الأمم الجمهورية
(١) حلف اليمين في أوروبا الغربية
لم يكن النموذج الروماني الذي قدَّمه ديفيد سوى واحدٍ من سلسلةٍ من هذه الأيمان؛ فلقد سبقه تصوير قوي ﻟ «قَسَم روتلي» رُسم في الفترة ما بين ١٧٧٩–١٧٨١ لمجلس مدينة زيورخ. وفي هذه الرسمة، جَسَّدَ هاينريش فوسلي أولَ قَسَم لتحالف الاتحاد السويسري القديم عام ١٢٩١ في صورة ثلاثة رجال ضخام البنية. في هذه الصورة المدهشة، يجعل فوسلي ممثلي كانتونات الغابات الثلاث الأصلية أوري وشفيتس وأونترفاليدين، يؤدون قَسَم الحرية على سيفٍ مرفوع في الهواء على مرج روتلي بجوار بحيرة لوسيرن التي جاءوا عبْرها في قوارب يحركونها بمجاديف، كما هو موضَّح في رسوم فوسلي. وكما نعلم من مصادر أخرى، فإن ممثلي الكانتونات أقسموا على تكوين اتحادٍ دائم لمقاومة طغيان أسرة هابسبورج واستعادة حقوقهم السابقة من خلال تحرير وديانهم من القضاة الظالمين والضرائب الجائرة. في هذه الصورة، يُؤَدَّى قَسَم التحدي بثلاثة رجال حازمين ومفتولي العضلات مادِّين أذرعهم، على غرار أسلوب التكلفية الذي ابتكره مايكل أنجلو الذي كان فوسلي معجبًا به للغاية أثناء إقامته الطويلة في روما.
علَامَ يدل هذا الشغف الجديد بالأيمان ومراسم حلف اليمين؟ ألا يمكن القول إنه يمثل العلاقة العهدية التي ناقشناها في الفصل السابق؛ أي إنه نسخة علمانية مما كان في الأصل ممارسة دينية؟ إن أداء اليمين والعهود كانا على أي حالٍ من الأعراف العامة على نحوٍ قاطع، وكانا يُستخدمان لتحقيق الالتحام بين عددٍ كبير من الأشخاص من خلال طريقة تقديس مهيبة يشهدها الجميع. في العهد الأصلي في سيناء، عندما تلقَّى شعب إسرائيل الوصايا العشر من الرب عن طريق موسى قالوا: «كُلُّ الْأَقْوَالِ الَّتِي كَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ نَفْعَلُ» (سِفر الخروج ٢٤: ٣). بالمثل، وافق الملك والشعب أثناء الثورة الفرنسية على طاعة القوانين والدفاع عن حرية الأمة والوطن، وأن يُخضِعوا مصالحهم الشخصية للإرادة العامة.
(١-١) سلالة الوطنية
رغم ذلك كله، فقد كانت علمانية التنوير أحد العوامل التي جعلت مفهوم الأمة يحظى بالصدارة؛ فعلى الرغم من عداء المفكرين ﻟ «النظام القديم»، فإن آثار قوة ومركزية الدولة المتزايدة على فكرة المجتمع القومي لا يمكن إنكارها. وفي حين احتفظت مناطق عديدة بهوياتها الثقافية المستقلة، فقد كانت السيطرة الثقافية والسياسية لباريس يوميًّا أكثر وضوحًا، وكذلك كان الإحساس بفرنسا كمجتمعٍ إقليميٍّ مستقل. ويمكن رؤية ذلك في خرائط فرنسا في القرن الثامن عشر، ولوحات فنية مثل سلسلة اللوحات التي رسمها كلود جوزيف فيرنيه لمناظر الموانئ في بداية الفترة الرومانسية. عزَّزَت المنافسة مع بريطانيا هذا الإحساس بالهوية الناشئة، لا سيَّما أثناء حرب السنوات السبع، وحروب الاستقلال الأمريكية التي ساعدت فرنسا في تمويلها. وعزَّز هذا الإحساسَ بصفةٍ خاصةٍ حاجةُ النُّخَب القوية إلى استرجاع القيادة السياسية والثقافية التي كانت تمتلكها الدولة في القرن السابع عشر المعروف ﺑ «القرن العظيم»؛ تلك القيادة التي شعروا أنها تتراجع في ظل نظامٍ ضعيفٍ ومستبد.
