١٠ ديسمبر
منذ رحيلك توقفت عن قراءة الصحف؛ لستِ موجودة لكي تشتريها لي، ولا أحد آخر يقوم بذلك. افتقدت أن تكون أول ما أبدأ به، ولكن أصبح عدم قراءتها مصدر راحة لي بالتدريج. أتذكر والد الكاتب «إسحاق باشيفي سنجر»، الذي كان يقول: إن أسوأ عادة اكتسبها الإنسان الحديث، هي عادة قراءة الصحف اليومية، في الصباح. عندما تكون روح الإنسان أكثر استعدادًا للتلقي، تنهال عليه الصحف بكل ما أنتج العالم من شرور في اليوم السابق. في تلك الأيام، كل ما كان يجب عليك أن تفعله هو أن تتجاهل الصحف … لكي تتجنب ذلك، أما في أيامنا هذه فلم يعد ذلك ممكنًا؛ هناك الراديو والتليفزيون، وما عليك سوى أن تديرهما للحظة حتى يصل إليك الشر، ويزحف تحت جلدك.
وهذا ما حدث صباح اليوم. بينما كنت أرتدي ملابسي سمعت في أخبار الصباح المحلية أن الحافلات التي كانت تنقل اللاجئين سيُسمَح لها بعبور الحدود. كانت قد احتجزت هناك منذ أربعة أيام، لا يسمحون لها بالتقدم ولا بالعودة إلى حيث جاءت. كانت تحمل مسنين ومرضى ونساء وحيدات وأطفالهن الصغار. وكما قال قارئ الخبر، كانت أول مجموعة قد وصلت إلى المعسكر، الذي أقامه الصليب الأحمر، حيث يقدمون لهم الأشياء الضرورية. منذ نشوب تلك الحرب كنت أشعر بوجود شوكة في القلب، صورة كريهة، ولكنها تنقل الشعور بدقة. وبعد عام كنت لا أشعر بالألم فقط، وإنما بالسخط أيضًا، فقد بدا مستحيلًا أن يتقدم أحد لوقف المذابح. بعدها استسلمت للموقف. على أية حال، لا توجد آبار بترول في المنطقة، وإنما جبال حجرية. وبمرور الوقت تحوَّل السخط إلى غضب شديد، وظل ذلك الغضب يأكلني من الداخل مثل حيوان الخلد العنيد.
غريب أن أتأثر بالحرب وأنا في مثل هذه العمر، عندما يكون كل شيء قد قيل، وكل ما قيل قد حدث، والناس يحاربون بعضهم البعض كل يوم … هكذا استطعت على مدى ثمانين عامًا أن يكون لي جلد سميك، وأن أعتاد المكاره. كان اللاجئون والجيوش — منتصرين ومنهزمين — يمرُّون عبر العشب الأصفر في «كارسو» منذ أن ولدت. في البداية كانت هناك القطارات الحربية، التي تنقل جنود المشاة أثناء الحرب العظمى، وكانت القنابل تنفجر على الهضاب العالية، ثم طوابير طويلة من البشر العائدين من المعسكرات الروسية واليونانية، من حمامات الدم النازية والفاشية ومجازر الخنادق … والآن ها هي أصوات المدافع الثقيلة، مرة أخرى، تدوي على طول الحدود، ونزوح جماعي للأبرياء الفارين من حقول الموت في البلقان.
منذ سنوات، كنت مسافرة بالقطار من «تريستا» إلى «فينيسيا»، وجدت نفسي أصبح وسيطًا روحانيًّا في العربة نفسها. كانت هي امرأة متزوجة تصغرني بسنوات قليلة، وكانت ترتدي قلنسوة صوفية. لم أعرف — بالطبع — أنها كانت وسيطًا، ولكنني، وعلى قدر ما جمعت من حديثها مع المرأة الجالسة بجوارها، فهمت ذلك.
وأثناء سفرنا عبر هضاب «كارسو» قالت: «تعرفين! عندما أمرُّ بهذه الهضاب أسمع أصوات الموتى، لا أستطيع أن أخطو خطوتين دون أن تصم أذني. كلهم يصرخون في رعب، وكلما كان الموتى من صغار السن يأتي صراخهم أعلى.»
واستمرت تشرح لرفيقتها أن الطقس يتغير إلى الأبد كلما وقع فعل من أفعال العنف، ويصبح الطقس صدئًا وثقيلًا … وبدلًا من أن يُحدِث الصدأ شعورًا هادئًا، يشجع على مزيد من العنف. وفي النهاية قالت الوسيط: «العالم مثل الهامة مصاصة الدماء، بمجرد أن تتذوق طعم الدم لا بد أن تمص دمًا جديدًا، دمًا طازجًا، والمزيد منه …» ومنذ سنوات، وأنا أتساءل ما إذا كانت هناك لعنة سرية مخبأة في هذه الأرض التي نعيش عليها!
سألتُ هذا السؤال في الماضي، وأسأله الآن، ولا أجد إجابة. هل تتذكرين كيف كان من عادتنا أن نتسلق جبال «مون روبينو»؟ عندما كانت تهب ريح الشمال الشرقية، كنا نقضي الساعات كلتانا تحدق في المشهد الطبيعي أمامنا، كأننا ننظر من الطائرة. كان لدينا مشهد من ثلاثمائة وستين درجة … ونتنافس من فينا تستطيع أن تحدد — قبل الأخرى — موضع قمة ما في «الدولومايتس» أو مكان «جرادو دا فينيسيا».
