يقول هايديجر:
ما التكنولوجيا الحديثة؟ إنها أيضًا كشف … والكشف الحاكم في التكنولوجيا تَحدٍّ،
فهو التحدي الذي يطلب من الطبيعة طلبًا غير معقول، ألا وهو أن تقدم طاقة يمكن
استخلاصها وتخزينها بصفتها طاقة. ولكن ألا يَصْدُقُ ذلك على طاحونة الهواء القديمة
أيضًا؟ كلا! فإن أشرعتها تدور فعلًا مع الريح؛ أي إنها تُتْرَكُ تمامًا لهبوب
الريح، ولكنَّ طاحونة الهواء لا تطلقُ الطاقة من تيارات الهواء حتى تخزنها.
وعلى العكس من ذلك تواجه قطعة من الأرض التحدي المتمثل في إخراج ما في باطنها من
الفحم والمعدن الخام. وهكذا تكشف هذه الأرض عن نفسها بصفتها بقعةً تضم منجمًا
للفحم، والتربة باعتبارها رواسبَ معدنية. ويختلف الآن مظهر الحقل عما كان عليه عندما
كان الفلاح يزرعه وينظمه، أي عندما كان التنظيم لا يزال يعني العناية والصيانة.
فعملُ الفلاح لا يتحدى تربة الحقل. فعند بذر البذور كان الفلاح يضعها في رعاية قوى
النماء ويسهر على زيادتها. ولكن الذي حدث أن زراعة الحقل نفسها قد وقعت في قبضة
تنظيم من نوع آخر، تنظيم يعتدي على الطبيعة. وهو يعتدي عليها بمعنى تحديها.
فالزراعة اليوم هي التصنيع الآلي للأغذية. ويُعْتَدَى على الهواء اليوم لاستخلاص
النيتروجين وعلى الأرض لاستخلاص المعادن الخام، وعلى المعادن الخام لاستخلاص
اليورانيوم، على سبيل المثال، ويُعتدى على اليورانيوم لتوليد الطاقة الذرية التي
يمكن إطلاقها؛ إما للدمار، أو للأغراض السلمية.
ويعتبر هذا العدوان الذي يَسْتخلصُ بالقوة طاقات الطبيعة إسراعًا بالإنجاز، وله
صورتان؛ فالإنجاز العاجل أولًا إطلاقٌ، وثانيًا تعريةٌ. ولكن هذا الإنجاز العاجل
مُوَجَّهٌ منذ البداية لتحقيق تقدم شيء آخر، أي مواصلة السعي للحصول على الحد
الأقصى من الإنتاج في مقابل الحد الأدنى من النفقات. فالفحم المستخرج من أحد مناطق
مناجم الفحم لم يُسْتخلص حتى يكون حاضرًا في أي مكان آخر، بل إنه يُكَدَّسُ في
المخازن، أي إنه يصبح جاهزًا عند الطلب، حتى يقدِّمَ دفءَ الشمس المخزون فيه. ويُرغِم
دِفْءَ الشمس على الخروج لتوليد الحرارة، وهي التي تُرْغَمُ بدورها على إنتاج
البُخَار الذي يؤدي ضغطُه إلى إدارةِ الدواليب التي تتيح استمرار عمل المصنع
…
وهكذا فإن الكشف الحاكم في شتى ضروب التكنولوجيا الحديثة يتخذ طابع العدوان، وهو
عدوانٌ بمعنى الاستخراج لشيء بالقوة، وهو تحدٍّ يتخذ صورة إطلاق الطاقة الخبيئة في
الطبيعة، وما يُطلقُ منه يتحولُ، وما يتحولُ منه يُخْتَزَنُ، وما يُخْتَزَنُ منه
يُوَزَّعُ بدوره، وما يُوَزَّعُ منه يجري تبادلُه بشكل يتجدد إلى الأبد. وهكذا فإن
أفعال الإطلاق، والتحويل، والتخزين، والتوزيع والتبادل طرائق كشف، ولكن الكشف
نادرًا ما ينتهي وحسب، كلَّا ولا هو يَفِرُّ إلى شيء من المحال تحديده، بل إن الكشف
يكشف لذاته عن دروبه الخاصة المنوعة المتقاطعة، من خلال تنظيم مساراتها. وأما هذا
التنظيم في ذاته فهو مكفولٌ مأمونٌ في كل مكان، بل إن هذا التنظيم والتأمين يصبحان
الخصيصتين الرئيسيتين للكشف الذي يمثل التحدي.
