رجل نبيل
عندما عرفت الأستاذ منصور، لم يخالجني شكٌّ في أنني سأنسى كل شيء عنه في اللحظة التي ينصرف فيها، فلم يكن فيه ما يبعث على الاهتمام؛ لا في وجهه بقَسَماته المعتدلة، ولا في صوته الهادئ الوتير، حتى اسمه بألفاظه الثلاثة المألوفة، منصور محمد حسن، كان من الأسماء التي يمكن أن تُنسى بسهولة، فإن لم تُنسَ فلا بدَّ أن تختلط ويصعب ارتكاز الذاكرة على لفظٍ واحدٍ منها.
وقد صحَّ ما توقعته عندما لقيته في المرة الثانية بعد شهور؛ ففي الوقت الذي لقيني فيه بحرارة وشوق، صافحته أنا ببط محاولًا أن أذكر وجهه، وما كدت أذكر أنَّ هذا الوجه أعرفه حتى نشأت مشكلة الاسم، ولو لم تسعفني الذاكرة بإحدى كلمات اسمه لَظلِلْتُ صامتًا، أهزُّ يده، أو أستجيب بيدي لهزات يده في بلاهة، دون أن أنطق بحرفٍ واحد.
ولكنني قلت أخيرًا: كيف حال الأستاذ حسن؟
وقال مصححًا في سذاجة: منصور يا أستاذ، لقد نسيتني!
وأعدتُ مستنكرًا: كيف نسيت؟ الأستاذ حسن منصور.
فقال وهو يضحك: منصور محمد حسن، ألم يقدمني إليك صديقنا مرسي؟! ألم أقل لك إنك نسيت؟!
وأمعنت في استنكاري قائلًا: سبحان الله يا أستاذ! أنا نسيت؟ لقد كان ذلك منذ شهرين في حفلة نادي التجارة، وكنت حضرتك جالسًا بجانب مرسي، فقدمني إليك وخرجنا معًا.
وكان هذا كله صحيحًا، كان النادي أقام حفلة منذ شهرين، وكنتُ جالسًا إلى جانب مرسي، زميل الدراسة، فقدمني إلى أحد أصدقائه وخرجنا في نهاية الحفلة نحن الثلاثة، وافترقنا عند محطة الأتوبيس، كل ذلك كان صحيحًا، لكنه لا يمنع الحقيقة الواقعة، إنني نسيت كل ما يتصل بهذا الرفيق الثالث، ومرَّ تعارفي به على حافة ذاكرتي المكتظة، فلم يخلف أثرًا.
وكانت المرة الثالثة التي نسيت فيها الأستاذ منصور يوم قابلت صديقي مرسي، فقصصت عليه نبأ لقائي مع صديقه، وحاولت أن أتذكر اسمه فما استطعت، حتى ذكره مرسي قائلًا في عتاب: يا رجل؟ أتنسى منصور؟ إنه شخصية فذَّة؟
وقلت مدافعًا: لو كان كذلك ما نسيته!
– بل إنك لم تعرفه جيِّدًا، ولو أنك عرفته لأحببته ولم تنسَه قط … ومضى يقص عليَّ ما يعرفه عن منصور، حتى أثار اهتمامي به، وجعلني آسف لعدم اكتراثي له … إنه كما صوَّره لي شخصية خرافية، هربت من تاريخ أيام مجيدة، تسودها البطولة والشرف لتعيش في الحياة الصاخبة الماجنة، شخصية غريبة إذا عددنا عالمنا المضطرب مألوفًا لا غرابة فيه …
ولقد حققت الأيام صِدق هذه الصورة، وعندما لقيت منصور أفندي في المرة الرابعة لقيته على ألا أنساه، بل لعلني لم أعتزَّ بشيء قدر اعتزازي بهذه الرسالة التي لم تُكتب لي؛ لأنها رسالة من منصور، تنعكس عليها صورة من صور هذا المخلوق الخرافي النبيل …
كنَّا أربعة في الحجرة المتسعة نعمل عملًا واحدًا، عملًا بغيضًا، أبغض ما فيه أنه لا يتغير، أكوام من الأوراق نقرؤها ونراجع ما فيها، كان عملنا من الدقة بحيث إنَّ أقل خطأ يرتكبه أحدنا لا يمكن أن يئول بالسهو والنسيان، قبل أن يئول بالتواطؤ والاتفاق مع عملاء الحكومة، ولقد رأيت بعيني زميلًا لي يخرج من مكتبه إلى عرض الطريق مشرَّدًا لخطأ ارتكبه، فأضاع على الحكومة بضعة ألوف من الجنيهات صُرفت خطأً لمقاول لم يكن قد قام بكل ما طُلب إليه من أعمال.
