الفصل العاشر
اللغة والوجود
ما إن تُذكر قضية اللغة عند هايديجر حتى يذكر القارئ، ولو لم يكن متخصصًا في الفلسفة،
قوله:
إن «اللغة منزل الوجود» (في رسالة عن المذهب الإنساني، ص٢١٧)، ولقد أصبح ذلك من الأقوال
المأثورة التي يتفنن دارسو الفلسفة في تفسيرها، وإن كانت تفسيراتهم تدور في فلك الربط
بين
اللغة، باعتبارها تجسيد الفكر الإنساني، وبين وعي المفكر، أي من يستخدم اللغة استخدام
من يعي
بوجوده من خلال اللغة، وقد يذكر المرء قول فتجنشتاين: (١٨٨٩–١٩٥١م) في «محاضرة عن الأخلاق»
المنشورة في كتابه مناسبات فلسفية ١٩١٢–١٩٥٧م (١٩٩٣م): «إنني أستسلم للإغراء بأن أقول بأن
التعبير اللغوي الصحيح عن معجزة الوجود في الدنيا، على الرغم من أنه ليس مقولة لغوية، هو
وجود اللغة نفسها» (ص٤٣–٤٤). وقد يستسلم القارئ لغواية مضللة في نظر المحدثين وهي تعبير
ديكارت عن إدراك الفرد أنه موجود بسبب طاقته على التفكير، وهي مضللة في نظر المحدثين
لأن
الفلسفة اللغوية الحديثة برمتها، أو ما درجنا على الإشارة إليه باسم فلسفة التحليل اللغوي
(عند فتجنشتاين وراسل وكارناب وكواين وأوستن) قد ابتعدت بُعدًا حاسمًا عن الدلالة التي
يقصدها ديكارت، ليس فقط بسبب المنهج العقلاني الذي وضعه للعلم، بل أيضًا بسبب ميله إلى
عزل
الوعي الفردي بالفكر والوجود عن العلاقات التي تربط المرء بغيره، وبزمانه، أي بالتاريخ
كما
يقول هايديجر. وقد أسهب جادامر، تلميذ هايديجر، في تبيان مصدر الخلل في موقف ديكارت،
من
خلال إيضاحه للطبيعة الحوارية الجوهرية في اللغة (ومن ثم في الفكر) ودور العوامل التاريخية
(أي التقاليد)، والاجتماعية (أي الأعراف) في تشكيل الفكر وتشكيل اللغة، وهو يقلل من مركزية
الفرد ويؤكد السياقين التاريخي والجماعي للفكر واللغة جميعًا. وهايديجر بطبيعة الحال
لا
يشغل نفسه بما يشغل جادامر نفسه به في كتابه الحقيقة والمنهج (١٩٦٠م)، فمدخل هايديجر يسيرٌ
في مظهره، عسير في مخبره، لأنه لا يزعم الحديث عن اللغة بأساليب علم اللغة الحديث، بل
إنه،
كما يقول عنوان بحثه، ينظر في الطريق إلى اللغة، وعلى الرغم من تعريفه لكلمة الطريق فهو
يقصد أن بحثه يمثل طريقًا وحسْب إلى اللغة.
مشكلة الصدع
وقبل أن أعرض لنشأة نظرة هايديجر إلى اللغة في ذلك المقال أحب أن أشير إلى ولع
هايديجر بفكرة الطريق، أو التوجه والاتجاه، وهو ما نجده في الترجمات الإنجليزية في صورة
way أو
towards
أي «نحو»، وذلك لأنه — خصوصًا في ذلك المقال — لا يقدم نظرية «جاهزة» أو متكاملة للغة،
بل
عدة ملاحظات ترشد القارئ إلى الطريق المؤدي إلى فهم اللغة، وأما منشأ المقال فكان
محاضرة ألقاها في حلقة دراسية عقدت عام ١٩٥٩م، بعنوان
اللغة، وكانت قد شاركت في تنظيمها
أكاديمية الفنون البافارية وأكاديمية الفنون في برلين، وكانت تتكون من عدة محاضرات،
واغتنم هايديجر هذه الفرصة ليلخص في محاضرته موقفه الفكري من اللغة في مرحلته «الأخيرة»
أي بعد عام ١٩٣٥م، مركزًا على المبدأ الذي شاعت الإشارة إليه بلفظة
Ereignis التي نترجمها بكلمة «حدث» أو «حادث» مثل
Vorfall ولكن كريل
(Krell) محرر
الكتابات الأساسية (١٩٩٣م، ٢٠٠٨م) يترجمها إلى الخصوصية أو
الامتلاك، ويرادفها بالكلمة الإنجليزية التي لا توردها المعاجم الإنجليزية وهي
propriation؛ إذ لا تورد أحدث المعاجم، مثل معجم
تشيمبرز البريطاني ٢٠١٤م ووبستر الأمريكي ٢٠١٤م، إلا كلمة
property ومشتقاتها، مثل
proprietary أي الخاص بالملكية، و
proprietorship أي صفة الامتلاك نفسها، والمعروف
أن الأصل اللاتيني للكلمة الأولى هو
proprius أي
الخاص بالشخص أو الذي يملكه الشخص، وذلك المعنى هو الذي يجده كريل في كلمة
eigen الألمانية، مبينًا أنها «جذر» لسلسلة كاملة
من الكلمات التي تتصل بجرسها عند هايديجر، مثل
eigentliche التي يقول: إنها الصفة الحاسمة في
تحليل مفهوم «الحضور» عند هايديجر، ويترجمها بالصفة
appropriate بمعنى اللائق أو المناسب، والتي تظهر
أحيانًا في صورة
proper بمعنى «الصحيح» أي «بالمعنى
الصحيح» أو بالفهم الصحيح، كقولك:
language proper أي
اللغة بصفتها المعروفة؛ ويأتي بعدها الفعل
eignen أي
يمتلك أو يخص، وكثيرًا ما يستخدمه هايديجر في صورة
an-eignen أي يمتلك أو يستولي على
appropriate، وبعدها تأتي كلمة
eigens بمعنى «بصراحة» أو «بوضوح»؛ ثم تأتي كلمة
das Eigene التي تفيد كل ما ينتمي إلى شيء بذاته،
مثلما تبين خصائص اللغة أو تتكشَّف لنا، وأخيرًا
das Eigentümliche التي تفيد ما تتفرد به لغة عن سائر اللغات. ثم
يقول:
وأهم هذه الكلمات وأعقدها إلى حد بعيد كلمة
Ereignis التي كثيرًا ما تكتب
Er-eignis، والفعل منها sich ereignen وقد جرت العادة على ترجمة هذه الكلمة إلى «حدث» أو
«حادث» ولكنني ترجمتها هنا إلى الخصوصية في محاولة للحفاظ على معنى الامتلاك
(ownness) من اللاتينية
(proprius) والفرنسية
(propre). (ص٣٩٦).