ما نوع إماطة اللثام المذكور إذن، أي ذلك الخاص بنواتج العدوان المشار إليه
والذي يقوم بالتحدي؟ إن كل شيء يُؤْمَرُ في كل مكان بأن يكون جاهزًا، وأن يكون
حاضرًا وفي متناول اليد، بل يؤمر حتى يكون على استعداد لتلبية أي طلب آخر للانتفاع
به. وكل ما يتلقى الأوامر بهذا الأسلوب له موقعه ومكانته. ونحن نسميه «الاحتياطي
الدائم». وهذه الكلمة تعبر عن معنى أكبر وله طابع جوهري أكبر من مجرد «المخزون».
وتعبير «الاحتياطي الدائم» يتخذ مرتبة العنوان الشامل، إذ يشير إلى الأسلوب الذي
يؤدي إلى حضور كل شيء خضع للتحدي الكاشف. وكل ما ينتظر (بمعنى كونه جزءًا من
الاحتياطي الدائم) يفقد موقعه تُجَاهَنا باعتباره شيئًا.
(هايديجر «السؤال المتعلق بالتكنولوجيا» في السؤال المتعلق بالتكنولوجيا
ومقالات أخرى، من ترجمة وليم لافيت، ١٩٧٧م، وفي الكتابات الأساسية ٣١١–٣٤١ والنص
المقتطف من ص٣٢٠–٣٢٢، والمقتطفات في الشرح التالي من هذه الطبعة للمترجم نفسه،
٢٠٠٨م).
من الطبيعي أن ينزعج إنسان ذو حساسية خاصة، زاد منها حبه «للطبيعة» التي نشأ في أحضانها،
وصفا فكرُه أولًا بسبب النشأة الدينية، ثم تعمق بقراءة الفلاسفة القدماء، وازدادت ذائقته
الفنية رهافة بقراءة الشعراء، أقول من الطبيعي أن ينزعج حين يشهد التحول في الحياة من
حوله
إلى التكنولوجيا التي واكبت العلوم الطبيعية وازدهرت مع نشأة المدن والاتجاه الصناعي
الذي
كان لازمًا لتطور القوة الحربية التي تغيرت صورتها بسبب هذه التكنولوجيا، وفقدت العنصر
الإنساني الذي كان ملازمًا للقتال و«النزال» في العصور الماضية. وكان الشاعر «الرومانسي»
وردزورث من أوائل من أبدوا انزعاجهم عندما أُنشئت السكك الحديدية في بريطانيا في النصف
الأول من القرن العشرين، وشاهد القاطرة البخارية وهي تنفث دخان الفحم وبخار الماء في
الجو،
فكتب يحذر من السماح بمد السكك الحديدية التي «تنتهك صفاء الطبيعة ونقاءها» إلى حي البحيرات
في الشمال حيث يقيم، ولكن قوى «التقدم» قهرته، وانتصرت «التكنولوجيا»، بل وازدادت سطوتها
حتى
قبل أن يرحل عن الدنيا عام ١٨٥٠م، فتحول وجه الحياة في إنجلترا تحولًا لا راد له، وهو
الذي
صوره الروائيون أبرع تصوير، وخصوصًا تشارلز ديكنز الذي يعرفه القراء العرب، وإن لم يترجم
من
أعماله إلا القليل، بسبب اقتباس بعض رواياته للسينما الأجنبية، واقتباس بعض هذه الأفلام
في
السينما العربية.
معنى النظرة الفلسفية
ترانا إذن نعالج قضية اجتماعية أو تاريخية أكثر من كونها قضية فلسفية؟ السؤال مهم
وإجابته قد تصعب على الكثير من القراء الذين اعتادوا الإشارة إلى الدراسات الإنسانية
المتخصصة الحديثة من دون أن يدركوا أنها دراسات متفرعة من النظرة الفلسفية العامة قبل
أن يؤدي مسارها العلمي إلى هذا التفرع، ومن ثم إلى التخصص الذي يمثل صورًا من الدرس
الفلسفي الذي يفرض التمييز بين الفروع بسبب تنوع المادة المدروسة بتفاصيلها الكثيرة.
