الفصل الثاني عشر
الوجودية والمذهب الإنساني والأخلاق
في عام ١٨٤٥م، كان كارل ماركس يقيم في بروكسل بُعَيْدَ طرده من باريس، وفي ربيع ذلك
العام
كتب بعض الملاحظات عن الفيلسوف الألماني لودفيج فويرباخ (Feuerbach)، واشتهرت «الملاحظة» الثانية التي تقول: «إن قضية قدرة الفكر
الإنساني على الوصول إلى الحقيقة الموضوعية ليست قضية نظرية بل قضية عملية … وإن النزاع حول
إمكان تفعيل أي تفكير يعزل نفسه عن الواقع العملي أو العجز عن ذلك مسألة إسكولائية محضة».
ولقد ظلت هذه القضية منذ ذلك الوقت — خصوصًا في فرنسا التي كان ماركس يعلي من شأنها
باعتبارها قلب الثورة — قضية ساخنة، وتنحصر في العلاقة بين الفلسفة والممارسة السياسية،
ولذلك فنحن لا نَدهش، كما يقول كريل، عندما نعرف أن حافز هايديجر على كتابة تأملاته في
الفعل،
والماركسية، والوجودية، والمذهب الإنساني في مقاله «رسالة عن المذهب الإنساني»؛ كان مصدره
أحد زملائه الفرنسيين (الكتابات الأساسية، ٢٠٠٨م، ص٢١٤). فبعد مائة عام من كتابة ماركس
«لأطروحاته» عن فويرباخ، وجه جان بوفريه (Beaufret) عددًا
من الأسئلة إلى هايديجر، فأجاب عنها في ديسمبر ١٩٤٦م بالرسالة المذكورة، ثم نقحها وتوسع
فيها
قبل نشرها عام ١٩٤٧م.
والرسالة تنتمي إلى النوع الأدبي الذي يسمى «الخطاب المفتوح»، وكانت تتضمن ردود هايديجر
على أسئلة بوفريه الخاصة بمقال كتبه جان بول سارتر بعنوان «الوجودية مذهب إنساني» عام ١٩٤٦م.
ويُعَرِّفُ سارتر في هذا المقال الوجودية قائلًا: إنها الرأي الذي يقول: إن الوجود يسبق
الجوهر بالنسبة للبشر. ومعنى هذا أنه لا توجد طبيعة إنسانية ثابتة، بل حرية إنسانية وحسب،
وأن لنا الخيار في أن نخلق قيمنا الخاصة، وأن نحقق لأنفسنا الصورة التي نبتغيها، ويدافع
سارتر عن نفسه في ذلك المقال ضد اتهامه بالعدمية والتشاؤم، قائلًا: إن موقفه يمثل المذهب
الصحيح الوحيد، وإنه أساس شرعة أخلاقية تقوم على الحرية والمسئولية، وفي غضون المقال،
يشير
سارتر إلى أن هايديجر حليف له، زاعمًا أنه يُعتبر مع هايديجر من «الوجوديين الملحدين»
(سارتر، «إنسانية الوجودية» في مقالات عن الوجودية من تحرير باسكين (Baskin)، ١٩٩٠م، ص٣٤).
ويقول بولت: «هل هذا الزعم صحيح؟» (هايديجر: مقدمة، ١٩٩٩م، ص١٦٥) مضيفًا: إن السؤال أشد
تعقيدًا مما يبدو، وأشد تعقيدًا من تحليل هايديجر نفسه له في «الرسالة» المذكورة. وسوف
أبدأ
في هذا الفصل بتلخيص حجة (أو حجج) هايديجر في رده على أسئلة بوفريه، ثم آتي بإجابات هايديجر
موجزة إلى حد كبير، لأن الرسالة تقع في نحو خمسين صفحة، وهي حافلة بالتفاصيل والاستطرادات،
وهي لا شك طريفة؛ بل ومسلية أحيانًا، ولكنها لا تتبع نسقًا محددًا بمعنى الخط المنطقي
المؤدي
من مقدمات إلى نتائج، وأسلوبها أقرب إلى الأسلوب الأدبي الرفيع في بعض أجزائه، وربما
كان
هذا ما جعل هَنَّا أرِنْتْ تصف الرسالة بأنها «نموذج فخم» للكتابة عند هايديجر، والكلمة
التي تستخدمها هي (Prachtstück). وللرسالة ترجمتان: الأولى
صدرت عام ١٩٦٢م في كتاب بعنوان الفلسفة في القرن العشرين (من ترجمة إدجار لونر Lohner) وترجمة جديدة أنجزها كابوتسي (Capuzzi) وجلين جراي (Gray) ونُشرت في
الكتابات الأساسية (١٩٩٣م، و٢٠٠٨م). وهي التي اعتمدت عليها هنا، ومقتطفاتي منها.