وعندما رجعت إلى الترجمة الأولى لكتاب في الطريق إلى اللغة (Unterwegs zur Sprache) التي قام بها بيتر هيرتس (Hertz) (مع جوان ستامباو) عام ١٩٧١م، وجدت أنه يترجم اللفظة بمعناها
الأصلي عند هايديجر في الوجود والزمن، والحدث عنده يشير إلى «إماطة اللثام» عن
«الحقيقة» أو تكشفها لنا، إذ يجد أن اكتشاف المعنى الخبيء أو الموحى به «حدث» يصفه بأنه
التجلي، أو إسقاط القناع، أو الحجاب، ولذلك أوردت هذه «التحليلات» التي يتخيل كريل أن
هايديجر قد قام بها أو أنها تكمن خلف حديث هايديجر عن طبيعة اللغة، حتى أضرب مثالًا لما
ذكرته في مقدمة هذا الكتاب عن أهمية فهم مصطلحات هايديجر على نحو ما قصد إليه هايديجر،
لا كما يتفنن الشراح فيما يستنبطونه من كلمات الفيلسوف.
كما أرى أنه من المهم أن أشير إلى اتصال فكر هايديجر حول اللغة على امتداد حياته،
فنحن نجد في الوجود والزمن عددًا من الأفكار التي تبلورت في كتاباته في الخمسينيات عن
الشعر واللغة والفكر، وهي التي جمعها هوفستادتر وترجمها في كتاب صدر بهذا العنوان في
عام ١٩٧١م، وعلى رأسها تأكيد هايديجر لأولوية «الخطاب» (discourse) (die Rede) أي الكلام
الشائع، ومكانته التي تعلو على مكانة المقولات العلمية أو الفلسفية، أي التي نجدها في
«الخطاب» «التقني» الخاص بالعلماء والفلاسفة. كما يؤكد في الوجود والزمن أهمية
«الإصغاء» والانتباه إلى ما نسمعه من كلام، موحيًا بأن الصمت الذي يُمَكِّنُنا من
الإصغاء أهم من «رنين الأصوات ذات الدلالة». والواقع أنه يعود إلى فكرة الصمت في مقاله
الذي نحن بصدده «الطريق إلى اللغة» وهو الذي ينطلق فيه من الكلام المنطوق مُعْلِيًا
إياه على الكلام المكتوب.
والواقع أنه لم يأتِ في هذا بجديد، فإن كثيرًا من المفكرين، من أرسطو حتى فيلهم فون
همبولت
(Humboldt) دأبوا على تأكيد أولوية الكلام
المنطوق على المكتوب، والكاتب والمفكر الألماني (الرومانسي) نوفاليس
(Novalis) وهو الاسم المستعار للكاتب فريدريش فون
هاردنبرج
(Hardenberg) (١٧٧٢–١٨٠١م) الذي يقتبس
هايديجر عبارة له في مستهل مقاله عن الطريق إلى اللغة، يقول لنا ذلك، وهاك ما يقوله
هايديجر:
دعونا نسمع بعض كلمات نوفاليس الواردة في نص يسميه مونولوج. والعنوان يوجهنا
إلى سر اللغة الغامض، فاللغة تتكلم وحدها وفي عزلة مع نفسها. وتقول جملة في
النص ما يلي: «ما تختص اللغة به وحدها — أي انشغالها بذاتها انشغالًا خالصًا
وبذاتها فقط — لا أحد يعرفه.»
(الطريق إلى اللغة، في الكتابات الأساسية، (٢٠٠٨م)، ص٣٩٧)
التكلم والقول
اللغة إذا تكلمت أصبح كلامها «مونولوجًا» إذن، ومدخل هايديجر إلى اللغة، حسبما يقول
كريل (ص٣٩٥) يبدأ بهذا الميراث المزدوج، أي إن اللغة تتكلم، وإن التكلم لغة، ولكن
كلامها ليس غمغمة ذاتية؛ بل إنها تقول شيئًا عندما تتكلم، وما تقوله هو ما يشغل هايديجر
بصفة أساسية. ولكن قول أي شيء يعني أن اللغة تخاطب الناس والأشياء في العالم، وهي، كما
يقول، تشير إليهم وتبين أنهم «موضوعات» مهمة، وهذه المهمة — أي الإشارة والبيان — التي
تقوم بها اللغة تمثل جوهر اللغة. فمن خلال إشارتها وبيانها تؤدي اللغةُ مهمة تعريفنا
بأن الناس والأشياء كيانات لها وجود أمامنا، وتسمح للناس وللأشياء أن تحقق ذاتها و«تشع
حضورها»، فالمونولوج لا يطمس وجود الأشياء أبدًا؛ بل يثبت أن القول لا يصبح ذا دلالة إلا
عندما يجعل الكائن يثبت وجوده.
وأنتقل بعد هذه اللمسة الوجودية إلى مناقشة هايديجر نفسه لما قاله من قبل، وهو
التمييز بين الكلام (speaking) والقول (saying)، مؤكدًا أن المرء يمكن أن يتكلم كلامًا لا
نهاية له من دون أن يقول شيئًا، إذ يقول: إن ما نسميه القول هو البيان (showing)، وإذا كانت الصلة بين الكلمتين الإنجليزيتين
السابقتين saying
وshowing صلة «واهية» مثل الصلة بين نظيرتيهما
الألمانيتين sagan
(saying) وzeigen
(showing)، وربما أيضًا بين «القول» و«البيان»
العربيتين، فإن الكلمة اللاتينية «أقول» (dico) تجمع
بين الدلالتين؛ إذ تعني «أقول» هنا «أُبيِّن بالألفاظ»، ويضيف هايديجر: «ليس المسكوت
عنه
هو الذي حُرِمَ التلفظ بالصوت البشري فقط، ولكنه الذي لم يُنْطَقْ به بعد، أي الذي
حُرِمَ خصيصة البيان، أي الذي لم يظهر على المسرح بعد أيضًا، وكلُّ ما تدعو الحاجةُ إلى
عدم النطق به يظل كامنًا في المسكوت عنه، أي إنه سوف يظل قائمًا خِفْيَةً أو مختبئًا
باعتباره شيئًا لا يمكن بيانه. إنه لغز» (ص٤٠٩).
ويضيف هايديجر قائلًا: إن الكلام باعتباره قولًا ينتمي إلى البناء المنقسم في جوهر
اللغة، وهو يشرح هذا بأنه «الصدع» (rift) الذي تظهر من
خلاله الحقيقة التي يتجاذبها الكلام والقول، أي التي قد تظهر في الكلام باعتبارها
قولًا، وقد لا تظهر قط باعتبارها مسكوتًا عنها، ولما كان القول هو الذي يحقق البيان،
وكان البيان هو الأداة التي تشير إلى المعنى المنشود «فإن الذي ينفتح أساسًا في اللغة
هو القول باعتباره إشارة، وإن لم يكن ما تبينه هذه الإشارة قادرًا على الوصول إلى ذروة
تمثل نظامًا للعلامات، فالواقع إن جميع العلامات تنشأ من مجال بياني يمكن أن تكون هذه
علامات عليه وعلى أغراضه» (ص٤١٠).
