السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ
(١) اهْتِدَاءُ السَّاحِرِ إِلَى «عَلَاءِ الدِّينِ»
وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، كَانَ «عَلَاءُ الدِّينِ» يَلْعَبُ مَعَ رِفَاقِهِ — عَلَى عَادَتِهِ — فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ غَرِيبٌ، تَدُلُّ مَلَامِحُهُ وَزِيُّهُ (شَكْلُهُ وَهَيْئَةُ مَلَابِسِهِ) عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُكَّانِ الصِّينِ.
وَمَا إِنْ رَآهُ الْغَرِيبُ حَتَّى وَقَفَ يَتَأَمَّلُ فِي هَيْئَتِهِ، وَيَتَفَرَّسُ فِي مَلَامِحِهِ (يُدَقِّقُ النَّظَرَ، وَيَتَأَمَّلُ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَشَابِهِ وَجْهِهِ). وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ سَاحِرًا مَشْهُورًا، وَقَدْ نَشَأَ فِي أَحَدِ بِلَادِ الْقَارَّةِ الْإِفْرِيقِيَّةِ، وَتَعَلَّمَ السِّحْرَ — مُنْذُ نَشْأَتِهِ — وَبَرَعَ فِي فُنُونِهِ. وَكَانُوا يُلَقِّبُونَهُ بِالسَّاحِرِ الْإِفْرِيقِيِّ. وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الصِّينِ مُنْذُ يَوْمَيْنِ. فَلَمَّا رَأَى «عَلَاءَ الدِّينِ»، وَقَفَ يَتَفَرَّسُ فِي أَسَارِيرِ وَجْهِهِ (خُطُوطِ جَبِينِهِ)، وَيَتَأَمَّلُ فِي صُورَتِهِ؛ ثُمَّ سَأَلَ أَحَدَ الْأَوْلَادِ عَنِ اسْمِهِ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّ اسْمَهُ «عَلَاءُ الدِّينِ» فَرِحَ وَاسْتَبْشَرَ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ لَمْ يُخْطِئْ فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى طِلْبَتِهِ (حَاجَتِهِ وَقَصْدِهِ)، وَأَنَّ سَعْيَهُ قَدْ كُلِّلَ (تُوِّجَ) بِالنَّجَاحِ.
(٢) غَرَضُ السَّاحِرِ الْإِفْرِيقِيِّ
وَكَانَ هَذَا السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ يَقْرَأُ فِي كُتُبِ السِّحْرِ: أَنَّ فِي الصِّينِ كَنْزًا لَا مَثِيلَ لَهُ فِي كُلِّ كُنُوزِ الْأَرْضِ، وَأَنَّ فِي ذَلِكُمُ الْكَنْزِ مِصْبَاحًا عَجِيبًا مَنْقُوشًا عَلَيْهِ طَلَاسِمُ (كِتَابَاتٌ خَفِيَّةٌ، وَخُطُوطٌ غَامِضَةٌ) مِنَ السِّحْرِ، إِذَا فَرَكَهَا الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ جَاءَهُ خَادِمُ الْمِصْبَاحِ مُلَبِّيًا كُلَّ مَا يَطْلُبُهُ مِنْهُ. وَكَانَ السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ يَعْلَمُ أَنَّ خَادِمَ الْمِصْبَاحِ هُوَ أَكْبَرُ مُلُوكِ الْجِنِّ وَأَقْوَاهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ جُنُودًا؛ وَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَفْتَحَ ذَلِكُمُ الْكَنْزَ أَوْ يَدْخُلَهُ إِلَّا فَتًى فِي أَحَدِ بِلَادِ الصِّينِ، اسْمُهُ «عَلَاءُ الدِّينِ» وَاسْمُ أَبِيهِ «مُصْطَفَى الْخَيَّاطُ». فَسَافَرَ السَّاحِرُ إِلَى بِلَادِ الصِّينِ، وَلَمَّا رَأَى «عَلَاءَ الدِّينِ» وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْأَوْلَادِ، رَأَى صُورَتَهُ مُطَابِقَةً لِلصِّفَاتِ الَّتِي قَرَأَهَا عَنْهُ فِي كُتُبِ السِّحْرِ. وَلَمَّا سَمِعَ اسْمَهُ أَيْقَنَ أَنَّهُ طِلْبَتُهُ الَّتِي يَبْحَثُ عَنْهَا.
