المطارداتُ مستمرَّة!
كان الشارعُ الذي جَرَت فيه المطاردةُ ضيِّقًا، وكان المطرُ يهطِلُ بشدَّة، وأضواءُ السيَّاراتِ تبدو كخيوطٍ ضخمةٍ من الضوءِ تُحاول تبديدَ الظلامِ والمطر … وصاحت «إلهام»: اقفزوا إلى السيَّارة، سنستولي عليها!
وكانت هي أوَّل من قفز إلى رفرفِ السيَّارةِ المرتفعِ بجوارِ السائق، ومن الناحيةِ الثانيةِ قفز «عثمان». وأزاحا السائقَ المندهشَ جانبًا، وجلسَت «إلهام» إلى مقعد السائق، وركب «أحمد» و«زبيدة» في الخلف، وأطلقَت «إلهام» للسيَّارةِ الضخمةِ العِنان. وأخذ الرَّصاصُ ينهال في كل اتجاه، ولكنَّ السيَّارةَ الكبيرةَ استطاعت أن تشُقَّ طريقها في الشارعِ الضيِّق، واستطاع «عثمان» أن يضرب أحد الرجالِ عندما حاول القفزَ إلى رفرف السيَّارة، وسرعان ما كانوا يغادرون الشارع الضيِّق إلى كورنيش نيويورك، بينما وقف «موکا» ورجاله يلعنون ويسخطون، وقد اصطدمَت سيَّارتهم وتعطَّلَت، وخسروا المعركةَ الصغيرةَ التي دارت في الشارعِ الضيِّق.
أخذت السيَّارةُ الكبيرةُ تهدِرُ فوق أرض الشارعِ الذي خلا من المارَّة، إلا من بعض الأشخاصِ يحملون المظلَّات، ويَجرُون في مختلف الاتجاهات … وأخرج «عثمان» خريطةً صغيرة، استطاع على ضوء كابينة السيَّارة أن يُحدِّد اتجاه المطار.
بعد نحو ساعةٍ ونصف الساعة، وصلوا إلى المطار مُسرعين، واتَّجهوا إلى مكتب شركة «ترانس وورلد»، وهي أكبر شركات الطيران الداخلي في أمريكا، وتسلَّموا تذاكرهم … وبعد نصفِ ساعةٍ أخرى، كانت الطائرةُ تنزلق على ممرِّ المطارِ المُبتل، تحمل الشياطين الأربعة إلى «لاس فيجاس».
استغرق الأربعةُ في صمتٍ عمیق … وجاءتهم المُضِيفةُ بوجبةٍ ساخنة، استسلموا بعدها للنوم؛ فقد كانت الرحلة من نيويورك في الشاطئ الغربي إلى «لاس فيجاس» في أقصى الشرق، تستغرق نحو أربع ساعات.
سارت الأمورُ عاديَّة، حتى أعلن الميكروفون في الطائرة أنَّهم على وشك الهبوطِ في مطار «لاس فيجاس». كان مطارًا صغيرًا لا يتناسب مع اسم المدينةِ الشهيرةِ التي أُنشِئَت في صحراء «نيفادا» … وأسرع الأربعةُ إلى استعلامات المطار، وتسلَّموا مفاتیح السيَّارتَين، وانطلقوا تحت سماءٍ صافيةٍ إلى فندق «م. ج. م»، التي أنشأَته شركة «مترو جولدین مایر» السينمائيَّةُ الشهيرة … ولم يكن الفندقُ بعيدًا عن المطار، وبعد نحو ثلث ساعةٍ كانوا يدخلون من أبواب الفندق الضخم، وقد راعتهم حقًّا ضخامة الفندق وفخامته … كان مكسُوًّا كلُّه باللونِ الأحمر؛ الأسقف والجدران والسجاجيد … وكانت الثُّريَّاتُ الضخمةُ تتدلَّی من السقفِ في صفٍّ واحدٍ طويل، وتنعكس أضواؤها اللامعة على المرايات الضخمة … وبدا كلُّ شيءٍ كأنَّه حُلمٌ رائع!