وهكذا أصل إلى القضية الرئيسية في هذا الفصل، وسوف أعتمد في ترجمة ما يقوله هايديجر
لا على ترجمة كريل (على نحو ما فعلت حتى الآن) بل على ترجمة هيرتس وستامباو (١٩٧١م)
وأعني بالقضية علاقة اللغة — منطوقة ومسموعة — بالوجود. يقول هايديجر:
من المعروف أن التَّكَلُّمَ إفصاحُ الصوت البشري عن الفكر من خلال أعضاء النطق،
ولكنَّ التَّكَلُّمَ في الوقت نفسه استماعٌ. ولقد جرت العادة على إقامة التضاد بين
الكلام والسمع، إذ يتكلم شخص ويستمع إليه شخص آخر. ولكن الاستماع لا يقتصر على مصاحبة
التكلم الذي يجرى في المحادثات والإحاطة به وحسب، فإن تزامن التكلم والاستماع له معنى
أكبر؛ ذلك أن التكلم نفسه استماع. أي إن التكلم استماع إلى اللغة التي نتكلمها. وهكذا
فإنه استماع لا يجري أثناء التكلم بل قبل التكلم. وهذا الاستماع إلى اللغة يسبق أيضًا
جميع أنواع الاستماع الأخرى التي نعرفها، وبصورة بالغة الخفاء. فنحن لا نتكلم اللغة فقط
بل نتكلم من طريقها [أي من خلالها]. ونحن لا نستطيع ذلك إلا لأننا دائمًا ما نستمع إلى
اللغة قبل ذلك. وماذا نسمع عند ذلك؟ إننا نسمع اللغة تتكلم.
ولكن هل تتكلم اللغة نفسها؟ كيف نفترض قدرتها على إنجاز هذا العمل الرائع من دون أن
تمتلك أعضاء التكلم؟ ومع ذلك فإن اللغة تتكلم. فاللغة، أولًا وقبل كل شيء، تطيع في
أعماقها الطبيعة الأساسية للتكلم، أي إنها تقول [شيئًا ما]. فاللغة تتكلم من طريق
القول، أي بالبيان. وأما ما تقوله فينبع مما سبق التكلم به، ولا يزال مسكوتًا عنه، فهو
قول يسود البناء (Aufriss) الخاص باللغة
(Sprachwesen). فاللغة تتكلم ما دامت، باعتبارها
بيانًا، تنفذ إلى جميع أقطار الحضور، وتستدعي منها كل ما هو حاضر كي يظهر ويخبو. ونحن،
وفقًا لذلك، نستمع إلى اللغة بهذا الأسلوب، أي إننا ندعها تقول قولًا ما لنا، وبغض
النظر عن الأسلوب الذي نستمع به، فكلما استمعنا إلى شيء ندع شيئًا ما يقال لنا، وجميع
ضروب الإدراك الذهني والحسي يتضمنها هذا الفعل سلفًا. وعندما نتكلم، كما يحدث عند
استماعنا إلى اللغة، نقول مرة أخرى القول الذي استمعنا إليه. ونحن ندع صوته الخالي من
رنين الألفاظ يأتينا، ثم إذا بنا نطلب رنين الصوت الذي لا يزال مُحْتَفَظًا به لنا،
ونحاول الظفر به ونستدعيه.
(«الطريق إلى اللغة»، في على الطريق إلى اللغة، ص١٢٣–١٢٤)
الاختلاف الرئيسي بين هذه الترجمة (١٩٧١م) وترجمة كريل (١٩٩٣م) ينحصر في معنى الكلمة
الألمانية Aufriss إذ نجد أن ترجمة «هيرتس»
و«ستامباو» تقول: «إنه قول يسود البناء الخاص باللغة» بحيث تقصر معنى
Aufriss على البناء (أو الهيكل أو الشكل العام)
الخاص باللغة، وأما كريل فيقول: «إنه قول يسود البناء المنصدع في جوهر اللغة» وفيما يلي
العبارتان بالإنجليزية:
[… unspoken saying which pervades the design (Aufriss) of language
(Sprachwesen)] (1971)
[… unspoken saying that permeates the rift-design in the essence of
language] (1993)
فإذا رجعنا إلى كلام هايديجر نفسه عن هذه الكلمة
(
Aufriss) وجدناه يقول في هذا النص نفسه:
«فلنطلق على الوحدة في جوهر اللغة التي نسعى إليها تعبير
Aufriss، والمعروف أن
Riss [أي صَدْع] هي كلمة
ritzen نفسها [يحفر، ينحت، يشق] وكثيرًا ما
نمر بكلمة Riss بالدلالة التي تخفض من قدر
الموصوف بها، فلها معنى سلبي، مثل الإشارة إلى شرخ في الجدار، والفلاحون الذين
يتكلمون اليوم عن حرث الأرض يشيرون إلى شق التربة بأخاديد، ولا يزالون يستعملون
الفعل aufreissen أو
umreissen [بمعنى يمزق أو يقطع أو يقلب] أي
إنهم يشقون بطن الحقل حتى يبذروا البذور ويتسببوا في النماء. وهكذا فإن البناء
المقسوم يمثل مجموع الصفات في نوع الرسم الذي يتغلغل فيما انفتح وتحرر باللغة.
والبناء المنصدع صورة لجوهر اللغة، فهو البناء الذي يلتحم فيه قسما البيان التحامًا
محكمًا، فالقسم الأول هو القسم الذي تتحكم فيه مادة القول في الناطقين بها، وكلامهم
يتحكم في القول بجزأيه المنطوق وغير المنطوق.»
(الطريق إلى اللغة، في الكتابات الأساسية، ص٤٠٧–٤٠٨)
الصَّدْعُ والوَحْدَة
ويشرح هايديجر المقصود بهذا الصدع أو الانقسام الذي لا يظهر إلا عند تحليل الكلام
المنطوق، ولكنه موجود ومنه تخرج دلالة الكلام بصورتيه المنطوقة وغير المنطوقة، وهو
يُعَرِّفُ تأثير هذا الصدع بأنه يؤدي إلى الالتحام مثلما يقول في مقاله عن «أصل العمل
الفني» إن الانقسام بين الأرض والعالم، نتيجة الصراع بينهما، على نحو ما شرحت آنفًا في
الفصل السابق، يؤدي إلى تلاحم في مرحلة لاحقة حيث يتحول الانقسام، الذي يسميه هايديجر
«صَدْعًا» إلى وجود تبرز فيه الحقيقة أي قوة العمل الفني. يقول هايديجر:
ليس الصراع صَدْعًا (rift)
[Riss] … بل إنه الصلة الحميمة التي ينتمي بها
الخصوم بعضهم إلى البعض، وينقل هذا الصدع الخصوم إلى منبع وحدتهم بفضل أساسهم
المشترك. إنه هيكل أساسي، أو شكل بالخطوط العريضة … ولا يؤدي هذا الصدع إلى
افتراق الخصوم بعضهم عن البعض، بل إنه يأتي بما يمنع القياس والحدود في داخل
شكله العام.