والآن، وبعد أن أصبحت لا أستطيع الوقوف هناك، لا بد أن أغمض عيني لكي أرى المشهد ذاته. بفضل الذاكرة السحرية … كل شيء يظهر أمامي وحولي، وكأنني أقف على قمة الجبل. يمكنني حتى أن أسمع الرياح، وأنشق شذى الفصل الذي أختار، أقف هناك ناظرة إلى الأعمدة الحجرية التي تآكلت بفعل الزمن، والمساحات الجرداء من الأرض، حيث تقوم الدبابات بمناوراتها، والصخرة الجبلية الداخلة في البحر الأزرق عند «استريا»، وكلما نظرت إلى شيء حولي أسأل نفسي للمرة المليون: ماذا لو أن شيئًا لمس وترًا متنافرًا!
أحب هذا المنظر الطبيعي، وربما لذلك لا أستطيع أن أجيب عن السؤال. الشيء الوحيد الذي يمكن أن أكون متأكدة منه، هو أن الأشياء المرئية المحيطة … تؤثر على شخصية كل من يعيش في المنطقة.
وإن كنتُ أحيانًا أبدو قاسية أو فظة، وإذا كنتِ أنت أيضًا، فإن «كارسو» هي المسئولة، بما فيها من تآكل وألوان ورياح تضربها مثل السياط. لو أننا — مثلًا — كنا قد ولدنا في تلال «امبريا»، كان يمكن أن نكون أقل حدة، ولربما كان الغضب والسخط قد اختفيا من طبيعتنا. هل كان ذلك أفضل؟ لا أعرف! لا يمكننا أن نتخيل حال الأمور التي لم نخبرها.
على أية حال، لا بد أنه كان هناك قدر من اللعنة في الجو اليوم، لأنني عندما دخلت المطبخ … وجدت الطائر ميتًا على قطعة القماش. كان يبدو مهزولًا في الأيام الأخيرة، يأكل قليلًا، ويغفو بين لقمة وأخرى. ولا بد أن يكون الموت قد حدث قبل أول ضوء، لأنني عندما أمسكته بيدي كانت رأسه تتأرجح من جانب إلى آخر، وكأن زمبركًا قد انكسر في الجهاز. مسدت جسده لدقائق قبل أن ألفَّه في قطعة قماش، حاولت أن أدفئه قليلًا. في الخارج كان الهواء محملًا بثلج دقيق. أغلقت الباب على «باك» وخرجت. الآن … أنا لست قوية لكي أحفر بالفأس، ولذا جرفت بعض التراب بحذائي في حوض الزهور في منطقة طرية، وضعت الطائر، وقبل أن أعود ردَّدت التراتيل التي كنا نرددها دائمًا عند دفن الطيور الصغيرة … «يا رب … فلتتقبل هذه الحياة الصغيرة كما تقبلت كل الأخريات!»
هل تتذكرين كم رعينا من طيور، وحاولنا إنقاذها عندما كنتِ صغيرة؟ بعد كل يوم عاصف كنا دائمًا نجد طائرًا جريحًا. كنا نبذل قصارى جهدنا لعلاجها، ولكن الجهود كانت تضيع عادة؛ فنجدها ميتة من يوم إلى آخر. كم كان يبدو الأمر مأساويًّا! وبصرف النظر عن كيفية حدوث ذلك فقد كنتِ دائمًا مستاءة. «بعد انتهاء الدفن تجففين أنفك وعينيك براحة يدك، ثم تذهبين وتغلقين عليك باب غرفة نومك لكي تتغلبي على ذلك.»
وذات يوم سألتِني كيف سنجد أمك؟ فالسماء كبيرة، وقد يضل الناس طريقهم فيها. قلت لك إن السماء مثل فندق كبير، لكلٍّ غرفته الخاصة فيه، والذين كانوا يحبون بعضهم البعض على الأرض، يجدون أنفسهم في الغرفة نفسها بعد الموت، ويعيشون معًا إلى الأبد، وظل هذا التفسير مقنعًا لكِ فترة من الوقت، ولكن بعد أن ماتت سمكتك الرابعة، عدتِ للسؤال نفسه، وقلتِ: «وماذا لو لم يكن هناك مكان كافٍ؟»، قلت: «عليكِ أن تغمضي عينيك، وترددي لمدة دقيقة … أيتها الغرفة اتسعي … اتسعي … ولسوف تتسع في الحال.»
هل ما زلتِ تتذكرين تلك الخيالات الطفولية؟ أم ترى محارتك قد طردتها؟ كنتُ قد نسيتُ ذلك حتى قمت بدفن الطائر الأسود اليوم. «اتسِع أيها المكان!» يا له من سحر! فعلًا، مع أمك و«الهمستر» والعصافير وأسماك الزينة، ستصبح غرفتك مزدحمة بالفعل مثل مدرجات الكرة. قريبًا جدًّا … سأذهب أنا أيضًا إلى هناك، هل تريدينني في غرفتك؟ أم سيكون عليَّ أن أستأجر غرفة أخرى قريبة منك؟ هل سيمكنني أن أدعو الشخص الذي كان أول حب في حياتي؟ هل سيمكنني أن أقدمك إلى جدك الحقيقي أخيرًا؟
ما هي الأفكار والصور التي كانت في ذهني عندما نزلتُ من القطار في «بوريتا» في ذلك المساء من سبتمبر؟ لا شيء بالمرة! كانت رائحة أشجار اللوز تملأ المكان، وكان همي الوحيد هو أن أجد «البنسيون» الذي حجزت غرفة فيه. كنت ما أزال ساذجة، وليس لديَّ فكرة عن ألاعيب القدر القاسية. لو أنني كنت مقتنعة بأي شيء على الإطلاق فلا بد أن يكون ذلك بفضل قوة الإرادة، رغم كل ما حدث لي، سواء كان جيدًا أو لا. لحظة أن هبطت من القطار إلى الرصيف … اختفت قوة الإرادة. لا أريد شيئًا. أو لعله شيء واحد … وهو أن يتركوني في سلام!