وإلى هذه الحجرة جاء منصور ذات صباح؛ ليعمل زميلًا لنا، وكان هذا لقاءنا الرابع.
وقال وهو يهزُّ يدي في حرارة، كما فعل أول مرة: وأخيرًا، يريد الله أن نعمل معًا يا أستاذ، لقد نُقلتُ إلى هنا منذ اليوم، فقدِّمني لزملائك!
ولازمني التوفيق هذه المرة، فذكرت الكلمة الأولى من اسمه، وقنعت بتقديمه إلى زملائي على أنه صديقي الأستاذ منصور!
ومضت الأيام لتكشف لنا عن مزايا منصور، حتى إذا كان الشهر الثامن وجدناه — دون أن يسعى إلى ذلك — بمثابة الرئيس والوالد، كان أكبرنا سنًّا، وأكبرنًا مرتبًا، وكان — وهو الأهم — أدقنا وأحرصنا، وأدرانا بالعمل، ولم تقفْ صلتنا بمنصور عند آصرة الزمالة؛ فقد أصبح صديقًا شخصيًّا لكلٍّ منَّا، يشاركه في أفراحه ومتاعبه، ولا يبخل بالعون له من جهده أو ماله، وسرعان ما أحالنا هذا الرجل العجيب إلى أسرة واحدة، كان هو لها بمثابة الأب، وكنا نحن الأربعة بتفاوت أعمارنا وتفاوت نزعاتنا كأبناءٍ لأب واحدٍ سُوِّي كلٌّ منهم على خُلق يميزه … مصطفى بوقار الكهولة الزاحف إليه مع بواكير العقد الخامس، وحامد باتزان الشباب الزاحف إلى الرجولة مكبلًا بأولاده الأربعة، وسيد بحرارة الشباب الباكر وآماله، وذلك المرح الذي تفيض به نفس شابٍّ عاشق يوشك أن يحظى بليلاه، ثم أنا، في منتصف الطريق أتطلع إلى الرجولة، وأتمهَّل الشباب، وكان مقدرًا لهذه الأسرة أن تظلَّ في هنائها، لولا ما يصيب الأسر أحيانًا!
وكان مُصاب أسرتنا ذات يوم حين دخل الفراش يستدعي أحدنا لمقابلة الرئيس!
وتبادلنا النظر، وكاد كلُّ واحد منَّا يهم عن كرسيه، لولا أنَّ منصور كان قد سبقنا، فنهض متجهًا إلى الباب!
ومرَّ نصف ساعة عاد إلينا بعدها واجمًا، وجلس إلى مكتبه دون أن يقول كلمة، وأخذ يقلب ما أمامه من أوراق، وكأنه لا يُحس وجودنا، فأحسسنا أنَّ شيئًا قد وقع له، ولكننا لم نجرؤ على سؤاله، واكتفينا بمشاركته الوجوم!
وفي اليوم التالي قال لنا منصور إنه ارتكب خطأً تداركته المصلحة قبل أن يستحيل كارثة، وإنَّ الرئيس دعاه ليناقشه الحساب، وإنه يتوقَّع بين لحظة وأخرى توقيع العقاب عليه!