فدراسة المجتمع الصناعي تنتمي إلى علم الاجتماع العام (الذي أصبح علومًا أشد تخصصًا)
وتاريخ نشأته ينتمي إلى التاريخ (الذي تفرع إلى علوم متخصصة أيضًا) ولكن الدراستين معًا
تشتركان في مدخل فلسفي واحد، ألا وهو دراسة الإنسان من وجهتي النظر المذكورتين جميعًا
إلى جانب دراسة الفكر الذي يغذوهما، والفكر الذي جاء به المجتمع الصناعي وتطور هذا
الفكر تاريخيًّا، والمثال الحاضر على ذلك درس دور التكنولوجيا في حياة الإنسان من منظور
أعمق وأشمل من التفاصيل الواقعية والتاريخية، ولدينا الحالة التي ذكرتها لتوي، حالة
الشاعر وردزورث الذي يمثل موقفه الفكري تناقضًا غريبًا بين «شعر الطبيعة» الحافل بالقيم
الإنسانية (ودعوة الحرية التي جعلته يهاجم احتلال نابليون لبعض البلدان الأوروبية) وبين
البكاء على «فقدان المستعمرات الأمريكية» في الوقت نفسه، ربما مثل هايديجر الذي كان
يؤمن بالطبيعة والحرية والمسئولية، ولم يمنعه ذلك من الانضمام إلى النازية بكل ما نعرفه
عن شرورها، فإذا قال قائل: إن التكنولوجيا محايدة نظريًّا؛ لأنها تهيئ للإنسان حياة أيسر
وأغنى وأهنأ، كان لنا أن نتساءل أولًا عن الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء هذه
التكنولوجيا، وثانيًا عمَّن — أي عن أي طائفة من البشر — توفر التكنولوجيا لهم هذه
الحياة الناعمة؟ إن هذين السؤالين قد يتصلان في تفاصيلهما بالمجتمع الصناعي ونشأته
وتطوره، ولكنهما حين يبتعدان عن التفاصيل التقنية ويركزان على ما حدث أو يحدث للإنسان
نتيجة هذا التطور أو «التقدم» يصبحان أسئلة فلسفية، فمنهما ينبع السؤال عن فكر أبناء
عصر التكنولوجيا، وعصر الإلكترونيات الأحدث، وعن تجليات هذا الفكر في سلوك الإنسان.
والتساؤل عن الفكر والمعرفة والأخلاق تساؤلٌ فلسفي ما زالت لغتنا تحمل آثاره وتدل عليه،
فالمتخصص في الفروع الحديثة المذكورة يحصل على درجة الدكتوراه في فلسفة العلم أي يصبح
Philosophiae Doctor وهو المختصر
(Ph.D.) وهي العلوم التي أطلق ديلثي (Dilthey) عليها في القرن التاسع عشر اسم
Geisteswissenschaften وكان جون ستيوارت
مل (Mill) يسميها العلوم الخلقية
(moral sciences) ثم أسماها الفرنسيون العلوم
الإنسانية، وحاكاهم الإنجليز أو أطلقوا عليها اسمًا أعم وهو الإنسانيات (The
Humanities).
ذكرت من قبل أن هايديجر نشأ في جو يبشر أو ينذر بتحول غير مسبوق في حياة الإنسان،
ولم
يكن حتى فترة التحول — أي اعتبارًا من عام ١٩٣٥م — يشارك في الحياة العامة بالمعنى المفهوم؛
إذ استطاع بتركيزه على دراسة الفلسفة أن يَخْتَطَّ لنفسه نهجًا فكريًّا «تجريديًّا»
يستطيع الفرار إليه مثلما كان وردزورث «يفر» إلى «الطبيعة» من قسوة عمه أو غلظته
وإحساسه باليُتْم، ولكن الحياة في ألمانيا، ثم في العالم بعد ذلك «التحول»، كانت تتغير
بوتيرة فرضت على هايديجر أن يلتفت إليها ويوليها الكثير من دراساته الفكرية، فالتصنيع
قد صبغ الحياة بصبغة جديدة، وبرزت عدة عوامل واشتبكت إلى الحد الذي كان يتطلب من
فيلسوفنا انتباهًا أشد، ويقول كريل:
يُعَرِّفُ المؤرخون وعلماء الاجتماع «التكنولوجيا الحديثة» بأنها استخدام
الآلات التي تدار بالطاقة في الإنتاج، ويحددون بداياته في إنجلترا في القرن
الثامن عشر، حيث توجد رواسب هائلة من الفحم وتعتبر مصدرًا للطاقة المولدة
للبخار، وهو الذي يدفع بدوره الآلات في مصانع النسيج وغيرها من المصانع. ولكن
الرابطة بين الأحداث كانت حتى في تلك المرحلة البدائية قد تطورت فأصبحت ذات
تعقيد شديد؛ حتى ما يقدر أحد أن يفصل فصلًا حاسمًا بين العلة والمعلول، أو حتى أن
يضع صورة مراتبية للعلل. كان كل شيء قد اختلط في «عوامل» لا يُسْبَرُ لها غور،
إذ حدثت اكتشافات ثورية في العلوم الطبيعية، وبدأ اكتشاف موارد للطاقة
واستخراجها، واختُرعت أجهزة آلية وعمليات كيميائية، وتوافرت رءوس الأموال
اللازمة للاستثمار، وتحسنت وسائل النقل والمواصلات، وخُصِّصَتْ مساحات من الأرض
للرعي، وشاع استخدام الآلات في الزراعة، وتكدست حشود من الأيدي العاملة غير
الماهرة، وكان ذلك بمثابة اجتماع موفق للحوافز الدنيوية إلى جانب الحوافز
الخاصة بالدار الآخرة، فإذا بعصر التكنولوجيا الحديثة قد انطلق بقوة من قبل أن
يسترد أحد أنفاسه أو يطرح أي سؤال.