ويعتمد بوفريه في أسئلته، مثل هايديجر في إجاباته، على مقال جان بول سارتر الذي كان
أصلًا
«خطبة» عامة، ثم هذبها وشذبها، وتقول باختصار: إن الوجودية هي الاعتقاد «بأن الوجود يسبق
الماهية … أو إن على الإنسان أن يجعل الذاتية نقطة انطلاقه» (ص١٧)، ويعرب سارتر عن إيمانه
بأننا لن نجد «طبيعة بشرية» محددة تحديدًا موضوعيًّا بصفتها أساسًا للإنسان إذا تصورنا
أنه
وجود، فلا يزيد كيان الإنسان عن أفعاله. وسبب ذلك أنه قد فقد كل ما يمكن الارتكان إليه من
صلة بالآخرة، فأصبح شريدًا في عالم لا يوجد فيه إلا البشر الذين لا خيرة لهم في تحديد
خياراتهم، أي إن سارتر يرى أن الإنسان في محنة تتمثل في أن عليه أن يختار ما يختاره ويفعل
ما يفعله من دون الارتكان إلى أي مفهوم للطبيعة البشرية يضمن صحة اختياره ونجاح فعله.
ويؤكد
سارتر أنه «لا توجد حقيقة واقعة إلا في الفعل» (ص٥٥)، وأن الوجودية «تعرِّف الإنسان
من خلال
الفعل» (ص٦٢)، أي بعبارة أخرى «من خلال ارتباطه بالتزام معين» (ص٧٨). ومع ذلك فإن سارتر
يعيد تأكيد ما ذكره (ص٦٤ وما بعدها) من أن حرية فعل الإنسان تضرب جذورها في «الذاتية»،
فهي
دون غيرها التي تكفل للإنسان كرامته، بحيث يصبح مبدأ «أنا أفكر» («كوجيتو») عند ديكارت
هو
نقطة الانطلاق الوحيدة للوجودية، والأساس الممكن الوحيد لأي مذهب إنساني (ص٩٣)، حسبما
يقول
كريل (الكتابات الأساسية، ص٢١٤–٢١٥).
ويرد هايديجر فيتحدث عن مسألة الفعل من دون أن يقطع فيها برأي، ولكنه ينتقد تقاليد
الذاتية انتقادًا لاذعًا، فهي التي تحتفي بمبدأ «أنا أفكر» باعتباره نبع الحرية المقدس.
ويسهب هايديجر إسهابًا شديدًا في تأكيده أن الحضور أو الوجودية مسألة تتجاوز الذاتية
الديكارتية، وسوف تظل كذلك، ويعود إلى كتابة كلمة
(existence) بالصورة التي ابتدعها وهي فصل المقطع الأول
عن باقي الكلمة، هكذا (EK-sistenz) لتأكيد بروز الإنسان
وتفرد مقامه في «حقيقة الوجود»، مضيفًا أن المذهب الإنساني لا يقدر مكانة الإنسان الفريدة
حق قدرها، أي مكانته في الساحة الطليقة للوجود (Lichtung des Seins)، ثم يردف قائلًا: إنه يرفض التقاليد الخاصة بالمذهب الإنساني
لهذا السبب، أي بسبب عجزها المشار إليه، فهي تقاليد لا تزال مطبوعة بطابع الميتافيزيقا،
مشغولة بالكائنات، ناسية الوجود.
وعندما يصل هايديجر إلى نحو منتصف «رسالته» (أو بعده بقليل) يدرك أن معارضته للمذهب
الإنساني قد يُشْتَمُّ فيها رفضُ الإنسانية أو السلوك الإنساني أو القيم الإنسانية. ومن
ثَمَّ فهو يناقش معنى «القيم» ومذهب «العدمية» الذي ينشأ، فيما يبدو، حين يجري التشكيك
في
مثل هذه الأشياء، قائلًا: إنه اكتشف أن مصدر العدمية ليس إنكار تلك القيم بل وضعها أصلًا،
إذ
إن إرساء القيم يسبق زعزعتها بعد حين ونقضها، وكلا الغرس والاقتلاع يعتبران مصدرًا لسعادة
الفرد عمدًا بكل منهما.