(«أصول العمل الفني»، ترجمة هوفستادتر، ١٩٧١م، ص٦٣)
وعندما نشر كريل هذه الترجمة في
الكتابات الأساسية لهايديجر (١٩٩٣م، ٢٠٠٨م) (ص١٤٣–٢١٢)
أضاف هذه الحاشية تعليقًا على العبارات الواردة آنفًا:
تعني der Riss باللغة الألمانية الشق أو التمزق أو
التهتك أو الفلق أو الصدع، ولكنها تعني أيضًا خطة أو تصميم رسم هندسي. والفعل
reissen الذي اشتق الاسم منه يرادف الكلمة
الإنجليزية «الكتابة». ومعنى der Riss الحرف الذي
يُحفر أو يُنقش أو أية علامة مشابهة. وهايديجر يستخدم سلسلة من الألفاظ
Abriss, Aufriss, Umriss وخصوصًا
Grundriss للإيحاء بأن الصدع القائم بين العالم
والأرض تخرج منه صورة عامة، أو خطوط عريضة، أو شكل معين، أو خطة هندسية، أو خطة أساسية.
الصدع نص مكتوب. (ص١٨٨).
والكلمات التي يأتي بها كريل بعد الكلمات الألمانية توازي معناها تقريبًا، فالأولى
Abriss تعني الملخص، والثانية
Aufriss مناط النزاع هنا قد تعني قطاعًا
عموديًّا، والثالثة umriss تعني الخطوط العريضة،
والأخيرة، كما هو واضح، تعني الخطة الأساسية. والجملة الأخيرة في حاشيته تحمل أكثر من
معنى، أحدها «النص المكتوب»، ولكنها قد تعني الأمر الصادر أو القدرة على التحكم، وهو
الذي يربط هذه الجملة من خلال دلالة «الأمر» (writ)
بالجملة الأخيرة التي ترجمت فيها الفعل enjoin (بمعنى
يأمر أو يحث) بالفعل «يتحكم» نشدانًا للمعنى المقصود — وهكذا نرى أن كريل يقبل ترجمة
هوفستادتر لكلمة Aufriss بكلمة الصدع
(rift) عندما يتولى بنفسه ترجمة «الطريق إلى اللغة»
فيضيف كلمة rift إلى
design؛ ولكنه يكاد ينكر وجود الصدع مؤكدًا المعنى
الآخر للكلمة، عندما يتولى تحرير نص هوفستادتر، وهو في الحالين يرجع صدى ما يقوله
هايديجر ويجد له المبررات اللغوية اللازمة. ومن ناحية أخرى فإن «هيرتس وستامباو» لم
يخطئا حين حذفا دلالة الصدع من Aufriss ما دامت
الكلمة تسمح باعتبارها شكلًا معينًا أو تصميمًا هندسيًّا. وإذا اشتكى القارئ من هذا
الإسهاب في الشرح فيكفي أن أُذكِّره بما قلته في الصفحة الثالثة من الفصل الأول، أي إن
فهم هايديجر يتوقف على فهم مصطلحاته التي يعيد النظر في دلالاتها من مقال إلى مقال،
وخصوصًا ما بين مرحلته الأولى ومرحلته الأخيرة أي التي تبدأ بعد عام ١٩٣٥م. وأعود الآن
إلى قضية اللغة والوجود عنده.
التكلم والاستماع
ولأبدأ باقتطاف بعض أقوال الفيلسوف المعاصر مايكل دميت (Dummett) في كتابه أصول الفلسفة التحليلية (١٩٩٤م) الذي يبين أن ما يسمى
«الفلسفة التحليلية» تقوم على أساس اعتقادين، أولهما «الاعتقاد بإمكان التوصل إلى فهم
فلسفي للفكر من خلال الفهم الفلسفي لِلُّغة، والثاني أنه لا يمكن الحصول على تفسير شامل
إلا من هذا الطريق» (ص٤)، فالفيلسوف التحليلي يعتمد على اللغة في محاولة الفهم الفلسفي
لأي شيء، وهو ما أدى إلى بروز أهمية الفلسفة اللغوية في مجال الفلسفة المعاصرة،
واحتلالها موقعًا رئيسيًّا في الفكر الحديث، على عكس ما حدث في دراسات الترجمة، إذ
انتقل دارسو الترجمة التي كانت تعتبر نشاطًا لغويًّا في المقام الأول إلى دراسة
الثقافة، بعد أن ثبت للباحثين أن المدخل اللغوي المحض يظل ناقصًا من دون الإطار الثقافي
لكل لغة من اللغات، خصوصًا بعد انقشاع الوهم الذي كان يسيطر على دارسي الترجمة القدماء،
بل واتخذ أخيرًا شكلًا «شبه علمي» يزعم وحدة اللغات البشرية، استنادًا إلى وهم آخر وهو
وحدة الفكر البشري، فقد أصبح الفكر الحديث يؤمن بالخصوصية الثقافية لكل لغة، ويبدأ لا
من النص الملفوظ بل من الفكر الذي يغذوه، وربما انتهى إليه أيضًا، وذلك ما أسمته سوزان
باسنت «التحول إلى الثقافة»، على غرار ما يوصف الاتجاه المذكور في الفلسفة بأنه «التحول
إلى اللغة»، وأظن أن الخلاف حول بعض مصطلحات هايديجر يثبت هذا وذاك جميعًا.
ولكن هايديجر ليس من فلاسفة التحليل اللغوي، فالفيلسوف التحليلي يحاول أن يتعرف على
بناء حالاتنا الفكرية والنفسية ومواقفنا العملية من طريق دراسة الأبنية المنطقية
للُّغة، وأما هايديجر فيحاول أن يتعرف على الدور الذي تلعبه اللغات المختلفة في إنشاء
أساليب وجود مختلفة في العالم، فاهتمامه الأول باللغة يتمثل في أسلوب تأثير اللغة في
فهم كل فرد لذاته ولعالمه، وكما ذكر في المقتطف الذي أوردته آنفًا، يؤكد هايديجر أن
هذا
الفهم ينبغي أن يسبق استعمالنا للغة. ويضرب راذول مثلًا (ص٩٠) يوضح ما يعنيه هايديجر
بذلك، قائلًا: إنني إذا طلبت منك أن تنظر من الشباك وأن تصف ما ترى، فسوف تركز على بعض
ملامح المشهد ثم تبدأ الوصف، وهكذا فأنت تستجيب بالكلام «للعالم» الذي يقدم نفسه إليك
باعتباره شيئًا يمكن الكلام عنه، أي يمكن ترجمته إلى ألفاظ. وكما يقول هايديجر: نحن
نتكلم من خلال اللغة، أي نستعمل لغة موجودة، كنا سمعناها، وحفظنا ألفاظها غير المنطوقة
في داخلنا، وعندما رأينا المشهد بحثنا عن الألفاظ التي نريدها والأصوات التي تتفق مع
ما
نرغبه (انظر الجمل الثلاث الأخيرة في الفقرة الأولى من المقتطف أعلاه).
