٤ ديسمبر
ما زال الشحرور أمامي على الطاولة، لا يأكل جيدًا كما كان يفعل في الأيام القليلة الماضية. وبدلًا من السقسقة، بلا توقف، ها هو قابع في الصندوق، لا يرفع حتى رأسه، ولا أرى سوى ما فوقها من ريش. رغم برودة الجو هذا الصباح، ذهبت مع أسرة «رازمان» إلى المشتل، لم أقرر الذهاب إلا في آخر لحظة. البرد قد يجعل الدب القطبي يفكر مرتين، وفي ركن ما من قلبي كان هناك صوت يتساءل عن جدوى زراعة المزيد من الزهور.
ولكنني عندما بدأت أدير رقم تليفون أسرة «رازمان» لاحظت الألوان الذاوية في الحديقة، وأنَّبت نفسي لأنانيتي. قد لا أعيش لأشهد ربيعًا آخر، ولكنك سوف تشهدين! أشعر بالاضطراب في الفترة الأخيرة، عندما لا أكتب أتجول قلقة في أرجاء المنزل، لا أجد مكانًا أحس فيه بالاطمئنان والهدوء. لا شيء من الأشياء القليلة التي ما زلت قادرة على عملها يمنحني أي شعور بالرضا، أو ينجح في طرد الذكريات الحزينة لحظة واحدة.
لديَّ انطباع بأن الذاكرة تعمل مثل ثلاجة حفظ المواد عند درجة التجمد. عندما تخرجين الطعام منها تعرفين ما يحدث. في البداية يكون صلبًا مثل قالب الطابوق، لا رائحة ولا طعم له، مغطى بطبقة من الجليد. بمجرد تسخينه يبدأ في استعادة شكله ولونه المعروفين بالتدريج، ويملأ المطبخ برائحته. وبالطريقة نفسها … تقبع الذكريات الحزينة والموجعة ساكنة في زوايا عقل الإنسان الكثيرة عدة سنوات، عقودًا، حياة بكاملها، ثم يومًا ما تظهر على السطح، ويستنبط الألم، الذي كان جزءًا منها، يظهر قويًّا وحادًّا ومؤلمًا، كما كان في ذلك اليوم البعيد.
كان ذلك هو أن أحكي لك عن نفسي، عن سري. لكن القصة … أية قصة … لا بد أن تبدأ من البداية. وهذه القصة تبدأ في طفولتي، في تلك العزلة غير العادية التي نشأت فيها، والتي استمرت معي حتى في الكبر. عندما كنت صغيرة، كان الذكاء يعتبر عاملًا سلبيًّا في المرأة، عندما يتعلق الأمر بالزواج. بحكم العادة، كان المفترض أن تكون الزوجة فرسة للاستيلاد لا أكثر. مذعنة، مجرد زينة. المرأة التي تطرح أسئلة، التي لها مطالب، القلقة، كانت آخر من يتمناها الرجل كزوجة، وذلك يفسر لماذا كان شعوري بالوحدة عميقًا عندما كنت صغيرة. ولكي أقول لك الحقيقة … بين الثامنة عشرة والعشرين، حيث إن شكلي كان مقبولًا، ومن أسرة غنية إلى حد ما، كان هناك أعداد كبيرة ممن يطلبون يدي للزواج. ولكنهم كانوا يختفون بمجرد أن يكتشفوا أنني أناقش، وأني أفتح قلبي، وأتكلم عما يشغل تفكيري. بالطبع كان يمكن أن أظل ساكتة، وأتظاهر بأنني شيء لم أكنه، ولكن لسوء الحظ — وربما لحسنه — كان هناك، رغم تنشئتي، جزء مني ما يزال حيًّا، ويرفض أن يعيش الكذب.
بعد المدرسة الثانوية، كما تعرفين، توقفت دراستي لأن أبي رفض أن أكمل تعليمي، كانت تلك خيبة أمل كبيرة لي، وكانت — بلا شك — سببًا في أنني أصبحت متعطشة للمعرفة. بمجرد أن يقول شخص ما إنه كان يدرس الطب، أمطره بوابل من الأسئلة؛ كنت أريد أن أعرف كل شيء. الشيء نفسه كنت أفعله مع طلبة الهندسة والقانون، وكان ذلك يربكهم، حيث يترك لديهم انطباعًا بأنني مهتمة بدراستهم أكثر منهم … وربما كانوا على حق في ذلك. وعندما كنت أتكلم مع غيري من البنات في المدرسة كنت أشعر وكأنني مخلوق من كوكب آخر … من سنوات ضوئية بعيدة. الفارق الرئيس بيننا كان موضوع مكر وخداع الأنثى. بينما لم يكن لديَّ أية درجة من ذلك، كن قد بلغن فيه شأوًا بعيدًا. خلف الواجهات المتغطرسة المليئة بالثقة بالنفس، فإن الرجال قابلون للاختراق … سذج … يخفون في العمق منهم استجابات بدائية، يستخدمون الطعم المناسب … ويصطادون. أنا أدركت ذلك متأخرًا، ولكن زميلات الدراسة كن يعرفنه وهن في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة.