وإذا كان سارتر يحاول تمهيد طريق وسط بين المذهبين الإنسانيين المتنافسين، وهما المسيحية
والشيوعية، فإن هايديجر يحاول أن يفصل بين فهمه للوجود
(EK-sistenz) وبين الإنسان، سواء كان ذلك باعتباره
«صورة الرب» أو «الإنسان العامل»، ويبذل جهدًا شديدًا لمنع الساحة الطليقة للوجود من
أن
تنتهي إلى تقديم الإجابات الخاصة بالنور الرباني أو الضوء البشري، وفي غضون ذلك يعلق
على
المسائل الأساسية للدين والأخلاق، رافضًا التعجل الشديد من جانب سارتر لوصفه بالإلحاد،
لا
من أجل الإيمان بالله، بل للتأمل الحر لطبيعة القداسة وصحة البدن والروح، إلى جانب النظر
في
الخبائث وبواعث الشر، مبينًا أهمية تأملاته إلى أقصى حد في العصر الذي يصفه بأنه عصر
التعدد
الشديد لضروب الخطاب «الميتافيزيقية» و«اللاميتافيزيقية»، وسواء كانت تنتمي إلى «العقل
العملي» أو نظريات «الأخلاق التطبيقية». ويعود هايديجر في آخر رسالته إلى مسألة «الفعل»،
زاعمًا أن التفكير في الوجود يسبق التمييز بين النظرية والتطبيق، أو التأمل والفعل. وعلى
الرغم من الأهمية القصوى لهذا التفكير فهو يحذر قراءه من المبالغة في قيمته من حيث عواقبه
المادية.
مسألة الإلحاد والوجودية
نعرف أن هايديجر بدأ حياته مؤمنًا بالكاثوليكية، ثم انصرف عن دراسة الدين إلى دراسة
الفلسفة، وهو في هذه الرسالة يؤكد أن «التفلسف» منفصل عن الدين، وأن علينا ألا نخلط
بينهما لاختلاف منهج الفلسفة الفكري عن منهج الإيمان الديني الروحي، والملاحظ أنه يعالج
القضايا الدينية في
الوجود والزمن باعتبارها قضايا وجودية، وبذلك يتجنب الخوض في الدين،
ولكنه في كتابه
إسهامات في الفلسفة يشير في مواضع كثيرة إلى الله أو إلى الأرباب، وفي
المقابلة الصحفية الشهيرة التي أجراها عام ١٩٦٦م ونشرتها مجلة
دير شبيجيل، يقول: إننا «لن
ينقذنا إلا إله»، وهي المقولة التي اشتهرت وأصبحت عنوان فصل في كتاب
الخلاف حول هايديجر
من تحرير ريتشارد وولين
(Wolin) (١٩٩٣م) ص١٠٧، وأما
سارتر فكان إلحاده صريحًا إذ أُثر عنه قوله: إن وجود الإله لا يغير شيئًا، فالإنسان يظل
مسئولًا عن أفعاله (سارتر، «المذهب الإنساني للوجودية» في كتاب
مقالات في الوجودية،
المشار إليه آنفًا، ص٦٢). ويقول كريل: إن هايديجر كان يعتقد أن الوجود الرباني بيننا
يمكنه تغيير حياتنا، ويطرح ريتشارد بولت السؤال التالي: وما الوجودية على أية حال؟ ثم
يطبق دلالتها الشهيرة — على الأقل في أواخر عُمْر هايديجر — أي إن حضور القوة الربانية
يمكنه تغيير حياتنا. ويقول بولت:
إن مشكلة الوجودية مشكلة كأداء. فما «الوجودي» على أية حال؟ إن سارتر يقدم
تعريفًا أنيقًا، وهايديجر يرفضه بالأناقة نفسها. ولكن مصطلح «الوجودية» يُستخدم
بطرائق عدة، وكثيرًا ما يطبق على ضروب بالغة التنوع من المفكرين. ويبدو أن
المصطلح لم يُخترع إلا في الأربعينيات عندما استخدمه جابرييل مارسيل في وصف
سارتر، وكان مارسيل يقصد به الذم ولكن سارتر قرر قبوله، وانتهى الأمر بأن أصبح
مارسيل يُصَنَّفُ باعتباره وجوديًّا دينيًّا، ثم بدأ إطلاق المصطلح على كثير من
فلاسفة الماضي.
