مع حافةِ النافذة!

نزلوا إلى الدور الأربعين، ولحسن الحظ لم يكن في الانتظار أحد، فسارعوا إلى غرفة «زبيدة» … جلسوا صامتين لحظات، وكانوا يُفكِّرون في «أحمد» أين ذهب، وما هو مصيره في هذه اللحظة؟

قالت «زبيدة»: لقد استطاع «أحمد» أن يضربَ الرجلَ الذي يحمل الحقيبة، ثمَّ يأخذها منه، وطلب منِّي شراء حقيبةٍ كبيرة، ووضع الحقيبةِ الصغيرةِ بها، ثمَّ ترکني، ورأيتُه يدخل إحدى العمارات.

قال «عثمان»: عمارةٌ على ناصية شارعٍ جانبيٍّ من شارع «برودواي» الرئيسي … غامضةُ الشكلِ، ومدخلها مُطفأ؟!

زبيدة: بالضبط!

عثمان: هذه هي نفس العمارةِ التي دخلتُها، ووجدتُ فيها الزِّنجيَّ الذي مات!

زبيدة: هل نفتح الحقيبة؟

فتحوا الحقيبةَ الكبيرة، وأخرجوا الحقيبةَ الثانيةَ منها، وكانت من طِراز «آمباسادور»، ومغلقةً بالأرقام!

أخذ «عثمان» يُجرِّب فتحَ الحقيبةِ دون جدوى، وفجأة تذكَّر الورقة التي أخذها من الزِّنجي، فمدَّ يده وأخرجها، ثمَّ أخرج حزمةَ المفاتيح.

كانت الأرقامُ تتكوَّن من خمس مجموعاتٍ مكتوبةٍ على الآلةِ الكاتبة، وكلٌّ منها معه حروفٌ بسيطة؛ من الواضحِ أنَّها اختصارٌ لجملة، أو لاسم، أو لمجموعةِ أسماء.

وبينما كان «عثمان» و«زبيدة» و«إلهام» مُنهمِكين في محاولةِ فتحِ الحقيبةِ الصغيرة، كان «أحمد» في تلك الأثناءِ يقف وحده في برد الليل، على حافة نافذةٍ في الطابقِ العشرين، من العمارةِ المشبوهةِ التي مات فيها الزِّنجي.

كان «أحمد» قد تَبِع الرجلَ الذي خطف الحقيبة، واستطاع أن يصلَ إليه وهو يجري، ثمَّ يضع ساقه أمامه، فتعثَّر الرجل، وسقطَ على الأرض، ووقعَت الحقيبةُ من يده، فأخذها «أحمد»، وسلَّمها ﻟ «زبيدة»، ثمَّ تابع مطاردةَ الرجل حتى دخل نفسَ العمارة التي دخلَها «عثمان» … واختفى الرجلُ في دهاليز المبنى الكبير، وأخذ «أحمد» يبحث عنه من غرفةٍ إلى غرفة، وفي إحدى الغرف، وبينما هو يبحث عن الرجل، سمع صوت أقدامٍ تقترب من باب الغرفة، فأسرع يختفي خلف ستائر نافذة، ولكنَّه وجد الرجالَ الذين دخلوا الغرفةَ يقتربون منها، فأسرع يتجاوزُ النافذةَ إلى الأفريز الخارجي، وفعلًا فتح أحد الرجالِ النافذة، وكانت يده على بعد سنتيمتراتٍ قليلةٍ من «أحمد».

وقف رجلان يتحدَّثان من النافذةِ المفتوحة … سمع «أحمد» أحدهما يقول: لا أدري من أين أتي هؤلاء الشُّبَّان الأربعة! إنَّهم مُدرَّبون تدريبًا جيِّدًا!

قال الثاني: إنَّني متأكِّدٌ أنَّهم نفس الأولادِ الذين طاردوا «بازوليني» منذ فترة، وحطَّموا القوَّة الرئيسيَّة ﻟ «فئران نيويورك»، حتى اضطُرَّ الزعيمُ إلى الهربِ إلى الشاطئ الشرقي طلبًا للحماية!