كن يتبادلن الرسائل الغرامية حسب العادة، يتقبلنها أو يرفضنها، يتصنعن نغمة مختلفة عندما يردن، ينظمن المواعيد، ولا يجئن، أو يتأخرن في المجيء. وفي حفلات الرقص كن يجهدن أنفسهن وهن يحملقن في عيون شركائهن حالمين مثل إناث الظباء الصغيرات.
كانت تلك كلها غوايات أنثوية، مغريات ومشهيات تؤدي إلى النجاح مع الرجال، لكنني — كما ترين — كنت مثل «الكوز»! مغفلة! لم أكن أفهم شيئًا مما يدور حولي. ربما اعتبرتِ ذلك غريبًا، ولكن الحقيقة أنه كانت بداخلي مسحة شديدة من الصدق، هذا الشعور بالصدق كان يوعز لي — دائمًا — بأنني لن أتلاعب أبدًا، وأعني أبدًا، برجل ما على نحو ماكر أو خادع.
كنت واثقة أنني — يومًا ما — سأجد شابًّا أستطيع أن أتكلم معه طويلًا في الليل دون ملل، نتكلم ونتكلم، ثم نكتشف أننا نرى الأشياء من منظور واحد، ونشعر بالعواطف والأحاسيس نفسها. كنت أريد صداقة حب، وكنت في ذلك أعبِّر عن خصيصة ذكورية في العلاقة التي أزعجت من كانوا يتقدمون لخطبتي، ولذلك — شيئًا فشيئًا — ارتضيت لنفسي دور الفتاة العادية. كان لديَّ صداقات نسائية كثيرة، ولكنها كانت كلها من جانب واحد. كن يبحثن فقط عن محل ثقة … عن مستودع لأسرارهن الغرامية، وتزوجن، واحدة تلو الأخرى، وفي وقت ما، كنت لا أفعل شيئًا سوى الذهاب إلى حفلات الزفاف. رفيقات عمري أصبح لديهن أطفال، أما أنا فكنت دائمًا الخالة العانس، وكنت ما أزال أعيش مع والديَّ، وفي ذلك الوقت كنت قد استسلمت لفكرة أنني سأظل عانسًا إلى الأبد. كانت أمي تتساءل: ماذا بك؟ ماذا حدث مع هذا الرجل أو ذاك؟ إنهم شباب جيدون. وكان والداي يرجعان — دائمًا مشاكلي — مع الجنس الآخر إلى غرابة شخصيتي. هل كان ذلك يزعجني؟ لا أعرف.
بالفعل، لم أكن أشعر برغبة ملحة في تكوين أسرة. فكرة الإنجاب جعلتني قلقة. كنت قد عانيت كثيرًا في طفولتي، وأخشى أن أكون سببًا في حزن مماثل لمخلوق بريء. هذا بالإضافة إلى أنني، رغم إقامتي معهما في المنزل، كنت مستقلة تمامًا. كل ساعة من ساعات اليوم ملك لي، أقضيها كما أريد. كسبت مبلغًا ضئيلًا من تدريس اليونانية واللاتينية لبعض التلاميذ، وهما الموضوعان المفضلان لديَّ، وباستثناء ذلك، كان وقتي كله ملكي. كان يمكن أن أمضي المساء كله في المكتبة العامة دون مراجعة أي شخص آخر عن تصرفاتي، أو أن أخرج في إجازة كلما شعرت بالرغبة في ذلك.
مقارنة بغيري من النساء، كانت حياتي حرة، وكنت أخشى أن أفقد تلك الحرية، إلا أنه بمرور الوقت، اتضح أن تلك الحرية، تلك السعادة الظاهرية، كانت زائفة ومتكلفة. الوحدة التي بدأت بها، وكانت تبدو ميزة، بدأت تصبح عبئًا. كان العمر يتقدم بأبي وأمي، أبي أصيب بجلطة أصبح بعدها أعرج. كل يوم أشبك ذراعه في ذراعي، ونخرج لشراء الجريدة له. كنت آنذاك في السابعة والعشرين أو الثامنة والعشرين. أنظر إلى خيالينا في واجهات المحلات فأشعر بأنني قد أصبحت — أنا الأخرى — عجوزًا، وأدرك الاتجاه الذي كانت حياتي تأخذه.
لن يمر وقت طويل قبل أن يموت، وسوف تتبعه أمي سريعًا، وأبقى أنا وحيدة في منزل واسع مملوء بالكتب، ربما كنت ألجأ إلى التطريز أو الرسم أحيانًا لتمضية الوقت. وتكر السنوات سريعًا، سنة بعد أخرى. وأخيرًا، شخص ما يقلقه عدم ظهوري لعدة أيام، فطلب شرطة الإطفاء ذات صباح. جاءوا، دفعوا الباب فوجدوني ملقاة على الأرض، كان يمكن أن أموت، وما يتبقى مني لن يكون مختلفًا كثيرًا عن الهيكل العظمي الجاف لحشرة ميتة.