وبعد إجراءات التسجيل المعتادة، شاهدوا صالة الاستقبال، والتي يجلس فيها أُلوف الناس من جميع أنحاء العالم … وعلى اليسار كانت مجموعة المصاعد … وفي لحظاتٍ كانوا في الدورِ العشرين، ودخلت «زبيدة» و«إلهام» معًا، و«أحمد» و«عثمان» معًا، بعد أن اتَّفقوا على اللقاءِ في الكافيتريا بعد ساعةٍ من الراحة.
في الموعد المُحدَّد، كان الأربعة يجلسون في الكافيتريا … طلبوا بعض الساندويتشات والعصير، وأخذوا يتفرَّجون على مشاهير نجوم السينما، منهم «دین مارتن»، و«دونا سومر»، و«ترافولتا»، وغيرهم.
قالت «زبيدة»: من الأفضل الاتصالُ بالثريِّ العربيِّ صاحب الحقيبة … إنَّ من الخطرِ الإبقاءَ على هذه الثروةِ معنا، خاصَّةً المستنداتِ الخاصَّةَ بشراء الأسلحة!
أحمد: سنضعهم في خزينةٍ خاصَّة؛ فكلُّ الفنادق الكبرى فيها خزائنُ لهذا الغرض؛ فمن المُهِمِّ انتظارُ مكالمةِ عميل رقم «صفر» في المنطقة حتى نعرف مواضع أقدامنا!
وافقوا جميعًا على اقتراح «أحمد»، وقرَّرَوا قضاءَ ليلةٍ هادئةٍ قبل أن يبدءوا صراعهم المُميت مع «بازوليني». وأسرع «أحمد» باستئجار خزينةٍ من الفندق، ونزل يحمل الحقيبة الصغيرة وما فيها، ويضعها في الخزينة.
في الثامنةِ صباحًا، تلقَّى «أحمد» مكالمة عميل رقم «صفر». قال الرجل: هل «ش. ك. س» بعيدة؟
عرف «أحمد» أنَّ هذه هي شفرته، فقال: أظنُّ ذلك!
الرجل: وهل يمكن أن تضع يدك اليسرى في جيبك الأيمن؟
أحمد: إذا كانت الجاكت مقلوبة!
الرجل: إذن إليك هذه المعلومات … إنَّ رجال «بازوليني» منتشرون في «لاس فيجاس»، و«لوس أنجلوس»؛ فهم يتوقَّعون أن تظهروا هنا أو هناك!
أحمد: و«بازوليني»؟
الرجل: إنَّه لا يظهر أبدًا؛ فهو مطاردٌ من رجالِ البوليس!
أحمد: وماذا تتوقَّع؟
الرجل: عليك أن تتوقَّع أنت أنَّهم سيهاجمونك في أيَّة لحظة … إنَّهم يريدون الاستيلاءَ على ما في الحقيبةِ السوداءِ بأيِّ ثمن، ليس فقط من أجل المجوهراتِ التي بها، ولكنَّ مستنداتِ الأسلحةِ هامَّةٌ جدًّا … إنَّ دولةً معاديةً على استعدادٍ لدفع ملايين الدولاراتِ للحصولِ عليها!
أحمد: إنَّني سوف أُغريهم بها ليظهروا … فقد يقودنا ذلك إلى «بازوليني»!
الرجل: كن على حذر … إنَّك في وسَط غابةٍ من العصابات، وهذه العصاباتُ تُعين بعضها بعضًا في مواجهة أغرابٍ مثلكم!
أحمد: إذا لم أستطع القضاءَ على «بازوليني»، فلا أقلَّ من أن أجعله يظهر ليقع في أيدي البوليس … كيف أتَّصل بك؟
أملاه الرجل أرقام ٣ تليفوناتٍ مختلفة، واتَّفقا على أن تكون الشفرة بينهما هي نفسُ الشفرةِ التي تكلَّم بها الرجل.
وضع «أحمد» خُطَّته ببساطة: سوف أحمل أنا الحقيبةَ وأسير أمامكم، وعليكم أنتم الثلاثة أن تجعلوا أسلحتكم في وضع استعداد … سیروا بالترتيب، «إلهام» و«زبيدة» خلفي، وبعدهما «عثمان».
