الدبَّابة البشرية!
عندما وقف «أحمد» أمام المصعد، ووقف خلفه «موکا» وبعض نُزَلاءِ الفندق، أحسَّ «أحمد» بنذير الخطر … لقد كان «موکا» من ذلك النوعِ الذي يتفجَّر بالرعبِ والخطر، بأنفاسه الثقيلة، وعينَيه الجاحظتَين، ويدَيه المدفونتَين دائمًا في جيوبه، تلمسان مُسدَّسَين ثقيلين، صُنِعا خصوصًا ليُناسبا حجم يديه الرهيبتَين.
أحسَّ «أحمد» بالخطر، وقرَّر أن يزوغ من «موکا» حتى لا يعرف أين ينزلون في الفندقِ الكبير … وقرَّر في نفس الوقت أن يُغيِّروا المكانَ بسرعة … هذا إذا لم يكن قد حدث شيء!
وصل المصعد، ودخل الجميع، وكان ذهن «أحمد» يدور بسرعة، ووصل إلى خُطَّةٍ مُحدَّدة … لم يضغط زرَّ الدورِ الذي سيصعد إليه … ولاحظ أنَّ «موكا» فعَل مثله، ولم يُخرج يدَيه من جيوبه … وتأكَّد تمامًا أنَّه خلفه … وتحرَّك «أحمد» بهدوءٍ ليكون قريبًا من الباب … كان الفارقَ بينه وبين «موکا» شخصٌ واحد … وقرَّر أن يستفيد من مَيزة أنَّه أسرع حركةً من «موکا»، خاصَّةً وبينه وبين «موکا» مسافة … وهكذا ارتفع المصعدُ برُکَّابه، وعند الدورِ العاشرِ توقَّف. ولم يتردَّد «أحمد» لحظةً واحدة؛ فقد اندفع خارجًا بعد أن دفع الشخصَ الذي خلفه مباشرةً دفعةً قويَّةً أوقعَته على «موکا» … ووجد نفسه في دِهليزٍ مشابهٍ للدَّهاليز التي في جميع الأدوار، وأسرع ينحرف عند أوَّل زاوية، ثمَّ دخل إلى غرفة الخدماتِ التي تُوجد في كلِّ دور؛ حيث تُوجد أدواتُ النظافة، ووجد سيدةً عجوزًا تقوم بترتيبِ بعض الأرفف، نظرت إليه بخوف … ولكنَّ «أحمد» أسرع يقول: معذرة!
قالت: إنَّك أخطأتَ طريقك، ليست هذه غرفة!
أحمد: أعرف ذلك، سأبقى دقائقَ قليلةً … لا تنزعجي!
توقَّفت العجوز عن العمل، ووقف «أحمد» بجوارِ البابِ يستمع إلى صوت أقدام السائرين … كان ذلك صعبًا؛ فقد كانت الأرضُ مُغطَّاةً بالموكيت، ولكن «أحمد» كان يُدرك أنَّ أقدام «موکا» تحت جسده الهائل ستُحدِث صوتًا مُميَّزًا.
أخذ يتصنَّت، ولكنَّه لم يستطع أن يتبيَّن خطوات «موکا» مُطلقًا … وظلَّ في مكانه نحو عشر دقائق، ثمَّ أطلَّ برأسه من الباب … لم يكن هناك إلا أحدُ النزلاءِ يتَّجه إلى المصعدِ وهو يُصفر … خرج «أحمد» إلى الممشى، وأسرع إلى باب الحريق حيث تُوجد السلالمُ الحديديَّة، وأخذ يصعد مُسرعًا … كانت المسافةُ كبيرة، ولكنَّه لم يَعبَأ … كان يريد أن يعرف ماذا حدث، ثمَّ يرى ماذا سيفعل!
وصل أخيرًا إلى الدورِ الأربعين، وقلبه يقفز بين ضلوعه تعبًا وانفعالًا … كان كلُّ شيءٍ هادئًا … لا انفجار، ولا رجال إطفاء، ولا زحام … وتقدَّم من باب «زبيدة»، ودقَّ الباب … بعد لحظاتٍ سمع خطواتٍ في الداخل، ثمَّ فتح الباب … كان واثقًا أنَّ «زبيدة» قد نظرَت من خلال عدسة الباب لترى مَن الطارق.