شعرت بأن جسد المرأة فيَّ كان يذوي، دون أن أكون قد عشت، وملأني ذلك بالحزن. بعد ذلك كنت أشعر بالوحدة … الوحدة القاتلة. لم يكن في حياتي أحد أتكلم معه … مجرد أن أتكلم معه … وأعني ذلك تمامًا. نعم من المؤكد أنني كنت ذكية، قرأت كثيرًا، وفي النهاية كان أبي يقول دائمًا:
«أولجا لن تتزوج، إنها ذكية أكثر من اللازم!»
ولكن كل ذلك الذكاء — المفترض — لم يوصلني إلى شيء. كنت عاجزة عن بدء مسيرة حقيقية، أو دراسة أي شيء بعمقٍ. شعرت بأن نموي العقلي قد توقف بسبب عدم التحاقي بالجامعة، ولكن السبب الحقيقي لعجزي، وعدم قدرتي على استخدام المواهب التي لديَّ … كان في شيء آخر. على أية حال، كان «سكليمان» رجلًا، علَّم نفسه بنفسه عندما اكتشف طروادة، كان ما يعطلني هو شيء آخر؛ حادث ذلك الكلب الصغير الميت.
هل تتذكرين؟ كان هو الذي كبَّلني، أوقف تقدمي. كنت أقف ساكنة، في حالة انتظار، منتظرة ماذا؟ لا أعرف بالمرة.
نزل الثلج يوم مجيء «أوجستو» إلى منزلنا للمرة الأولى. أتذكر ذلك جيدًا، لأن الثلج كان منظرًا نادرًا في هذا الجزء من العالم الذي نعيش فيه، وكان سبب تأخر ضيفنا على العشاء. كان «أوجستو»، مثل أبي، مستوردًا للبن، وكان قد جاء إلى «تريستا» للتفاوض على بيع متجرنا.
بعد إصابته بالجلطة، ونظرًا لعدم وجود وريث ذكر، كان والدي قد قرر أن يبيعه ويقضي بقية عمره في هدوء. لم تكن انطباعاتي الأولى عن «أوجستو» مرضية. جاء من إيطاليا، كما كان يقول معظم الناس في منطقتنا، ومثل معظم الإيطاليين كانت طباعه متكلفة، وكنت أجد ذلك مزعجًا. شيء غريب فعلًا … ألا يكون الانطباع الأول، عن الناس المقدَّر لهم أن يلعبوا دورًا مهمًّا في حياتنا، جيدًا. بعد العشاء دخل أبي ليستريح تاركًا إياي أحتفي بضيفنا في غرفة الجلوس حتى يحين وقت القطار الذي سيعود به. كنت في غاية الضيق. على مدى الساعة التي قضيناها معًا. كنت في منتهى قلة الذوق. أجيب عن أسئلته باقتضاب، ولا أتكلم إلا إذا تكلم هو، وعندما مد يده لي، وهو منصرف، أعطيته يدي بكل غطرسةِ ولا مبالاةِ دوقةٍ تتعطف بجميل على شخص دونها منزلة.
في تلك الليلة، قالت أمي على العشاء: «شاب لطيف جدًّا كإيطالي، هذا الأوجستو!»، وقال أبي: «إنه نزيه … ورجل أعمال ناجح»، ولك أن تخمني ما حدث، انطلقت، بكل حماس وبلا تفكير، وقلت: «ولم يكن في إصبعه خاتم زواج»، وقبل أن يرد والدي: «مسكين! أعزب!»، كان وجهي في لون الطماطم، وكنت محرجة لاندفاعي.
بعد يومين عندما عدت من الدرس، وجدت طردًا صغيرًا مغلفًا بورق مفضض بجوار الباب الخارجي. لم أكن قد تلقيت في حياتي طردًا، ولم أستطع أن أتخيل مرسله، وتحت الغلاف وجدت قصاصة صغيرة: «هل تذوقتِ هذه من قبل؟» والتوقيع … «أوجستو». في تلك الليلة، وتلك الحلوى جوار سريري … لم أنم. قلت لنفسي إنه أرسلها كمجاملة مهذبة لأبي، ورحت ألتهمها قطعة بعد قطعة. بعد ثلاثة أسابيع عاد إلى «تريستا»، «في عمل» كما قال على العشاء، وفي هذه المرة بقي في المدينة فترة، ولم يغادر مباشرة، كما فعل من قبل. قبل أن يستأذن في الانصراف، سأل والدي إن كان بالإمكان أن يأخذني معه في جولة بالسيارة، ووافق والدي دون أن يأخذ رأيي. قضينا بعد الظهر كله في جولة بسيارته في أرجاء المدينة. لم يتكلم كثيرًا. طلب أن أحدِّثه عن الآثار المختلفة، وكان يستمع إلى ما أقول وهو صامت. كان يستمع إليَّ … ولم يكن ذلك أقل من معجزة بالنسبة لي.
