٢٩ نوفمبر
تسبَّبت رياح الأمس القوية في سقوط ضحية، كما اكتشفت هذا الصباح في جولتي المعتادة في الحديقة. لا بد أن ملاكي الحارس كان يحميني، لأنني بدل أن أسير حول المنزل كما أفعل، عادة، ذهبت حتى آخر المكان، المكان الذي كان يوجد به الدجاج دائمًا، والذي يوجد فيه الآن كوم السماد.
وعندما كنت أسير بالضبط، بجوار السور الذي يفصل بين حديقتنا وحديقة «والتر»، لاحظت وجود شيء أسود على الأرض. كان يمكن أن يكون كوز أناناس، ولكنه كان يتحرك على فترات غير منتظمة. ولأنني كنت قد خرجت دون نظارتي الطبية، فلم أتبين أنه كان طائرًا أسود صغيرًا إلا عندما كنت أمامه تمامًا. أنثى شحرور، كادت رجلي أن تُكسَر، وأنا أحاول الإمساك به، لأنه كان يرفرف، ويفز كلما حاولت الاقتراب منه. لو كنت أصغر سنًّا لتمكَّنت من الإمساك به في أقل من الثانية … حركتي الآن بطيئة! وأخيرًا جاءتني فكرة فجأة، خلعت غطاء رأسي، وألقيته على الطائر، ثم حملت الصرة إلى داخل المنزل، ووضعت الكائن الصغير في صندوق حذاء قديم، بطَّنته بمزق من القماش، وخرمت الغطاء تاركة فيه فتحة تسمح له بخروج رأسه منها.
الطائر أمامي الآن على الطاولة، وأنا أكتب، ولكنني لم أضع له شيئًا ليأكله لأنه خائف ومضطرب. رؤية طائر مضطرب تصيبني بالتوتر، والخوف الذي ألمحه في عينيه يصيبني بالقلق. لو جاءت الآن جنيَّة، وظهرت وسط ومضة برق بين الثلاجة وموقد الغاز، هل تعرفين ماذا يمكن أن أطلب منها؟ خاتم سليمان. الخاتم السحري الذي يجعلني قادرة على الكلام مع أي طائر أو حيوان في العالم. حينئذٍ يمكن أن أقول لهذا الشحرور: «لا تخف يا صديقي، قد أكون إنسانًا، ولكن نيَّتي طيبة. سوف أرعاك وأطعمك، وعندما تتحسن صحتك سأطلقك حرًّا.»
لكن، دعينا نعود للكلام عنا. بالأمس افترقنا في المطبخ، بعد حكايتي المنزلية الرمزية عن عمل «البان كيك». لا بد أن تكون قد أزعجتكِ. الصغار يتصورون دائمًا أن الموضوعات الجادة تحتاج كلمات جادة … كبيرة وطنانة. قبل رحيلك بوقتٍ قصيرٍ، تركتِ لي رسالة تحت الوسادة، حاولتِ أن تشرحي فيها مشكلاتك.
الآن، وأنتِ بعيدة يمكن أن أعترف — بصرف النظر عن حالة انزعاجك — أنني لم أفهم كلمة واحدة منها. كل ما بها كان ملتفًّا وغامضًا. أنا إنسانة بسيطة، أنتمي إلى زمن مختلف عن زمنك تمامًا، أقول للأعور في وجهه: أنت أعور.
المشكلات يمكن حلُّها فقط على ضوء تجربة الحياة اليومية، من رؤية الأشياء كما هي، وليس كما يظن شخص آخر كيف يجب أن تكون. بمجرد أن نلقي وراء ظهورنا ما لا يخصنا، ما يأتي من خارجنا، نكون على الطريق الصحيحة. كان لديَّ — دائمًا — انطباع بأن الكتب التي تقرئينها تربكك أكثر مما تنير عقلك، وأنها تترك سحابة سوداء حولك، مثل الحبر الذي يفرزه حيوان الحبَّار عندما يهرب من عدو مفترس.