الأوَّل: إنَّ هذا شيءٌ مضحك؛ كيف يستطيع أربعة أولادٍ أن يفعلوا كلَّ هذا بنا؟!

الثاني: المشكلةُ الآن أنَّهم حصلوا على حقيبةِ المجوهرات، ولكنَّ هناك شيئًا هامًّا. إنَّها مُعَدَّةٌ بحيث إذا لم تُفتح بشكلٍ مُعيَّن، فإنَّها تنفجرُ على الفور!

أحسَّ «أحمد» بقلبه يكاد ينفجر بين ضلوعه … لقد عرف الآن سرَّ الحقيبة، إنَّها مملوءةٌ بالمجوهرات، وفي نفسِ الوقتِ هي قنبلةٌ موقوتة، وهي الآن بين يدَي الشياطين، ومن الممكنِ جدًّا، بل من المؤكَّد، أنَّ «زبيدة» ستحاول فتحها وحدها، أو مع «عثمان» و«إلهام» … وفي الحالتَين ستنفجر الحقيبة، وتُودِي بحياةِ «زبيدة»، أو بحياةِ الثلاثة!

كان في موقفٍ خطير … فإذا تحرَّك حركةً واحدة، سقط من أعلى العمارة إلى الأرض … وإذا حاول مهاجمةَ الرجلَين، ففي إمكانهما القضاءُ عليه في لحظات!

وعاد الرجلان يتحدَّثان.

الأوَّل: لا بُدَّ من الاتصال ﺑ «بازوليني»!

الثاني: ماذا نقول له؟ لقد خاننا الزِّنجيَّان وحاولا الاحتفاظ بالحقيبةِ لهما!

الأوَّل: كان هذا تصرُّفًا طائشًا منك. لقد قام الزِّنجيَّان بسرقةِ الحقيبةِ من مقرِّ الثريِّ العربيِّ في «بيفرلي هيلز»، وكان الاتفاقُ أن يأخذا نصف قيمةِ ما بها، ولكنَّك حاولت الاستيلاءَ على الحقيبةِ وحدك … والآن لقد مات الرجلان، وضاعت الحقيبة، ولا نستطيع أن نفعلَ أيَّ شيء … و«بازوليني» هناك، في انتظارِ نصيبه من العمليَّة، ولا ندري ماذا نقول له!

ساد الصمتُ بعد هذه الجملة، ولم يعد يُسمع إلا صوت الرياحِ الباردة، التي تجتاح المدينة … وأحسَّ «أحمد» بأطرافه تتجمَّد، وأخذ يُرسِل بصره إلى أسفل بعيدًا؛ حيث كانت السيَّارات تُشبه عُلَب الكبريتِ الصغيرة، والناسُ كأنَّهم عِيدانُ الكبريت … وكان يُفكِّر فيما يحدث في هذه اللحظة … ماذا يفعل الشياطين الآن؟! وهل انفجرت الحقيبةُ؟!

قطع الصمتَ أحدُ الرجلين قائلًا: لا فائدة من الانتظار … هيَّا بنا نتَّصل ﺑ «بازوليني» من مكتبنا، إنَّني لم أعد أثق في هذا المبنى بعد أن أصبح معروفًا للشرطةِ ولهؤلاء الأولاد؛ فقد طارد أحدهم الفأرَ الضاحكَ حتى هنا … لقد انكشف هذا المكان!

قال الأوَّل: إذا كان هؤلاء الأولاد قد عرفوا هذا المكان، فمن الممكن جدًّا أن يأتوا مرَّةً أخرى، فلماذا لا ننتظرهم؟

الثاني: لنترك بعض الرجالِ هنا … وتعالَ أنت معي نتَّصل ﺑ «بازوليني»!

غادر الرجلان النافذة … وانتظر «أحمد» بضعَ دقائقَ أخرى، ثمَّ بدأ يسير قدمًا قدمًا إلى النافذة، حتى إذا أصبح أمامها تمامًا، مدَّ قدمه ليدخل … وفي تلك اللحظة سمع شهقةً قويَّةً من داخل الغرفة، ولم يكن أمامه إلا أن يقفز إلى الداخل.

