حواءُ لا تُقهر
التقيتُ بها في القطار، ذاهبة لزيارة أختها في دمنهور …
إنني أعرفها مذ كنا في الجامعة.
أعرف غطرستها وكبرياءها، وأعرف أنها كانت أجمل وجه بين الطالبات، وأنَّ أحد الطلبة أحبها ثلاث سنوات، وكان الحب من طرف واحد، فلما ضاق بما يحمل كتب لها خطابًا، كان حارًّا إلى حدٍّ بعيد، فأحست بسخونته (مس فاني) مراقبة الطالبات، ففضت غلافه، وبدلًا من تسليمه إليها سلمته إلى إدارة الكلية، وكانت النتيجة أن مُنح الطالب إجازة لمدة عام كامل، يلطِّف فيها أوار قلبه، ويرطِّب أعصابه الدافئة!
وسار بنا القطار فترة قبل أن نتكلم، وكانت لاهية، تتصفح مجلة سرعان ما سئمتْها، فألقتْها بجوارها، وعندئذٍ التقت عيوننا فابتسمتُ!
وقلتُ لها: إن لم تخني الذاكرة فأنتِ هي فينوس؟!
وأجابت دهِشةً: مَن فينوس؟!
– أنتِ بلا شك، إنه ليس اسمك فعلًا، لكنَّه الاسم الذي أطلقناه عليك. ألا تذكرين «فلانًا» ورسالته التي أسماك فيها «فينوس التي تسير على الأرض»؟!
وبدت كأنما تستعيد الماضيَ، وعلت شفتيها ابتسامة يخالطها الأسى، وقالت: مسكين! لقد ذكرت الآن، تعرف؟ لقد كان سيء الحظ صاحبك هذا، لو كانت رسالته وقعت في يدي لَمَا حدث شيء من ذلك، لكن ما ذنبي أنا؟! تصوَّر موقفي لو قلتُ لهم إنني أعرفه؟!
قلت: وماذا كنتِ فاعلة لو أنك تسلمتِ رسالته؟
– لا شيء طبعًا، إنَّ لديَّ سلة مهملات واسعة لمثل هذه الرسائل … إنَّ الخطأ الذي تقع فيه فتاة هو أن تستعمل قلبها لحفظ رسائل الحب بدلًا من إلقائها في سلة المهملات.
قسوة مني؟! ما ذنبي؟! إنه حبٌّ من طرف واحد، كيف أتقيد به أنا؟!
وقلتُ وأنا أتنهد: صحيح، لا تتقيدي به ولا بغيره، لقد كانوا كثيرين، هؤلاء المغرمين!
وفهمتْ ما أعنيه، فقالت على الفور: أنت مثلًا، كنتَ واحدًا منهم، لكنك تصرفت بعقل؛ فلم تزِدْ على النظرات الذليلة المستعطفة والكرفتات الزاهية، التي كانت تتدلى على صدرك وكأنها تصيح لفرط احمرارها قائلة: «أنا هنا»، فلما أهملتُكَ اختصرت الطريق، وحوَّلت نظراتك صوب «…»
وقاطعتُها مستدركًا: صوب سنية؟ أتعرفين أين هي الآن؟!
– سمعتُ أنها تزوجت.
– إنها في منزلي … أمٌّ، ولها ولدان!
– ولهذا خلعت كرفتاتك الزاهية … لا داعي طبعًا للفت الأنظار.
هل تعرف أنني أيضًا تزوجت … و… وطلقتُ زوجي بعد شهرين؟
– طلقتِه؟!
– أي نعم، بعد شهرين كدتُ أختنق فيهما …
– كان رديئًا إلى هذا الحدِّ؟!
– أنا التي كنت رديئة؛ لم أعرف كيف أعامله …
– قاسية كعادتك؟!
– بالعكس، ضعيفة للمرة الأولى، والأخيرة.
ومضت تقصُّ عليَّ قصتها … إنها تزوجته لأنها اعتقدت أنها تحبه وأنه يحبها. كان رقيقًا معها قبل الزواج، لا يفعل شيئًا دون أن يستشيرها، بل لا يفكر بالمرة في عمل أي شيء. كانا يخرجان للنزهة ويسيران صامتين، لو سارا ساعات ما كان يفتح فمه بكلمة ولا اقتراح. كان يفرض عليها دائمًا أن تسود الموقف، وأن تتصرف … هي التي تسأل إلى أين يذهبان، وهي التي تجيب، وهي التي تنادي السيارة، وهي تقترح اسم السينما، وعندما تزوجا اكتشفت الرجل بكل معايبه، قاسٍ ومستبد ومتغطرس … كل صفاته الأولى انقلبت إلى نقيضها؛ بدلًا من الاستماع لها أصبح يرغمها على أن تنصت له، بدلًا من أن تلقيَ أوامرها، أصبح هو الذي صدر الأوامر، بل أصبح لا يطيق أن تقترح شيئًا … قالت إنهما خلال الشهر الثالث لم يتفقا على شيء، إلا الطلاق، وقد تَمَّ!
وقلت لها بعد أن أتمت حديثها: لكن، ألا يجوز أنه على صواب؟ إنه أوسع منك تجربة ودراية.
وأجابت غاضبة: ولِمَ يكون أوسع تجربة؟ هل تعلَّم أكثر مما تعلمت؟
– لا، ولكنَّه رجل.