قبل أن تقرري الرحيل، عرضت عليَّ خيارًا: إما أن أدعك تذهبين لمدة عام، أو أن أرسلك إلى طبيب نفساني. وكان ردِّي حاسمًا ولا مساومة فيه. هل تتذكرين؟ يمكنكِ أن تذهبي لمدة ثلاث سنوات إن أردتِ، ولكنكِ لن تذهبي إلى طبيب نفساني، ولا مرة واحدة! لن أسمح بذلك، حتى لو تحمَّلتِ أنت التكلفة؛ فاجأك هذا الرد المتطرف وأذهلك.
حقيقة الأمر، هي أنك كنت تعتقدين أنك تعرضين عليَّ أهون الشرين. ورغم أنك لم تتكلمي كثيرًا، إلا أنني تصورت أنك كنت متأكدة أنني طاعنة في السن، وربما غير مدركة، ولا يمكنني أن أفهم مثل تلك الأمور. كنتِ مخطئة. حتى وأنا طفلة كنت أسمع الناس يتكلمون عن «فرويد». كان أحد أشقاء والدي طبيبًا، درس في «فيينا»، وكان على دراية بنظرياته منذ وقت باكر، وكان متحمسًا لها، ويحاول أن يقنع والدي بجدواها، كلما كان يأتي للعشاء. وكانت أمي ترد بسخرية: «لن تقنعني بأنني إذا حلمت بالإسباكتي أكون خائفة من الموت! إذا حلمت بالإسباكتي فمعنى ذلك أنني جائعة … ولا أكثر.» وكان عمي يحاول، دون جدوى، أن يقنعها بأن مقاومتها العنيدة ترجع لجهلها بنظرية «فرويد» عن الإزاحة، وأن خوفها من الموت لا شك فيه، لأن الإسباكتي والديدان هما الشيء نفسه، والديدان هي المصير الذي سنصل إليه حتمًا كلنا ذات يوم. هل تعرفين ماذا قالت أمي؟ بعد فترة صمت قصيرة، قالت بصوتها السوبرانو العالي: «وماذا إذن لو حلمت بالمكرونة العادية؟»
على أية حال، مواجهاتي مع تلك التحليلات النفسية ليست مقصورة على مرحلة الطفولة تلك، أمك كانت تتردد على محلل نفساني — هكذا يقال — لمدة عشر سنوات تقريبًا. وظلت تذهب إليه حتى موتها؛ ولذا كان يمكن أن ألاحظ كل تطورات العلاقة يومًا بعد يوم. الحقيقة أنها في البداية لم تقل لي شيئًا عن ذلك. وكما تعرفين، فإن أشياء كتلك تعتبر أسرارًا مهنية. ما صدمني في الحال، وبطريقة سلبية، هو إحساس الاعتماد والاتكال الفوري. بعد شهر على الأكثر، أصبحت حياتها كلها تدور حول تلك المواعيد وما يدور فيها. ربما كان يمكن أن يدخل ذلك في الاعتبار، ولكنه لم يكن أبدًا العامل الرئيس. ما أحزنني هو رؤيتي لها وهي في حالة استسلام وتبعية تامة لمؤثر آخر مسيطر.
في البداية كانت السياسة، والآن هذا الرجل.
كانت «إيلاريا» قد تعرَّفت عليه في آخر عام لها في «بادوا»، وكان عليها أن تذهب إلى هناك كل أسبوع. عندما أخبرتني بذلك النشاط الجديد كنت حائرة في البداية، وسألتها إن كان من الضروري فعلًا أن تقطع كل تلك المسافة من أجل طبيب مناسب؟!
من ناحية، كان قرارها أن تلتمس استشارة طبية لحالتها الاكتئابية مصدر راحة لي؛ فأنا أعتقد أن طلب المساعدة — في حد ذاته — خطوة على الطريق الصحيحة، إلا أنني من ناحية أخرى، وحيث إنني كنت أعرف ضعفها، كنت خائفة من اختيارها للشخص الذي تثق به. التعامل مع عقل شخص آخر أمر بالغ الدقة.