وبعد أسبوع دخلنا المكتب، فقرأ علينا منصور — وهو يضحك — قرار نقله إلى أقصى الصعيد، ووقْف علاوته عامًا كاملًا؛ لأنه أهمل إهمالًا كاد يؤدي إلى ضياع بضع مئات من الجنيهات على الحكومة، ولولا طول مدة خدمته واستقامته طوال هذه المدة لكان العقاب أشدَّ صرامة.
وقال منصور ونحن ذاهلون: أليس عجيبًا أمر هذه الحكومة؟! أعمل بها ستة وثلاثين عامًا في كلٍّ منها حسنات وحسنات، فتتمهل في إثابتي طول هذه الأعوام، وأخطئ مرة واحدة، فتعاقبني خلال أسبوع؟!
وما كان فينا من يجيب. كانت رءوسنا إذ ذاك تستعيد كل يوم قضاه بيننا منصور، وننتهي إلى ذلك اليوم القريب الذي سنقف فيه لتوديعه! ولن أنسى أبدًا ذلك اليوم، لن أنسى وداع منصور الحار لكلٍّ منَّا، لن أنسى قُبلته الجياشة التي طبعها على جبين سيد، أصغر أفراد أسرتنا، لا أدري لِمَ لازمت خيالي تلك القبلة طوال اليوم، وارتبطتْ في نفسي بقبلة أمي الأخيرة، التي طبعتها على جبين أخي الأصغر، وهي تودِّع الحياة! ومرت الأيام بعد فراقنا لمنصور وئيدة متباطئة، وانقضى الأسبوع الأول والثاني، وبدأ شبح رب الأسرة يبعد، وبدأت الأسرة تستحيل من جديد إلى زمالة عمل، وزال هذا السحر الذي كان يصور لنا حجرتنا كأنها منزل إخوة أربعة، وعدنا من جديد إلى المكاتب الخشبية، والأوراق الجافة الميتة، وأحاديث الأرقام والأعداد، رجعنا آلات في عجلة الحكومة.
وكنتُ منكبًّا على عملي، حين انتبهت على صوت سيد يصيح في استنكار: الله! مستحيل؟
ورفعت رأسي فرأيت سيد يقلِّب في حزمة أوراق، محملقًا فيها ورقة ورقة وهو يردد: هذه الأوراق؟! إنه خَطِّي أنا!
وقمتُ أنا وحامد، وسرنا نحو سيِّد لنرى ما حدث، فدفع إلينا بما في يده من أوراق قائلًا: خذوا! اقرءوا! هذا مستحيل!
وأمسكت بالأوراق وأخذت أتأملها، كانت خاصة بمناقصةٍ رَسَتْ على أحد المقاولين، ومضى المقاول في عمله بضعة شهور، ثم توقف طالبًا صرف جزء كبير من قيمة أجره، وقد طلبت إلينا المصلحة الحكومية المختصة أن نقرر ما نراه فيما أتمَّه المقاول من عمل، وهل يعادل ما يطلب من قيمة الأجر، لتنظر في طلبه على أساس هذا التقدير.
وقفزت عيني إلى نهاية الأوراق، فقرأت إقرارًا بجواز صرف المبلغ الذي يطلبه المقاول، قد وقَّع عليه منصور بإمضاء واضح، فلما أمسكت بالورقة الأخيرة وجدتها خطابًا من المصلحة المذكورة تنبِّهنا فيه إلى خطئنا، وتنبِّئنا أنها قد تداركته، وتطلب من الوزارة اتخاذ ما ترى نحو المتسبب في هذا الخطأ.
وبدا الأمر طبيعيًّا في نظري؛ هذا الخطأ هو الذي أطار من بيننا منصور، فما دخْل سيد في الموضوع؟
وكأنما أدرك سيد حيرتي فقال منفعلًا: لم تفهموا طبعًا؟ أنا أشرح لكم، هذه الأوراق خرجت من عندي، أنا الذي راجعتها، وأنا الذي أخطأت، وهنا كل إمضائي المختصر … مكان توقيع منصور الكامل هذا … انظروا إذنْ على مَن وقع الجزاء … عليه هو! كيف حدث ذلك؟!