– آه، عُدنا للأفكار السخيفة، أتعرف أننا لن نتقدم حتى لا يعود هناك فارق بين الرجل والمرأة؟
– أكثر مما ترين الآن …
– بل أكثر مما تتصور. لقد كان كل الخلاف بيني وبين زوجي أنه كان يريد أن يغلِّب إرادته دائمًا.
وقلت وأنا أُبدي التأثر: أنا معكِ في هذا. إنه مخطئ بلا شك. هذا استبداد.
– ولهذا طلَّقته!
قالتها وهي مرتاحة الضمير، كأنما وجدت مَن يفهمها. وانتظرت أنا حتى انتهى صفير القطار، فقلت: مساكين هؤلاء الرجال! تصوري زوجك هذا مثلًا، لا شك أنه كان يحبك.
– يحبني؟! إنك لا تتصور كيف كان يحبني، لو قلت إنه كان يعبدني لما أخطأت التوفيق، لكن ما العمل؟ لو لم يكن عنيدًا!
وقلت متحمسًا: وها هي نتيجة العناد، أن يفقد فينوس ويخرج من الجنة، ولِمَ كل ذلك؟ لأنه أصرَّ على أن يحبس العصفور، ويقف خارج قفصه الذهبي ليسمع تغريده … كان يجب عليه أن يفعل العكس، أن يغلق على نفسه القفص، ويطلق العصفور ليغرد حيث شاء!
ولكني لم أُتمَّ كلامي؛ فقد انقلب اطمئنانها إلى نظرة غاضبة، وقالت مستنكرة: ماذا؟! هل تسخر مني؟! إني لم أقل إني أريد وضعه في القفص.
– لكنكِ قلت!
– أنا؟!
– أجل، ألم يغضبك أنه لم يعد يستمع إليك؟ الذي أثارك هو أنك لم تعودي الآمرة، وأصبح هو الآمر … المسألة إذنْ خلاف على السيادة!
– بل على الحرية، المساواة التي قِيل إننا نلناها.
– تستمتع بها، وتفيد منها الإنسانية.
– أبدًا، إنها ستبحث عن مطالب جديدة.
– ؟!
– منذ خمسة وعشرين عامًا، عندما خُلع عنها الحجاب، ونزلت إلى الطريق، وقيل لها أنتِ حرة … قولي شيئًا، افعلي شيئًا، أتعلمين ماذا فعلتْ؟! أخذت تطلب أشياء أخرى، من يومها إلى الآن لا تفعل شيئًا إلا أن تطلب، وتطلب، وتطلب، في كل مناسبة وبلا مناسبة، لم تخرج عن دورها الدائم في مواجهة الرجل؛ دورها الخالد «هات لي» هي بنفسها أُمُّنا حواء، حين أرهقت أبانا آدم بالمطالب، حتى على أبواب الدنيا لم تغلق فمها لحظة واحدة لتندم على ما جرَّته عليه حماقتها من متاعب، لا شيء إلى الآن استطاع أن يغلق فم المرأة عن المطالب.
وكدت أن أستمر لولا ضحكة عالية بُهِتُّ لها … إنها فينوس نفسها التي تضحك … لا أذكر أني قلت شيئًا يثير الضحك، ومع ذلك فقد مضت في الضحك، على حين ظللتُ أنا مبهوتًا.
– استمِر يا أستاذ، استمِر.
– كلامي لا يروقك؟
– أبدًا، إنني لم أسمع نصيرًا للمرأة في مثل حماستك، أتعرف أنَّ المرأة لا تطلب شيئًا، إلا أن تنتصر آراؤك؟
– لا أفهمكِ؟
– قل لي أولًا: أتختلفان كثيرًا أنت وسنية؟
– لا كثيرًا ولا قليلًا.
– كيف؟ ألا تطلب منك شيئًا؟
– لم تطلب مني؟ … إنَّ لها في كل شيء مثل ما لي، أنا بالعكس الذي أرهقها بمطالبي!
– اتفقنا يا أستاذ!
– علامَ؟
– على أنَّ ما تطلبه من المرأة، هو ما أطلبه أنا لها … أن لا يملك الرجل شيئًا لا تملكه هي، فتضيِّع الوقت في طلبه … ألم تقل إنَّ سنية لم تطلب شيئًا منك لأن لها مثل ما لك؟ هذا ما كنت أطلبه أنا أيضًا … لقد ذكرت القفص الذهبي، أتدري ماذا كنت أريده بثورتي على هذا القفص؟
– أن تخرجي منه؟
– مع شرط هين!
– ما هو؟
– أن يتحطم بعد خروجي منه توًّا.
– أكاد لا أفهمكِ أيضًا.
– بل تفهمني جيِّدًا … كل ما يشوب أفكارك هو أنك لا تفهم الحياة بغير قفص ذهبي، وبغير عصفور حبيس، رجلًا كان أو امرأة، هذا هو كل ما يشوِّه أفكارك.
كان القطار قد وصل إلى مشارف دمنهور، وتهيَّأت فينوس للنزول، فأخذت تصلح زينتها … كانت كما رأيتها آخر مرة على دَرَج الكلية وهي تهبط حاملة في أذيال ثوبها آمال أكثر من طالب، فقلت مداعبًا: عفا الله عن صاحبنا الذي أسماكِ فينوس!
قالت وهي تبتسم: وماذا كنتَ تريد أن يسميَني؟
– كنت أُوثِر أن يكون اسمك حواء، حواء التي لا تُقهر.