ويوم سفره أرسل إليَّ باقة ورد أحمر. كانت أمي سعيدة، أما أنا فتظاهرت بغير ذلك، إلا أنني انتظرت عدة ساعات قبل أن أفتح البطاقة لكي أقرأها. وفي خلال زمن قصير، أصبحت زياراته مناسبة أسبوعية. كان يجيء إلى «تريستا» كل سبت، ويعود إلى مدينته يوم الأحد.
هل تتذكرين كيف روَّضَ الأمير الصغير الثعلبة؟ كان يجلس خارج جحرها كل يوم ينتظر خروجها حتى تتعلم كيف تتعرف عليه ولا تخاف، إلى أن أصبحت في حالة قلق واستثارة كلما أبصرت شيئًا يذكِّرها بصديقها الصغير. بالطريقة نفسها، كنت دائمًا في حالة قلق وترقب كل خميس … بدأت عملية الترويض؛ في أقل من شهر، أصبحت حياتي تدور حول انتظار نهاية الأسبوع، نما بيننا شعور بالألفة في وقت قصير.
أخيرًا! هنا شخص يمكن أن أتكلم معه، يقدِّرُ ذكائي، ويتعاطف مع حبي للمعرفة. وأنا من ناحيتي كنت أقدِّر هدوءه، وصفاته كمستمع جيد. إنه الإحساس بالأمان، بالحماية التي يمكن أن يوفرها رجل كبير لامرأة شابة.
تزوجنا في احتفال بسيط في أول يونيو ١٩٤٠، وبعد عشرة أيام كانت إيطاليا في الحرب؛ لجأت أمي إلى قرية صغيرة في جبال «فينيتو»، بينما ذهبنا — أنا وزوجي — إلى «لاكيلا».
بالنسبة لك، يا من عرفت تاريخ تلك السنوات من الكتب فقط، ودرستِها أكثر مما عشتِها، لا بد أن يبدو غريبًا أن أحذف كل ذكرى للأحداث التراجيدية التي وقعت. كانت هنا الفاشية والقوانين العرفية. قامت الحرب ولم أكن أفكر إلا في همومي الصغيرة، والتحركات الميكروسكوبية لروحي. لا تظني أن توجهي كان شيئًا غير عادي. هو أبعد من أن يكون كذلك، باستثناء قلة قليلة مسيسة، كان كل من في المدينة يفعل الشيء نفسه.
والدي مثلًا، الذي كان يعتبر الفاشية هراء، ويُسمي «الدوتشي» في البيت «بائع البطيخ» … كان يذهب ليتعشى في المساء مع كبار الفاشست، ويثرثر معهم بالساعات حتى آخر الليل. بالطريقة ذاتها، كنت أجد أن عملية المشاركة في «يوم السبت الإيطالي» وكأنها اضطرار للسير والغناء في حداد أسود. كنت أرى ذلك شيئًا غريبًا ومضيعة للوقت. ومع ذلك ذهبت، وكان توجهي أن ذلك واجب ثقيل مضجر لا بد من التخلص منه … من أجل حياة هادئة. بالتأكيد، لا شيء بطوليًّا في مثل هذا السلوك، ولكنه عادي جدًّا. إن حياة مطمئنة، لأحد طموحات الإنسان الكبرى. كان الأمر هكذا حينذاك، وهكذا هو اليوم، غالبًا.
في «لاكيلا»، كنا نعيش في منزل عائلة «أوجستو»؛ شقة كبيرة في الدور الأول من قصر يليق ببارون في وسط المدينة. أثاث المنزل ثقيل وداكن اللون، والضوء شحيح والمنظر كله كئيب. بمجرد أن عبرتُ عتبة الباب، غاص قلبي في رجلي. وكنت أسائل نفسي: هل سأعيش هنا مع رجل لم أعرفه إلا لستة أشهر … وفي مدينة ليس لي فيها صديق واحد؟ زوجي أدرك قنوطي في الحال، وفي خلال الأسبوعين الأولين كان يبذل كل ما في وسعه لكي ينتزعني من تلك الأفكار.
كان يأتي من يوم لآخر بالسيارة، ونخرج للتجول في التلال حول المدينة. كنا نحب الرحلات الخلوية. منظر الجبال الجميلة والقرى الفاتنة المتحلقة حول قمم التلال كان له أثر مهدئ، لدرجة تشعرني بأنني لم أبرح الشمال … موطني الأصلي. كنا نتكلم كثيرًا. «أوجستو» يحب الطبيعة، والحشرات بخاصة، وفي تلك الرحلات كان يشرح لي أشياء كثيرة، وأنا مدينة له بكل معلوماتي في التاريخ الطبيعي تقريبًا.
