خاتمة

قلت في المقدمة، تبريرًا لوضع هذا الكتاب: إن تأثير هايديجر في الفكر الحديث بالغ القوة والانتشار. وأضيف هنا: إنه بالغ التنوع، بسبب التنوع الشديد في مدارات فكر هايديجر، فباستثناء ثوابته المشهورة، أي إصراره على تجديد الفكر الفلسفي بالتركيز على الوجود الذي يتميز بأنه دينامي زمني، وإدراك انتماء الإنسان إلى عالمه والعالم حتى يكفل لوجوده أصالته، بمعنى صدق معرفته بذاته والإمكانيات التي يتيحها له وعيه بالوجود على المستوى الفردي والجماعي، أقول باستثناء هذه الثوابت فإن العالم الفلسفي لهايديجر يرتكز على التساؤل. فالثراء الفكري الذي يقدمه هايديجر يتكون من أسئلته التي قد يجيب عن بعضها إجابات موحية وقد لا يجيب (وهو الغالب) فأسئلته تنبع في نظري من نظرته الشاعرة إلى الوجود، وهي تتوسل بالفنون الشعرية القائمة على استثمار اللغة بمعانيها المحددة وظلال معانيها، إلى جانب براعته الخاصة في درس اشتقاقات الألفاظ وولوعه بتوليد معانٍ جديدة من ألفاظ لا يجد الدارس فيها غير المعنى «العملي» المحدد، وذلك، كما بينت في ثنايا الكتاب، من أثر دهشته الشاعرية التي لم تَخْبُ وقدتُها قطُّ حتى في سنوات عمله الجامعي و«لعبه» بالعمل السياسي، فالشاعر كما يقول النقد الجديد لا يفقد إحساسه بالدهشة قط، ونحن نجد آثار هذه الدهشة حتى في كتاباته في موضوعات الفلسفة التقليدية مثل الميتافيزيقا، أو عند تصديه لقضايا الهرمانيوطيقا الحديثة، ناهيك بقضايا المعرفة والفهم والعلاقة بين الفرد والآخر، وقد يجد الدارس لديه مفارقات تقترب من التناقضات، ولكن هايديجر لا يشجعنا على الإطلاق على «تسوية» أو «حل» المفارقات، فالواقع أنه يدرك ذلك، بل يُقرُّ به ولا ينكره، فهو ليس فيلسوفًا مذهبيًّا، ولا يؤمن بأن من وظائف الفلسفة وضع مذهب، فإذا قيل له وما بالك تفسر كل شيء من وجهة نظر إيمانك بأولوية الوجود، بل بالحضور في حالة الإنسان، فالأرجح أن يرد علينا قائلًا: إن نظرتي ليست مذهبًا؛ بل دعوة إلى النظر، أي دعوة إلى التساؤل، فإذا استطعت أن أثير في القارئ الرغبة في تساؤل مضاد لتساؤلي فسوف أكون قد حققت مرامي.

وأرجو أن يسمح لي القارئ بأن أعترف أنني كنت منحازًا ضد هايديجر؛ أولًا: بسبب صعوبة أسلوبه، وثانيًا (وهو الأهم): لأنني كنت أتوقع أن أجد عنده ما لا يريد هو أن يقدمه لي، فلقد درجت على قراءة الفلاسفة الإنجليز بأساليبهم التي تثب معانيها إلى ذهن القارئ وثبًا، وكنت أتوقع أن يقدم لي فكرًا مُتَّسِقًا يسهل تلخيصه واستيعابه؛ لكنني بعد أن تعمقت في قراءته وجدت أن التشتت الفكري الذي يوحي به أول الأمر يؤدي إلى نظرات عميقة في حقيقة الإنسان وعالم وعيه الحافل بكل غريب وعجيب. بل لقد طبقت بعض نظرات هايديجر في تحليلي لبعض مسرحيات الكاتب المسرحي هارولد بنتر (Pinter) فجاء التطبيق بنتائج لم أكن أتوقعها، وأظنها مفيدة في الدرس الدرامي، وأملي أن يسلك غيري هذا الطريق نفسه، خصوصًا من الشباب الذين درسوا الألمانية وقرءوا هايديجر بلغته فوجدوا فيه ما يبرر الإقبال على قراءته و«تذوقه».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