(٣) حِيلَةُ السَّاحِرِ الْإِفْرِيقِيِّ
فَسَأَلَهُ السَّاحِرُ: «أَلَيْسَ اسْمُكَ عَلَاءَ الدِّينِ؟»
فَقَالَ لَهُ: «نَعَمْ، هَكَذَا سَمَّانِي أَبَوَايَ!» فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «أَلَسْتَ ابْنَ مُصْطَفَى الْخَيَّاطِ؟» فَأَجَابَهُ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدِي. وَقَدْ مَاتَ مُنْذُ عِدَّةِ سَنَوَاتٍ!» فَصَاحَ السَّاحِرُ بَاكِيًا: «يَا لله، هَلْ مَاتَ «مُصْطَفَى الْخَيَّاطُ»؟ وَا حَسْرَتَاهُ! أَيَمُوتُ وَلَا أَرَاهُ؟»
ثُمَّ عَانَقَهُ السَّاحِرُ وَقَبَّلَهُ وَالدُّمُوعُ فِي عَيْنَيْهِ تَتَرَقْرَقُ، (تَدُورُ وَتَتَرَدَّدُ)، وَتَأَوَّهَ (شَكَا وَتَوَجَّعَ).
وَحِينَئِذٍ ذَكَرَ «عَلَاءُ الدِّينِ» عَطْفَ أَبِيهِ عَلَيهِ؛ فَبَكَاهُ مَعَ السَّاحِرِ مُتَأَلِّمًا مَحْزُونًا.
(٤) الْعَمُّ الْكَاذِبُ
وَقَدْ عَجِبَ «عَلَاءُ الدِّينِ» مِنْ بُكَاءِ ذَلِكُمُ الْغَرِيبِ عَلَى أَبِيهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِهِ؛ فَقَالَ لَهُ بَاكِيًا: «إِنَّ أَبَاكَ «مُصْطَفَى» هُوَ شَقِيقِي، وَأَنْتَ ابْنُ أَخِي الْعَزِيزِ. وَلَقَدْ كُنْتُ — طُولَ عُمُرِي — مُولَعًا (مُحِبًّا مُتَعَلِّقًا) بِالْأَسْفَارِ. وَمَا زِلْتُ أَجُوبُ (أَقْطَعُ وَأَطُوفُ) الْأَقْطَارَ، وَأَرْكَبُ الْبِحَارَ، ثُمَّ حَنَنْتُ إِلَى وَطَنِي، وَاشْتَقْتُ إِلَى أَخِي، وَلَكِنَّ اللهَ لَمْ يَشَأْ أَنْ أَرَاهُ وَهُوَ حَيٌّ! آهٍ، لَقَدْ كَانَ — يَرْحَمُهُ اللهُ — شَبِيهَكَ فِي مَلَامِحِهِ. وَفِي هَذَا الشَّبَهِ بَعْضُ الْعَزَاءِ (الصَّبْرِ) وَالسَّلْوَةِ (نِسْيَانِ الْحُزْنِ).»
فَانْخَدَعَ «عَلَاءُ الدِّينِ» بِكَلَامِهِ، وَصَدَّقَهُ فِيمَا قَالَ، وَقَبَّلَ يَدَهُ شَاكِرًا لَهُ عَطْفَهُ وَحَنَانَهُ. ثُمَّ سَأَلَهُ السَّاحِرُ: «أَيْنَ تَسْكُنُ يَا وَلَدِي؟»
فَذَكَرَ لَهُ «عَلَاءُ الدِّينِ» الْجِهَةَ الَّتِي يَقْطُنُ (يُقِيمُ) بِهَا، وَالْبَيْتَ الَّذِي يَسْكُنُهُ، هُوَ وَأُمُّهُ.
فَأَعْطَاهُ السَّاحِرُ دِينَارَيْنِ، وَقَالَ لَهُ: «ارْجِعْ إِلَى أُمِّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّنِي سَأَزُورُكُمَا — إِذَا اسْتَطَعْتُ — فِي مَسَاءِ الْغَدِ، لِأَرَى الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ شَقِيقِي «مُصْطَفَى» يَسْكُنُهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ.»
