ورقةٌ صغيرة … وسلسلةٌ من المفاتيح!
صاح «عثمان» وهم يجرون وسَط الجمع الحاشد: انتشِروا في دائرة؛ إنَّه يسير في خطٍّ مُتعرِّج!
وتفرَّق الشياطين بسرعةٍ في شكل مروحة، تدور في المربَّع الذي وقع فيه الحادث.
كان الفأرُ الضاحكُ طويلَ القامةِ بشكلٍ غير عادي، ضخمَ الجُثَّة كأنَّه فيلٌ صغير؛ فلم يكن من الصعبِ متابعته … ولكن فجأةً لاحظَت «زبيدة» أنَّ عددًا من الأشخاصِ قد لاحظوا مطاردتهم للفأرِ الضاحك، وبدأَت مجموعةٌ من الرجالِ المُسلَّحين تدور حولهم، في انتظارِ فرصةٍ مناسبة لإطلاق الرَّصاصِ عليهم … ولم يكونوا في هذه اللحظات الحَرِجة يحملون أسلحتهم!
وفي نفس الوقت، انحرف الفأرُ الضاحكُ في شارعٍ جانبي، وشاهده «عثمان» وهو يدخل عمارةً ضخمةً تقع على ناصيتَي شارعَين … ولم يتردَّد «عثمان»، ودخل خلفه، وكان الفأرُ يسبقه بعدَّة أمتار … ولم يكَد «عثمان» يدخل من باب العمارة، حتى انطلقَت رصاصةٌ مرَّت بجوار أذنه مباشرةً، فألقى بنفسه على الأرض، ثمَّ اختفى خلف الباب.
كان مدخلُ العمارة مُعتِمًا، فلم يستطع «عثمان» أن يری شیئًا لفترةٍ قصيرة، ولكنَّه سمع خطوات الفأرِ الثقيلةَ وهي تسير مبتعدةً في ممرٍّ على يمين المدخل.
وخرج «عثمان» من مخبئه، ثمَّ سار خلف الفأر، وهو يحاذر أن يُحدِثَ أيَّ صوت … وسمع صوتَ انصِفاق باب، وسادَ الصمت.
سار «عثمان» مُحاذِرًا، حتى وجد نفسه أمام ثلاثة أبوابٍ مغلقة … كان واحدٌ فقط منها هو المُضاء، فوقف خلف الباب، ووضع أذنه مع فتحة المفتاح؛ محاولًا سماع أيِّ شيء، ولكن الصمتَ كان يَسُود الغرفة.
مدَّ يده بهدوء، وأدار أكرةَ البابِ، ولدهشته الشديدةِ وجده يفتح ببساطة … فأخذ يدفع البابَ بهدوءٍ حتى فتحه، ثمَّ أطلَّ برأسه داخل الغرفة … وذُهِل لِما رأی … كانت هناك آثار معركةٍ عنيفةٍ دارت في الغرفة، فالكراسي مُحطَّمة، والموائد مقلوبة، وآثار طلقات الرَّصاص في الجدران، وعشراتٌ من الزُّجاجات مُكسَّرةٌ في كلِّ اتجاه … وفي رکن الغرفة شاهد زِنجيًّا مُلقًى على الأرضِ، بدا كأنَّ الحياةَ فارقَته، ولكن «عثمان» بعينه الخبيرة أدرك أنَّ الرجل ما زال يتنفَّس، فأسرع إليه، ونسي المهمَّة التي جاء من أجلها؛ فأمامه رجلٌ يلفِظُ أنفاسه الأخيرة، وربَّما كان من الممكنِ إنقاذه!
ركع «عثمان» بجوارِ الرجلِ الذي كان مُلقًى على وجهه، وأداره ناحيته … كان وجهه مُتقلِّصًا، وكان واضحًا أنَّه يُحِسُّ آلامًا هائلةً؛ فقد كانت آثارُ الطلقاتِ واضحةً في جسده القويِّ.
فتح الرجل عينَيه، وأخذ ينظر إلى «عثمان» لحظات … كان «عثمان» أسمرَ مثله … فهذا الزِّنجيُّ سليل الزُّنوجِ الذين جلبهم التُّجَّار من أفريقيا، في زمن العبيد، عندما كانوا يُباعون ويُشترَون كأيِّ سلعة … فهذا الرجل أفريقي، و«عثمان» أيضًا؛ لهم نفس الملامح، ونفس لون الجلد. وابتسم الرجلُ رغم آلامه، وحاول أن يتحدَّث، ولكن كان من الواضحِ أنَّه لا يستطيع.
