة مع أحمد أفندي، أشهر شخصية في موظفي الوزارة.
ودهش محمود أول يوم دخل فيه إلى حجرة عمله، حين قال له زملاؤه الجدد كأنهم على ميعاد: ألم تتعرف بأحمد أفندي؟
وكان عهده بهذا الاسم منذ نصف ساعة، حين قال له مدير المستخدمين، وهو يشرح له عمله، وينبئه بالمكان الذي اختير له: إنك سعيد يا بني؛ لأنك ستشتغل في قلم المراجعة، فرئيسك أو على الأصح أكبر زملائك سنًّا ومرتبًا هو الرجل الصالح أحمد أفندي.
لذلك أجاب زملاءه من غير دهشة: لم يحصل لي الشرف بعد، أرجو أن أتعرف إليه قريبًا، إنه ليس هنا على ما أظن؟
وأجاب زملاؤه في صوت واحد: إنه في الحج، عقبال عندك.
وأخذت تتوالى على أسماعه أنباء أحمد أفندي: تقواه، صلاحه، زهده، شفقته، طاعته للرؤساء، تواضعه مع الجميع … كان ينقص صورة أحمد أفندي التي ارتسمت في ذهنه جناحين فقط لكي يصبح ملاكًا من الملائكة.
وعاد أحمد أفندي من الحج، بعد أيام، يحمل لكل زملائه الهدايا، مسابح من الكهرمان، خواتم من الفضة، قطعًا من أستار الكعبة الطاهرة، مصاحف مموهة بماء الذهب … وخرجت الوزارة كلها ذلك اليوم تحمل هدايا أحمد أفندي، الرجل الصالح، هداياه المباركة الطاهرة.
وخرج محمود وحده ذلك اليوم وفي صدره نزاع خفي بين قلبه وعقله، بين إحساس عينه وإحساس أذنه، شعر قلبه بالكراهية نحو أحمد أفندي، فاحتج عقله في حماس وقال له: أنت ذو شعور كاذب تكفر بما تراه من تقوى وورع، ألا ترى زبيبة الصلاة في جبين الرجل، والنور الذي ينبجس من عينيه، والآيات التي يستعيذ بها، ويرسلها في كل حين، تخونك هذه المسبحة التي نفحك إياها، رغم أنه لم يعرفك إلا اليوم، ومضت أذنه تردد — عن غير قصد — كل ما وعته من أقاصيص أحمد أفندي؛ أقاصيص تفوح منها المكارم كرائحة العنبر والمسك، ولكن قلبه وعينه ظلَّا جامحَين بعيدَين عن مظاهرة الإعجاب بالرجل المعبود. عينه لم ترتح لهذا الرجل من أول نظرة، وفي النظرة الثانية تأكد إحساسها، وأيقنت أنها لن ترتاح إليه أبدًا، وقلبه أحسَّ بالكره لكل شيء فيه، حديثه المملوء تقوى وورعًا كان ينتقل على صفحات هذا القلب كأنه أقدام شيطان تطأ عقول البُله والمعتوهين، آيات القرآن التي يرتلها من حين إلى حين، كان يترجمها قلبه إلى أحرف لا حرارة فيها ولا روح، جافة ينقصها الوعي بها، ذلك الوعي الذي يجعلنا نُحسُّ الألفاظ ونعرفها، كانت الكلمات تخرج من فِيهِ كأنها صوت عملة زائفة، يرن في أذنٍ واعية، تعرف الغث من السمين.
وأتاح الشكُّ في أحمد أفندي وعدم الإيمان به لمحمود أن يرقب عن كثب حركاته وتصرفاته، كما يرقب المارد حركات قزم يبذل جهده لكي يبدوَ عملاقًا، فحين كان ينهض أحمد أفندي فزعًا عند الظهر ليؤديَ واجب الصلاة وهو يحوقل ويتمتم، فيتحسر زملاؤه على قلة نصيبهم من التقوى وتكاسلهم عن أداء الفرض، كان محمود يقول لنفسه: مظاهرة سخيفة، كان يستطيع بدل هذه الضجة أن ينتظر حتى يئوب لمنزله، فيؤدي واجبه بينه وبين الله، بعيدًا عن الناس.