وعندما نشترك في محادثة ما، فإننا أيضًا نستمع، وإن يكن الاستماع آنيًّا هنا، ونعتمد
عليه في انتقاء الألفاظ التي نستخدمها في الحوار، فكأنما جاءتنا هذه الكلمات طواعية.
ولكن حتى حين نخفق في اختيار الكلمات «المناسبة» فإننا نجد أن أذهاننا أصبحت مسرحًا
لألفاظ كثيرة متضاربة، ونحن نستمع إليها، شئنا أم أبينا، في محاولة للتصالح مع الكلمات
المستعصية، فالتكلم، كما يقول هايديجر، «فعل» لا يرتبط بنوايانا الخاصة، فهو نشاط لغوي
مستقل، عوامله ما تعلمناه من اللغة وما سمعناه ونسمعه من الألفاظ، ولهذا يقول هايديجر:
إن الاستماع إلى اللغة هو اللغة الأصلية، أو ما يسميه جوهر اللغة (Wesen der Sprache) وإن كان يستخدم في الفقرة
المقتطفة أعلاه تعبير «الجوهر اللغوي» (Sprachewesen).
وأظن أن هذه الفكرة تحتاج إلى المزيد من الإيضاح بمثال لا أنساه: كنت أشاهد فيلمًا
في
إحدى دور السينما في لندن أثناء إقامتي للدراسة فيها، وكان فيلمًا فكاهيًّا يعتمد على
التلاعب بالألفاظ، وهو نوع أحبه بصفة خاصة، وكان الجمهور سعيدًا، والناس تضحك، حين
التفت إليَّ الرجل الجالس بجواري وعلى فمه ابتسامة واسعة ومنظره يدل على أنه شِبه أُمي،
وقال لي بلهجة بلهاء good show وأتبعها بقهقهة. وعلى
الفور بدأت أحدس أن عالم هذا الرجل بسيط، وأن لغته محدودة، وأن تذوقه للتراكيب اللغوية
الفكهة ينحصر فيما يراه من بلاهة يصطنعها الممثلون لإضحاك العامة. وكنت أختلس النظر
إليه طوال الفيلم لأتيقن من صدق حدسي، فالذي نطق به «لغة» محدودة، وهي تتكلم قائلة: إن
فهمه لذاته محدود، وفهمه للعالم يحصره ما بين الحسن والسيئ، وطبقًا لما يقوله هايديجر،
لم يستمع هذا الرجل إلى اللغة الحافلة بالمعاني الدقيقة التي كان يمكن (إذا استمع إليها
واستوعبها) أن ترتفع بمستوى حكمه ونوع حكمه على التلاعب بالألفاظ، إذ لم يوثر ذلك فيه
بقدر ما أثرت فيه حركات الممثلين.
ولأتخذن من هذا المثال نقطة انطلاق إلى ما يعنيه هايديجر بالتكلم وبالقول، وبالتمييز
بينهما، وهذا أمر يسير ولا يحتاج إلى «تفلسف»، ولكن الذي يحتاج إليه شرح قول هايديجر:
إن
«القول أساس التكلم» وأنا استخدم اللفظ الأخير بدلًا من الكلام؛ لأن هايديجر يؤكد
أهمية اختلافهما، فالكلام قد يعني ما يقال وقد يعني التكلم (فأنت تقول: بدأ فلان الكلام
فأسكته الجمهور)؛ ولكن التكلم كلمة تشير إلى فعل الكلام بصورة قاطعة، وكل تكلم يؤدي إلى
قول شيء، ولكن قول الأشياء ينم على وعي معين بالعالم وبالذات الناطقة، أي إن القول يصبح
أسلوب تحديد نوع الوجود البشري، ولكنه لا يكون أثناء التكلم بل قبله. وهذا هو جوهر ما
يريدنا هايديجر أن نفهمه من كلامه، فالقول عنده كلام استمعنا إليه واختزنَّاه، بل
ونختزن جرسه أيضًا. والقول الذي قاله المتفرج عن الفيلم في المثال الذي ضربته قول يشي
بمفهومه لبناء وجوده وبناء العالم الذي يعيش فيه. لقد قال ما يوازي بالعامية المصرية
«فيلم حلو» أو «فيلم كويس» وهذا القول عند هايديجر سابق لنطقه بعبارته، أي سابق لتكلمه،
ومن ثم فهو يسميه «اللغة الصامتة»، وهكذا يصل هايديجر إلى ما يسميه «جوهر اللغة»،
مستخدمًا الاسم «جوهر» فعلًا، كأن نقول بالعربية «يجوهر»، وهذا غريب ولكنه طبع
هايديجر.
جَوْهَرَ يُجَوْهِرُ
وهنا أيضًا نجد أن هايديجر يغير من معاني مصطلحاته، وبذلك يضيف صعوبة أخرى إلى صعوبة
أسلوبه. فأما المصطلح الذي أعنيه فهو «الجوهر»
(essence) فقد درجنا في التقاليد الفلسفية على اعتبار أن «الجوهر» هو
الخصيصة الأساسية التي تحدد ماهية الشيء، و«الماهية» مصدرٌ صناعي من «ما هو» أو
«ما هي»
(what it is)
(
quiddity) أو قل: إنه المفهوم الذي ما إن يذكر حتى
نعرف ما هو أو الذي يساعدنا على معرفة ماهية الشيء. فكل شيء له صفات متعددة، بعضها
«جوهري»
(essential) وبعضها عارض أو عرضي
(accidental)، والصفة الجوهرية ملازمة للشيء وتحل فيه
دائمًا (
immanent) والصفات العارضة تختلف باختلاف
استعمالات الشيء أو السياقات التي يدخل فيها
(
contingent). أما هايديجر فيقول: إن جوهر أي شيء
تحدده أهميته لنا، أي يقوم على علاقتنا به لا على خصائص موضوعية فيه، ومن ثم فالفعل
«يجوهر»
(to essence) عنده يعني إبراز جوهر أي شيء
بهذا المعنى، أي مدى أهميته لنا، وهكذا «فالجوهر» عنده هو ما يحدد علاقتنا الصحيحة بأي
شيء وبالأشياء المتصلة به، قائلًا:
حين نقول «إنه تجوهر» كنا نعنى أن الشيء أصبح حاضرًا، وأن له أهمية دائمة
لنا، وأنه يأتينا ويقصدنا ويشغلنا. فالجوهر المقصود بهذه النظرية يحدد ما هو
دائم وما يهمنا في كل شيء لأنه يتحرك وينتقل نحو كل شيء.