سألتها: كيف وجدته؟ هل رشَّحه أحد لك؟
ولكنها هزَّت كتفيها، وقالت: «لن تفهمي.» ثم صمتت تمامًا. ورغم أن كلينا كان يعيش في منزل مستقل في «تريستا»، إلا أننا كنا نلتقي مرة في الأسبوع — على الأقل — لتناول الطعام معًا. منذ بدأت علاجها النفسي كانت أحاديثنا على الطعام سطحية تمامًا وعابرة … عن عمد، كنا نتكلم عما يحدث في المدينة … عن الطقس … تقريبًا كنا نأكل ونحن صامتون. بعد زيارتها الثالثة أو الرابعة ﻟ «بادوا» لاحظتُ تغيُّرًا. وبدل الصمت المخيم بيننا، أصبحت هي التي تسأل. كانت تريد أن تعرف كل شيء عن الماضي، عني، عن أبيها، عن علاقتنا. لم يكن في أسئلتها حبٌّ ولا فضول. كنت أشعر أنني في جلسة تحقيق، تسأل الأسئلة نفسها عدة مرات، وتصر على معرفة التفاصيل الدقيقة، وتلقي بشكِّها على الأحداث التي تكون جزءًا منها، والتي كانت تتذكرها جيدًا.
في تلك الأوقات، كنت أشعر أنني لا أتكلم مع ابنتي، بل مع ضابط شرطة يحاول — بشتى الطرق — أن يجعلني أعترف بجريمة ما.
وبعد أن نفد صبري ذات يوم، قلت لها: «كوني أمينة معي … ما الذي تحاولين الوصول إليه بالضبط؟»
نظرت إليَّ بسخرية، أمسكت بشوكة، وراحت تدق بها على الكوب، وبينما كان صوت الزجاج يئز، قالت: «أريد شيئًا واحدًا … الحقيقة! أريد أن أعرف متى، ولماذا قصصت أجنحتي أنت وزوجك؟»
وكانت تلك آخر مرة أترك نفسي فيها عرضة لمثل ذلك الوابل من الأسئلة. في الأسبوع التالي بالتحديد، عندما اتصلت بها قلت: «أهلًا وسهلًا بك على الغداء، لكن بشرط واحد، بدل الاستجواب فليكن بيننا حوار.»
هل هو «كعب أخيل»؟ فعلًا! إذ بالرغم من وجود أشياء كثيرة أستمتع بمناقشتها مع «إيلاريا»، إلا أنني كنت أعتقد أنه ليس من الصواب، ولا من المفيد أن أكشف عن تلك الأمور تحت ضغط الاستجواب. لو أنني واصلت لعبتها، لما دخلنا في علاقة كبار أخرى، كان لا بد أن أكون — وإلى الأبد — مجرد طرف مذنب، وستكون هي الضحية — إلى الأبد أيضًا — مع عدم وجود أية إمكانية للتغير نحو الأفضل.
بعد عدة أشهر، تكلمت معها مرة أخرى عن علاجها. كانت الآن مشغولة بجلسات مع طبيبها، تستغرق، كلٌّ منها، عطلة نهاية الأسبوع كلها. فقدت كثيرًا من وزنها، وكانت هناك بوادر هستيريا في كلامها، لم أكن قد سمعتها من قبل. كلَّمتها عن عمها الكبير، عن خبراته الأولى بالتحليل النفسي، وسألتها، وكأن الأمر ليس له أهمية: «إلى أية مدرسة ينتمي طبيبك؟» قالت: «لا ينتمي إلى أية مدرسة … أو ربما ينتمي إلى مدرسة هو مؤسسها.»
منذ تلك اللحظة، ما كان اهتمامًا بسيطًا أصبح مدعاة للقلق الشديد. تمكنت من معرفة اسم الطبيب المعالِج، وأفادتني بعض التحريات أنه لم يكن يحمل أية مؤهلات طبية بالمرة. وتبددت فجأة الآمال التي كنت أعلقها على أثر العلاج النفسي. لم يكن وجود مؤهلات علمية بالطبع هو الذي جعلني أرتاب، وإنما — أيضًا — ذلك التدهور المطرد في حالة «إيلاريا». كنت أقول لنفسي «لو أن ذلك كان برنامجًا للعلاج … لظهر تحسن بطيء.» بعد فترة، ورغم شكوكي، كان لا بد أن يبرز وعي جديد محسوس، كانت «إيلاريا»، بدل ذلك كله، قد بدأت تفقد اهتمامها بكل شيء حولها. كانت قد أنهت دراستها قبل ذلك بعشر سنوات، ولكنها لا تعمل شيئًا. فَقَدت صلتها بالعدد القليل من الأصدقاء الذين كانت تعرفهم، وكان شاغلها الوحيد هو عمليات عقلها، مع اهتمام شديد لدرجة الهوس. كان العالم كله يدور حول حلم تكون قد رأته في الليلة الماضية، أو عبارة قلتُها أو قالها أبوها، منذ عشرين عامًا، وعندما كنت أرى تدهور حياتها، على هذا النحو، كنت أشعر بالعجز.