نزل «أحمد» قبل زملائه الثلاثةِ بدقائقَ؛ حيث دخل الخزانةَ الخاصَّة، وخرج منها يحمل الحقيبةَ، وكان في انتظاره الشياطين الثلاثة … وساروا معه عبر الصالةِ الحمراءِ الواسعةِ التي لا تهدأ الحياةُ بها ليلَ نهار، ثمَّ خرجوا إلى الطريق، ووصلوا إلى السيَّارتَين … ركب «أحمد» و«إلهام» سيَّارة، وتبعَتهما «زبيدة» و«عثمان» في سيَّارةٍ أخرى … وانطلقَت السيَّارتان، ولم يكن الشياطين الأربعة في حاجةٍ إلى جهدٍ كبيرٍ ليعرفوا أنَّهم متبوعون بمجموعةٍ من السيَّارات … كان «أحمد» قد قرَّرَ أن تُصبح الحقيبة طعمًا لاجتذاب «بازوليني» ورجاله، وكانت خُطَّته أن يصل إلى «لوس أنجلوس» لمقابلة الثريِّ العربيِّ ليردَّ له المجوهراتِ والوثائقَ العسكريَّة … كانت المسافةُ كبيرة، تصل إلى نحو ٨٠٠ کیلومتر، قرَّر «أحمد» أن يقطعوها على مرحلتَين. وهكذا انطلقَت السیَّارتان الضخمتان … وبعد نحو ساعة، كانتا قد غادرتا مدينة «لاس فيجاس» التي تقع في قلب صحراء واسعة، وكان «أحمد» في السيَّارة الأولى يتبع إرشادات الطريق، وخلفه السيَّارة الثانية يقودها «عثمان».
وصلوا إلى الطريقِ الرئيسيِّ، وأخذت السيَّارتان تنهبان الأرضَ الناعمةَ، وبدأَت قمم جبال «نيفادا» المُتجهِّمة تُطِل من بعيد.
کان «أحمد» يُفكِّر في الطريقةِ التي ستقوم العصابةُ بتنفيذها لمهاجمتهم، وقال في نفسه: لو كنتً مكانهم، لحاولتُ الفصلِ بين السيَّارتين، ليتمَّ مهاجمة كلِّ سيَّارةٍ وحدها.
وقعت المطاردةُ الخفيَّةُ على الطريقِ الرئيسي … كان الشياطين الأربعةُ على استعدادٍ بأسلحتهم لأيِّ هجومٍ … ولكنَّ ما حدث لم يكن من الممكن توقُّعُه … فعند طريقٍ فرعيٍّ صغير، ومن خلف مجموعةٍ من الأشجارِ الضخمةِ، ظهرَت فجأةً سيَّارةُ نقل، واندفعَت كالوحش الهائج ناحية سيَّارة «أحمد»، الذي استطاع بمهارةٍ نادرةٍ أن يتفادى السيَّارة، ثمَّ يندفع إلى الطريق الفرعيِّ حتى لا يصطدم بها … وظلَّ مُسيطرًا على السيَّارة رَغم ضيق الطريق الفرعي حتى استطاع إيقافها دون أن تنقلب بهم … وعندما أوقف السيَّارة، ومن خلف الغبار الكثيف الذي أثارته، شاهد بين الأعشابِ العاليةِ والصخورِ الضخمةِ ثلاثة مدافع رشَّاشةٍ مُصوَّبة إليه، وكانت أيَّة طلقةٍ منها كفيلةً بنسف رأسه … فلم يكن أمامه إلا أن يستمع إلى نداءِ العقل. رفع يديه إلى فوق رأسه، وكذلك فعلَت «إلهام». وتقدَّم الرجال الثلاثة وأيديهم على المدافع الرشَّاشة، وقال أحدهم: لا تحاول أن تفعل أيَّ شيء!
وتقدَّم الرجالُ الثلاثة، وفتحوا بابَي السيَّارةِ الخلفيَّين، ثمَّ ركبوا، وقال الرجلُ الأول: والآن واصِل طريقك! ووضع فُوَّهة المدفعِ في مؤخِّرة رأس «أحمد».