(في الطريق إلى اللغة، ١٩٧١م، ص١٩٠)
ومعنى هذا أننا لا نستطيع الحكم على مدى «جوهرية» الشيء إلا إذا حددنا موقفنا من
الدنيا وعرفنا على وجه اليقين ما يعتبر مهمًّا لنا ويعنينا، وطرحنا جانبًا ما تقل
أهميته أو ما لا يعنينا، لأن الجوهر في نظر هايديجر عامل يتيح «لنمط معين من الكائنات
…
أن تعلو على غيرها» (مسائل أساسية في الفلسفة، ص١١٢) لأنه يحثنا على انتهاج سلوك معين
واتخاذ مواقف معينة من عالمنا.
وهكذا فإذا اختلف عالم المرء اختلف ما يراه جوهريَّا وفق تعريف هايديجر، وهذا يؤكد
اختلاف مفهوم هايديجر للجوهر عما ورثناه، أي إنه لا يختلف فقط باختلاف موقف المرء من
الدنيا بل أيضًا باختلاف الثقافة التي تحدد طبيعة عالم كل إنسان، فإذا طبقنا هذا على
اللغة، موضوعنا الأساسي، وجدنا شيئًا غريبًا كل الغرابة، إذ يعتمد هايديجر على استعمال
كلمة جوهر اسمًا وفعلًا في آن واحد، للإشارة إما إلى «جوهر اللغة»؛ أي الخصيصة التي
تحدد ماهية اللغة، وإما إلى ما تجعله اللغة جوهريًّا، أي ما «تجوهره» اللغة. ولنستبدل
الكلام باللغة حتى نأتي بمثال عربي لما يقوله هايديجر، فإنك إذا قلت: «جوهر الكلام»
وكانت جوهر مرفوعة على الابتداء، كنت تقصد المعنى الأول، وإذا اعتبرتها فعلًا (جَوهَرَ
يُجَوهِر جَوهَرَةً) كان الكلام فاعلًا ولك أن تأتي له بمفعول به. أي جَوْهَرَ الكلامُ
فلانًا
أي أصبح مهمًّا له متعلقًا به، ولك بطبيعة الحال أن تعتبر الكلامَ مفعولًا به لفاعل
مستتر (جَوْهَرَ فلانٌ الكلامَ) أي جعله مهمًّا له ويعنيه أكثر من غيره، فاعتبار
essence فعلًا يتيح التلاعب بمعنى الكلمة، وهذا
هو ما يريدنا هايديجر أن ندركه باعتباره خاصًّا به، «فجوهرة» اللغة لنا تعني أن اللغة
توجهنا إلى الأشياء التي نهتم بها بأسلوبها الخاص، بحيث تشق لنا طرقًا نسير فيها وسط
الكائنات، وبحيث يؤثر بعض الكائنات في بعض وفق دلالة تلك اللغة، محققة وجودها المتفرد
طبقًا لفعل «الجوهرة» من جانب اللغة.
اللغة الجوهرية (الأصلية) واللغة العادية
يميز هايديجر بين اللغة الجوهرية أو
الأصلية
(essential or originary) التي وصفناها في آخر الفقرة السابقة، وهي التي تمنحنا أعمق
إحساس جوهري بوجود العالم، وبين لغتنا العادية في الحياة اليومية التي نستخدمها في
التواصل حول الأشياء الموجودة في العالم. أما اللغة الأصلية فهي بلا أصوات، أي إنها
تقول ما تقوله عن العالم بلا ألفاظ، على عكس اللغة العادية التي لا تستخدم إلا الألفاظ،
واللغة الأصلية تبين لنا ما يهمنا وما لا يهمنا عن الأشياء، وترينا كيفية ترتيب الأشياء
مع بعضها البعض، وأما اللغة العادية فتمكننا من التعبير عن الحقائق التي تراها اللغة
الأصلية، واللغة الأصلية تتكلم من خلال تحديد موقفنا من العالم، وهو ما يسمح لنا بأن
نشاهد العالم في صور منتظمة
ومنظمة وفق أسلوب وجود خاص، حسبما يقول راذول الذي يضيف
قائلًا:
ومن ثم فإن كل شيء يكتسب جوهرًا خاصًّا به، بحيث يصبح ذا أهمية لنا ويتحكم في
استجابتنا له بطرائق خاصة. وحين نشترك في توجه معين للعالم مع غيرنا، فنحن
نتواصل باستخدام كلمات اللغة العادية، لأن جَوْهَرَةَ اللغة الأصلية [أي
إكسابها طابعًا جوهريًّا] يؤدي إلى إبراز بعض ملامح العالم دون غيرها لنا، بحيث
نرى جميعًا هذه الملامح نفسها، وبحيث تستولي على انتباهنا، كما يؤدي ذلك إلى
السماح لها بأن تصبح موضع تركيزنا. أي إننا نشترك في لغة أصلية عندما يعبر
العالم عن نفسه بالأسلوب نفسه لنا، وعندما «نستمع إلى اللغة»، وعندما «ندعها
تقول لنا قولًا ما». ونحن نقوم بأداء أدوار لغوية تستجيب بالنهج الصحيح لأسلوب
الإفصاح عن العالم، عندما «ندع صوتها الخالي من رنين الألفاظ يأتينا، ثم إذا
بنا نطلب رنين الصوت الذي لا يزال مُحْتَفَظًا به لنا، ونحاول الظفر به
ونستدعيه.»
(راذول، ٢٠٠٦م، ٩٤–٩٥)
ولكن ما معنى كلام اللغة الأصلية لنا من دون ألفاظ؟ وكيف يتسنى لها تنظيم العالم
في
غضون ذلك؟ الجواب: إن هذه اللغة تتكلم بمعنى أنها تضعنا في الحالة النفسية المناسبة
لإدراك العالم، ويضرب هايديجر مثالًا لها من خبرته في بواكير الصبا، في مقال يصفه راذول
بأنه جميل ومغمور عنوانه «سر برج
أجراس الكنيسة» (
Vom Geheimnis des Glockenturms) نشر في كتابه المسمى
من الخبرة إلى الفكر
(
Aus der Erfahrung des Denkens) (انظر ص١٠٦ عاليه).