بعد ثلاث سنوات في الصيف … ظهر بصيص أمل استمر أسابيع قليلة. اقترحتُ أن نذهب في إجازة — معًا — بعد عيد القيامة، ولدهشتي لم ترفض الفكرة، رفعت بصرها عن الطعام، ونظرت إليَّ وسألتني: «إلى أين؟» قلت: «لا أعرف! أي مكان تريدين … أو إلى أي مكان يعجبك!»
وجلسنا ننتظر — على أحر من الجمر — حتى تفتح وكالات السفر أبوابها بعد الظهر. ترددنا عليها عدة أسابيع، نحاول أن نجد مكانًا نحب أن نراه. وفي النهاية، استقر الأمر على اليونان — كريت وسانتوريني — في نهاية شهر مايو. التحضير للرحلة قرَّبنا من بعضنا أكثر من ذي قبل. كانت مهتمة جدًّا بحزم الحقائب، وتخشى أن ننسى شيئًا مهمًّا، ولكي أخفف من قلقها؛ اشتريت مفكرة صغيرة، وطلبت منها أن تكتب قائمة بالأشياء التي تحتاجها، ثم تشطب ما تضعه منها في الحقيبة.
في ذلك المساء، وأنا أستعد للنوم، أنَّبت نفسي كثيرًا … كيف لم أدرك من قبل، أن الخروج معًا في رحلة يمكن أن يكون من أفضل الوسائل لترميم علاقتنا؟
بعد ذلك، في يوم الجمعة السابق على مغادرتنا، اتصلت بي تليفونيًّا. كان صوتها قاسيًا، أعتقد أنها كانت تتكلم من كابينة تليفون في الشارع، قالت: «لا بد أن أذهب إلى «بادوا»، وسوف أعود مساء الخميس على الأكثر.»
سألتها: «هل من الضروري أن تذهبي فعلًا؟»، لكنها كانت قد وضعت السماعة. لم أسمع منها شيئًا حتى الخميس التالي، عندما رنَّ التليفون في الساعة الثانية. كان في صوتها مزيج حدة وشعور بالندم، قالت: «أنا آسفة! لن أذهب إلى اليونان.» انتظرَتْ رد فعلي، وأنا انتظرتُ أن تكمل. وبعد لحظات قلت: «وأنا أيضًا آسفة … جدًّا … ولكنني سأذهب على أية حال.» فهمَتْ وشعرَتْ بخيبة أملي، وحاولَتْ أن تبدي أعذارًا، ثم قالت هامسةً: «لو أنني ذهبت، فسيكون فقط لكي أهرب من نفسي.» وكما تتخيلين … كانت إجازة تعسة. كنت أجبر نفسي على الاستماع للمرشدين، وأن أبدي اهتمامًا بالمناظر الطبيعية والمواقع الأثرية، ولكنني كنت — طوال الوقت— أفكر في أمك، وأتساءل إلى أين تأخذها الحياة؟ قلت لنفسي: إن «إيلاريا» مثل البستاني الذي زرع بذوره، وشاهد بزوغ النبتات الأولى فتملَّكه الخوف من أن يصيبها ضرر ما، ولكي يحميها من الرياح والأمطار اشترى غطاءً رقيقًا من البلاستيك، وغطَّاها به. ولكي يطرد عنها الذباب والحشرات، راح يرشها بجرعات ثقيلة من المبيدات، وعليه أن يعمل بلا توقف. لا تمر لحظة — ليلًا أو نهارًا — إلا ويفكر فيها، وفي كيفية وقايتها. وذات صباح، يرفع الغطاء البلاستيكي فيكتشف فجأة أنها — للأسف — قد تعفنت، وماتت … كلها!