وعادة ما يُعَدُّ كيركجارد أول مفكر وجودي، وهو أمر مفهوم؛ لأنه كان يؤكد
«الفرد الموجود». ووفقًا لما يقوله كيركجارد: تواجهني خيارات جوهرية من شأنها
تحديد كيفية وجودي، ومَن أكون في المستقبل (هل أوجد مثلًا بأسلوب ديني أم جمالي؟)
ولا يمكن اتخاذ هذه القرارات الشخصية على أساس قواعد عقلانية تنطبق على الجميع،
(فذلك يفترض سلفًا وجود قرار شخصي وفقًا لقواعد عقلانية!)؛ بل إن القرارات التي
تتحكم في الحياة تتطلب «طفرة» و«عاطفة مشبوبة». وما دام كيركجارد يعتقد أن
الوجود من المحال حصره في مذهب، فلا بد أنه سيسخر حقا من مصطلح «الوجودية». ومع
ذلك فإن بعض الآراء، مثل آراء سارتر، تدين بوضوح إلى فكر كيركجارد.
وكثيرًا ما يشار إلى نيتشه أيضًا بأنه وجودي، على الرغم من أن فكره مغرق في
الفردية إلى الحد الذي يمنع انتماءه الكامل إلى هذا المذهب. فالمعروف أن نيتشه
حاول التخلص من قيود الميتافيزيقا واللاهوت حتى «يحتضن» الحياة باعتبارها عملية
خلاقة دينامية.
وكانت «فلسفة الوجود» في ألمانيا في العشرينيات مرتبطة ببعض المفكرين مثل
كارل ياسبرز، وكان هايديجر يُكِن التبجيل لكتاب سيكلوجية صور العالم (١٩١٩م) الذي
يصف ياسبرز فيه الوجود باعتباره مواجهة مع «حالات تمثل الحدود القصوى» مثل
الموت و[ارتكاب] الذنوب.
ومن الواضح أن مدخل ياسبرز ساعد هايديجر على وضع بعض تحليلاته في الوجود
والزمن، مثلما ساعدته كتابات كيركجارد عن القلق، والإحساس بالذنب، ولحظة اتخاذ
القرار، والمعالجة من وجهة نظر الفرد. وهكذا فإن هايديجر يرتبط ارتباطًا واضحًا
ببعض المفكرين الذين يعتبرون «وجوديين»، على الرغم من أن مصطلحات الوجودية لم
تُضَفْ إلى كتاب الوجود والزمن إلا في المُسَوَّدَةِ النهائية. كان هايديجر،
مثل كيركجارد، ونيتشه، وياسبرز، وسارتر، يريد تركيز تفكيره في الوجود البشري
الحقيقي والاختيارات التي تَبُتُّ في مسار حياة الإنسان. وكان يرفض — مثل جميع
«الوجوديين» — المفاهيم الأنطولوجية التقليدية التي تعتبر البشر كيانات مادية أو
أشياء حاضرة للاستعمال وذوات جوهر محدد سلفًا، بل كان يرى أن الحضور الإنساني
كيان يرى أن وجوده قضية تهمه.
