١٢ ديسمبر
استيقظت ليلة الأمس على ضوضاء مفاجئة، ومرَّ وقت قبل أن أدرك أنه كان التليفون. عندما قمت من السرير كان يرن منذ وقت، وبمجرد أن وصلت إليه … كفَّ عن الرنين. ورغم ذلك رفعت السماعة … «هالو!» ثلاث أو أربع مرات بصوتٍ نعسان، ثم بدل أن أعود إلى السرير جلست على كرسي جوار التليفون. هل كان أنتِ؟ من يا ترى؟ هزَّني ذلك الصوت في منتصف الليل، تذكرت قصة كانت صديقة لي قد روتها منذ سنوات قليلة. كان زوجها في المستشفى منذ فترة، ولكنها لم تكن معه يوم وفاته، بسبب تعليمات المستشفى الصارمة. في تلك الليلة، كانت في حال سيئة، ولم تستطع أن تنام، وبينما هي مستلقية في الظلام، سمعت رنين التليفون، وبالطبع أصابتها دهشة، متصورة أن ليس من المعقول أن يتصل بها أحد في مثل تلك الساعة المتأخرة لكي يعزيها. وعندما مدَّت يدها نحو التليفون صدمها شيء غريب … جدًّا! كانت حول التليفون هالة ضوئية تومض، تحوَّلت الدهشة إلى رعب عندما رفعت السماعة. سمعت صوتًا كان يبدو قادمًا من بعيد، يتكلم بصعوبة شديدة. يقول مصحوبًا بخلفية من الهسيس والصرير: «مارتا … أريد أن أودعك قبل أن أذهب.» كان صوت زوجها. وبعد ذلك، سمعت ضوضاء مثل ريح عاتية في الحال، استمرت الضوضاء لحظة … ثم انقطع الاتصال، وران الصمت.
في ذلك الوقت، التمستُ العذر لصديقتي، ولم أعلق على جموح خيالها، لأنني كنت أعرف مدى حزنها، ذلك رغم أن فكرة اتصال الموتى بالأحياء، عن طريق التكنولوجيا الحديثة، كانت تبدو لي فكرة سخيفة. ولكن لا بد أن تكون القصة قد تركت أثرها عليَّ. على أية حال، ربما تقبع هناك رغبة في أبعد جزء من كياني … عميقًا، عميقًا … أن يتصل بي أحد من العالم الآخر تليفونيًّا، عاجلًا أو آجلًا … لقد دفنت ابنتي وزوجي والرجل الذي أحببته كثيرًا … أكثر من أي شيء في العالم.
إنهم موتى، لا وجود لهم، ومع ذلك أشعر بشعور من نجا من سفينة غارقة. المد جرفني، وألقى بي على جزيرة، ولا أعرف شيئًا عن رفاقي الذين اختفوا عندما انقلبت السفينة، ربما غرقوا، وهذا أكثر من مجرد احتمال، وربما لم يغرقوا.
ورغم مرور أشهر … وسنوات، إلا أنني أواصل التحديق في الجزر القريبة، متوقعة أن أرى نفثة دخان، إشارة، شيئًا يؤكد شكي أنهم ما زالوا أحياء وجزءًا من العالم نفسه!
ليلة أن مات «إرنستو»، استيقظت على ضوضاء شديدة. أضاء النور، وقال: «من هناك؟»، ولم يكن في الغرفة أحد، بل إن كل شيء كان في مكانه كالمعتاد. وعندما فتحت باب خزانتي في الصباح، وجدت جميع الأرفف واقعة، وكل جواربي وأحذيتي وملابسي الداخلية مكومة في القاع.
الآن، أستطيع أن أتكلم عن ليلة أن مات «إرنستو»، بينما لم أكن أستطيع حينذاك، كنت قد تلقيت رسالة منه لتوي، ولا شيء كان بعيدًا عن ذهني. افترضت فقط أن الدعامات التي كانت تحمل الأرفف قد تآكلت بسبب الرطوبة، وانهارت بما كان فوقها من ثقل.