(كريل، الكتابات الأساسية لهايديجر، ٢٠٠٨م، ص٣٠٨)
هذا التعريف للتكنولوجيا الحديثة ونشأتها، يقدم صورة ما كان يحدث في بداية القرن
العشرين من وجهة نظر المؤرخ وعالم الاجتماع، ولكن الصورة في حقيقتها فلسفية لأنها تمثل
نظرة شاملة إلى «الواقع» في فترة زمنية معينة، من دون اهتمام «بالبيانات» (data) الخاصة بكل عامل من العوامل، فاكتشاف قوة البخار القادرة
على إدارة الآلات ينسب إلى جيمز واط (Watt) الاسكتلندي
اللبيب (١٧٣٦–١٨١٩م) الذي ابتكر الآلة التي تدار بالبخار وطورها، وكثيرًا ما يقال: إن
ذلك
كان في عام ١٧٩٨م (عام الحملة الفرنسية على مصر بسفنها الشراعية، وعام نشر ديوان مواويل
غنائية للشاعرين وردزورث وكولريدج، الذي يعتبر إعلانًا بميلاد الحركة الرومانسية)؛ ولكن
كريل لا يقدم أيًّا من هذه التفاصيل، كما نعلم من التاريخ أن «توافر رءوس الأموال
اللازمة للاستثمار» كان نتيجة الاستعمار الأوروبي للعديد من بلدان أفريقيا وآسيا، ونهب
خيراتها، وهو الذي يشير إليه جون
سذرلاند (John Sutherland) في كتابه تاريخ صغير للأدب (٢٠١٤م) باسم «السرقة الصريحة» (downright theft) (ص١٦٨)، ولا يشرح كريل
قضية تخصيص الأراضي للرعي (land enclosures) التي كانت
تقوم على طرد المزارعين المؤجرين للأراضي، أو شراء الملكيات الصغيرة واستغلالها من جانب
مربي الأبقار والأغنام، الذين تحولوا إلى إقطاعيين جدد، واندمجوا في النظام الرأسمالي
الجائر الذي ثار عليه الفلاحون وصغار المزارعين في القرن السادس عشر (وصوره شيكسبير).
هذه الفقرة إذن تقدم رؤية فلسفية بمعنى أنها تقدم صورة عامة تقوم على تفسير يقتصر على
الظواهر ولا يبحث في العلل، ولا يتبع المنهج العلمي في التحليل الذي تأخذ به العلوم
الإنسانية التي ذكرت أنها تفرعت من النظرة الفلسفية، وقول كريل: إن هذه «العوامل» لا
يُسْبَرُ لَهَا غَوْرٌ أو لا تُكْتَنَهُ أَسْرَارُهَا (inscrutable
factors) قول مضلل، فلقد كشف لنا هذا التساؤل عما أخفاه المتحدث
في نظرة لا تمس الحقيقة كما نراها بعلوم اليوم المتخصصة، وذلك ما كان هايديجر يحاول
نبشه حين تحدث عن التكنولوجيا في علاقتها بمن يستخدمها، مقدمًا رؤية فلسفية أخرى لعواقب
التكنولوجيا، تاركًا البحث في العلل للمتخصصين، مركزًا على تأثير التكنولوجيا في وعي
الإنسان بوجوده (أي بذاته) وفي سلوكه الناجم عن هذا الوعي.