(بولت، هايديجر: مقدمة، ١٩٩٩م، ص١٦٥–١٦٦)
فإذا قبلنا وجهة نظر بولت، كان علينا أن نتساءل عن سبب رفض هايديجر الاعتراف بالروابط
المذكورة مع «الوجوديين» في «الرسالة عن المذهب الإنساني»، ولنا أن نقول دفاعًا عنه أو
تفسيرًا لهذا الرفض: إن «الرسالة» لم تكن دراسة للتاريخ الفكري؛ بل مجرد دعوة لتأمل سلسلة
من الأسئلة الأساسية، مثل معنى الوجود، ومعنى الإنسانية، ومعنى الفعل. ولنقل مثلًا: إنه
كما يقول في رسالته: «يجد صعوبة في الحفاظ على تعدد أبعاد المجال الخاص بالتفكير»
(ص٢١٩). وأتصور أننا يمكن أن نركز على ثلاث قضايا (ربما بسبب وضوح تناولها في الرسالة)
وهي رفض القول بارتباطه بالوجودية، وبالمذهب الإنساني، وبالأخلاق، وفق تعريفاتها
الشائعة. وقبل أن نقدم إجابات هايديجر عنها يجمل بنا أن نذكر أن إنكاره الارتباط بها
أو
رفضها لا يعني أنه يؤيد مذهب الجوهرية (essentialism)،
أي القول بأن لكل كائن جوهرًا محتومًا وثابتًا، ولا مذهب مناهضة الإنسانية أو رفض النهج
الأخلاقي في السلوك، بل يعني أنه يحاول تقديم أسلوب تفكير جديد خالٍ من النمطية، قائلًا
إن الناس قد يتصورون أن أي معارضة لأي شيء تعني القول بنقيضه، كأنما لا يمكن للقضية
الموجبة أن تُعَارَضَ إلا بقضية سالبة تمثل نقيضها، وهذا خطأ في التفكير. (ص٢٤٩–٢٥٠)
[أرقام الصفحات تشير إلى «الرسالة» في الكتابات الأساسية، ٢٠٠٨م]
فيم أخطأ سارتر
يقول هايديجر:
… يعبر سارتر عن العقيدة الأساسية للوجودية قائلًا: إن الوجود يسبق الجوهر.
وهو في قوله هذا يقدم الوجود (existentia)
والجوهر (essentia) بمعناهما الميتافزيقي
الذي كان يقول منذ عهد أفلاطون بأن الجوهر يسبق الوجود. وسارتر يقلب المقولة
رأسًا على عقب. ولكن عكس المقولة الميتافيزيقية لا يزال مقولة ميتافيزيقية.
وبذلك يبقى في كنف الميتافيزيقا ناسيًا حقيقة الوجود. («الرسالة عن المذهب
الإنساني»، في الكتابات الأساسية، ٢٠٠٨م، ص٢٣٢).
ويرد النقاد على هايديجر قائلين: إن موقف سارتر الحقيقي موجود في كتابه الوجود والعدم،
وفيه يبين سارتر أن «وجود» الوعي الإنساني يعتبر وجودًا غير تقليدي إلى حد بعيد، وهو
لا
يقصد بذلك أن يقول: إن الوجود يمثل وجودًا حاضرًا للاستعمال، كما يوحي هايديجر — فيما
يبدو — بذلك بل أن يبين أن الوعي (أو ما يسميه الإدراك «لنفسه») يتمثل في الحرية الخالصة
وحدها، والوعي الخالص بغير المدرك (أو ما يسميه الإدراك «في نفسه»). كما يقول سارتر:
إن
الوعي ليس شيئًا؛ لكنه انفتاح طليق على الأشياء. وأظن أننا نجد في كلمات سارتر صدًى
للتمييز الذي وضعه هايديجر بين الحضور [أي الوجود البشري الواعي بقضية الوجود] وبين
الكيانات الحاضرة للاستعمال، إلى جانب تفسير الحضور بأنه نوع من الانفتاح، وقوله: إن
الحرية تمثل جوهر إماطة اللثام.