بعد انقضاء الأسبوعين — شهر العسل — عاد لعمله، وبدأت أنا حياتي العادية وحيدة في الشقة الكبيرة، باستثناء وجود خادمة واحدة. كانت سيدة مسنة تقوم بمعظم الأعمال المنزلية، بالإضافة إلى الطبخ. كنت مثل زوجات الطبقة المتوسطة، بمجرد الانتهاء من إعداد قائمتي الطعام للغداء والعشاء، لا يصبح لديَّ ما أفعله.
اعتدت أن أخرج كل يوم للتمشية، أسير في الشوارع بسرعة كبيرة وبرأسي دوامة أفكار لا أستطيع أن أتبيَّنها.
أسأل نفسي … هل أنا أحبه؟ ثم أسأل فجأة … هل كانت غلطة كبيرة؟ عندما كنا نجلس على مائدة الطعام أو في غرفة الجلوس مساء … أنظر إليه، وأسأل نفسي عن شعوري. كنت أشعر بالحنان … بالتأكيد … وكنت متأكدة أن لديه الشعور نفسه نحوي. ولكن … هل كان ذلك هو الحب؟ هل كان ذلك كل شيء؟ ولأنني لم أشعر أبدًا بأي شيء آخر … لم أجب أبدًا عن السؤال.
بعد مرور شهر، وصلت الهمسات الأولى إلى أذني زوجي. قالت تلك الأصوات المجهولة: «الألمانية تسير في الشوارع وحدها طيلة ساعات النهار.» تملكتني حيرة تامة، حيث إنني كنت قد نشأت في بيئة مختلفة، لم أكن أتخيل أن جولاتي البريئة يمكن أن تثير فضيحة. لم يكن «أوجستو» سعيدًا، وأدرك لماذا وجدت الموقف غير مفهوم، ولكن من أجل سلام الجيرة، وحفاظًا على سمعته، رجاني أن أكف عن تلك الجولات الانفرادية. وبعد ستة أشهر من هذه الحياة شعرت بأنني قد أصبحت مجردة من كل ذرة حيوية.
كبر الكلب الصغير الميت في داخلي، أصبح ضخمًا، وكنت أتحرك مثل الإنسان الآلي، عيناي زجاجيتان، عندما أتكلم أسمع كلماتي كأنها صادرة من شخص آخر. في الوقت نفسه، كنت قد تعرَّفت على زوجات زملاء «أوجستو»، وكنا نلتقي، كل خميس، في مقهى في وسط المدينة. ورغم أننا كنا كلنا في عمر واحد تقريبًا، إلا أنه لم يكن هناك بيننا سوى كلام قليل، مجرد أننا نتكلم لغة واحدة، ولا شيء آخر مشتركًا.
أما «أوجستو» فلأنه كان منهمكًا في أعماله، فقد بدأ يتصرف مثل كل الرجال في منطقته، أصبحنا — نادرًا — ما نتكلم أثناء الطعام، وعندما أحاول أن أبدأ حوارًا، يرد باقتضاب شديد؛ يرد بنعم أو لا! وبعد العشاء كان يذهب إلى النادي عادة، حتى عندما يبقى في المنزل، كان يقضي الوقت كله في مكتبته، يرتب مجموعاته من الحشرات.
كان طموحه الأكبر هو أن يكتشف حشرة جديدة، لم يكتشفها أحد قبله لكي يدخل اسمه المراجع العلمية … وإلى الأبد. كنت أتمنى أن يخلد اسمه، ولكن بطريقة أخرى، من خلال ابن. كنت حينذاك في الثلاثين، وأشعر أن رمال الزمن أصبحت تجري بسرعة أكبر، وكانت الأمور لا تسير على ما يرام في تلك الشقة، بعد ليلة زفاف مخيبة للآمال … لم يحدث شيء آخر.
كنت أشعر أن كل ما يريده «أوجستو» هو أن يجد شخصًا آخر هناك أثناء الطعام، امرأة يظهر معها فخورًا في الكنيسة أيام الأحد … ويبدو أنه لم يكن مهتمًّا أبدًا بالشخص الذي يمكن أن يكون خلف تلك الواجهة المريحة. أين ذهب ذلك الرجل اللطيف المعشر في أيام المطارحات الأولى؟ هل يمكن أن ينتهي الحب هكذا؟ ذات مرة قال لي «أوجستو» إن الطيور تغني في الربيع بصوتٍ أعلى لكي تجذب شريكًا يعاونها على بناء عش. هو فعل الشيء نفسه، لكن بمجرد أن دخلت العش توقف كل اهتمام بي. كنت موجودة لأدفئ العش … وكان ذلك بالنسبة له هو كل المطلوب … كل شيء.
هل كرهته؟ لا! قد يبدو ذلك غريبًا، ولكنني لم أستطع أن أجعل نفسي أكرهه؛ لكي يحدث الكره لا بد أن يجرحك الشخص المعني، يلحق بك أذًى من أي نوع؛ «أوجستو» لم يفعل شيئًا من ذلك … وكانت تلك هي المشكلة.