القضية الفلسفية التي يتناولها هايديجر إذن قضية ما حدث للإنسان من حيث ملامح وجوده
التي يراها صادقة، وكيف أن هذه الملامح تعرضت لقدر كبير من التزييف (inauthenticity) نتيجة الخضوع لسيطرة التكنولوجيا
التي تعلي من مرتبة المنفعة المادية، والربح، والمرونة بمعنى التفريط في بعض المبادئ
والقيم في سبيل الإنتاج والتضخم المادي، وهو يعزو ذلك في جانب منه إلى دور أجهزة
الإعلام الحديثة التي يسخرها أرباب المال لزيادة أموالهم من خلال التنميط وطمس قوة وجود
الإنسان الذي يعرف حقيقة نفسه، وإن كان يبدأ حجته بإلقاء اللوم أصلًا على عصر البخار،
ومنه ينتقل إلى تعديد آثار عصر البخار، ولم يكن فريدًا في ذلك فقد سبقه أرنولد، الذي
أشرت إليه آنفًا، وسبقه — دون فلسفة — أحمد شوقي العربي، الذي كتب وهو بعدُ في السادسة
والعشرين قصيدة بالغة الطول عنوانها «كبار الحوادث في وادي النيل» يبكي فيها ضياع زمان
التمهل في السفر على ظهور الإبل وركوب البحر في سفن شراعية، قائلًا:
يَا زَمَانَ البُخَارِ لَوْلَاكَ لَمْ تُفْـ
ـجعْ بِنُعْمَى زَمَانِهَا الوَجْنَاءُ
فَقَدِيمًا عَنْ وَخْدِهَا ضَاقَ وَجْهُ الـْ
أَرْضِ وانْسَابَ بالشِّرَاعِ المَاءُ
وينتقل هايديجر من زمان البخار إلى العلوم الطبيعية التي تفسر كل شيء تفسيرًا
ماديًّا، وكان ذلك، وفق العلم الطبيعي في القرن التاسع يعتبر التفسير «الطبيعي»
المقبول، وأذكر أن ماكس فيبر (Weber) كان يطلق على ذلك
التوجه عبارة (the disenchantment of the world) ولنا
أن نترجمها إما بعبارة «كسوف البال في العالم» أو انقشاع الوهم الذي يرى الشعراء أنه
لازم للإنسان، وقد فسر العبارة بعض شراح فيبر بأنها تعني أن العالم الحديث لم يعد يعبأ
بحياة الروح أو القداسة أو الإيمان الديني، وهو تفسير يصدق على ما كان الشعراء
والمفكرون يشعرون به منذ نهاية القرن التاسع عشر، وآتى ثماره في شعر العقود الأولى،
ويكفي أن نشير إلى قصيدة «الأرض الخراب» للشاعر ت. س. إليوت، التي تزامن صدورها مع
بدايات عمل هايديجر.
معنى التكنولوجيا
كان هايديجر ينظر إلى التكنولوجيا نظرة الشاعر والفيلسوف في آن واحد، خصوصًا في القسم
الأخير من حياته إذ أكثر من المحاضرات حول هذا الموضوع، وكانت حجته الرئيسية تقول: إن
من
يتأمل التاريخ من الزاوية الوجودية لن يجد عالمًا واحدًا؛ بل عوالم متتابعة، وأن لكل
عالم نمطًا وجوديًّا يحدد أشكال وجود الأفراد فيه، ويقسمهم إلى كيانات ذوات معانٍ
متفاوتة، ومن ثم ذوات أنساق حياتية مختلفة، ففي القرون الوسطى المسيحية كان كل شيء في
الدنيا يبدو للناس من خلق الله، وكانوا يحكمون على الأشياء من حيث اقترابُها أو ابتعادُها
عنه، جَلَّ وعلا، ولكنْ عندما بدأ العصر الحديث في القرنين الخامس عشر والسادس عشر،
بدأت الثقافة الغربية تفصل بين نوعين من الوجود، النوع الأول: ذاتٌ تتمتع بجوهر عميق،
والنوع الثاني: شيء له خصائص ثابتة، فلقد كان الإنسان القروسطي الذي ينظر إلى الدنيا
نظرة مسيحية إذ يرى أن الناس «أبناء الرب» ويحكم عليهم بأنهم أخيار أو أشرار وفق درجة