ويحكي نشأته في أحضان الكاثوليكية وارتباط حياته بدقات النواقيس التي كانت تنظم أوقات
حياته، ويقول راذول: إن هايديجر ظل، حتى بعد أن ترك الكاثوليكية، يحاضر في شبابه عن
الظاهراتية الدينية والميتافيزيقا، وإنه كان كثيرًا ما يعود في سنوات النضج إلى الإحساس
بوجود الله، وينتقل من ذلك إلى أن يقول:
إذن فإن اللغة التي يتحدث هايديجر عنها شيء يكلمنا «قبل أن نتكلم». ونحن
نتكلم لأن اللغة تملكنا بمعنى أننا نتخذ أسلوبًا خاصًّا في النظر إلى الأشياء
وإلى مناطق العالم. فعندما أتكلم لغة ما، حسبما يقول هايديجر — أو بالأحرى
عندما «تتكلمني» اللغة — فإن بعض الأشياء المحددة يمكن أن تُظْهِرَ لي أنفسها
باعتبارها ذوات معنًى خاص، وأهمية محددة، وعلاقة معينة بعالمي، وقد كتب هايديجر
يقول: «جوهر اللغة يصبح جوهريًّا حقًّا حيث توجد باعتبارها قوة تشكيل للعالم، أي
حيث تنشئ وجود الكائنات مقدمًا وتدرجها في سياق متكامل» (المنطق باعتباره مسألة
جوهر اللغة، ص١٧١). فعلى سبيل المثال نجد أن المسيحيين في القرون الوسطى كانوا
يسكنون عالمًا مختلفًا عن عالم هواة التكنولوجيا المحدثين، ومن ثم فقد كانت
اللغة الأصلية للأوائل تختلف عن اللغة الأصلية للأواخر، ومعنى هذا أن اللغة
العادية تختلف أيضًا عند كل فريق، فكلمة «الذهب» تشير عند المسيحي القروسطي إلى
شيء يختلف عما تشير إليه عند صاحب التكنولوجيا، «فالذهب» عند الأخير اسم لمورد
طبيعي بالغ النفع، و«الذهب» عند القروسطي معدن شريف لا يمسه الفساد.
(راذول، كيف تقرأ هايديجر، ٢٠٠٦م، ص٩٧)
بين الشعر والنثر
كانت نقطة انطلاق هذا الفصل تساؤلنا المنطقي عما يعنيه هايديجر بأن «اللغة منزل
الوجود»، ومن ثم غدونا نبحث فيما عساه يربط اللغة بالوجود، من بعد رفض المذهب الديكارتي
لربط التفكير بالوجود بسبب ما يوحي به من عزل للذات المفكرة، واستبعاد لعوامل تشكيل
الفكر نفسه مثل التاريخ والتقاليد والأعراف، ثم عرضنا لتصور هايديجر عن وجود «صدع» يفصل
(ويصل في الوقت نفسه) بين اللغة المنطوقة واللغة المسموعة، وذكرنا اختلاف الشراح في
تصور هذا الصدع الذي يشبه الصراع بين الأرض والعالم، والذي تَبرُز الحقيقةُ أو تتكشف
من
خلاله، وكيف أن المرء يدرك «وجوده» فيه بفضل التحام اللغة المنطوقة باللغة المسموعة
(الجوهرية)، ثم ركزنا على مناقشة هذه اللغة الجوهرية الصامتة وكيف أنها تتحكم في وعي
انتماء الإنسان إلى عالمه، وكيف تملي ما تقوله اللغة العادية، فإذا بنا من جديد نواجه
الصورة الاستعارية عن كون اللغة منزل الوجود، فهي استعارية نقبلها من الشاعر لا من
الناثر، ومن ثم فنحن نتساءل الآن عن سر تعبيره الشعري، ومن ثم عن دلالة ذلك التعبير في
إطار نظرة هايديجر العامة إلى اللغة
والوجود. وسوف ألخص هذه النظرة في ملاحظات
محدودة:
- (١)
يرفض هايديجر أي تصور للغة باعتبارها بنيانًا ثابتًا لا زمنيًّا، إلا
إن كانت لغة ميتة (كاللاتينية)؛ فاللغة في نظره كائن حي، وشواهد حياته كثيرة،
على رأسها تغير معاني الألفاظ، وهو التغير الذي يؤكد خطأ معادلتها بالنظم
الرمزية أو الرقمية.
- (٢)
يقول هايديجر: إن الشعر جزء لا يتجزأ من اللغة البشرية، لا انحرافًا
عنها، والاستعارة التي يستخدمها لإيضاح فكرته عبارة تكشف عن الفكر الإنساني
الذي يستطيع أن يشهد وجود شيء من خلال وجود شيء آخر، فالاستعارات ذات قدرة
على توليد المزيد من الإمكانيات المتاحة لوعي المرء بوجوده. يقول هايديجر
في كتابه تاريخ مفهوم الزمن (١٩٢٥م): إن اللغة العادية تتضمن كلمات ذوات
معانٍ أصيلة ومبتدعة نسبية، وألفاظًا مخترعة لنقل هذه المعاني، ولكن ما إن
يعبر المرء عن هذه المعاني الجديدة حتى تصبح جزءًا من اللغة العادية التي
تنتمي للجميع. وإمكانيات دخول هذه الكلمات والمعاني سياق كلامنا المعتاد
قائمة، أعني دخولها «الخطاب، وخصوصًا الشعر، إذ إنها تستطيع أن تتسبب في
إطلاق إمكانيات جديدة للوجود أمام الحضور» (ص٢٧٢).
ويقول بولت في كتابه هايديجر: مقدمة (١٩٩٩م): إن هايديجر لا يرى أن الشعر مجرد مصدر
متعة جمالية من نوع خاص، بل قوة تستطيع الكشف عن عالمنا وتغيير شكل وجودنا. والشعر بلا
شك أقل شيوعًا من النثر العادي؛ ولكن ذلك لا يمنع من كونه ذا طابع أساسي، واللغة الشعرية
أساسية؛ لأنها، كما يقول هايديجر: «تمثل الظهور الأوَّلي في صورة ألفاظ، والصيرورة التي
أميط عنها اللثام، والكينونة باعتبارها «وجودًا-في-العالم».» (المشكلات الأساسية
للظاهراتية، ص١٧١–١٧٢)، ويضيف هايديجر قولًا جديرًا بالنظر فيه، وهو: إن «الكلام اليومي
العاطل» صورة شاحبة معتمة من «المعاني الخلاقة» التي نجدها في الشعر.
ويضيف بولت: إن «هذه النظرة إلى الشعر تتفق اتفاقًا تامًّا مع فهم هايديجر للأصالة
والتاريخ، فاللحظات المضيئة الخلاقة قليلة في حياة الفرد وتاريخ أي شعب من الشعوب،
والباقي غير أصيل ومستعار من غيره» (بولت، هايديجر: مقدمة، ١٩٩٩م، ص١٧٧).
لكنني أود أن أنظر إلى مقولة هايديجر عن كون اللغة منزلًا للوجود من زاوية مألوفة
لنا، دارسي الأدب، وأكثر من مألوفة لدارسي اللغة والفلسفة، وهي لغة المجاز، ومن ثم فأنا
أعتمد هنا على محاضرة بعنوان البناء الإقامة الفكر (Bauen Wohnen
Denken) ألقاها هايديجر عام ١٩٥١م وترجمها ألبرت هوفستادتر، ونشرها
في كتاب من تأليف هايديجر عنوانه الشعر واللغة والفكر عام ١٩٧١م في نيويورك (ص١٤٥–١٦١).