ووقفنا ثلاثتنا حائرين، وقال حامد ذاهلًا كأنه يحادث نفسه: وما العمل؟
وصاح سيد وهو يطوي الأوراق تحت إبطه: العمل؟! العمل أنه يكفي خطأ واحد، سأصحِّح ما حدث!
وتحرك نحو باب الحجرة، ولكنه لم يكد يخطو بقدمه حتى ارتفع صوت مصطفى — كان وحده الذي ظلَّ جالسًا على مكتبه: هوِّن على نفسك يا سيد، إنَّ المصلحة لم تخطئ في توقيع العقوبة.
وقال سيد مدهوشًا: لم تخطئ؟ لقد جُوزيَ منصور على خطأ وقع منِّي!
وأجاب مصطفى دون أن يتخلى عن هدوئه: فعلًا، أنت الذي أخطأت، لكن منصور هو الذي أراد أن لا تعاقَب عندما استدعاه الرئيس، وطلب منه أن يسألنا أيُّنا المخطئ، قال إنه هو نفسه، واعتذر من عدم وضوح إمضائه، وأمضى فوق إمضائك المختصر باسمه كاملًا واضحًا.
وقال سيد والألفاظ تتعثر على شفتيه: لكن كيف ذلك؟ لماذا فعل ذلك؟
وأخرج مصطفى من أحد أدراج مكتبه خطابًا فض ظرفه، ودفع به إليَّ.
إنه بخط منصور، الرسالة التي أحتفظ بها إلى اليوم، ولو أنها لم تُكتب لي، إنها صورة الأستاذ منصور، المخلوق الخرافي النبيل في عصر الواقع الملوث!
ولا تنسَ يا مصطفى واحدًا دون أن تبلغ تحياتي الصادقة وأشواقي على الخصوص إلى ولدنا سيد … أستحلفه بالله أنه إذا عرف ما حدث أن يفهم الموقف على حقيقته، صحيح أنه أخطأ خطأً جسيمًا، ولكن هل كانت الحكومة ستعرف عندما تفكر في عقابه أنه شابٌّ في مقتبل الحياة، ويوشك أن يؤسس بيت الزوجية؟ لقد كان خطؤه كفيلًا — في نظرها — بالقضاء على مستقبله، وهو موظف تحت الاختبار … أيُّ كارثة كانت ستحدث، وفي انتظاره عروس تبني عليه ويبني عليها الآمال؟ أما أنا، حصان الميري العجوز، فما يعدو الأمر بالنسبة لي أن يكون نقطة سوداء في مجلد حافلٍ بالبياض، يعز على الحكومة أن تمزقه كله … إنَّ أسوان جميلة في عيني القانعة، وفي عينَي زوجتي التي طوفت معي ثلاثين عامًا؛ فهي لا تزيد على رحلة خلوية، كعشرات الرحلات التي قمنا بها في شتى بلاد القطر، إنَّ أقل اعتراض أو إنكار من سيد سيضيف إلى عقوبتي عقوبة جديدة، عقوبة التزوير في أوراق رسمية، ودعه يقارن بين السجن وأسوان؛ أسوان الرخيصة الجميلة الهادئة، إنه أحسن مكان يستجم فيه أمثالي بعد طول التطواف!
ومضيت أقرأ دون أن أعيَ شيئًا، ولكنني حين طويت الرسالة، كان سيد قد جلس متخاذلًا على كتبه، وقد أغمض عينيه.
لعله كان مثلي، لقد كنت في تلك اللحظة أحاول أن أستعيد في خيالي صورة منصور بقَسَماته المعتدلة، وصوته الهادئ، واسمه المألوف … ذلك الإنسان الزاهد في عالم التكالب والافتراس، وكأنه هارب من التاريخ المجيد!
وما كان أسهل عليَّ من استعادة صورته، بعد ذلك اليوم!