قابلت جدك في أول مساء. كان يتناول العشاء مع رجل آخر في «البنسيون» الذي نزلت به … وباستثناء شخص آخر، لم يكن هناك أحد في غرفة الطعام. كان يتناقش في السياسة بحدة، وأثار صوته الحاد أعصابي. نظرت إليه — عمدًا — نظرتين قاسيتين أثناء الأكل، ولك أن تتخيلي كم كانت دهشتي عندما اكتشفت في الصباح التالي أنه طبيب المنتجع!
راح، لمدة عشر دقائق، يسألني عن حالتي الصحية، ثم حدث شيء شديد الإحراج، عندما بدأت أخلع ملابسي انهمر العرق غزيرًا مني كأنني أقوم بمجهود شاق. قال وهو يستمع إلى دقات قلبي: «يا إلهي! كم أنت خائفة! مرعوبة!»، وانفجر ضاحكًا، وبشكل متقطع. عندما قاس ضغط الدم ارتفع الزئبق إلى أعلى مستوى، وسألني إن كنت أعاني من ارتفاع في الضغط. كنت غاضبة من نفسي، وأقول لنفسي — مرارًا وتكرارًا — إنه ليس هناك ما أخشاه، وإنه مجرد طبيب يؤدي عمله، وإن وصولي إلى هذه الحال ليس طبيعيًّا ولا يليق! ورغم ذلك كله لم أهدأ. ثم أعطاني ورقة بنظام الغذاء، وصافحني، وهو يقول: «استريحي، واسترخي، وإلا فإن المياه الكبريتية لن تفيدك.»
في المساء نفسه، بعد العشاء، جاء وجلس على طاولتي.
وفي اليوم التالي كنا نتجول معًا في المدينة … ونثرثر.
الحيوية والطيش اللذان أزعجاني، أصبحا الآن مصدر جاذبية بالنسبة لي. كان هناك عاطفة وحماس في كل ما يقول، وكان من المستحيل أن أكون قريبة منه ولا ينتقل إليَّ دفء كل عبارة ينطق بها، ودفء حضوره.
كنت قد قرأت — منذ وقت بعيد — في جريدة ما، أن الحب، حسب أحدث النظريات، لا ينبع من القلب وإنما من الأنف … عندما يلتقي اثنان، وينجذبان كلاهما إلى الآخر، يبدأ انطلاق هرمونات صغيرة من كليهما — نسيت اسمها — تدخل فتحتي الأنف وتصعد إلى المخ، ثم في ركن سري منه تثير عواصف الأحاسيس والمشاعر. وانتهت المقالة — باختصار — إلى أن الأحاسيس والمشاعر ليست سوى روائح غير مرئية.
يا له من هراء! إن أي شخص شعر بحب حقيقي ذات يوم، بحب لا يمكن قياسه أو وصفه، يعرف أن تلك العبارة ليست سوى واحدة من تلك المحاولات العديدة المبتذلة لتشويه سمعة القلب. أنا لا أنكر أبدًا أن رائحة الشخص الذي تحبين يمكن أن تثير أحاسيس ومشاعر كثيرة، ولكن الأحاسيس والمشاعر لكي تستثار لا بد أن يكون شيء ما قد حدث بالفعل، شيء … أنا واثقة أنه مختلف تمامًا عن أن يكون مجرد رائحة.
عندما كنت مع «إرنستو» في تلك الأيام، كان لديَّ إحساس للمرة الأولى في حياتي أن جسدي ليس له حدود. كنت أشعر أن حولي هالة غير محسوسة، وكأن حدود جسدي قد نمت وكبرت، وأن ذلك النمو يتذبذب في الهواء كلما تحركت. تعرفين ما يحدث للنباتات التي لم تُروَ لبعض الأيام؛ الأوراق تصبح رخوة، وبدل أن ترفع نفسها نحو الضوء تتدلى كأذني أرنب حزين.
حسن! كانت حياتي على مدى السنوات السابقة مثل نبات لم يُرو، كان الندى في الليل كافيًا لكي يحفظ الحياة … ولا شيء آخر. كنت أستطيع أن أقف منتصبة … ولا أكثر! ولكنك في حاجة لري النبات مرة لكي ينتعش، ولكي ترفع الأوراق رأسها مرة أخرى. حدث ذلك لي في الأسبوع الأول. بعد ستة أيام من وصولي نظرت في المرآة فرأيت شخصًا آخر. كان جلدي أنعم وأطرى، وعيناي أكثر بريقًا، ثم بدأت أغني بينما كنت أرتدي ثيابي … وهو شيء لم أفعله منذ كنت طفلة.
عندما تشاهدين ذلك من الخارج من المحتمل أن تتصوري أن تحت كل ذلك الشعور بالبهجة، لا بد من وجود بعض القلق والتمزق وعدم الثقة بالنفس. كنتُ قبل كل شيء، امرأة متزوجة، فكيف أقبل رفقة رجل آخر، هكذا بكل ذلك الجذل؟
بالعكس، لم أكن أشعر بأي شك في نفسي، ولم تنتبني أية هواجس، وليس ذلك لأنني كنت ليبرالية التفكير، وإنما لأن ما كان يحدث لي كان يتعلق بجسدي … جسدي فقط!
كنت مثل جرو صغير ظل هائمًا في شوارع المدينة عدة أيام في الشتاء البارد، ثم وجد جحرًا دافئًا، لم يسأل أسئلة، وإنما يتكور على نفسه وينام. إلى جانب أن رأيي في جمالي كأنثى لم يكن عاليًا، ولم يطرأ على بالي أبدًا أن رجلًا قد يراني ملفتة أو جذابة على أي نحو.
وبينما كنت في طريقي إلى الكنيسة في أول يوم أحد، توقف «إرنستو» بسيارته جواري: «إلى أين أنت ذاهبة؟» سألني وهو يطل من شباك سيارته، وبمجرد أن أخبرته، فتح الباب وهو يقول: «صدقيني … إن الله سيكون أكثر سعادة إذا جئت معي في جولة في الغابات بدل الذهاب للكنيسة!»