لو تركها تنمو بحرية لمات بعضها، لكن البعض الآخر كان سيبقى بالتأكيد. وبفضل الرياح والحشرات كانت بذور أخرى ستنبت إلى جوار تلك التي بذرها، بعضها حشائش عليه أن يقتلعها، ولكن غيرها سيصبح زهورًا، تبعث البهجة في حديقة أي منزل.
هل رأيت ما أريد أن أصل إليه؟ هكذا الأشياء؛ الحياة تتطلب محبة وسماحة.
إذا زرعنا شخصيتنا الخاصة الصغيرة، بمعزل عما يحيط بنا من أشياء؛ فقد نواصل التنفس، لكننا نكون في الحقيقة موتى.
وبفرضها الصرامة الشديدة والقسوة الزائدة على عقلها، قمعت «إيلاريا» صوت قلبها. تلك الكلمة التي كنت أستخدمها وأنا خائفة أرتعد نتيجة لمناقشاتنا. مرة، عندما كانت في سن المراهقة، قلت لها: «القلب هو مولد الطاقة للروح.» في الصباح التالي، وجدت القاموس مفتوحًا على طاولة المطبخ على كلمة «الروح»، وتحت التعريف خط بالأحمر: «سائل عديم اللون يُستخدَم لحفظ الفاكهة.»
كلمة «قلب»، أصبحت هذه الأيام مرتبطة بأشياء ساذجة، وأحيانًا فجة. وأنا صغيرة، كان الواحد منا يمكن أن يستخدم الكلمة دون حرج، والآن لا أحد يستخدمها بالمرة. وفي المرات النادرة التي تسمع فيها كلمة «قلب» تكون للإشارة إلى قصور في الأداء … ولا يقصدون الكلمة بمعناها الكامل، وإنما فقط الحالة الصحية. لا أحد يلمح لدور القلب كجوهر للروح الإنساني، وكثيرًا ما كنت أتساءل عن سبب هذا النفي. كان «أوجستو» يردد دائمًا عبارة من الإنجيل: «من يحتكم إلى قلبه جاهل»، فلماذا بالله يمكن أن يكون هكذا؟ هل لأن القلب يشبه غرفة الاحتراق الداخلي؟ لأن هناك ظلامًا … ظلامًا ونارًا؟ العقل حديث، كما أن القلب قديم، والذين يستمعون إلى قلوبهم — كما يعتقد الناس هذه الأيام — أقرب إلى الحيوانات، إلى المجانين، بينما أولئك الذين يستمعون إلى صوت العقل هم الأقرب إلى الأشياء الأسمى. لكن لنفترض أن ذلك ليس هكذا، وأن العكس تمامًا هو الصحيح … فهل يستطيع المزيد من الاستدلال المنطقي أن يفقر حياتنا؟
على السفينة العائدة من اليونان، كنت أقضي جانبًا من الوقت كل صباح قرب منصة الربان. كنت أستمتع بالتحديق فيها ورؤية الرادار والأجهزة المعقدة التي ترشدنا وتحدد اتجاهنا. وذات يوم، وأنا أراقب تحركات الهوائي في الرياح، خطرت إلى ذهني فكرة؛ أن الناس، شيئًا فشيئًا، قد أصبحوا مثل أجهزة الراديو التي تعمل على تردد واحد فقط. مثل تلك الأجهزة الصغيرة التي تُوزَّع للدعاية؛ كل المحطات مبينة على المؤشر، ولكن تحريك الزر يبعث صوتًا من واحدة أو اثنتين، بينما الأخريات يهمهمن في الأثير لا يسمعها أحد.