(٥) الْعَمُّ الْغَائِبُ
فَانْطَلَقَ (مَشَى) «عَلَاءُ الدِّينِ» إِلَى أُمِّهِ، وَسَأَلَهَا مَدْهُوشًا: «خَبِّرِينِي — يَا أُمِّي — أَتَعْرِفِينَ أَنَّ لِي عَمًّا؟»
فَقَالَتْ مُتَعَجِّبَةً: «لَيْسَ لَكَ — يَا وَلَدِي — عَمٌّ وَلَا خَالٌ!»
فَقَصَّ عَلَيْهَا كُلَّ مَا قَالَهُ السَّاحِرُ، وَأَعْطَاهَا الدِّينَارَيْنِ.
فَعَجِبَتْ أُمُّهُ مِنْ ذَلِكُمْ، وَقَالَتْ لَهُ: «لَقَدْ كَانَ أَبُوكَ — رَحِمَهُ اللهُ — يُحَدِّثُنِي أَنَّ لَهُ شَقِيقًا مَاتَ، دُونَ أَنْ يَرَاهُ، مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ؛ فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ شَقِيقُ أَبِيكَ الَّذِي كَانَ يَظُنُّهُ قَدْ مَاتَ.»
(٦) فِي بَيْتِ «عَلَاءِ الدِّينِ»
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي رَآهُ السَّاحِرُ — وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ رُفَقَائِهِ — فَأَعْطَاهُ دِينَارَيْنِ آخَرَيْنِ، وَقَالَ لَهُ: «خَبِّرْ أُمَّكَ — يَا ابْنَ أَخِي — أَنَّنِي سَأَتَعَشَّى فِي بَيْتِكُمَا اللَّيْلَةَ.» فَأَسْرَعَ «عَلَاءُ الدِّينِ» إِلَى أُمِّهِ، وَأَعْطَاهَا الدِّينَارَيْنِ، وَذَكَرَ لَهَا مَا قَالَهُ السَّاحِرُ. فَاسْتَعَارَتْ أُمُّهُ مِنْ جَارَاتِهَا بَعْضَ الْأَوَانِي الثَّمِينَةِ، وَأَعَدَّتْ لَهُ عَشَاءً فَاخِرًا.
وَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ، حَضَرَ السَّاحِرُ، وَمَعَهُ سَلَّةٌ كَبِيرَةُ مَمْلُوءَةٌ بِشَتَّى أَلْوَانِ الْفَاكِهَةِ. وَمَا إِنْ رَأَى أُمَّ «عَلَاءِ الدِّينِ» حَتَّى بَكَى — مُتَظَاهِرًا بِالْحُزْنِ عَلَى زَوْجِهَا — وَسَأَلَهَا: «خَبِّرِينِي، يَا زَوْجَ أَخِي الْعَزِيزَةَ: فِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ يَجْلِسُ أَخِي الْمَرْحُومُ؟»
فَأَشَارَتْ إِلَى أَرِيكَةٍ (مَقْعَدٍ) فِي زَاوِيَةِ الْحُجْرَةِ، وَهِي أَرِيكَةٌ طَالَ عَلَيْهَا الْقِدَمُ. فَاشْتَدَّ بُكَاءُ السَّاحِرِ وَجَزَعُهُ (شِدَّةُ حُزْنِهِ)؛ فَطَلَبَتْ إِلَيْهِ السَّيِّدَةُ أَنْ يَجْلِسَ فِي مَكَانِ أَخِيهِ. فَقَالَ لَهَا مُتَأَلِّمًا: «لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجْلِسَ مَكَانَهُ؛ فَإِنَّنِي لَأَتَخَيَّلُهُ الْآنَ جَالِسًا مَعَنَا، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَيْنَا رُوحُهُ الطَّاهِرُ. رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ. لَقَدْ كَانَ يُحِبُّنِي — كَمَا أُحِبُّهُ — أَشَدَّ الْحُبِّ. وَلَكِنَّ اللهَ لَمْ يَشَأْ أَنْ أَلْقَاهُ وَأَنْعَمَ بِحَدِيثِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ.» ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِمَا السَّاحِرُ: أَنَّهُ تَرَكَ شَقِيقَهُ — مُنْذُ أَرْبَعِينَ عَامًا — وَأَنَّهُ سَافَرَ إِلَى بِلَادِ «الْهِنْدِ» وَ«فَارِسَ» وَ«بَغْدَادَ»، وَأَنَّهُ جَابَ (قَطَعَ) أَنْحَاءَ الْقَارَّةِ الْإِفْرِيقِيَّةِ، وَقَضَى أَكْثَرَ عُمُرِهِ فِي السِّيَاحَةِ (السَّيْرِ فِي الْبِلَادِ) وَالرِّحَلِ (الْأَسْفَارِ وَالتَّنَقُّلَاتِ).