وفي نهاية طريق طويل ملتفٍّ، وصلنا إلى بداية ممر ضيق بين أشجار اللوز. لم يكن الحذاء الذي ألبسه مناسبًا للسير في الطرق الوعرة، فكنت أتعثر باستمرار. وعندما أخذ يدي، بدا ذلك أكثر الأشياء طبيعية في العالم. مشينا طويلًا، ونحن صامتان. الجو مشبع برائحة الخريف والأرض رطبة، ومعظم أوراق الشجر صفراء يتخللها ضوء مختلف ألوانه. بعد فترة وصلنا إلى مساحة خالية تقف في وسطها شجرة لوز ضخمة. تذكرت شجرة البلوط عندما كنت طفلة … فذهبت إليها، وبدأت ألمسها بيدي، ثم وضعت خدي عليها. بعد لحظة، كان «إرنستو» يضع خده بجوار خدي، لم تكن عينانا قريبتين هكذا منذ أن تعارفنا.
في اليوم التالي لم تكن لديَّ رغبة أن أراه، كانت الصداقة تتطور إلى شيء آخر، وكنت في حاجة لوقت للتفكير.
لم أكن طفلة صغيرة، وإنما امرأة متزوجة، بمسئوليات المرأة المتزوجة، وهو أيضًا كان متزوجًا، والأكثر من ذلك أن له ابنًا. كنت قد توقعت كيف ستكون حياتي حتى الشيخوخة، والحقيقة أن شيئًا مما كان يحدث الآن، على عكس كل تلك التوقعات، لم يقلقني كثيرًا، لم أكن أعرف ماذا أفعل؛ اللامتوقع يكون مزعجًا في البداية … ولكن لا بد من التغلب على الخوف لكي تستمري.
أحيانًا كنت أرى ذلك عبثًا، وأنني لا بد أن أنسى ما حدث، أن أمحو القليل الذي حدث حتى الآن … ثم بعد لحظة أقول لنفسي … سيكون الأمر أكثر عبثًا لو توقفت الآن … وبعد أن أصبحت حية للمرة الأولى منذ طفولتي، بعد أن أصبح كل شيء ينبض … حولي وفي داخلي … وكانت فكرة التخلي عن ذلك كله تبدو مستحيلة. بالطبع كانت لديَّ هواجس! الشك الذي يحدث — أو الذي يحدث عادة — لكل امرأة … وهو أنه كان يقودني … كان يريد أن يسلي نفسه ولا أكثر!
كانت تلك الأفكار تطن في رأسي عندما أجلس بمفردي في تلك الغرفة الحقيرة المستأجرة. وفي الليلة التالية لم أستطع النوم قبل الرابعة؛ كنت متوترة وقلقة. ورغم ذلك، لم أكن أشعر بأي تعب في الصباح، وبدأت أغني وأنا أرتدي ملابسي. حب جارف للحياة ملأ كياني كله في تلك الساعات القليلة. في اليوم العاشر من وجودي هنا أرسلت بطاقة بريدية إلى «أوجستو»: «الجو هنا رائع، الطعام معقول، أتمنى أن يكون كل شيء على ما يرام.» وأرسلت إليه قبلة محبة. كنت قد قضيت الليلة السابقة مع «إرنستو».
في تلك الليلة، أصبحت على وعي بوجود عدة منافذ صغيرة بين الروح والجسد. عندما تكون مفتوحة، يمكن أن تتدفق المشاعر من خلالها. وإذا كانت مواربة … يمكن أن تقطر المشاعر قليلًا! الحب فقط هو القادر على فتحها كاملة … مثل عصفة ريح عنيفة.
لم نفترق طوال الأسبوع الأخير من إقامتي في «بوريتا»، كنا نخرج للتمشية مسافات طويلة، ونتكلم حتى تجف حناجرنا.
يا له من فرق بين أسلوب «إرنستو» وأسلوب «أوجستو»! كل ما هو «إرنستو» عاطفة متقدة وحماس! كان يستطيع أن يتكلم عن أكثر الموضوعات تعقيدًا ببساطة تامة.
كنا — عادة — نتكلم عن الله، واحتمال أن يكون هناك شيء وراء الواقع المادي. كان قد حارب في صفوف المقاومة، وواجه الموت أكثر من مرة، وجعلته لحظات كتلك يفكر في وجود كائن أعلى، ليس بدافع الخوف، وإنما من إحساس بوعي كبير. قال: «أنا أتجنب الطقس الكنسي، لا أذهب أبدًا إلى أي مكان للعبادة، ولن أومن بأية أفكار دينية جامدة، ولا بقصص اخترعها رجال لا يختلفون عنى في شيء.»
كلانا كان يأخذ الكلمات من فم الآخر، يفكر الأفكار نفسها ويعبِّر عنها بالطريقة نفسها. وكأن كلينا يعرف الآخر منذ سنوات، وليس من أسبوعين. لم يكن هناك سوى وقت قليل أمامنا، وفي تلك الليالي كنا ننام معًا … نغفو قليلًا لمجرد استعادة طاقتنا … أصبح «إرنستو» متحمسًا لفكرة «المقدَّر والمكتوب». قال: «في حياة كل رجل هناك امرأة واحدة فقط يمكن أن يحقق معها التوحد التام، وفي حياة كل امرأة هناك رجل واحد فقط يمكن أن تكتمل به.»