الوجود الزمني
ولكن نقادًا آخرين يظاهرون هايديجر قائلين: إن ما يفتقده عند سارتر هو تجاهله لقضية
الوجود التي تمثل الإطار العام الذي يناقش فيه هايديجر شواغل «الوجوديين» المعروفة، مثل
الطابع الزمني الذي يتضمن كون الإنسان «مُلْقًى» أو أُلْقِيَ به في لحظة ما، ليواجه
المصير المحتوم، الذي يضم الموت، والوعي بأنه خاطئ، والقلق الذي يصاحبه في حياته. ويفسر
بعض المحدثين ارتباط الطابع الزمني بهذه «الحقائق» قائلين: إنها زمنية بمعنى، أنها تحدث
في الزمن، ولا بد أن أشرح المقصود بذلك بأمثلة غير تجريدية لصالح القارئ الذي ربما ضاق
ذرعًا بهذه المجردات. أقول: إننا نُفَرِّقُ في علم الجمال بين الفنون المكانية والفنون
الزمانية، فالفنون المكانية تشمل ما نسميه الفنون الجميلة، مثل الرسم والتصوير الزيتي
والفوتوغرافي والنحت والزخرفة وما لف لفها، فهي فنون تشغل حيزًا مكانيًّا وندركها
بحاستي البصر واللمس، ويمكن أن يتذوق المرء صورة في أقل من لحظة وينتقل إلى غيرها، وأما
الفنون الزمنية فعلى رأسها الموسيقى التي تشغل حيزًا زمنيًّا ولا مناص من الزمن في
تذوقها، إذ تقوم على تتابع أنغام يستغرق كل منها زمنًا محددًا وتتجمع في وحدات زمنية
(نسميها «مازورات» بالعربية (المعربة عن الإيطالية) والتي تعادل اشتقاقًا كلمة
measures، وإن كانت تسمى
bars بالإنجليزية) ويصاحبها إيقاع (rhythm) يحدد أطوالها الزمنية، وينطبق هذا أيضًا على
بعض الفنون الأدبية التي يتطلب تذوقُها وقتًا تتوالى فيه الانطباعات المنبثقة من التقسيم
الزمني للغة، كما هو الحال في الشعر حيث يشكل التقسيم نسقًا زمنيًّا للتفعيلات
(feet) بأطوالها الزمنية المختلفة أو المتساوية، أو
في النثر الأدبي حيث تتوالى الانطباعات التي تنشئها اللغة أو تكمن في اللغة، وفي
تواليها قد ينشأ الإحساس بالتراكم أو التفاعل أو التضاد، فالزمن هنا هو العامل الذي
يحكم مشاعر السامع أو القارئ مثلما يحكم الزمن «إلقاء» الإنسان في الحياة في لحظة زمنية
متحركة، أي سائرة؛ لأنها بطبيعتها لا بد أن تؤدي إلى لحظات أخرى، ومن ثم فوجود الإنسان
منذ إلقائه يحدث في الزمن، ويعتمد على العوامل التي يوليها الوجوديون أهمية كبرى، وعلى
رأسها الموت بطبيعة الحال، ولذلك فهايديجر يستخدم تعبير الوجود نحو الموت
(being towards death) بمعنى الانتقال الدائب في
الزمن «في اتجاه» الموت، والعوامل المصاحبة له تحدث في الزمن أيضًا مثل القلق النابع
من
الإحساس بحتمية ذلك السير نحو الموت، وتطور إحساسه بالذنب أو الخطيئة، وذلك هو الباب
الذي يميط اللثام للإنسان عن حقيقة وجوده، وسعيه من أجل إدراك حياة أصيلة (authentic) أي قائمة على صدق معرفة نفسه في العالم،
أي باعتباره جزءًا من عالمه ومن العالم الكبير. وذلك هو ما يفتقده هايديجر عند سارتر،
أي إنه يفتقد عند سارتر الإحساس بالصيرورة الوجودية التي من المحال أن تفهم إلا من خلال
الزمن.
المذهب الإنساني
والقضية الثانية في «الرسالة عن المذهب الإنساني» هي رفض هايديجر الارتباط بالمذهب
الإنساني «بالصورة التي وُضِعَ تعريفُهُ بها سَلَفًا». والإجابةُ الموجزة تقول: إن السبب
هو أن هذا المذهب يمثل البشر باعتبارهم كائنات ذوات أهمية مركزية داخل تفسير
ميتافيزيقي
للكائنات كلها. ولما كان هايديجر يستعمل مصطلح «الميتافيزيقا» بطرق منوعة ولا ترمي على
الدوام للحط من شأنها، فعلينا أن ننتبه لتعريفه للميتافيزيقا في هذا النص، إذ يقول: «إن
كل تحديد لجوهر الإنسان يفترض مقدمًا تفسيرًا معينًا للكائنات من دون أن يسأل عن حقيقة
الوجود، واعيًا بذلك أو من دون وعي، تحديدٌ ميتافيزيقي» (٢٢٥–٢٢٦)، ويضيف قائلًا:
إن الميتافيزيقا تمثل الكائنات فعلًا من زاوية وجودها، ومن ثم فهي تتضمن التفكير في
وجود الكائنات، ولكنها لا تتضمن التفكير في الفرق بينهما [أي بين الموجود والوجود]،
وهكذا فإن الميتافيزيقا لا تسأل عن حقيقة الوجود في ذاته، ومن ثم فهي لا تسأل عن
الكيفية التي ينتمي بها جوهر الإنسان إلى حقيقة الوجود.