من الأسهل أن يموت المرء من العدم، عن أن يموت من الألم. يمكنك أن تتمردي على الألم، ولكنكِ لن تستطيعي أن تتمردي على العدم، وعندما كنت أتحدث مع والديَّ بالتليفون كنت بالطبع أقول لهما إن كل شيء على ما يرام، وأجبر نفسي على الكلام بصوت ولهجة يوحيان بأنني عروس سعيدة. كانا يثقان أنني في يد أمينة، ولم أكن أود أن أهز ثقتهما. أمي كانت ما تزال هناك في الجبال، وأبي في منزل العائلة، تقوم ابنة عم له برعايته. يسألني مرة كل شهر: «أخبارك؟»، وفي كل مرة أجيبه: «لا! ليس بعد». كان يتمنى حفيدًا. مع الشيخوخة، جاء حنان لم يكن لديه من قبل، والآن كنت أشعر أنني أكثر قربًا منه، لأن ذلك التغير قد طرأ عليه، وكنت حزينة أن أخيب أمله. وفي الوقت نفسه لم يكن لديَّ الثقة لأن أشرح له سبب مرور تلك الفترة الطويلة دون حمل. كانت أمي تكتب لي رسائل طويلة منمقة … «ابنتي الفاتنة …» كانت تكتب ذلك في أعلى الصفحة التي تملؤها بعد ذلك بوصف تفصيلي للأشياء القليلة المؤسسية التي تكون قد قامت بها في ذلك اليوم، وفي نهاية الرسالة تقول — دائمًا — إنها قد انتهت من تطريز كسوة الوافد الوشيك.
وفي الوقت نفسه، كنت أنا أذوي، كل يوم أرى خيالي في المرآة أقبح مما كان في اليوم السابق. أسال «أوجستو» أحيانًا في المساء: «لماذا لا نتكلم معًا؟» يجيبني: «عمَّ؟» دون أن يرفع عينيه عن العدسة التي يفحص بها حشراته. أقول: «لا أعرف … ربما يقول أحدنا للآخر شيئًا … أي شيء»، فيهز رأسه، ويقول: «كم لديك من أفكار مضحكة!»
من العادي أن نقول إن الكلاب تأخذ شكل أصحابها إذا عاشت معهم فترة طويلة كافية. كان لديَّ الانطباع نفسه، أن ذلك يحدث بالنسبة لزوجي. بمرور الوقت، سيصبح شكل الخنفساء في كل شيء؛ حركاته لم تعد حركات إنسان بالمرة، بدل أن تكون تلقائية أصبحت هندسية، كل إيماءة تتم بتسلسل من التقلصات أو الاهتزازات، أصبح صوته بلا نبرات! صوت معدني يصدر من مكان مجهول في حلقه. الحشرات وعمله استغرقا كل اهتمامه لدرجة الهوس؛ لا شيء آخر يثير فيه أدنى درجة من الحماس. ذات يوم أراني حشرة مقززة كان يمسكها بملقط. أعتقد كان اسمها «الخلد صرار الليل» قال: «انظري إلى الفكين، يمكنه أن يأكل بهما أي شيء.» في تلك الليلة حلمت به في الهيئة نفسها، كان ضخمًا، ويقوم بالتهام ثوب زفافي كأنه قطعة من الكرتون. بعد عام أصبحنا ننام في غرفتين منفصلتين، كان يسهر مع خنافسه حتى وقت متأخر، ولا يريد أن يزعجني … أو كما قال!
عندما أصف لك ذلك، لا بد أن يبدو زواجي غير عادي بالنسبة لك، لكن … الحقيقة أنه لم يكن هناك شيء غير عادي. في تلك الأيام كان الزواج هكذا تقريبًا! جهنم أسرية يموت فيها أحد الشريكين عاجلًا أو آجلًا.
لماذا تحملت؟ لماذا لم أحزم حقائبي، وأعود إلى «تريستا»؟ لأنه لم يكن هناك في تلك الأيام انفصال أو طلاق. الزواج يمكن أن ينتهي فقط في حالة معاملة سيئة جدًّا، وإلا احتاج الإنسان إلى روح تمرد عنيفة لكي يهرب ويقضي بقية حياته هائمًا في العالم. لكن التمرد، كما تعرفين، ليس جزءًا من طبيعتي. لم يرفع «أوجستو» صوته عليَّ مرة واحدة، ولا أقول إصبعًا. كان يرى أنني لا ينقصني شيء. في طريق عودتنا من قداس الأحد، كنا نتوقف عند حلواني «نورزيا»، ويطلب مني أن أتناول أي شيء أريد. لك أن تتصوري شعوري، كل صباح، عندما أقوم من النوم، بعد ثلاث سنوات كان تفكيري الوحيد هو الموت.