أخيرًا، يجب ألا نغفل أهمية النماذج الجمهورية والعهدية التي قدَّمتْها الجمهورية الهولندية، والكومنولث الإنجليزي وإنْ كان قصير العهد، والثورة المجيدة في وقتٍ لاحق؛ فهذه ليست مجرد مسألة تأثير مارستْه إنجلترا وحرياتها على المفكرين الفرنسيين المستقلين بصفةٍ خاصة، بل هي مسألة أسلوب سياسة جديد قدَّمتْه قومية العهد: فكرة أن مجموعة من الرجال يمكن أن يدخلوا في عهدٍ مع الرب والملك بإرادتهم الحرة، ويتخلَّوْن عن الهيئات الوسيطة، وأن هذه المجموعة تستطيع من خلال جماعاتها التشريعية سَنَّ قوانين وإبطالها، والتعبير عن الإرادة العامة للمجتمع السياسي داخل إقليمٍ معين. وهنا يكمن حافزٌ جديد قوي لتكوين أمة فرنسية مستقلة وموحَّدة لا تخضع لمُساءلة أحدٍ إلا أفرادها. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نرى أن مفهوم الأمة الجمهورية المدنية لم ينشأ فقط من تقليد الوطنية الكلاسيكية في بلاد الإغريق وروما وإيطاليا العصور الوسطى والكومونات والكانتونات الشمالية الحرة، بل قام أيضًا على معتقدات وسِيَر الكتاب المقدس بدرجةٍ أكبر من اعتماده على المعتقدات والسِّيَر الكلاسيكية، حتى مع العلم بأن تلك المعتقدات نفسها قد تعرَّضت للإنكار في مراحلَ لاحقةٍ مع الإطاحة بها في بعض الحالات.
(٢) القومية الجمهورية
بطبيعة الحال، فإن هذه التطورات، المتمثلة في مركزية الدولة، وخصخصة الدين، وتأثير النموذج العهدي من الأمم؛ لم تزدهر أو تجتمع معًا على الفور؛ ونتيجةً لذلك، فلا يمكننا إدراك بدايات أيديولوجية الأمة الجمهورية المدنية «في حد ذاتها» إلا في أواخر القرن الثامن عشر. ونظرًا لمحورية الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية في تاريخ الغرب، فإن هذا النوع من الأيديولوجية القومية بمنزلة المعيار لكل أشكال الأيديولوجيات القومية اللاحقة، حتى تلك التي تجعل نفسها مناهضة على نحوٍ واعٍ لكلٍّ من الغرب ومختلِف أنواع قومياته.
ومن ثَمَّ، في ظل القومية الجمهورية تندمج الأمة السياسية والثقافية لخدمة مجتمعٍ إقليمي يضم مواطنين ينصاعون للقوانين نفسها ويشتركون في القيم والمُثُل نفسها المتمثلة في الفضيلة وحب «الوطن». من وجهة نظر القوميين الجمهوريين، فإن الأرض مقسَّمة إلى أمم، لكلٍّ منها شخصيتها، وتاريخها، ومصيرها، وتسكن كلٌّ منها في وطنها التاريخي وتسعى إلى الوحدة والاستقلال الكامل كمجتمع سياسي يضم مواطنين متساوين. تُكوِّن الأمة وقوانينها المصدر الوحيد للسلطة السياسية، ولا يوجد وجود خارج الأمة. ولا يمكن تحقيق الحرية الحقيقية إلا من خلال الانتماء للأمة والمشاركة في حياتها ومن خلال التعليم العلماني الذي سوف يغرس في النفوس الحب الشديد للوطن، وتاريخه، ورموزه، وقِيَمه ومُثُله. إرادة الأمة هي أعلى محكمة استئنافٍ، وهي مصدر كل الخيرات؛ وهذا يعني أن نوع الحُكم يجب أن يكون جمهوريًّا وديمقراطيًّا في نهاية المطاف كي يُجسِّد ويُعبِّر عن سيادة الشعب ومجتمع المواطنين بأكمله.