إلا أن قلة قليلة من هؤلاء هم المقدر لهم أن يلتقوا بعضهم البعض، والبقية مجبرون على الحياة غير راضين، وفي حالة شوق دائم. سأل في ظلام الغرفة: «كم لقاء مثل هذا حدث؟ واحد في الألف؟ واحد في المليون؟ واحد كل عشرة آلاف؟ نعم، واحد كل عشرة آلاف. اللقاءات الأخرى كلها تسويات … جاذبية سطحية وطرفية، تقارب فيزيائي أو تناغم شخصيات، عقد اجتماعي!» وبعد أن وصل إلى هذه النتيجة لم يقل شيئًا سوى ترديد … «ألسنا محظوظين؟! ألسنا محظوظين؟ أتساءل … ماذا وراء ذلك كله؟ من يعرف؟»
يوم سفري، وعندما كنا ننتظر القطار معًا في المحطة الصغيرة، ضمني إلى صدره، وهمس في أذني: في أية حياة سابقة التقينا؟ قلت: «في كثير»، ورحت أبكي! وفي حقيبة يدي كان لديَّ عنوان أكتب عليه في «فيرارا».
لن أحاول حتى أن أصف مشاعري أثناء ساعات الرحلة الطوال. كنت مضطربة، «وحيدة في مواجهة العالم بأسره». كنت أعرف أنني لا بد أن أتحول إلى مسخ في تلك الساعات، لذا رحت أتحرك جيئة وذهابًا إلى الحمام لكي أتأكد من تعبيرات وجهي. كان لا بد أن يختفي لمعان عيني، وأن تذوي ابتسامتي. تورُّد خدي سيكون هو الدليل الباقي على الأثر الجيد للهواء عليَّ. وجد والدي و«أوجستو» أن التحسن كان غير عادي. «قلت لك إن المياه ستفيدك»، ظل أبي يكرر ذلك، بينما راح «أوجستو» يحيطني باهتمامات صغيرة للمرة الأولى في حياته.
عندما تجربين الحب للمرة الأولى، ستفهمين كيف تكون الآثار مختلفة وغريبة. وعندما لا تكونين في علاقة حب مع أحد، عندما يكون قلبك حرًّا، وعيناك لا تبحثان عن عيني شخص آخر من بين كل من ترين من الرجال الذين يبدون جذابين … لن يهتم بك أحد. لحظة أن يطلبك شخص واحد، ولا أحد غيره، لحظة مهمة. سيبدأ الرجال يركضون وراءك، ويهمسون بتفاهات حلوة … ويتوددون إليك. إنها تلك المنافذ الصغيرة التي كنت أحكي لك عنها، وهي التي تُحدِث ذلك الأثر. عندما تفتح يلقي الجسد بضوء ساطع على الروح، والروح على الجسد، يضيء كل منهما الآخر بنظام المرايا، وسرعان ما تتكوَّن هالة ذهبية دافئة حولك، تجذبهم كما تجذب الدببة إلى النحل.
لم يكن «أوجستو» استثناء، وربما يبدو لك غريبًا أنني لم أكن أجد صعوبة في الاستجابة بحنان. بالطبع لو كان «أوجستو» رجل حياة أكثر من ذلك، أكثر ذكاء، لأدرك ما حدث. وللمرة الأولى منذ تزوجنا أجد نفسي ممتنة لحشراته المقززة!
هل كنت أفكر في «إرنستو؟» بالتأكيد! ولكنني فعلت أشياء أخرى قليلة. وإن كان «التفكير» ليس هو الكلمة المناسبة. بدل التفكير، كنت موجودة من أجله، وكان في داخلي، في كل حركة، في كل فكرة، كنا شخصًا واحدًا.
عندما افترقنا اتفقنا على أن أكتب أنا أولًا، وقبل أن يكتب هو كان عليَّ أن أجد صديقة أثق بها يرسل خطاباته إليَّ على عنوانها. أول رسالة كتبتها له كانت في آخر شهر أكتوبر. كانت الفترة التالية لذلك هي الأسوأ في علاقتنا. ليست حتى الأعظم، معظم الحب الكامل يمكن أن يكون خلوًّا من الشك، عندما يكون المحبون بعيدين عن بعضهم الآخر. كنت أستيقظ كل صباح فجأة، والجو ما يزال ظلامًا في الخارج، وأرقد بلا حركة … صامتة بجوار «أوجستو».
كانت تلك هي اللحظات الوحيدة عندما لا يكون ضروريًّا أن أخفي مشاعري. فكرت في تلك الأسابيع الثلاثة، وماذا لو كان «إرنستو» مجرد شخص مغوٍ، وبسبب الملل في ذلك المنتجع كان معتادًا على تسلية نفسه مع امرأة وحيدة؟ كلما طال انتظاري لرسالته التي لم تأت كان شكي يتحول إلى يقين. قلت لنفسي … حسن! حتى لو ظهر أن الأمر كذلك، حتى لو كنت قد تصرفت مثل أية امرأة ساذجة، فإن التجربة لم تكن سلبية ولا عديمة الفائدة. لو لم أذهب إلى هناك، لتقدمت في العمر دون أن أعرف شيئًا عن مشاعر المرأة. كان هناك معنى، أرأيت؟ أحاول فيه أن أحمي نفسي، أن أخفف من وطأة الضربة.
لاحظ أبي و«أوجستو» تزايدًا في انحراف مزاجي، كنت أدير أكرة الباب بلا سبب، وأترك الغرفة عندما يدخل أيهما.
كنت أريد أن أكون وحدي، فكرت في الأسابيع التي قضيناها معًا، أخضعتها لتفحص دقيق … دقيقة بدقيقة … في محاولة لأن أجد مفتاحًا للغز، لأن أجد شيئًا يمكنني من اتخاذ قرار مرة، وإلى الأبد. كم استمر العذاب؟ ستة أسابيع؟ شهرين؟ تقريبًا. وأخيرًا، في الأسبوع السابق للكريسماس، وصل الخطاب إلى منزل صديقتي. خمس صفحات مغطاة بيد شديدة التدفق. نفسيتي الجيدة، وروحي المرحة عادتا إليَّ على الفور. الكتابة إليه، وانتظار ردوده جعلت الشتاء يمر سريعًا … وكذلك الربيع. التفكير الدائم في «إرنستو» غيَّرَ إحساسي بالزمن. كانت كل طاقاتي مركزة على مستقبل غير محدد الملامح … على اللحظة التي أراه فيها مرة أخرى.