في الداخل، كان «عثمان» و«إلهام» جالسَين، وأمامهما الحقيبةُ مفتوحة، وتنفَّسَ «أحمد» الصعداء … وارتمى على الفراشِ قائلًا: لقد خشِيتُ أن تنفجرَ الحقيبة … لقد سمعتُ من بعض رجالِ العصابةِ أنَّها ستنفجر إذا حاول أحدٌ فتحها دون أن يعرف الطريقةَ الصحيحةَ للفتح!
عثمان: لقد عثرتُ مع رجلٍ ميتٍ على المفاتيحِ ورموزِ فتحِ الحقيبة … ولولا ذلك لكنَّا الآن أشلاء متناثرة!
أحمد: إنَّ خلفنا رجلًا من أعتى رجالِ العصابات، اسمه «موكا برازي»، وقد تذكَّرتُه على الفور؛ فهو مذكورٌ في النشرةِ العالميَّةِ للعصابات التي درسناها في المقرِّ السرِّيِّ للشياطين … ولا شكَّ أنَّه مأجورٌ من جهةٍ ما للقضاءِ علينا؛ فليس بيننا وبينه ثأر؛ فنحن لم نلتقِ به من قبلُ!
عثمان: وما هي الجهةُ التي أطلقَته خلفنا؟
أحمد: لا أدري … ولكن في الأرجحِ إمَّا أنَّها عصابة «سادة العالم»؛ فهي عصابةٌ ضخمةٌ يمكن أن يكون لها فروعٌ في أكثر بلادِ الدنيا، وبالطبع في «أمريكا». وإمَّا أنَّه «بازوليني» … ولعلَّه عَلِم باختطافِ الحقيبة، وبأوصافنا، فاتَّصل به لهذا الغرض!
عثمان: وأين «موکا» الآن؟
لم يكد «عثمان» ينتهي من جملته حتى دقَّ جرس الباب، ووقفَت «زبيدة»، ولكنَّ «أحمد» أشار لها بإصبعه أن تتوقَّف، واتَّجه بخفَّة القطِّ إلى الباب، ونظر من خلال العدسةِ المُكبِّرة في الباب، وشاهد ما كان يتوقَّعه … وجه «موکا» المخيف، وقد وقف ويداه في جيوبه!
قفز «أحمد» مبتعدًا عن الباب؛ فقد كان من الممكنِ أن يُطلق «موكا» مُسدَّسه الضخم على الباب … عاد إلى الشياطين، وهمس: إنَّه «موکا»!
عاد الدقُّ من جديد، وأشار «أحمد» إلى الشياطين أن يُغلقوا الحقيبةَ مرَّةً أخرى … ثمَّ اتَّجه إلى التليفون، وطلب الإدارة، وما كاد المسئولُ يردُّ عليه حتى صاح «أحمد»: هناك حريقٌ في الغرفة رقم ٤٠١٠ … أسرِع من فضلك!
فهم الشياطين لعبته … ولم يكد «موکا» يُعاود الدقَّ، حتى دقَّ جرسُ إنذارٍ في الطابَقِ كلِّه … جرسًا عاليًا مخيفًا … واندفع سُكَّان الطابق جميعًا في كلِّ اتجاه، وأسرع «أحمد» يشعل جريدةً قديمة، ويُلقيها في دورة المياه، ويضع عليها فوطة، ثمَّ يرشُّها بالماء … وانطلق دخانٌ كثيف، وعاد «أحمد» ينظر من خلال العدسة … كان «موکا» واقفًا وقد بدت على وجهه علاماتُ الدهشةِ والبلاهة، وقد امتلأ الدِّهليزُ بالنُّزلاءِ المذعورين … وظهر على الفورِ رجالُ الإطفاء … وأسرع «موکا» مبتعدًا، وقد بدت عليه علاماتُ الغيظِ والانفعال!
فتح «أحمد» البابَ لرجالِ الإطفاء، وكان الدُّخان كثيفًا في الغرفة، بعد أن وضع «أحمد» بعض الماءِ على الفوطةِ المشتعلة … وبالطبعِ تمَّ إطفاء الحريقِ المُفتعَلِ في دقائق، وانتهى كلُّ شيء … وفي نفس الوقت طلب «أحمد» من الشياطين حَزْمَ حقائبهم فورًا، وطلب منهم الخروجَ واحدًا واحدًا، فإذا شاهدوا «موکا»، فينشغل بواحدٍ منهم، وفي إمكان الباقين الاختفاء … واتَّفقوا على اللقاءِ في مطعم «فرانك» في «مانهاتن» … وأخذ «أحمد» حقيبةَ المجوهراتِ معه، بعد أن وضعها في حقيبةِ ثيابه.