لم يتكلم معي «أوجستو» أبدًا عن زوجته السابقة، وفي المرات النادرة التي كنت أهمُّ فيها بالسؤال، كان يغيِّر الموضوع. بمرور الوقت، وأنا أجول في غرف الأشباح تلك في الليالي الشتوية، أصبحت مقتنعة أن «آرا» — كان ذلك هو اسمها — لم تمت نتيجة مرض أو حادث وإنما بيدها. عندما لا تكون الخادمة موجودة، كنت أقضي الوقت في رفع ألواح الأرضية، وإزالة الأدراج، وأبحث محمومة عن أي مفتاح يؤكد شكوكي. وذات يوم مطير وجدت ثيابًا نسائية في قاع إحدى الخزائن، كانت ثيابها. جذبت فستانًا غامق اللون، وجربته عليَّ، كان على قياسي، وعندما نظرت إلى نفسي في المرآة بدأت أبكي، بكيت في صمت، لم أنتحب … وإنما بكيت مثل شخص يعرف أن مصيره قد تقرر.
في ركن من إحدى الغرف، كان يوجد كرسي خفيض منجد بلا ذراعين، وكان يخص أم «أوجستو»، وهي امرأة شديدة التقوى. عندما كنت لا أعرف ماذا أفعل، أحبس نفسي في الغرفة، وأركع عليه بالساعات مشبوكة الذراعين. هل كنت أصلي؟ لا أعرف، كنت أتكلم، أو أحاول أن أتكلم مع أحد أتخيله هناك فوق رأسي.
قلت: يا رب ساعدني أن أجد طريقي، وإن كانت تلك هي الطريق التي لا بد أن أمشيها … ساعدني على تحمُّل ذلك.
الحضور المتكرر في الكنيسة، والذي جعلته حالتي الزوجية إجباريًّا، كان يثير غابة من الأسئلة في عقلي. أسئلة كانت هاجعة منذ الطفولة. كان البخور يدوخني، وكذلك صوت الأرغن، وعندما أصغي للتراتيل كان شيء ما، غامض، ينبض في داخلي. وعندما قابلت القسيس بعيدًا عن الكنيسة، وبدون ردائه الكهنوتي، عندما رأيت أنفه الإسفنجي المتورم، وعينيه الصغيرتين الأشبه بعيني خنزير صغير، عندما سمعت أسئلته التافهة والزائفة؛ توقف النبض تمامًا، ورحت أفكر: هذا أنت! لا شيء سوى خداع وزيف. طريقة لمساعدة ضعاف العقول على تحمُّل ظلم حياتهم اليومية. ورغم ذلك فإنني كنت أحب قراءة الإنجيل في ذلك المنزل الصامت. كنت أجد كثيرًا من تعاليم المسيح غير عادية، وكانت تشرح صدري فأظل أكررها بصوتٍ عالٍ.
لم تكن عائلتي متدينة بالمرة. كان والدي يفاخر بأنه مفكر حر، أما والدتي، التي تحولت عائلتها من اليهودية منذ جيلين قبلنا، كما قلتُ لكِ من قبل، فكانت تذهب إلى القداس فقط لأن ذلك كان هو المتوقع منها. وفي المرات النادرة التي كنت أسألها عن العقيدة الدينية، كانت تجيبني دائمًا: «لا أعرف، ليس لعائلتنا دين»، وكانت تلك العبارة تهوي مثل حجر الطاحونة على سنوات عمري الغضة، عندما كنت قد بدأت أتساءل عن أشياء مهمة، كانت الكلمات مثل وصمة العار. تخلينا عن دين لنعتنق دينًا آخر، لا نكنُّ له أي احترام، كنا خونة، وبالنسبة لنا، لكل الخونة، ليس هناك مكان على الأرض ولا في السماء.
لذا، فباستثناء بعض القصص الإنجيلية القليلة التي حكتها لي راهبات المدرسة، لم يكن لديَّ أية ثقافة دينية بالمرة حتى سن الثلاثين. «مملكة الرب بداخلك» كنت أردد ذلك لنفسي، وأنا أتنقل بين الغرف الفارغة، وبينما أرددها أحاول أن أتخيل أين كانت. رأيت عيني تمتدان داخل جسدي مثل البيرسكوب، تفتشان في ثنايا بطني والزوايا الغامضة من مخي، أين مملكة الرب؟ لم أجدها. حول قلبي ضباب … ضباب كثيف. وليست التلال المضيئة لجنتي المتخيلة. وفي أكثر لحظات صفائي، كنت أقول لنفسي إنني سوف أصاب بالجنون مثل كل العوانس والأرامل، وكنت أنزلق في هذيان ملغز … ببطء، وعلى نحو غامض.
بعد أربع سنوات من حياة كهذه، أصبح من الصعب التمييز بين الحقيقي والزائف. أجراس الكاتدرائية القريبة تدق كل ربع ساعة تقريبًا، ولكي أتجنب سماعها، أو على الأقل لكي أخنق الصوت، اعتدت أن أحشو أذني بالقطن. استحوذت عليَّ فكرة أن حشرات «أوجستو» لم تكن ميتة بالفعل، وكنت أسمع وقع أرجلها في أرجاء البيت ليلًا … تتسلق ورق الحائط، تخربش في طريقها على أرضية المطبخ، تزحف على السجاد في غرفة الجلوس، وكنت أنام على السرير حابسة نَفَسي، أتوقعها أن تنفذ من ثقب الباب إلى غرفة نومي، حاولت ألا يرى «أوجستو» حالتي هذه.