كانت «إيلاريا» في الرابعة من العمر، وقد بدأت الانتظام في الروضة من وقت قريب، وكانت حياتي معها، ومع أوجستو، قد استقرت على نحو رتيب … عادي. بعد ظهيرة ذلك اليوم، وبعد اجتماع في نادي هواة الثقافة الرومانية، ذهبت إلى مقهى لكي أكتب إلى «إرنستو». كان هناك مؤتمر في «مانتوا» بعد شهرين، وكانت تلك فرصة اللقاء التي ننتظرها منذ وقت طويل. في طريق عودتي إلى المنزل أرسلت الخطاب، وفي الأسبوع التالي كنت أتوقع رده.
لم يصلني منه شيء في ذلك الأسبوع، ولا في الأسابيع التالية. لم يسبق له أن جعلني أنتظر طويلًا هكذا! فكرت في البداية أن يكون الخطاب قد ضاع في البريد، ثم … ربما كان مريضًا، ولا يستطيع الذهاب إلى عيادته ليتسلم الخطاب.
بعد شهر كتبت له رسالة قصيرة … ولا رد. بمرور الوقت كنت أشعر وكأنني منزل تتسرب المياه إلى أساسه، وبدأ يتقوض. كان التسرب في البداية خفيفًا، ويبدو غير ضارٍ، كان حول الدعامات الخرسانية فقط. بعدها، أصبح كبيرًا، وأشد قوة، وأكثر عنفًا، حتى تحولت الخرسانة إلى رمل … ورغم أن المنزل قائم، ويبدو سليمًا من الخارج، إلا أنه — وكنت أعرف — كان جاهزًا للانهيار من أقل دفعة تجعل كل شيء يتقوض، وكأنه بيت من ورق.
عندما غادرت لكي أذهب إلى المؤتمر، كنت قد أصبحت خيالًا لنفسي السابقة، وبعد أن ظهرت — لوقت قصير — في «مانتوا» ذهبت إلى «فيرارا» مباشرة لأعرف ما حدث.
لا أحد يرد على جرس الباب في العيادة، ومن الشارع كانت المصاريع تبدو محكمة الإغلاق. في اليوم التالي ذهبت إلى مكتبة عامة، وطلبت صحف الأشهر الأخيرة، وفي فقرة صغيرة … كان هناك كل ما أحتاج أن أعرفه.
ذات ليلة، وهو عائد بعد زيارة مريض، فَقَدَ السيطرة على عجلة القيادة فاصطدمت السيارة بشجرة ضخمة؛ مات على الفور. كان التاريخ والوقت متطابقين تمامًا مع انهيار خزانة الملابس.
في قسم الأبراج، في واحدة من تلك المجلات المخيفة التي تحضرها إليَّ سنيورا «رازمان»، من وقت إلى آخر، قرأت مرة أن المريخ في المنزل الثامن هو الأعلى في كل حوادث الموت العنيفة. وبناء على ما هو مكتوب، فإن أحدًا من مواليد هذه المجموعة من النجوم لن يموت على فراشه، وأتساءل حائرة إن كانت «إيلاريا» و«إرنستو» قد ولدا تحت ذلك الغطاء المشئوم! الأب وابنته ماتا بفارق عشرين عامًا، وبالطريقة نفسها، الاصطدام بشجرة … على عجلة قيادة.
موت «إرنستو» ألقى بي في اكتئاب عنيف. سرعان ما أدركت أنني، على مدى السنوات القليلة الماضية، لم أكن أضيء بسبب نور منبعث من داخلي، وإنما كنت أعكس الضوء. السعادة وحب الحياة اللذان كنت أشعر بهما لا ينتميان إليَّ بالمرة … ليسا مني … كنت مجرد مرآة. كان «إرنستو» يشع ضوءًا بهيًّا، وأنا أعكسه، وبعد أن رحل؛ أظلم كل شيء مرة أخرى. رؤية «إيلاريا» لم تعد تفرحني، أصبحت تسبِّب لي ضيقًا وإزعاجًا. كنت مضطربة لدرجة الشك في أن تكون — فعلًا — ابنة «إرنستو»، ولم يخف عليها تغيُّر وجهي!