عندما قفز، سقط فوق رجلٍ كان يقف قريبًا من النافذة، وسقط الاثنان على الأرض، ولم يكن أمام «أحمد» وقت؛ فهذه الضجَّةُ سوف تُثير انتباه بقيَّة الرجالِ في المبنى … لهذا أطار المُسدَّس الذي كان بيد الرجل، بضربةٍ سريعةٍ من يده، ثمَّ ضربه بسيف يده، فارتمى الرجلُ في هدوء، دون أن تصدُرَ منه آهةٌ واحدة.

قفز «أحمد» إلى جوار الباب، ووقف لحظاتٍ يتصنَّت … وسمع صوت أقدامٍ مُقبلة … ضغط زرَّ النور، فساد الظلامُ في الغرفة، ثمَّ انفتح الباب، ودخل شخصٌ مندفعًا، فاستقبله «أحمد» بركلةٍ قويَّة، وقبل أن ينتظر، قفز من الباب، وأخذ يجري في الدِّهليز المُظلِم … ظلَّ يجري نازلًا السلالمَ حتى اجتاز عشرة أدوار، ثمَّ توقَّف لحظاتٍ يستمع، وتأكَّد أنَّ هناك مَن انطلق خلفه، وسمع صوت نداءاتٍ تتردَّدُ في المبنى المُعتِم.

عاود القفزَ مرَّةً أخرى، وشاهد أنوارَ المصعدِ الذي كان ينزل في نفس الوقتِ معه، فضاعف سرعته، واستطاع أن يصلَ إلى البابِ الخارجيِّ عندما توقَّف المصعد … وسمع صوت طلقةٍ صامتةٍ تمرُّ بجواره، ثمَّ تتالت الطلقات، ولكنَّه كان قد وصل إلى الشارع، فعبَره سريعًا … واندمج وسَط الجماهيرِ التي تملأ شوارع «برودواي».

كان يشعر بانتعاشٍ غريبٍ رَغم كلِّ ما حدث … لقد قادتهم الصُّدفة إلى «بازوليني» مرَّةً أخرى! ولكنَّه فجأةً شعر بالخوفِ يجتاح قلبه … فقد تذكَّر حكايةَ الحقيبةِ التي سلَّمها إلى «زبيدة»! هل حاول الشياطين فتحها فانفجرَت کما سمع من رجال العصابة؟ وهل خسر الشياطين ثلاثةً من أبرز شبابهم؟

لم يكن في حاجةٍ إلى استخدام تاكسي للوصول إلى الفندق؛ فلم يكن يبعُد عنه بأكثر من بضعة شوارعَ، فأخذ يُسرع دون أن يلتفت حوله … ولم يَلحَظْ أنَّه كان متبوعًا؛ فقد كان في شُغلٍ شاغلٍ عن كلِّ ما حوله، بما يتصوَّره من كارثةٍ وقعَت في الفندق الكبير للشياطين.

وصل إلى مدخل فندق «شيراتون» … نظر حوله … لم يكن هناك ما يدلُّ على وقوع شيءٍ غير عادي … كانت الحياةُ تمضي في مدخلِ الفندقِ الكبيرِ كالعادة، ولو أنَّ انفجارًا قد وقع لانقلبَت الدنيا!

أسرع إلى المصعد، ومن خلفه كان يسير رجلٌ أشبه بالأتوبيس … رجلٌ ضخم، مُسلَّح، جامدُ الوجه، قد أرخى قُبَّعتَه فوق رأسه حتى يُخفيَ ملامحه، أقدامه تدقُّ الأرضَ كأنَّه فيلٌ من الحديد … لقد كان هذا الرجلُ من أعتى مجرمي «أمريكا»، قاتلٌ بلا رحمة … يُعتبر العمودَ الرئيسيَّ في مجموعة «بازوليني» … كان اسمه «موکا برازي»، وهو شقيق المجرم المشهور «لوکا برازي»، الذي قتله المُهرِّب الترکیُّ «سولوز»، وأثار قتلُه موجةً من الحربِ بين العصاباتِ في «أمريكا»، في أواخر الأربعينيات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