عمق الإحساس في خطابه أراح ذهني بخصوص الحب المشترك بيننا. كان حبًّا كبيرًا … عظيمًا … ومثل كل علاقات الحب الحقيقية لم يكن متأثرًا بأحداث دنيوية. قد يبدو غريبًا لك ألا يكون الانفصال الطويل قد جعلنا تعسين، ولن يكون صحيحًا إذا قلت لك إننا لم نكن نعاني بالمرة. كلانا قاسى من الانفصال الاضطراري، لكن مشاعر أخرى كانت مختلطة بالألم، وتوقع أن نلتقي ثانية كان يدفع ألم الانفصال إلى الخلفية … يجعله يتقهقر.
كلانا ناضج ومتزوج، وكلانا كان يعرف أن الأشياء لا يمكن أن تكون إلا هكذا. لو كان ذلك قد حدث في تلك السنوات الأخيرة لكان من الممكن أن أطلب من «أوجستو» الانفصال قبل مرور شهر، كان يمكن أن ينفصل عن زوجته، ونعيش في المنزل نفسه قبل الكريسماس. هل كان ذلك أفضل؟ لا أعرف. في قرارة نفسي لا أستطيع أن أتغلب على فكرة أن العلاقات عندما تكون سهلة، يصبح الحب تافهًا، وتنخفض حدة العاطفة لتصبح خيالًا عابرًا. تعرفين ما يحدث للكعكة عندما لا تكون الخميرة ممزوجة ومنتشرة جيدًا، بدل أن تخمر وترتفع كلها، تقب العجينة من جانب واحد، أو تتشقق تاركة الخليط يتسرب من القالب مثل مجرى الحمم؛ هكذا قراءة الحب … تفيض.
أن يكون لك حبيب، ويمكنك رؤيته لم يكن أمرًا سهلًا في تلك الأيام. كان الأمر أكثر سهولة بالنسبة لإرنستو، طبعًا، لأنه — كطبيب — كان يمكن أن يختلق موعدًا، مؤتمرًا، حالة طارئة. أما بالنسبة لي، واحدة ليس لديها أي نشاط سوى عملها كربة بيت، فقد كان الأمر مستحيلًا. كان عليَّ أن أخترع عذرًا، سببًا للغياب بضع ساعات أو حتى أيامًا دون إثارة الريبة. لذا، التحقت، قبل عيد القيامة، بنادٍ لهواة الثقافة الرومانية. كان الأعضاء يجتمعون أسبوعيًّا، ويقومون برحلات إلى أماكن ذات أهمية ثقافية. «أوجستو» لم يشك في شيء لأنه كان يعرف حبي للغات القديمة، ولم يكن هناك سبب لانتقاد ذلك؛ كان سعيدًا أن يراني أجدد اهتمامًا قديمًا من اهتماماتي. جاء الصيف سريعًا ذلك العام، وفي نهاية يونيو ترك «إرنستو» المنزل من أجل موسم المنتجع الكبريتي، كما كان يفعل كل عام، أما أنا فذهبتُ إلى الشاطئ مع والدي وزوجي.
في خلال ذلك الشهر استطعت أن أقنع «أوجستو» بأنني كنت ما زلت أريد طفلًا، وفي الصباح الباكر يوم واحد وثلاثين أغسطس أوصلني بالسيارة — حاملة الحقيبة نفسها، مرتدية الملابس نفسها مثل العام الماضي — إلى المحطة لكي أستقل القطار إلى «بوريتا». كنت في حالة قلق طوال الرحلة. لم أهدأ دقيقة واحدة. كنت أرى المنظر الطبيعي ذاته … المنظر الذي رأيته في العام الماضي من نافذة القطار … إلا أن كل شيء كان مختلفًا.
أمضيت في المنتجع ثلاثة أسابيع، وفي تلك الأسابيع الثلاثة عشت بعمق … أكثر مما عشت كل سنوات عمري. ذات يوم وأنا أتمشى وحدي في الحديقة عندما كان «إرنستو» مشغولًا بعمله، تخيلت كم يكون رائعًا أن أموت في تلك اللحظة. قد يبدو ذلك غريبًا، ولكن السعادة القصوى مثل التعاسة القصوى … تطلق دائمًا تلك الرغبات المتناقضة!
شعرت وكأنني أسير في طريق ضيقة في الغابة، منذ سنوات وسنوات، وكان عليَّ أن أشق طريقي عبر الشجيرات والأعشاب التحتية بمنجلٍ، ولا أرى سوى ما هو أمامي مباشرة … لا أعرف إلى أين أنا ذاهبة، ولا ما هو أمامي، كان يمكن أن يكون هاوية، مدينة كبيرة … أو صحراء … ثم قمت فجأة لأجد أنني — دون أن أدرك — كنت أصعد متسلقة … وأنني أقف الآن على قمة تل.
كانت الشمس قد أشرقت لتوها، وبدت التلال الأخرى بألوانها المختلفة متجهة صوب الأفق. كل شيء مغلَّف بزرقة ضبابية. نسيم خفيف يتلاعب على القمة، القمة ورأسي، رأسي والأفكار في داخلها. بين حين وآخر، يصدر صوت من الوديان تحتي، نباح كلب … رنين جرس.
لم تكن لديَّ رغبة في النزول ثانية، النزول إلى الأرض. كنت أريد أن أغمر نفسي في الضباب الأزرق، وأبقى هناك إلى الأبد، وستكون حياتي — حينذاك — هي لحظة الذروة في وجودي.
كنت ما زلت أفكر في ذلك عندما التقيت بإرنستو في المساء. لم أجرؤ على إثارة الموضوع على العشاء خوفًا من أن يضحك ساخرًا مني. بعد ذلك عندما لحق بي في غرفتي، وعندما أحاطني بذراعيه، وضعت شفتي بالقرب من أذنه، وهممت أن أقول «أريد أن أموت» … وبدل ذلك، قلت: «أريد طفلًا.»