(٧) الْأَمَانِيُّ الْخَادِعَةُ
ثُمَّ الْتَفَتَ السَّاحِرُ الْإِفْرِيقِيُّ إِلَى «عَلَاءِ الدِّينِ»، وَقَالَ لَهُ مُتَلَطِّفًا: «مَا صِنَاعَتُكَ، يَا ابْنَ أَخِي الْعَزِيزَ؟»
فَخَجِلَ «عَلَاءُ الدِّينِ» وَعَجَزَ عَنِ الْجَوَابِ مِنْ شِدَّةِ الْخَجَلِ.
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «لَيْسَ لَهُ صِنَاعَةٌ إِلَّا الْبَطَالَةُ وَاللَّعِبُ — مَعَ الْأَشْرَارِ — طُولَ النَّهَارِ. وَقَدْ أَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ صِنَاعَةً تَنْفَعُهُ — إِذَا كَبِرَ — فَلَمْ يُوَفَّقْ فِيمَا أَرَادَ. وَحَاوَلْتُ جُهْدِي أَنْ أُحَبِّبَ إِلَيْهِ الْعَمَلَ، فَعَجَزْتُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا عَجَزَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلُ.» فَأَبْدَى السَّاحِرُ دَهْشَتَهُ مِنْ خَيْبَةِ «عَلَاءِ الدِّينِ»، وَظَلَّ يَنْصَحُ لَهُ مُتَلَطِّفًا، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ شَتَّى الصِّنَاعَاتِ؛ لِيَتَخَيَّرَ مِنْهَا وَاحِدَةً. وَلَكِنَّ «عَلَاءَ الدِّينِ» سَكَتَ، فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «إِذَا كُنْتَ لَا تَمِيلُ إِلَى الصِّنَاعَةِ فَمَا أَظُنُّكَ تَكْرَهُ التِّجَارَةَ؟ فَإِذَا شِئْتَ — يَا ابْنَ أَخِي — أَنْ تَكُونَ تَاجِرًا، فَإِنِّي مُشْتَرٍ لَكَ — بَعْدَ غَدٍ — دُكَّانًا فِي سُوقِ التُّجَّارِ، وَسَأُحْضِرُ لَكَ فِيهِ أَفْخَرَ الْأَثْوَابِ وَأَجْوَدَهَا (أَحْسَنَهَا).» فَفَرِحَ «عَلَاءُ الدِّينِ» وَشَكَرَ لَهُ عِنَايَتَهُ بِأَمْرِهِ، وَشَعَرَ بِمَيْلٍ (رَغْبَةٍ وَحُبٍّ) شَدِيدٍ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ حَيَاةِ الْبَطَالَةِ وَاللَّعِبِ، وَبَدْءِ حَيَاةِ الرُّجُولَةِ وَالْجِدِّ.
وَكَانَتْ أُمُّ «عَلَاءِ الدِّينِ» تَرْتَابُ (تَشُكُّ) فِي أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ شَقِيقُ زَوْجِهَا، وَلَكِنَّهَا آمَنَتِ — الْآنَ — بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، بَعْدَ أَنْ رَأَتِ اهْتِمَامَهُ بِوَلَدِهَا، وَحِرْصَهُ عَلَى مُسْتَقْبَلِهِ.