(هايديجر، «الرسالة عن المذهب الإنساني»، في الكتابات الأساسية، ٢٠٠٨م، ص٢٢٦)
وطبقًا لهذا التعريف تصبح الميتافيزيقا نوعًا من التفكير الذي ينظر في الكائنات بصفة
كلية ويحاول اكتشاف مبادئها الأساسية؛ ولكنه لا يسأل: كيف يتسنى لنا أن نفهم معنى الوجود
على الإطلاق. ونحن نعرف من كتابه إسهامات في الفلسفة أن هايديجر يريد التفكير في الوجود
ذاته لا في «وجود الكائنات» وحسب، ويريد التركيز على حساسيتنا للفرق بين وجود شيء ما
وبين عدم وجوده، قائلًا: إنها أهم صفة من صفاتنا، ولكن الميتافيزيقا لا تتساءل عن الوجود
نفسه، ومن ثم فهي تعجز عن إدراك الصلة الحتمية بين الحضور والوجود، كما إن المذهب
الإنساني، على الرغم من إعلائه قيمة البشر، لا يفهم معنى كون الإنسان إنسانًا.
كان هايديجر يرى أن الحرية الإنسانية تتبدى أساسًا في إدراك الإنسان لوجوده، أي قدرة
الإنسان على رؤية ذلك الوجود من كُوَّة الوعي أو «الفتحة أو النافذة» التي يتيحها له
وعيه
البشري، وهو ما يعبر عنه بكلمة (
clearing)، وهي التي
ترجمتها آنفًا بالساحة المنفتحة وسط الغابة الظلماء (غابة الأفكار التي تلقي ظلالها على
تفكيرنا فتعتمه)، وأترجمها الآن «بالنافذة»، وأقرب تفسير لهذه الصورة المجازية هو الفتحة
التي يسطع منها ضوء الشمس وسط الضباب حين ينقشع، فتستطيع أن نشاهد ما هو موجود من
خلالها، ويعبر هايديجر عن ذلك بكلمتين لا تحملان الدلالة التقليدية لأي منهما، وهما
«الحرية» و«التعالي» (انظر القسم الرابع من مقاله عن «جوهر الحقيقة» في
الكتابات
الأساسية، ص١٢٤ وما بعدها). فالذي يقصده بهما هو لغز الانفتاح أو «الفتحة» (
Lichtung) التي نطل منها على وجودنا، وصعوبة نص
هايديجر ترجع في حالات كثيرة، مثل هذه الحالة، إلى الإيجاز بالحذف
(
ellipsis)، فهو يقول هنا: إن جوهر الإنسان هو
الوجود، ويكتب الوجود هكذا (
EK-sistence) حتى يشير إلى
كون الإنسان قادرًا على الوجود خارج وجوده، مع وجوده داخله في الحقيقة. فالإنسان حين
يطل عليه من مسافة معينة (وقد سبق لنا مناقشة مصطلح المسافة عند هايديجر) يتبين «وجوده
في حقيقة الوجود» (ص٢٣٠)؛ ولكنه لا يقول ذلك بهذه الصورة الواضحة، بل يقول: إنه حين ذكر
في
كتابه
الوجود والزمن (ص٤٢) «أن جوهر الحضور يكمن في وجوده» لم يكن يقصد إقامة التضاد
بين الوجود والجوهر؛ لأنه لم يكن يعرض لأي من هذين العاملين من العوامل الميتافيزيقية
للوجود، ويضيف قائلًا:
بل ولا تشير الجملة المقتطفة أعلاه على الإطلاق إلى أية مقولة عالمية عن «الحضور» (Dasein) منذ أن شاع استعمال هذه الكلمة في القرن
الثامن عشر باعتبارها اسمًا «للشيء» (object) بقصد
التعبير عن المفهوم الميتافيزيقي للطابع الفعلي للواقع الموضوعي، بل على العكس من ذلك،
تقول الجملة المذكورة: إن الإنسان يوجد بصورة جوهرية بأسلوب يجعله مرادفًا للمكان
(the there) (das “Da”) أي مكان تَجَلِّي الوجود (the clearing of
Being).