قال عثمان: سأطلُب لك الإسعاف!
رفع الرجلُ أصبعه كأنَّما يعترض، فقال «عثمان»: ربَّما استطاعوا إنقاذك!
أشار الرجلُ ﻟ «عثمان»، فانحنى عليه أكثر، ووضع أذنه قُربَ فمه، فتمتم الرجل: جوني!
قال «عثمان»: هل هو صديقك؟
الرجل: نعم!
عثمان: للأسف … لقد أصابوه في الشارعِ منذ قليلٍ!
أغمض الرجل عينَيه، ثمَّ قال: والحقيبة؟
عثمان: لقد أخذها شخصٌ في الزِّحام!
بدَت علاماتُ التوتُّر والألم تتزايد في وجه الرجلِ … كان واضحًا أنَّه يُحتضر، وأشار بأصبعه إلى حزامه … وفكَّر «عثمان»: هل يريد فكَّ الحزام؟
مدَّ يده وأخذ يفكُّ الحزام، ولكنَّ الرجل أشار بإصبعه: لا … لا!
فکَّر «عثمان»: ماذا يريد بالضبط؟ … لعلَّ شيئًا في جيبه يريد أن يعطيه له! ومدَّ يده في جيبه، ولكنَّ الرجلَ أشار على الحزامِ مرَّةً أخرى … وفحص «عثمان» الحزام، فوجد جيبًا سحريًّا صغيرًا تحت الحزام قد انتفخ قليلًا … ومدَّ أصابعه داخل الجيب، وأخرج مجموعةً من المفاتيح، ثمَّ ورقةً صغيرةً قد تآكلَت أطرافها.
مدَّ يده بالمفاتيح والورقة إلى الرجل … وجده قد أغمض عينَيه، وتوقَّفَت أنفاسه … كان قد مات!
مرَّت ﺑ «عثمان» لحظاتٌ قاسيةٌ من المشاعرِ المتضاربة … ماذا وراء هذا الرجل، وصديقه الذي قُتل في وسَط «برودواي» أمام كلِّ الناس؟ ما هو سرُّ الحقيبة؟ وسرُّ هذه المفاتيح؟ وسرُّ هذه الورقة؟ وما عَلاقة كلِّ هذا بالرجلِ الفأر؟
كان واضحًا أنَّ الرجل الميت أراد أن يُعطيه المفاتيح والورقة، وأنه يستأمنه على سرِّ هذه الأشياء … وضعها في جيبه ووقف … لم يكن في إمكانه أن يفعل أيَّ شيء. لقد مات الرجل، ودُفن معه سرُّه إلى الأبد!
استدار خارجًا وهو لا يدري ماذا يفعل … لقد أضاع وقتًا ثمينًا، ولم يعُد في استطاعته مطاردة الرجلِ والفأر، ولم يكن أمامه ما يفعله إلا العودة إلى الفندق.
خرج إلى الشارعِ مرَّةً أخرى … كان كلُّ شيءٍ قد انتهى، وعادت حركة المرورِ والناسِ إلى شكلها العاديِّ … وضع يده في جيبه يتَّقِي ريحًا باردةً هبَّت في الشارع، ومشى مُسرعًا في اتجاه فندق «شيراتون». ولم يكد يقترب من الواجهةِ الزُّجاجيَّةِ الضخمة حتى شاهد «إلهام» تجلس في الكافيتريا وحدها … أسرع إليها؛ قالت له مُتلَهِّفة: هل رأيتَ «أحمد» و«زبيدة»؟
عثمان: لا!
إلهام: لقد فقدتُهما في الزِّحام.
عثمان: لقد مرَرْتُ بتجرِبة سيِّئة!
وروى لها ما حدث، ثمَّ أخرج الورقةَ من جيبه، وأخذ يتأمَّل ما بها … كانت مجموعةً من الخطوطِ والأرقام، وفي طرفها «بادج» قد تمزَّق نصفه، فلم يكن واضحًا منه إلا خطوطٌ ذهبيَّةٌ هي بقيَّة اسم فندق، أو شركة، أو أيِّ مکان!
في هذه اللحظة ظهرَت «زبيدة» … كانت تحمل حقيبةً كبيرةً كحقائبِ الملابس، وكان واضحًا أنَّها مُرهقة … مرَّت بهما دون أن تتوقَّف، واتَّجهَت إلى مكان المصاعد … وانتظر «عثمان» و«إلهام» لحظاتٍ ثمَّ تَبِعاها.