ثُمَّ جَاءَ وَقْتُ الْعَشَاءِ فَأَكَلُوا جَمِيعًا. وَظَلَّ السَّاحِرُ يُمَنِّيهِمَا الْأَمَانِيَّ الْكَاذِبَةَ، حَتَّى مَضَى هَزِيعٌ (قِسْمٌ كَبِيرٌ) مِنَ اللَّيْلِ، فَوَدَّعَهُمَا السَّاحِرُ، مُسْتَأْذِنًا فِي الِانْصِرَافِ.
(٨) مَأْدُبَةُ السَّاحِرِ
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي، ذَهَبَ السَّاحِرُ مَعَ «عَلَاءِ الدِّينِ» إِلَى السُّوقِ، وَاشْتَرَى لَهُ أَفْخَرَ الْمَلَابِسِ، ثُمَّ دَعَا أَعْيَانَ التُّجَّارِ إِلَى فُنْدُقِهِ (الْخَانِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ). وَأَدَّبَ لَهُمُ السَّاحِرُ مَأْدُبَةً فَاخِرَةً (أَعَدَّ لَهُمْ مَآكِلَ طَيِّبَةً، وَدَعَاهُمْ لِتَنَاوُلِهَا)، وَعَرَّفَهُمْ بِصَاحِبِنَا «عَلَاءِ الدِّينِ». ثُمَّ عَادَ بِهِ — بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَأْدُبَةِ — إِلَى الْبَيْتِ مَسْرُورًا. وَمَا إِنْ رَأَتْ أُمُّ «عَلَاءِ الدِّينِ» وَلَدَهَا — فِي ثِيَابِهِ الْجَدِيدَةِ الْفَاخِرَةِ — حَتَّى امْتَلَأَتْ نَفْسُهَا فَرَحًا وَغِبْطَةً، وَشَكَرَتْ لِلسَّاحِرِ — أَجْزَلَ الشُّكْرِ — صَنِيعَهُ (جَمِيلَهُ)، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللهَ — سُبْحَانَهُ — قَدْ أَجَابَ دُعَاءَهَا لِوَلَدِهَا؛ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَلَكَ (الرُّوحَ السَّمَاوِيَّ) الْكَرِيمَ، لِيُبَدِّلَ شَقَاوَتَهُ سَعَادَةً، وَفَقْرَهُ غِنًى. وَأَوْصَتْ وَلَدَهَا بِطَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ. فَقَالَ لَهَا السَّاحِرُ: «لَقَدْ كُنْتُ مُعْتَزِمًا عَلَى شِرَاءِ الدُّكَّانِ لِوَلَدِكِ غَدًا، وَلَكِنَّ التُّجَّارَ لَا يَعْمَلُونَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ — فِي الْيَوْمِ التَّالِي — لِيَتَنَزَّهَ مَعِي فِي ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَشْتَرِي لَهُ الدُّكَّانَ — بَعْدَ غَدٍ — إِنْ شَاءَ اللهُ.»
(٩) فِي ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ
ثُمَّ جَاءَ السَّاحِرُ — فِي الْيَوْمِ التَّالِي — فَرَأَى الْوَلَدَ مُتَأَهِّبًا (مُسْتَعِدًّا) لِلْخُرُوجِ، وَهُوَ يَكَادُ يَطِيرُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. فَمَشَى مَعَهُ السَّاحِرُ، وَظَلَّ يُرِيهِ الْحَدَائِقَ الْجَمِيلَةَ وَالْقُصُورَ الْفَخْمَةَ، وَيُمَنِّيهِ الْأَمَانِيَّ وَالْوُعُودَ الْخَلَّابَةَ (الْخَدَّاعَةَ)، لِيُنْسِيَهُ عَنَاءَ السَّيْرِ، حَتَّى تَعِبَا. فَجَلَسَا يَأْكُلَانِ مِنْ طَعَامٍ فَاخِرٍ، كَانَ السَّاحِرُ قَدْ أَعَدَّهُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَا (أَعَادَا) السَّيْرَ، فِي الْخَلَاءِ (الْفَضَاءِ الْخَالِي مِنَ الْعُمْرَانِ)، بَعْدَ أَنِ اجْتَازَا (تَرَكَا) ضَوَاحِيَ الْمَدِينَةِ (نَوَاحِيَهَا الظَّاهِرَةَ حَوْلَهَا). وَمَا زَالَا سَائِرَيْنِ حَتَّى تَعِبَ «عَلَاءُ الدِّينِ»، وَلَمْ يَسْتَطِعِ السَّيْرَ. فَطَلَبَ مِنَ السَّاحِرِ أَنْ يَعُودَ بِهِ.
فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ مُتَلَطِّفًا: «سَأُرِيكَ — بَعْدَ قَلِيلٍ — مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنَاكَ.» فَلَمْ يَسْتَطِعْ «عَلَاءُ الدِّينِ» أَنْ يُخَالِفَهُ. وَظَلَّ السَّاحِرُ يَرْوِي لَهُ — وَهُمَا سَائِرَانِ — أَغْرَبَ الْقِصَصِ؛ لِيُهَوِّنَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ.
(١٠) الْوُصُولُ إِلَى الْكَنْزِ
وَمَا زَالَا سَائِرَيْنِ حَتَّى وَصَلَا إِلَى جَبَلَيْنِ قَلِيلَيْ الِارْتِفَاعِ، يَفْصِلُهُمَا وَادٍ ضَيِّقٌ. فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «سَتَرَى الْآنَ مَا لَمْ يَخْطُرْ لَكَ عَلَى بَالٍ.»
ثُمَّ جَمَعَ «عَلَاءُ الدِّينِ» قَلِيلًا مِنَ الْأَعْشَابِ، وَأَوْقَدَ فِيهَا السَّاحِرُ النَّارَ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهَا قَلِيلًا مِنَ الْبَخُورِ. وَجَمْجَمَ (نَطَقَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُرُوفَ فِي نُطْقِهِ)، وَتَمْتَمَ أَلْفَاظًا مِنَ السِّحْرِ، لَمْ يَفْهَمْ «عَلَاءُ الدِّينِ» مِنْهَا شَيْئًا. فَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ (اهْتَزَّتْ وَارْتَجَّتْ)، ثُمَّ انْشَقَّتْ، وَظَهَرَ — أَمَامَهُمَا — حَجَرٌ مُرَبَّعٌ فِي وَسَطِهِ حَلْقَةٌ مِنَ الْحَدِيدِ.
فَفَزِعَ «عَلَاءُ الدِّينِ» مِمَّا رَأَى، وَتَمَلَّكَهُ الْخَوْفُ، وَهَمَّ بِالْفِرَارِ مِنْ فَرْطِ الذُّعْرِ (مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ)؛ فَصَفَعَهُ السَّاحِرُ (ضَرَبَهُ بِيَدِهِ مَبْسُوطَةً عَلَى وَجْهِهِ) صَفْعَةً شَدِيدَةً، وَهَدَّدَهُ بِالْمَوْتِ، إِذَا حَاوَلَ الْهَرَبَ. فَارْتَجَفَ «عَلَاءُ الدِّينِ»، وَعَجِبَ مِنْ قَسْوَتِهِ الَّتِي لَمْ يَأْلَفْهَا مِنْهُ مِنْ قَبْلُ، وَسَأَلَهُ بَاكِيًا: «أَيُّ ذَنْبٍ جَنَيْتُ — يَا عَمِّي — حَتَّى تُعَاقِبَنِي عَلَيْهِ هَذَا الْعِقَابَ؟»
فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «أَلَسْتُ عَمَّكَ؟ فَكَيْفَ تُخَالِفُ أَمْرِي؟»
ثُمَّ لَاطَفَهُ وَأَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، وَمَنَّاهُ الْوُعُودَ الْكَاذِبَةَ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: «لَقَدْ جِئْتُ بِكَ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ الْبَعِيدِ لِأُرْشِدَكَ إِلَى كَنْزٍ يُغْنِيكَ طُولَ حَيَاتِكَ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا أَحَدٌ غَيْرُكَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ هَذَا الْكَنْزَ. فَكَيْفَ تَرْفُضُ سَعَادَةً لَمْ تَكُنْ لِتَحْلُمَ بِهَا طُولَ عُمْرِكَ؟»
فَفَرِحَ «عَلَاءُ الدِّينِ» بِاهْتِدَائِهِ إِلَى هَذَا الْكَنْزِ، وَقَبَّلَ يَدَ السَّاحِرِ، شَاكِرًا لَهُ ذَلِكُمُ الصَّنِيعَ.