عندما غادرت «بوريتا» كنت أعرف أنني حامل، وأعتقد أن «إرنستو» كان يعرف، لأنه في الأيام القليلة الأخيرة كان يبدو مضطربًا ومرتبكًا، وينتابه الصمت كثيرًا.
بدأ جسمي يتغير منذ الصباح الأول بعد الحمل. أصبح صدري فجأة أكثر امتلاء … وثباتًا، وبشرتي أكثر نضارة؛ أمر مدهش! كيف يتأقلم المرء بسرعة ليتلاءم مع الحالة الجديدة! لذلك أقول إنه حتى بدون اختبار حمل، ورغم أن بطني كانت مسطحة كما كانت دائمًا، إلا أنني كنت أعرف جيدًا ما حدث. كنت أشعر أنني مليئة بالإشعاع، بدأ جسدي يضبط نفسه ويتكيف … يبدأ في التمدد، ويصبح مشربًا بالقوة، لم أشعر أبدًا بشيء مثل ذلك من قبل.
عندما كنت وحيدة في القطار، طاف بذهني مزيد من الأفكار الكئيبة. عندما كنت مع «إرنستو» لم أشك أبدًا أنه سيكون لي طفل. «أوجستو»، حياتي في «تريستا»، الثرثرة المحلية … كان ذلك كله يبدو بعيدًا. والآن رغم أن الدنيا كانت تضيق، ومع سرعة تطور الحمل أصبح عليَّ أن أتخذ قرارات بسرعة، وأن ألتزم بها بمجرد اتخاذها. أدركت أنني لو قمت بعملية إجهاض — على العكس — سيكون ذلك أكثر صعوبة من إنجاب الطفل. ولن يخفى ذلك على «إرنستو»، وكيف يمكن أن أفسر ذلك، وأنا التي صممت منذ وقت طويل على الإنجاب؟ إلى جانب أنني لم أكن أريد أن أجري عملية إجهاض. لم يكن المخلوق الصغير الذي ينمو بداخلي غلطة يجب تصحيحها عند أول فرصة، كان تحقق رغبة، وربما أعمق رغبة شعرت بها في حياتي.
عندما تحبين رجلًا، عندما تحبينه بكل جسدك وروحك، لا يكون هناك ما هو أكثر طبيعية من الرغبة في إنجاب طفل، ليست تلك رغبة يمليها الذكاء، ليست خيارًا عقليًّا.
قبل أن التقى ﺑ «إرنستو» كنت أتخيل أنني قد أحب أن يكون لي طفل، وكنت أعرف بالضبط لماذا أريده، وأدرك كل إيجابيات وسلبيات ذلك. كان ذلك هو الخيار العقلاني، ولكنني كنت أريد طفلًا لأن الحياة كانت تمضي بي وحيدة … وحيدة جدًّا … ولأنني امرأة … والنساء إن لم يفعلن شيئًا آخر فلينجبن على الأقل! لو كنت أشتري سيارة لطبقت المعايير نفسها! ولكن … في تلك الليلة عندما قلت لإرنستو إنني كنت أريد طفلًا كان الأمر مختلفًا. كان ذلك قرارًا يطير في وجه الآراء البديهية، إلا أنه كان أقوى من كل الحجج التي قد تمليها الفطرة السليمة. بالإضافة إلى أنكِ عندما تفكرين في ذلك لا تجدين هنا قرارًا … تجدين مجرد رغبة مسعورة، حادة، لامتلاك الأبدية. كنت أريد «إرنستو» بداخلي، معي، بالقرب مني إلى الأبد. والآن عندما تقرئين كيف تصرفتُ ربما ترتعدين رعبًا، وتسألين نفسك: كيف فشلت في ألا تلاحظي أنني كنت أخفي جانبًا من طبيعتي … خسيسًا … حقيرًا كهذا!
عندما وصلت إلى محطة «تريستا» فعلت الشيء الوحيد الذي كنت أستطيع أن أفعله، وهو أن أبدو كزوجة رقيقة محبة لزوجها. كان «أوجستو» مدهوشًا للتغيُّر الذي طرأ عليَّ، وبدل أن يبحث عن تفسير؛ أصبح مشاركًا مستعدًّا لذلك.
بعد شهر، كان مقبولًا تمامًا أن يكون الطفل طفله. يوم أعلنت نتيجة اختبار الحمل عاد في الظهيرة إلى المنزل، وقضى اليوم كله معي يفكر في التعديلات التي سيجريها على المنزل استعدادًا لوصول الطفل. عندما صرخت بالخبر في أذن والدي؛ أخذ يدي في يديه الجافتين، ووقف فترة، كانت عيناه حمراوين دامعتين … منذ سنوات كان صَممه يشكل حاجزًا بينه وبين كثير مما يدور حوله. وكانت أحاديثه مثل نوبات انفجارية مفاجئة، تتخللها فترات صمت طويلة، ومفاجئة أيضًا، بين عبارة وأخرى مليئة بشظايا ونثارات من ماضٍ، ليس له علاقة بأي شيء. وبدل أن تهزني دموعه أثارت فيَّ إحساسًا ساخرًا بالمقت، لا أعرف لماذا؟! رأيتها مجرد إيماءة … وليس أكثر. ولكنه لم ير حفيدته. مات وهو نائم، بلا ألم، عندما كنت في شهري السادس من الحمل. عندما رأيته مُسجى في التابوت، صدمني كيف كان ذابلًا ومرهقًا، كان على وجهه التعبير نفسه … كان متباعدًا … محايدًا!