كل صباح، أعلن خططي للعشاء بابتسامة على شفتي، تظل حتى يخرج من الباب، وعندما يعود، تعود الابتسامة الساكنة. ومثل زواجي كانت الحرب الآن في عامها الخامس. في شهر فبراير قصفوا «تريستا»، ودمرت إحدى القنابل الأخيرة منزل طفولتي. الخسائر الوحيدة كانت هي حصان أبي، وجدناه في الحديقة بدون اثنين من حوافره. في تلك الأيام، قبل التليفزيون، كان انتقال الأخبار بطيئًا عن الآن، عرفت بدمار منزلنا في اليوم التالي عندما كلمني والدي بالتليفون. بمجرد أن سمعت صوته شعرت أن شيئًا رهيبًا لا بد أن يكون قد وقع. كان صوت إنسان فقدت الحياة معناها بالنسبة له … ومنذ وقت طويل. والآن … وليس لديَّ مكان أعود إليه، شعرت فعلًا بالضياع. يومين أو ثلاثة كنت أجول في أنحاء البيت ذاهلة. لا شيء يمكن أن يهزني، ويخرجني من تلك الحال. رأيت حياتي تتقلب أمامي … سلسلة طويلة من حياة مملة وكئيبة … يمكن أن تستمر إلى أن أموت.
هل تعرفين الخطأ الذي نرتكبه جميعًا؟ هو أن نعتقد أن الحياة ثابتة، لا يمكن أن تتغير، وأننا بمجرد أن أطلقناها تتدحرج في خط معين، لا بد أن نظل على ذلك الخط إلى نهاية الرحلة. للقدر خيال أوسع من خيالنا. بمجرد شعورك أن لا مخرج من موقف ما، عندما تصلين إلى أعماق اليأس، يتغير كل شيء، ينقلب فجأة بسرعة عصفة ريح، ومن لحظة إلى أخرى تجدين نفسك تعيشين حياة جديدة.
بعد شهرين من قصف المنزل انتهت الحرب، ذهبت إلى «تريستا» فورًا.
كان والداي قد وجدا مسكنًا مؤقتًا في شقة، يتشاركان فيها مع آخرين، وكانت هناك تفاصيل كثيرة تتطلب اهتمامي، لدرجة أنني، قبل أن يمر أسبوع، كنت قد نسيت كل سنوات «لاكيلا».
جاء «أوجستو» بعد شهر، كان عليه أن يتسلم إدارة النشاط الذي اشتراه من والدي، والذي كان الآن في حالة كساد لتركه في يد مدير آخر أثناء سنوات الحرب. وهكذا كان والداي بلا مأوًى، وهما طاعنان في السن. وبسرعة فاجأتني، قرر «أوجستو» أن يترك مدينته الأصلية، وينتقل إلى «تريستا». اشترى هذا المنزل الصغير على الهضبة المرتفعة، وقبل الخريف كنا نقيم كلنا هنا معًا. وعلى عكس جميع التوقعات، كانت أمي أول من رحل، ماتت في بداية الصيف؛ سنوات الوحدة الطويلة، والخوف … أضعفت تكوينها العنيد … القوي.
أيقظ موتها اشتياقي لطفل. وبدأت أنام مع «أوجستو» ثانية، ومع ذلك لم يحدث شيء — تقريبًا — بيننا ليلًا. كنت أقضي الساعات جالسة مع والدي في الحديقة. كان هو الذي قال، ذات مرة بعد ظهيرة يوم مشمس، إن المياه الكبريتية تصنع المعجزات للكبد وللنساء. بعد أسبوعين أوصلني «أوجستو» بالسيارة إلى المحطة، ووضعني في القطار المتجه إلى «فينيسيا»، ومن هناك أخذت قطارًا آخر إلى «بولونيا» في الصباح الباكر … وبعد غيار آخر، وصلت في المساء إلى «بوريتا تيرمي». وللحقيقة، لم يكن لديَّ ثقة — أو لعلها كانت قليلة — في أثر المياه الكبريتية. كان قراري بالذهاب راجعًا — قبل أي شيء آخر — لرغبتي في أن أكون وحدي، بمفردي، أن أستمتع بصحبة نفسي، وعلى نحو مختلف عن كل السنوات الماضية. لقد عانيت كثيرًا، وكان كل جزء مني — تقريبًا — يشعر بأنه ميت. كنت مثل شيء محروق … كل شيء فيه أسود، ويتحول إلى رماد … فقط … التعرض للمطر ولضوء الشمس والرياح، قد يساعد البقية الباقية مني بالتدريج، أن تجد طاقة لنموٍ جديدٍ.