استقبلهم «فرانك» بحرارة، وروى له «أحمد» بسرعةٍ ما جرى من أحداث، منذ وصولهم إلى «نيويورك» في اليومِ السابق.
قال «فرانك» مُعاتِبًا: کیف لم تُخطِروني بوصولكم؟!
أجاب «أحمد»: في الحقيقة، لم نكن نريد أن يعرف «بازولیني» أنَّنا عدنا … كنَّا نريد أن نفاجئه في الشاطئ الشرقي حيث تتجمَّع عصابته!
ابتسم «فرانك» في حرارة قائلًا: إنَّ العصاباتِ هنا على اتصالٍ بعضها ببعض، ومن المؤكَّد أنَّ «بازوليني» قد علم بوصولكم بعد لحظاتٍ من نزولكم إلى المطار!
قال «أحمد»: هل تعرف «موكا برازي»؟
اصفرَّ وجه «فرانك»، وبدا عليه الاضطرابُ، وأجاب: ما دخلُ «موکا» بكم؟
أحمد: لماذا أنت مُضطربٌ؟
«فرانك»: لأنَّ هذا الرجل عصابةٌ وحده … إنَّهم يُسمُّونه في بلادنا «البولدوزر»، أو «الدبَّابة» … فهو قويٌّ جدًّا، وشرِس، ومُدجَّجٌ بالسلاح … ولم يُعرف عنه أنَّه كُلِّف بمهمَّة وفشل فيها!
أحمد: سنری ما نفعل مع «موكا» … المهمُ الآن، هل ما زال «بازوليني» يُطارِدك؟
سکَت «فرانك»، ولم يردَّ … وعرف «أحمد» أنَّه يُخفي عنه شيئًا، فقال له: «فرانك»، من الواجبِ أن تقول لنا الحقيقةَ … لقد جئنا عَبْر آلاف الأميالِ لنساعدك، ولیس من المعقولِ أن تُخفيَ عنَّا ما يحدث لك!
قال «فرانك»: لقد وصلَتني منه رسالةٌ شفويَّةٌ أوَّل أمس؛ إنَّه يريد المبلغَ الذي حدَّدَه منذ شهورٍ، بل ويطلبُ زيادةً لأنَّكم أصبتموه بخسائر!
أحمد: وماذا فعلتَ؟
فرانك: إنَّني لم أدفع شيئًا حتى الآن، ولا أدري ماذا أفعل … إنَّه قادرٌ بالطبع أن يُحطِّمَني!
أحمد: لا تدفع له شيئًا، إنَّنا سوف نتدخَّل!
فرانك: ولكن «موکا برازي»!
أحمد: إنَّ «موکا» ليس إلا شخصًا كغيره، وسوف نجد وسيلةً للتعاملِ معه … والآن نحن في حاجةٍ إلى مكانٍ نقضي فيه بقيَّة الليل ثمَّ نرحل!
فرانك: عندي شقَّةٌ صغيرةٌ فوق المطعم، إذا كانت تناسبكم!
أحمد: بالطبع!
وقادهم «فرانك» إلى ممرٍّ داخل العمارة، يُطِلُّ على فناءٍ صغيرٍ فيه بعض الأشجار. ووجدوا سُلَّمًا حديديًّا صَعِدوا عليه جميعًا، ثمَّ مرُّوا في شُرفةٍ واسعةٍ انتهت عند بابٍ صغير، فتحَه «فرانك»، وقال: هذه هي الشقَّة، وهي لا تليقُ بكم، ولكن …
أحمد: ليس مُهِمًّا الآن … إنَّنا في حاجةٍ إلى الراحة، وغدًا سوف نحصل على معلوماتٍ عن «بازوليني» وعصابة الشاطئ الشرقي، وسوف لا نغادر «أمريكا» إلا إذا انتهينا من هذه القصَّةِ كلِّها!
هزَّ «فرانك» رأسه، وقال: إنَّني أُفكِّر في تصفية أعمالي ومغادرة «أمريكا» كلِّها إلى بلدٍ آخر، بعيدًا عن هؤلاء المجرمين … خاصَّة بعد أن تدخَّل في الموضوعِ «موکا»، إنَّه وحشٌ بشري!
أحمد: دعكَ من هذه الخواطرِ السوداءِ … دعنا نتصرَّف!
وكانت الشقَّةُ صغيرة، ولكنَّها أنيقة … واستسلم الشياطين للنومِ وهم يتصوَّرون ماذا سيحدث غدًا.