تسليمهم بالأمر لله، وقبول مشيئته، سبحانه، أي إن المعيارين الرئيسيين لفهم البشر كانا
معيار «القداسة» ومعيار «الخطيئة»، وأما في العصر التكنولوجي فالإنسان يرى أن الناس
«موارد بشرية»، فالإنسان الصالح هو الذي يستطيع بأقصى قدر من المرونة أن يتكيف مع
التغير في أحوال السوق، وضروب التعددية الثقافية، والتحولات في الأعراف الاجتماعية وما
إلى ذلك بسبيل، وهكذا فإن قدرة البشر على التكيف في العصر التكنولوجي تجعلهم يشاركون
كل
شيء آخر في «أسلوب الوجود»، لأن جميع الأشياء تكتسب اليوم قيمتها «من مرونتها وكفاءتها»
وفق صياغة راذول (ص١٠١). ويضيف راذول قائلًا:
… لقد غيرت التكنولوجيا الحديثة تذوقنا للعالم أو إدراكنا له، فنحن نريد أن
يكون كل شيء رهن إشارتنا، متاحًا لنا، وجاهزًا للانتفاع به أنى شئنا ومهما يكن
الغرض الذي نريده له. وفي أثناء بحثنا الدائب لاكتشاف كيف يمكننا إعادة ترتيب
الأشياء وإعادة تنظيم الممارسات بأقصى قدر من الكفاءة، تتغير تبعًا لذلك دلالة
الأشياء المحيطة بنا، إذ يقول هايديجر: إن «الحقل الذي كان الفلاح يزرعه وينظمه
قد اختلف الآن مظهره عما كان عليه عندما كان التنظيم لا يزال يعني العناية
والصيانة … ولكن الذي حدث أن زراعة الحقل نفسها وقعت في قبضة تنظيم من نوع
آخر.» فالممارسات الزراعية في عصر سابق كان يتجلى فيها الإحساس بأن الله قد
كلفنا برعاية الحيوان والنبات والأرض، وفي مثل ذلك العالم، كان يمكن اعتبار
الزراعة «رسالة»، أو قل: «دعوة» لرعاية الأرض والعناية بها، لا مجرد عمل يعمله
المرء. وعلى العكس من ذلك نجد اليوم أن الصناعات الغذائية قد أصبحت آلية
وتكنولوجية، وانمحى الإحساس بأن الإنسان مكلف بالوصاية على الأرض والحيوان،
ولكننا انطلقنا لتحسين الطبيعة، أولًا: عن طريق [تحسين] السلالات [الطبيعية]،
وبعد ذلك: من خلال الهندسة الوراثية التي تُرْغِمُ الطبيعة على أن تفعل ما
نريده.
(راذول، كيف تقرأ هايديجر، ٢٠٠٦م، ص١٠١–١٠٢)
وأظن هذا التعليق كافيًا لإيضاح ما يقوله هايديجر في المقتطف الافتتاحي، ومن ثم
أُفَصِّلُ القول فيما أشرت إليه من موقف هايديجر من أجهزة الإعلام. ففي دراسة له بعنوان
«مقال عن التفكير» يستشهد هايديجر بتأثير التلفاز في الناس، ويعتبر التلفاز نفسه من
أسطع الأدلة على سيطرة التكنولوجيا على حياتنا، قائلًا: إنه يحرم الإنسان من أن يكون
حقًّا في بيته، ويشرح ذلك بأن هذه الوسيلة الحديثة قادرة على أن تجعل الإنسان
موجودًا
في أي مكان تريده، وبذلك أصبحت البشرية كلها «مهاجرة» إلى حالة تشرد، فالإذاعة والتلفاز
اليوم أقرب إلى الإنسان من دنياه التي يعيش فيها، قائلًا:
الناس تعيش مغلولة ساعة بعد ساعة ويومًا بعد يوم إلى الإذاعة والتلفاز … فهم
مقيدون إلى كل ما تثيره تقنيات الاتصالات الحديثة، أو قل: إنها هي التي تهاجم الناس
وتسوقهم سَوْقًا، فلقد غدت بالفعل أقرب كثيرًا إلى إنسان اليوم من الحقول حول بيت
مزرعته، وأقرب من السماء فوق الأرض، وأقرب من اختلاف الليل والنهار، وأقرب من
الأعراف والعادات في قريته، وأقرب من تقاليد عالمه الأصلي.