كتبت إلى «إرنستو» طبعًا بمجرد أن عرفت نتيجة الاختبار، وجاءني الرد في أقل من عشرة أيام. انتظرت عدة ساعات قبل أن أفتح خطابه. كنت مضطربة، أخشى أن يكون به شيء غير مريح. كنا في آخر النهار، عندما استجمعت شجاعتي، وأغلقت عليَّ دورة مياه في أحد المقاهي لأفعل ذلك في هدوء. كانت كلماته رزينة ومعقولة. كتب: «لست متأكدًا إن كان ذلك هو أفضل ما يمكن عمله، ولكنه قرارك وأنا أحترمه.»
الآن، وبعد أن حُلَّت جميع المشكلات، بدأت تحضيرًا هادئًا للأمومة. هل كنت أشعر بأنني حيوان غريب؟ هل كنت فعلًا حيوانًا غريبًا؟ لا أعرف! أثناء فترة الحمل، ولعدة سنوات بعد ذلك، لم أكن أعاني من شك أو ندم.
كيف استطعت أن أتظاهر بحب شخص بينما أحمل في رحمي طفل شخص آخر أحبه بالفعل؟ الأمور ليست بهذه البساطة، ليست أبدًا أبيض وأسود. الأشياء ألوان وظلال مختلفة. لم يكن صعبًا عليَّ — أبدًا — أن أكون لطيفة وحنونة مع «أوجستو» لأنني كنت بالفعل معجبة به، كنت أحبه بطريقة مختلفة تمامًا عن طريقة حبي لإرنستو؛ لم يكن حب امرأة لرجل، بل لعله حب أخت لأخ أكبر … ممل!
لو كان شريرًا على أي نحو لاختلفت الأمور، ولما كنت قد تمنيت أن يكون لي طفل، ولا أن أعيش معه تحت سقف واحد. ولكنه كان منهجيًّا جدًّا، وتنبؤيًّا جدًّا، إلى جانب كونه طيبًا ولطيفًا. كان سعيدًا بخصوص الطفل، وكنت سعيدة أن أحمله من أجله. فأي دافع كان هناك لأن أكشف سري؟ كان ذلك من شأنه أن يحطم حياة ثلاثة أشخاص؛ على الأقل كان ذلك ما فكرت فيه آنذاك.
في أيامنا هذه، أيام الحرية والاختيار، قد يبدو ما فعلته مروعًا، ولكن في ذلك الوقت، كانت الظروف عادية جدًّا. لا أقول إن ذلك قد حدث لكل اثنين متزوجين، ولكنه لم يكن شيئًا نادرًا أن تحمل امرأة خارج إطار الزوجية. وماذا يحدث؟ كما حدث لي تمامًا … لا شيء.
ووُلِد الطفل، ونما، كما ينمو الأطفال الآخرون في أي أسرة، ووصل إلى مرحلة بلوغ لم يشبها أي شك. في ذلك الوقت كانت الأسرة كيانًا متماسكًا، وما كان ليحطمها وجود طفل مختلف عن الآخرين، وهذا ما حدث في حالة أمك. بمجرد أن وُلِدت كانت ابنتي أنا و«أوجستو». كان أهم اعتبار بالنسبة لي هو أن «إيلاريا» كانت ثمرة حب، وليست ثمرة مصادفة أو عقد اجتماعي أو ضجر؛ وهذا، كما كنت أعتقد، يمكن أن يشفع لأية مشكلة أخرى، كم كنت مخطئة!
في السنوات القليلة الأولى، سارت الحياة عادية دون مشاكل كبيرة. عشت من أجلها، أو كنت أظن ذلك، وكنت مغرمة بها، مراعية لها. منذ أول صيف في حياتها اعتدت أن أمضي أشد أشهر السنة حرارة مع الطفلة على ساحل الأدرياتيكي. استأجرنا منزلًا، وكل أسبوعين أو ثلاثة كان «أوجستو» يجيء ليقضي معنا عطلة نهاية الأسبوع.
رأى «إرنستو» ابنته للمرة الأولى على ذلك الشاطئ، كان عليه أن يتظاهر بأنه شخص غريب تمامًا بالطبع، وهو يسير على الشاطئ «يتصادف» أن يسير بالقرب منا … يختار مقعدًا تظلله شمسية على بُعد خطوات قليلة، ومن هناك (عندما لا يكون أوجستو معنا) يظل يراقبنا بالساعات أثناء تشاغله بكتاب أو جريدة.
وفي المساء، كان يكتب لي رسائل طويلة، يصف فيها كل ما كان يدور برأسه ومشاعره نحونا، وكل ما رأى. في الوقت نفسه — تقريبًا — أنجبت زوجته طفلًا، طفلهما الثاني، وكان قد استقال من عمله الموسمي في المنتجع، وأنشأ عيادته الخاصة في «فيرارا»، مدينته الأصلية. أثناء السنوات الثلاث الأولى في «فيرارا» لم نلتق، باستثناء تلك المقابلات التي تبدو مصادفة.
كنت مسكونة بالطفلة، أمشي كل صباح سعيدة لعلمي أنها كانت موجودة، لا أستطيع أن أركز على شيء آخر مهما حاولت.
قبل مغادرتي بقليل في نهاية إقامتي الثانية في المنتجع، اتفقنا أنا و«إرنستو»، عقدنا ميثاقًا. قال: «كل مساء … في الحادية عشرة تمامًا، أينما أكن، ومهما كانت الظروف … سأخرج وأبحث عن الشعرى اليمانية، إذا فعلت الشيء نفسه، حتى ولو كنا بعيدين، بعيدين جدًّا … حتى لو لم نكن قد رأينا بعضنا منذ وقت بعيد، ولا يعرف كلانا ماذا يفعل الآخر، فسوف تلتقي أفكارنا هناك، وسوف نكون قريبين.»
وخرجنا إلى شرفة «البنسيون»، ومن هناك كان يتتبع مسارًا بإصبعه عبر النجوم … وأراني الشعرى اليمانية، تلمع بين الجوزاء ومنكب الجوزاء!