والمحاضرة تنتمي إلى التوجه الجديد عند هايديجر للنظر في الاتجاه التكنولوجي للعالم،
وفي مكانة الشعر التي يمكن أن تنقذ الإنسان من الخضوع لسيطرة الآلة، ولا يملك المرء إلا
أن يتذكر أن هايديجر هنا يكاد يكرر ما حذر منه ماثيو أرنولد قبل ما يقرب من مائة عام
حين قال: إن «الإيمان بالآلات هو الخطر المحدق بنا»، وأرنولد كما نعرف كان شاعرًا
وناقدًا إلى جانب عمله بالتربية والتعليم، وكان يشهد ثمار الثورة الصناعية والازدهار
العلمي الذي بلغ أوجه في أواسط القرن التاسع عشر وأواخره، وكان يمثل المقاومة «الشعرية»
الطبيعية للازدهار المادي في العصر الفكتوري، ويحس بالخطر الذي يتهدد الحياة الروحية
الخصبة التي ورثها من جيل الرومانسيين الذي شهد مولده وكان ينتهي بوفاته عام ١٨٨٨م
(العام الذي ولد فيه ت. س. إليوت). وأما هايديجر الذي ولد عام ١٨٨٩م وشهد عقد نهاية
القرن الذي كان يتميز بالانحلال الفكري والفني، فقد تشرَّب روح الرومانسية الألمانية
في
صباه، ولم يكن مثل أرنولد داعية للحياة الروحية من باب الدين بل كان داعية للفكر
الإنساني الحر من باب «الوجود» الذي ارتبط في ذهنه بالمذهب الإنساني. والكتاب الذي
ترجمه هوفستادتر يتضمن محاضرتين أُخرَيَين، الأولى بعنوان «الشيء»، والثانية بعنوان
«للإنسان مسكن شعري»، وهو في هذا الكتاب لا يستعمل اللغة الفلسفية التقنية الخاصة
بالبحث العلمي بقدر ما يعتمد فيه على الأسطورة والشعر، وسوف أوجز ملخص هذه المحاضرة
القصيرة فيما يلي.
يقول هايديجر: إن تأمل الكلمات الثلاث التي جعلها عنوانًا للمحاضرة يؤدي بنا إلى
إدراك
معنًى جوهري يفيدنا في فهم الوجود (الصفة المجردة) وعلاقة الإنسان بالأرض والعالم أيضًا
(على نحو ما شرحت في فصل سابق). فهو يبدأ بالإشارة إلى أن التصور الحديث للتفكير، من
زاوية ميتافيزيقية، يعني أن المرء يستعمل مقدمات تمثل الأشياء، ويقيم بينها علاقات
معينة، وأهم مقدمة بديهية تقوم على التمثيل هي «أنا أفكر» بصورها المتعددة؛ مثل
(cogito sum)، (I
think)، (I am)
(ich denke)
(ich bin). ويقول: إن لفظ bin مثل
الإنجليزية be مشتق من الكلمة الهندية الجرمانية
bheu، مثل اللاتينية
fui (أي إنني كنت لتوي) واليونانية
phuo (التي تعني أُولَدُ، أو أَنْمُو أو
أُنْشأُ). ثم يقول: إن هذه الكلمات أيضًا تؤدي إلى نشأة الكلمة الألمانية
bauen أي يبني، مضيفًا أن تعبير ديكارت
ich bin (أنا موجود) الذي «يطفو» في المجال
المحدود لعناصر التفكير، والذي يمثل جميع الأشياء المادية، أصبح عليه أن يبني مُقَامًا
في الأرض، أي أن يقيم في مكان ما، لأن المعنى الأصلي لكلمة
bauen هو
wohnen أي يستقر ويستوطن قطعة من الأرض، وأن يفلحها
ويزرعها، أو يستخرج معادنها، وأن يبني فيها منزلًا أيضًا. وباختصار يقول هايديجر: إن
التفكير في البناء والإقامة في مسكن يؤدي إلى تعميق تفكيرنا في معنى الوجود (باعتباره
الكينونة). وغني عن البيان أن الأفكار في هذه المحاضرة ترتبط بحديث هايديجر عن
«الإقامة» في «رسالة عن المذهب الإنساني» وكتاب الوجود والزمن.
ولهذا التلخيص فائدة في إيضاح معنى العبارة التي أصبحت مضرب الأمثال في الغموض: كيف
تصبح اللغة منزلًا للوجود؟ هل يعني المنزل مسكن الوجود؟ أي المكان الذي يسكن فيه
الإنسان، أم المأوى الذي يأوي إليه من غربة؟ أم المقام الذي يستقر فيه، ويجده فيه من
يطلبه؟ كل هذه الإجابات محتملة، ولكن تحليل هايديجر لفعل الوجود باللغات المنحدرة من
الهندية الأوروبية يدل على أن معناه المقصود صورة شعرية تعبر عن معنى لا يستطيع النثر
العقلاني تقديمها، فكأن اللغة التي تتكون من أصوات نلفظها ونثبتها على الورق تجسد
وجودنا الإنساني بمعنى قدرتنا على الوعي والتفكير، وكأن وجودنا الفكري الذي يميزنا عن
الكائنات الصماء وضروب الجماد ينزل فيها بالدلالة الحقيقية لا المجازية. وقد يقول قائل
إنك تعود بهذا إلى مقولة ديكارت عن الفكر الذي يثبت الوجود، ولكن هذا مردود عليه بأن
الفكر عند هايديجر ليس طاقة فردية؛ بل طاقة جماعية يغذوها التاريخ وتغذوها التقاليد،
وذلك هو الذي دفع تلميذه جادامر إلى بسط القول في معنى الفهم والإصرار على طابعه
الحواري.
ويقول بولت تعليقًا على نظرة هايديجر إلى الشعر وطاقاته المديدة:
إذا كان هايديجر على حق، فإن أشد علاقاتنا أصالةً باللغة علاقة شعرية، وعلينا ألا
نستخدم اللغة باعتبارها أداة للتمثيل [أي للرمز أو الإحالة إلى الأشياء]، بل أن
نحترمها بصفتها منبعًا حافلًا للكشف الشعري. وكتابات هايديجر بعد الوجود والزمن
تتجلى فيها هذه النظرة الثاقبة، إذ يقل الطابع التقني ويزداد الطابع الشعري، بل إنه
يكتب عن الشعراء، مثل جورج تراكل (Trakl)، ورينر
ماريا رِلكه (Rilke)، وستيفان جورج، وقبل الجميع
فريدريش هولدرلين. وقد ألقى هايديجر في الثلاثينيات والأربعينيات ثلاث دورات من
المحاضرات عن الشعر المركز العسير الفهم الذي كتبه هولدرلين … والطريف أن هذا
الشاعر له عبارة تذكرنا بما يقوله هايديجر وهي: «يقيم الإنسان على الأرض إقامة
شعرية».
(بولت، هايديجر: مقدمة، ١٩٩٩م، ص١٧٧–١٧٨)