(هايديجر، «مقال عن التفكير» ص٥٠، مقتطف في واطس، ٢١٧–٢١٨)
التأطير
وهايديجر يرى أن أهم تأثير للتكنولوجيا في الإنسان يرتكز على ما يسميه «التوجه
الذهني» أو حرفيًّا «الموقف الذهني الثابت»
(mindset)
وهو يصفه بأنه نشأ نتيجة لمذهب «المركزية
الذاتية»
(egocentrism) بمعنى أن الإنسان يتصور أنه
مركز الوجود، ومن ثم فهو موقف لا
يكمن فقط خلف التكنولوجيا الحديثة (أي إنه علتها ومعلولها في آن واحد) بل إنه موقف
متغلغل في جميع جوانب حياتنا تقريبًا. ولذلك فهو يطلق عليه صفة أخرى يشبهه فيها بالإطار
الذي يحدد حركة الذهن، ومن ثم فهو «يؤطرها»، والتأطير هو
(
Gestell) ويترجمها كل شراح هايديجر بالفعل
enframe. ويستخدم واطس في شرحه تعبير «تأطير التوجه
الذهني»
(the
enframing mindset) ويشرح المقصود قائلًا:
التأطير يصف فهمنا المقيد لأنفسنا ولكل شيء في الوجود باعتباره «موارد» لنا،
ومن عواقب ذلك أن أصبح البشر ينظرون إلى كوكبنا كله باعتباره خزانة هائلة لما
يمكن أن يصبح منتجات نستخرجها ونستغلها لتحقيق مآربنا وإشباع رغباتنا … وعملية
التأطير تسعى إلى جعل كل شيء متاحًا لنول غاياتنا، ودفعنا إلى خلق حدود مصطنعة
تقسم الأرض إلى قارات وأقطار ودول ومجتمعات محلية، وتدفعنا إلى تحديد اختلافات
ثقافية وعرقية تسمح لنا حين نمتلك القوة باستغلال الذين «لا
يشبهوننا …»
ولا يتجلى تأطير التوجه الذهني فقط في العلم والتكنولوجيا، بل إنه يلوث كل
مظهر من مظاهر الوجود الإنساني تقريبًا، من الفيزياء النووية إلى محتويات
المجلات الترفيهية ذوات الصور الملونة. ونحن نكشف عن تأثيره في أسلوب تفكيرنا
باستخدام العبارات الشائعة مثل «الصناعة الثقافية»، و«الصناعة الترفيهية» أو
«صناعة سباق الخيل»، ومثل الإشارة إلى «جودة قضاء الوقت»، ونطلق على الأشياء
الطبيعية صفة «الموارد الطبيعية»، وكثيرًا ما تعتبر الأعمال الفنية والكتب
«موارد معلومات …»
(واطس، فلسفة هايديجر، ٢٠١١م، ص٢١٨–٢١٩).
وإزاء الصورة القاتمة للمستقبل حيث تتدهور البيئة الطبيعية ويواجه الإنسان احتمالات
الحروب النووية أو البيولوجية والكيميائية، لا يقترح هايديجر حلولًا عملية «للإنقاذ»،
بل
يقترح وحَسْب أن ننعم النظر فيما نواجهه حتى نفهمه حق الفهم، ومن ثم فقد انكب في سبيل
ذلك
على بحث جميع «المعاني المفقودة» لمصطلح التكنولوجيا ويقول واطس: إنه اكتشف أن:
هذه الكلمة مشتقة أصلًا من الكلمة اليونانية القديمة تِخْني (technē) ولكن اعتبارًا من عقد الثلاثينيات في
القرن التاسع عشر أصبحت تعني «تطبيق المعارف العلمية والتفكير العلمي على
الصناعة». وأما في معناها الأصلي فكانت الكلمة تتضمن عدة معانٍ ممكنة؛ كان يمكن
أن تعني الفنون الجميلة، و«فنون الذهن»، ومهارات الحرفيين وأنشطتهم، كما كانت
تتضمن معنى آخر أطلق عليه هايديجر لفظ «الصُّنع»
(poiesis) أي «إيجاد شيء» أو «تقديم شيء»،
وهو ما يحدث على وجه الدقة في جميع الفنون والحرف اليدوية (كتابات أساسية،
ص٣١٨). ويقول هايديجر: إن هذا البحث في أصل الكلمة الاشتقاقي يدل على أن «تخني»
أو تقني بدلالاتها على الصنعة الفنية (poiesis)
تنتمي إلى عالم الحقيقة الذي ينتمي إليه الكشف
(aletheia) نفسه، أي باعتبار أن الحقيقة
الجوهرية إماطة للثام. وهكذا فإن المعنى اليوناني الأصلي لكلمة تقني يتضمن ظلال
معان فُقِدَتْ في فهمنا الحديث وتعبيرنا الحالي عن التكنولوجيا. فكلمة تقني لم
تكن أصلًا مجرد موقف عملي أو أسلوب صنع شيء، بل كان معناها الأهم هو طريقة
المعرفة والكشف بصفتها «حقيقةً» إماطةَ اللثام
(aletheia). ولهذا السبب كانت كلمة تقني
تستعمل في الإشارة إلى الفن، إذ إن جوهر الفن لا يكمن في فعل «الصنع»؛ بل في
عملية الكشف عن الحقيقة، أي عن الأشياء كما هي في الواقع.