ونما الشكُّ والكره حتى أصبح بغضًا ثقيلًا، دون أن يملك محمود إزاء ذلك شيئًا، وبدأ محمود يُحس أنَّ الرجل ينظر إليه بحذر، ويكف عن رواية أقاصيص تقواه كلما كان محمود في الحجرة، بل بدأ يُحسُّ أنَّ الرجل يتخاذل كلما التقت عيونهما، حتى لتكاد عيناه تقولان له: أتوسل إليك لا تفضحني، إنك تعرف كل شيء!
وجاءت سنوات الحرب الطاحنة، وغادر محمود وأسرته الضاحية الجميلة إلى المدينة فرارًا من أزمة المواصلات، واختارت الأسرة شقة في حيٍّ من الأحياء الوطنية، وتعوَّد محمود أن يقضيَ سهراته في المنزل هربًا من الظلام، وآوى ذات ليلة إلى فراشه في التاسعة، وجلست أمُّه على حافة السرير، تقصُّ عليه من أنباء الحي الجديد ما علمته خلال الأيام القلائل التي مضت عليهم منذ سكنوه …
وقالت وهي تشير إلى نافذة الجيران: ويقطن هنا رجلٌ يقصُّون عنه قصصًا غريبة؛ فهو متزوج من أربع نساء، إحداهنَّ أصغر من ابنته الكبرى، دفع لها مهرًا ضخمًا جمعه من بيع مصوغات زوجاته الثلاث اللائي ينلن قسوته ووحشيته، مسكينة زوجته الأولى، لقد زارتني أول يوم لتهنئني بالمسكن الجديد، لقد أوشك بصرها أن يُكفَّ من كثرة البكاء، ومن المدهش أنه ذهب إلى الحجِّ هذا العام، وقد حلفت لي زوجته أنها حلمت ليلة سفره أنَّ الكعبة قد انهارت فوق رأسه، وأنها ذهبت في اليوم التالي لقريب لها من العلماء، وقصَّت عليه حلمها فقال لها: إنَّ زوجها لن يقبل منه الحج.
وقال محمود لها وهو يضحك: أفٍّ للنساء! كل هذا؛ لأنه تزوج غيرها!
وأجابت أمُّه: وأنت؟ أتظن أنَّ الله يقبل حج مثل هذا الرجل المرابي؟
– مُرابٍ؟
– أجل، لقد قالت لي المسكينة إنَّ زوجها يُقرض صغار الفلاحين في بلده بفائدة فاحشة، ويرتهن أراضيَهم، ويستولي عليها بحِيل شيطانية، وأنه ما مِن فلَّاح في بلده إلا وقد وقع في حبائله، ولا همَّ له إلا الزواج والطلاق! ولولا أنَّ لهذه المسكينة منه ثلاث بنات لطلقها، كما طلَّق لاحقتيها.
ومضت الأم تقصُّ حديث الجيران، حتى تأخر الليل، فنهضت إلى فراشها.
ومر يومان، وكان محمود يغادر باب منزله، حين دوَّى في أذنَيه صوت يكرهه؛ كان صوت أحمد أفندي يناديه.
وأدار رأسه فوجده يغادر عتبة الباب المقابل لمنزله.
وقال أحمد أفندي، وقد تهدج صوته من الورع: أتسكن هنا يا ابني؟
وأجاب محمود ذاهلًا: أجل، منذ أيام!
– أنتم إذن الذين زارتكم زوجتي؟
– أظن ذلك، حضرتكم تقطنون؟
– أمامكم في هذه الشقة.
وسارا معًا في الطريق، كان محمود غارقًا في أفكاره، كان ذهنه يمضي بعيدًا إلى حديقة الحيوان، الطائر الزاهي الألوان، والرجل الزاهي الألوان، لقد قال أخوه عن هذا الرجل: إنه ببغاء من نوع آخر، إنه كان زاهيًا تصطرع على ثيابه الألوان حقًّا، لكن من الداخل ماذا كان هناك يا ترى؟
وعاد إلى أحمد أفندي، عاد إلى الرجل الزاهي، الذي يعرفه الجميع ويتحدث عنه الجميع، عادت إلى ذهنه صورة زبيبة الصلاة، الفزعة الرهيبة لدعاء الصلاة ساعة الظهر، المسابح الكهرمان، الحج، ثم هذه الآيات التي تنشرها شفتاه في كل مناسبة، لقد كان عقله كاذبًا وكان قلبه صادقًا، لقد كان أحمد أفندي ببغاء من نوع آخر.