بواسطة جهاز الاستشعار الحاد لطفلة حساسة، سجلت رفضي، وأصبحت عنيدة وقاسية. كانت قد أصبحت الآن النبات الصغير المتسلق، وأنا الشجرة العجوز التي توشك حياتها أن تتسرب منها. كانت تتشمم شعوري بالذنب مثل كلب الشرطة، وتحوِّله إلى خطافات تتعلق بها أطرافها. أصبح المنزل جحيمًا صغيرًا بسبب نوبات الشجار والصراخ.
ولكي يريحني «أوجستو» من هذا العبء، جاء بسيدة لرعاية البنت. حاول لبعض الوقت أن يثير اهتمامها بحشراته، ولكن بعد ثلاث أو أربع محاولات، وبعد أن وجد أن استجابتها الوحيدة هي صراخها إن: «الحشرات مقرفة» … أقلع عن ذلك. كان «أوجستو» يعبِّر عن عمره، كان ينبغي أن يكون جدًّا لابنته، وليس أبًا؛ كان حنونًا، ولكنه بعيد!
في كل مرة أنظر لنفسي في المرآة، كنت ألاحظ أيضًا أنني قد تقدمت كثيرًا في العمر. أصبحت أرى في ملامحي قسوة وخشونة لم تكونا هناك، إهمالي لنفسي كان نوعًا من التعبير عن اشمئزازي من نفسي.
والآن، بعد المدرسة وبعد المربية التي تسلمت «إيلاريا»، أصبح لديَّ وقت طويل لنفسي، وحيث إن تعاستي كانت قد جعلتني أكثر قلقًا، كنت أخرج بالسيارة لأتجول في أرجاء «الكارسو» وكأنني في غشية.
أعدت قراءة بعض الكتب عن الدين، كنت قد بدأت دراستها في «لاكيلا»، باحثة — بشدة — بين صفحاتها عن حل لمشاكلي. كنت أردد لنفسي عبارة «القديس أوغسطين» عندما ماتت أمه:
«دعنا لا نحزن على فقدانها، بل نقدم الشكر لأننا عرفناها.»
عرَّفتني صديقة لي على كاهن الاعتراف، ولكن في المرتين أو الثلاث التي التقينا فيها كنت أخرج من عنده أكثر اكتئابًا وإحباطًا. كانت كلماته حلوة … لدرجة تبعث على الغثيان! يمدح قوة الإيمان، وكأنها شيء يؤكل … يمكن الحصول عليه من أقرب سوبر ماركت!
لم أستطع أن أجد سببًا لموت «إرنستو»، وما في داخلي من ظلام جعل البحث أكثر صعوبة. تعرفين … عندما التقينا، عندما وقعنا في الحب، شعرت في الحال أن كل شيء قد تقرر، كنت سعيدة أن أومن، سعيدة بوجود كل شيء حولي، شعرت بأنني قد وصلت إلى قمة وجودي، وأنها كانت راسخة، صلبة، وأن لا أحد يستطيع أن يزحزحني عنها، كنت واثقة من نفسي، وكان يملؤني اطمئنان العارفين الواثقين.
لعدة سنوات، كنت أعتقد أنني وصلت إلى تلك النقطة بجهدي، والحقيقة أنني لم أخط خطوة واحدة دون مساعدة. حتى وإن كنت أدرك ذلك في حينه، كنت محمولة على ظهر حصان، وهو الذي يتقدم على الطريق، وليس أنا.
وبمجرد اختفاء الحصان، أصبحت أشعر بقدميَّ وبضعفهما. كنت أريد أن أمشي، ولكن كاحليَّ انهارا، وأصبحت خطواتي خطوات طفل متعثرة … أو شخص عجوز.
في فترة ما، فكرت في أن أتعلق بأية دعامة قريبة من يدي: الدين مثلًا … أو العمل. ثم طردت الفكرة من رأسي بسرعة، مدركة أنني كنت سأتخبط ثانية. في سن الأربعين، ليس ثم مكان للتخبط. إذا وجدت نفسك عارية فلا بد أن تكوني شجاعة لتقبل الواقع. كان عليَّ أن أبدأ من جديد، حسن! ولكن من أين؟ من نفسي!
من السهل جدًّا أن نقول ذلك، ولكن كم هو صعب أن ننفذ!