على باب المصعد، كانت تقف «زبيدة» وبجوارها الحقيبة … وكان بجوارها رجلٌ متوسِّط العمر، مفتولُ العضلات، يعبث بشيءٍ في جيبه … لم يكن ينظر إليها، ولكن «عثمان» أدرك أنَّ الرجلَ يتبع «زبيدة» … وتحفَّزَ للخطر.
جاء المصعدُ، وتقدَّمَت «زبيدة» لتركب، ومدَّ الرجلُ يده في شهامةٍ قائلًا: دعيني أحملها عنك!
رفضَت «زبيدة» شاكرةً للرجلِ كرمه … ولكنَّه مدَّ يده وأمسك الحقيبةَ، ودخل إلى المصعدِ، ودخل الثلاثةُ خلفه … «زبيدة»، ثمَّ «إلهام»، ثمَّ «عثمان» … وانصفق بابُ المصعد، ولاحظ «عثمان» أنَّ الرجلَ مدَّ يده إلى زرارِ السَّطح، فقال: سنصعد قبل ذلك!
الرجل: لا بأس … إنَّها نزهةٌ بسيطةٌ إلى السَّطح، ثمَّ تعودون إلى غرفكم!
كان الرجل يُمسِك بالحقيبة في يده اليسرى، ويدُسُّ يده اليمنى في جيبه، ولم يكن هناك أدنى شكٍّ أنَّه يُمسِك مُسدَّسًا ضخمًا محشوًّا مُستعِدًّا للإطلاق في أيَّة لحظة.
أخذ المصعدُ يرتفع بسرعة … وكان واضحًا من خُطَّة الرجلِ أنَّه سيتركهم على السطح، ثمَّ يعود وحده بالحقيبة.
ونظر «عثمان» إلى «إلهام» نظرةً عميقة، نقل إليها فيها ما فكَّر فيه … وكانت «إلهام» قد فكَّرَت في نفسِ ما فکَّر فيه «عثمان»، وكذلك فعلَت «زبيدة».
كان الرجلُ قد أعطى ظهره للحائط حتى لا يُهاجَم على غفلة … وعلى الجانبِ الأيسرِ وقفَت «إلهام»، بينما كانت «زبيدة» إلى اليمين، وبجوارها «عثمان» … وأخذ المصعدُ يقترب بسرعةٍ من السَّطح، على ارتفاع نحو ٥٢ طابقًا … وبدأت الأرقام تفِرُّ في اللوحة مقتربةً من رقم ٤٠ ثم ٤٢ ثم ٤٤؛ فقد كان هذا المِصعدُ للأرقام الزوجيَّة فقط.
وفکَّر «عثمان» … كانت لوحة الأزرارِ أمامه مباشرة، وكان الحلُّ أن يضغطَ على الزرارِ الأحمرِ الذي يُوقف المصعدَ فورًا؛ لأنَّه زرار الخطرِ والمواقفِ العاجلة.
قرَّر «عثمان» أن يُعطيَ تعليماته للفتاتَين باللغةِ العربيَّة … فاحتمال أن يعرف الرجلُ هذه اللغةَ هو واحدٌ إلى مليون … وعلى كلِّ حال، عليه أن يُخاطر … فقال وهو يبتسم كأنَّما يُلقي نكتة: سأُوقف المصعدَ عندما يصل إلى الدورِ الخمسين … عليكما أن تُحيطا الرجلَ بأذرعکما حتى لا يستطيع الحركة … إنَّني في حاجةٍ إلى ثانيتَين فقط!
وأخذ المصعد يقترب ٤٦، ٤٨، ٥٠، وفي سرعة البرق مدَّ «عثمان» يده، وضغط الزرَّ الأحمر … وتوقَّف المصعدُ فجأة، واهتزُّوا جميعًا في أماكنهم، ولكنَّ الفتاتَين أحاطتا الرجلَ بأذرعٍ من حديد … وقفز «عثمان» إلى الأمام، ووجَّه إلى الرجلِ لكمةً هائلة.
انكفأ الرجلُ على وجهه، وسقط على الأرض، وقام «عثمان» بتفتيشه بسرعة، وطلَب من «إلهام» الضغطَ على زرار النزولِ حتى الطابقِ الأربعين، وقال في ثبات: سنتركه في المصعد؛ فلسنا في حاجةٍ إلى متاعب!