(٣) دين علماني؟
إذًا لقد قدَّمت القومية الجمهورية سردًا علمانيًّا صِرفًا للمواطنة والتضامن السياسي. إن إصرارها على تأسيس مجتمع الأمة على أساس المصالح والاحتياجات البشرية وحدها، على النقيض من القانون الإلهي أو قوانين الطبيعة، دَعَّمَ مُثُلها المدنية والجمهورية. ولعل الأهم من ذلك أنها أكَّدت على الحاجة إلى الثورة من خلال التحرُّر الذاتي الجمعي وقدرة البشر في كل مكان على تنظيم نوعٍ من المجتمع عقلاني وأكثر مثالية. ومن هذا المنطلق، فإن كل الأفراد في كل مجتمع يستطيعون إعادة تشكيل المجتمع، وينبغي أن يُشكلوه على أساس المبادئ العلمانية الجديدة المتمثلة في الحرية والسيادة الشعبية والوطنية. ومن الناحية العملية، كان معنى ذلك أن كل الشعوب تستطيع — ومنوطٌ بها — الإطاحة بالحُكام الطغاة و«الأنظمة القديمة»، والقضاء على الجهل وخرافات رجال الدين، وتعليم شبابها فضائل الإخاء والوطنية، وتحفيز مواطنيها على المشاركة السياسية الفعَّالة، وغرس الرغبة في تجديد المجتمع والدفاع عنه ضد أعدائه الخارجيين وأعدائه في الداخل.
(٤) الاختيار الشعبي: المهمة العلمانية
تُمثل القومية الجمهورية نوعًا من التناقض؛ فمن ناحية، نجد أن محتوى عقيدتها علماني على نحوٍ جذري، ويُرَكِّز على احتياجات المواطنين، والتزامهم بالقانون، وترسيخ الفضيلة والوطنية. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن ممارسة أيديولوجيتها دينية على نحوٍ حماسي. إن نمط ثقافتها العامة، وتبجيلها للوطن، وتبجيلها لقتلى الحرب؛ تُقدِّم جميعًا صورة شركة مقدسة يقوم بها المواطنون في طقوس ومراسم عامة، وكذلك من خلال قوانين وتقاليد ورموز ومؤسسات. وبالمثل، فيما يخص القومية الجمهورية، فإن «الأمة» (مقارنةً ﺑ «دولتها») تعتبر شركة علمانية ذات أعراف وتقاليد، ولغة وثقافة محليتين، ووطن متوارث عن الأسلاف، وتاريخ وطقس عام يتمثل في بطولة التضحية بالذات؛ بَيْدَ أن هذه الصفات نفسها تساعد أيضًا في تحويلها إلى فئة دينية، وشركة مقدسة للشعب؛ ومن ثَمَّ تصبح شيئًا محل تبجيل ديني وعبادة شعبية.
(٥) سلف القومية الجمهورية
في كل أنحاء أوروبا خلال القرن التاسع عشر، ساعدَ مثالُ أوروبا ودينها العلماني المتمثل في القومية الجمهورية في تحويل مزيجٍ من دول الملكية المطلقة وإمارات صغيرة الشأن إلى جمهوريات قومية سيادية متشابهة ظاهريًّا تقوم على مبادئ القانون والمواطنة والتعليم العلماني. كان نجاح نابليون يعود جزئيًّا إلى جاذبية تلك المبادئ الجمهورية الثورية، وما تبع ذلك من إصدار لدساتير علمانية تقوم على المواطنة والحرية المدنية وحُكم القانون، لا سيَّما في الولايات الألمانية والبلدان المنخفضة وسويسرا. وفي سويسرا، تأسست الجمعية الهيلفيتية عام ١٧٦٢، وبتأثير من يوهان ياكوب بودمر وتلميذيه ألبرشت فون هالر ويوهان ياكوب برايتينجر، ازداد ربطُ أعضاء هذه الجمعية مُثُلَ التنوير والتقدم بشخصية «الاتحاد السويسري القديم» ومصيره.
خاتمة
رغم ذلك كله، يجب أن نتذكر أن هذه الأيديولوجية الجمهورية كانت مجرد نوعٍ من أنواع القوميات الحديثة، وأنها قدَّمت نوعًا واحدًا فحسب من النماذج القومية، وعلى الرغم من نجاحها، فإنها لم تكن خاليةً من المشاكل والنواقص. وفي هذا الصدد، كان من الممكن أن تقدم قوميات العهد القديمة بديلًا لها. وحتى الأيديولوجية غير المُفصَّلة المتمثلة في الأمة الهرمية، كان من الممكن تبَنِّيها في مجتمعاتٍ سياسية في العالم الحديث. وهنا تكمن أسبابُ الاختلاف والصراع، وهذه البدائل الحديثة هي ما ألتفتُ إليه في الفصل الأخير من الكتاب.