أنا أرى أن كثرة استخدام العقل تُحدِث الأثر نفسه: من كل الحقيقة المحيطة بنا، نحن لا نلتقط إلا قدرًا محدودًا، حتى ذلك القدر مرتبك ومشوش لأنه مكدس بكلمات، والكلمات غالبًا ما توصلنا إلى دوائر أكثر مما هي إلى فضاء مفتوح. الفهم يتطلب الصمت. عندما كنتُ شابة، لم أكن أفهم ذلك، ولكنني أفهمه الآن، حيث أجد نفسي أتخبط في البيت لغير ما غاية، أتجول وحيدة … صامتة … كسمكة من أسماك الزينة في وعاء. أمر يشبه كنس أرضية قذرة بمقشة، أو مسحها بقطعة قماش مبللة، إن استخدمت المقشة فسوف يرتفع قدر من الغبار في الجو، ويعود ليستقر فوق المكان مرة أخرى، لكنك إذا استخدمت القماشة المبللة فستصبح الأرضية نظيفة لامعة. الصمت مثل القماشة المبللة: يزيل طبقة الغبار تمامًا. الكلمات تسجن العقل، ولو كان لها إيقاع … أي نوع من الإيقاع، فإنه إيقاع الأفكار المفككة. من الناحية الأخرى نجد القلب أكثر اطمئنانًا واسترخاءً، هو العضو الوحيد الذي ينبض، ونبضه يضعنا في تناغم مع النبض الأكبر.
يحدث أحيانًا أن أترك جهاز التليفزيون مفتوحًا طوال المساء — وغالبًا بسبب شرود الذهن — رغم أنني لا أشاهده، إلا أنني أسمعه في أي مكان في المنزل. عندما يحين وقت النوم أصبح أكثر توترًا عن أي وقت، وأجد صعوبة لكي أنام. الضوضاء المستمرة، والضجيج نوع من المخدر، وبمجرد الاعتياد على ذلك يصبح من الصعب الإقلاع عنه. لا أريد أن أضيف كثيرًا الآن، الصفحات التي كتبتها جعلتني أفكر في صنع كعكة باستخدام وصفات مختلفة، تحتوي على تشكيلة طائشة من اللوز وجبن الكريم والزبيب والروم وعجينة إسفنجية وزلال البيض والشوكولاتة والفراولة، التي جعلتِني أجرِّبها ذات يوم، وأنت تقولين إنها «المطبخ الحديث»، لخبطة؟ ربما!
لو قرأها فيلسوف، أتخيله غير قادر على أن يمنع نفسه من وضع علامات حمراء على كل شيء في القائمة، كما كان يفعل المدرسون في السابق. وسيكتب «متنافرة … غير دقيقة … لا ترابط منطقيًّا». تخيلي، ماذا يمكن أن يقول عنها أي محلل نفساني! سيكتب مقالًا كاملًا عن فشل العلاقات مع ابنتي، وعن كل ما تجنَّبت فعله أو قوله. حتى ولو كنت قد تجنبت بعض الأشياء … فهل تظل مهمة؟ كانت لديَّ ابنة وفقدتها … ماتت في حادث سيارة.
في ذلك اليوم تحديدًا، كنت قد قلت لها إن الأب الذي جعل حياتها تعسة — كما تقول — لم يكن أباها الحقيقي.
أستطيع أن أتذكر كل لحظة من ذلك اليوم، بوضوحٍ شديدٍ، كأنني أشاهد فيلمًا سينمائيًّا، باستثناء أن الفيلم مثبت على الجدار بدل أن يكون من خلال جهاز عرض. أحفظ تتابع المناظر عن ظهر قلب، وتفاصيل كل منظر. لم أنس شيئًا؛ كل شيء في داخلي، ينبض في عقلي، في الصحو والنوم؛ وسيظل ينبض بعد موتي.
الشحرور الصغير صحا، وها هو يمد رأسه من خلال الفتحة في غطاء الصندوق، ويسقسق، من وقت إلى آخر، على فترات منتظمة … وبإصرار شديد … كأنه يقول: «أنا جائع … لماذا لا تطعمينني؟»
الآن قمت، وذهبت إلى الثلاجة لعلِّي أجد شيئًا مناسبًا. لم أجد، ولذا اتصلت ﺑ «والتر» أسأله إن كان لديه بعض الدود يحضره لي، وبينما أدير قرص التليفون، قلت للشحرور: «أنت لا تعرف كم أنت محظوظ أن خرجت من البيضة، ونسيت بعد أول طيران لك، كيف كان والداك.»