أين كنت؟ من كنت؟ متى كنت نفسي فعلًا آخر مرة؟
كما قلت لك بالفعل، كنت أجول بالساعات على التلال، أنظر إلى المدينة تحتي، وعندما أشعر أحيانًا بأن تلك الوحدة تجعلني أكثر سعادة، أعود إلى المدينة، وأسير في شوارعها مختلطة بالزحام، بحثًا عن بعض السلوى. كنت مثل المرتبط بوظيفة … أترك المنزل عندما يغادره «أوجستو»، وأعود عندما يعود. كان طبيبي يقول لي إن تلك الحاجة للحركة جزء عادي من أنواع معينة من الانهيار العصبي.
لم أكن انتحارية، ولذا لم يكن هناك خطورة تتعلق بجولاتي، قال: إن المجهود الذي أقوم به يمكن أن يؤدي إلى تهدئتي، وقبِل «أوجستو» ذلك التفسير، ولكن سواء كان يصدق ذلك، أو كان يغض الطرف من أجل حياة هادئة، فأنا لا أعرف بالضبط. على أية حال كنت ما أزال ممتنة له لوقوفه بعيدًا، وعدم اعتراضه على جولاتي المعذبة. كان الطبيب على حق تمامًا في شيء واحد، أيًّا كانت درجة اكتئابي إلا أنني لم أكن انتحارية، كان ذلك غريبًا. بعد موت «إرنستو» لم تخطر فكرة الانتحار على بالي، ولا لدقيقة واحدة. لم تكن «إيلاريا» هي التي منعتني، كما قلت لك من قبل، فهي لم تكن تعني لي شيئًا في ذلك الوقت. كان بالأحرى لديَّ شعور باطني بأن خسارتي المفاجئة لم يكن مقصودًا أن تكون نهاية في حد ذاتها. كان لها هدف إلى حدٍّ ما، وكنت ألمح ذلك الهدف يتجلى لي كصخرة عالية، لا بد أن أصل إليها. هل كانت هناك لكي أصعدها؟ احتمال! ورغم أنني لم أستطع أن أتصور ما هو موجود على الجانب الآخر، أو ما سوف أراه بمجرد وصولي إلى القمة.
ذات يوم وصلت بالسيارة إلى مكان لم يسبق لي أن ذهبت إليه من قبل. وهناك كانت توجد كنيسة صغيرة تحيط بها مقبرة. التلال على الجانبين تغطيها الغابات، وعلى قمة أحدها رأيت الجدران الرمادية لقلعة قديمة. وراء الكنيسة مباشرة منزلان ريفيان أو ثلاثة … ودجاج ينقر بحرية … وكلب أسود ينبح. اسم المكان على الخريطة «ساماتورزا» … ساماتورزا … اللفظة قريبة من معنى كلمة «عزلة». المكان المناسب لكي يستجمع المرء فيه أفكاره. طريق حجري وعر يؤدي إلى خارج القرية، بدأت أسير عليه، دون أن أدري إلى أين يأخذني. كنا ساعة الغروب، ورغم ذلك كنت كلما تقدمت في السير، تقل رغبتي في التوقف. ومن حين إلى آخر كانت صرخة طائر «أبو زريق» تجعلني أقفز في مكاني. كان هناك شيء بعيد يناديني، ولكنني لم أفهم ما هو إلا عندما وصلت إلى منطقة خالية، ورأيت في وسطها شجرة بلوط ضخمة هادئة وجليلة … ذراعاها ممدودتان، وكأنها تستقبلني.
قد يبدو ذلك سخيفًا، ولكنني بمجرد رؤيتها … بدأ قلبي يدق بطريقة مختلفة، بدل أن يدق، كان يخرخر مثل قطة صغيرة سعيدة … مثلما كان يفعل عندما كنت أرى «إرنستو».
جلست تحت الشجرة، مسدتها وسندت ظهري ورأسي على جذعها. «اعرفي نفسك» … كنت قد كتبت تلك العبارة في كراسة تمارين اللغة اليونانية، وأنا تلميذة في المدرسة.
وأنا جالسة تحت شجرة البلوط، برزت إلى سطح ذهني تلك العبارة. اعرفي نفسك، هواء منعش، نسمة حياة.