(واطس، فلسفة هايديجر، ٢٠١١م، ص٢٢١)
والواضح أن ما يرجوه هايديجر، ولو كان من قبيل الأماني وحسب، أن يساعد التفكير الصادق
على حل المشكلة التي يراها وتتلخص في إمكان التصدي لموج التكنولوجيا الهائل، خصوصًا
صوره الحديثة الطامية المغرية والمتقدمة، فهو موج يهدد بابتلاع إنسانية الوجود البشري،
كما يعرب هايديجر عن مخاوفه — وهي مخاوف مثار خلاف شديد بين دارسيه وشراحه — من أن
تزدهر أحوال الأرض المادية ونجد أننا قد وقعنا في شرك نظام لا ضابط له ولا رابط، نظام
يؤدي إلى نسيان البشر وعيهم السالف بطرائق الحياة «الطبيعية» الكريمة، وهي التي تتيح
لنا
أن نظل على صلة بألغاز الطبيعة الساحرة، ونستشعر الدهشة الحقة لكوننا لا نزال نتمتع
بالوجود. ويقول هايديجر: إننا إذا ظللنا في قبضة فهمنا التكنولوجي «المؤطَّر» للوجود
فسوف نخطئ ونتصور أن هذا التأطير لا مفر منه، ومن ثم ستفقد الحياة عمقها ونفقد نحن
حريتنا الحقيقية.
وهكذا يقول: إن علينا أن نؤمن بالتفكير السديد ونزاوله حتى نتمكن من أن نبدأ بداية
جديدة، تنقذنا من أن تمسخنا التكنولوجيا فتحولنا إلى «حيوانات كالآلات»
(mechanized
animals)
(
الكتابات الأساسية، ص٢٧٥). وربما كان السبيل إلى هذه البداية يتمثل في الفنون الخلاقة،
وهي التي تختلف عن التكنولوجيا بالرغم من صلتها (أو صِلاتها) بها. وهكذا يرى أن الفن،
أو
الفنون التي تشترك في جذور واحدة مع التقنية (
technē)،
تستطيع أن تكشف لنا عن شكل جديد للتكنولوجيا يتميز بزيادة طاقته «الشعرية»:
لما كان جوهر التكنولوجيا شيئًا غير تكنولوجي، فلا بد أن يحدث التأمل الأساسي
للتكنولوجيا وتحدث المواجهة الحاسمة معها في مجال قريب الصلة بجوهر التكنولوجيا من
ناحية، ويختلف اختلافًا أساسيًّا عنها من ناحية أخرى، ومثل هذا المجال هو الفن …
ترى هل تُستدعى الفنون الجميلة للكشف الشاعري؟ ترى هل يرتبط الكشف بالفنون ارتباطًا
أوليًّا وثيقًا، بحيث تقوم هي من ناحيتها بالتبني الصريح لنمو القوة المنقذة لنا؟ …
أما إذا كان يجوز لنا أن نسلم بأن الفن قادر على النهوض بهذه المهمة التي تمثل أقصى
إمكانيات جوهره وسط الخطر الداهم فأمر لا يستطيع أن يقطع أحد فيه برأي.
(هايديجر «السؤال المتعلق بالتكنولوجيا» في الكتابات الأساسية، ٢٠٠٨م،
ص٣٤٠)
ولكن قيام الفن بهذه المهمة يقتضي منا أن نتساءل عن حقيقة حالنا الراهن، وأن نعترف
به،
وذلك من أجل الاستعانة «بشهادته على أن انشغالنا الشديد بالتكنولوجيا لم يتح لنا حتى
الآن أن ندرك الصورة الحقيقية لانتشار التكنولوجيا، وعلى أن انشغالنا الشديد بالجانب
الجمالي جعلنا نهمل صيانة التأثير الجوهري للفن والحفاظ عليه، ومع ذلك فكلما زاد تأملنا
وتساؤلنا عن جوهر التكنولوجيا زاد غموض جوهر الفن.»
(هايديجر، «السؤال المتعلق بالتكنولوجيا»، في الكتابات الأساسية، ٢٠٠٨م، ص٣٤٠–٣٤١.)
ومعنى هذا باختصار أن قوة الكشف التي يتحدث عنها هايديجر وينسبها إلى التكنولوجيا
تلتقي مع قوة الكشف التي ينسبها إلى الفن من خلال تعريفه
للتقنية، أي للمفهوم الذي حدده
لكلمة
تخني اليونانية القديمة، وهو في الجملتين المقتطفتين الأخيرتين يقدم إحدى
مفارقاته الشهيرة، وهي التي يؤكدها في آخر كلماته في المقال المشار إليه آنفًا، وهي:
«كلما ازداد اقترابنا من الخطر، سطعت الأضواء على السبل الكاشفة لقوة
الإنقاذ، وازدادت تساؤلاتنا، فالمفكر الحكيم مفكر متسائل.»