(هايديجر، «الرسالة عن المذهب الإنساني»، الكتابات الأساسية، ٢٠٠٨م، ص٢٢٩)
ولما كان المكان الذي يتجلَّى فيه الوجود هو الإنسان نفسه، فإن إدراك الإنسان لوجوده
الذي يهبه «الحرية» يعني إدراك صدق الصورة التي يراها لنفسه، أو التي تتجلى له
(discloses itself) وغاية كل ذلك أهمية إدراك
الإنسان واهتمامه (care) بوجوده، وهو ما يعني تحرير
طاقاته، وذلك ما لا يعنيه سارتر على الإطلاق، إذ يقدم سارتر صورة الحرية التقليدية، أي
حرية الإرادة الإنسانية (voluntarism).
ومن منطلق اهتمام الحضور بوجوده، أي اعتباره مدار بحثه عن المعنى الذي يمثله وجوده،
يعترض هايديجر على كل مذهب إنساني يستند إلى الميتافيزيقا بمعناها التقليدي، وهو الذي
قد يأتي بتفسير ديني للإنسان أو تفسير معارض للدين، ولكن الموقف الميتافيزيقي في
الحالين واحد، ألا وهو صرف وعي الإنسان عن معنى وجوده، فكل ما يريده هايديجر هو
الاعتراف بضرورة فهمنا لوجودنا، واستكشافه والتساؤل عن تاريخه، بغض النظر عن الإيمان
الديني أو الإلحاد أو «الحياد الديني» (اللاأدرية) فكلها ذوات روابط
ميتافيزيقية.
وقد انتقد بعض شراح هايديجر تفسيره للمذهب الإنساني الذي يقتصر على ربطه
بالميتافيزيقا، فقيل: إنه يختص الإنسان بالقدرة الفريدة على الاطلاع على حقيقة الوجود،
وهي صورة من صور المذهب الإنساني، وكان رَدُّ هايديجر يقوم، أولًا، على أن موقفه يختلف
عن
موقف دعاة جميع أشكال المذهب الإنساني في كونه لا يعتمد على الميتافيزيقا، وبأنه، ثانيًا،
لا يجعل الإنسان مركزًا للكون؛ بل يضع الوجود في المركز (ص٢٤٨) مؤكدًا ما يقوله في صفحتي
٢٣٤ و٢٤٥ من أن الإنسان (وهو يشير إليه بلفظ «الإنسانية») ليس «سيدًا للكائنات» بل «راع
للوجود»، ويقصد هايديجر بالرعاية «الحفاظ على حقيقة الوجود»، وهذا هو السياق
كاملًا:
ولكن جوهر الإنسان يتمثل في كونه أكثر من مجرد إنسان، إذا كان التعريف المذكور يقتصر
على «كونه كائنًا عاقلًا». ويجب ألا تُفْهَمَ كلمةُ «أكثر» في الجملة السابقة بمعنى
إضافة شيء أو أشياء، كأنما يُقْصَدُ أن يظلَّ التعريفُ التقليدي للإنسان تعريفًا
أساسيًّا ثم تُضاف إليه بعض التفاصيل، مثل الحاشية الوجودية، بل إن «أكثر» تشير إلى
جوهره الأقرب إلى الأصل ومن ثم الأقرب إلى الأساس. ولكنَّ شيئًا غامضًا مُلْغِزًا يُظهر
نفسه هنا: حال الإنسان الذي أُلْقِيَ بهِ في هذه الدنيا. وهذا يعني أن الإنسان،
باعتباره الرَّمْيَةَ المضادة للوجود (Gegenwurf) يزيد
عن كونه حيوانًا عاقلًا، وذلك ما نتبيَّنه بدرجة يزداد وضوحها بقدر ظهور صورة للإنسان
أقل ارتباطًا بالذاتية. ليس الإنسان سيد الكائنات؛ بل إنه راع للوجود. ولا يفقد الإنسان
شيئًا بسبب «قلة» ارتباطه المذكورة، بل يكسب بأن يصل إلى حقيقة الوجود. وتأتيه الدعوة
لإدراك ذلك من الرَّمْيَةِ التي يُستقى منها إلقاءُ حضوره في الدنيا. والإنسان في غضون
تحقيقه لذاته داخل تاريخ الوجود يُعتبر الكائن الذي يتمثل وجوده، باعتباره وجودًا
مرتبطًا ومنفصلًا في آن واحد، في إقامته بجوار الوجود. فالإنسان جار الوجود.
(هايديجر، «الرسالة عن المذهب الإنساني»، الكتابات الأساسية، ٢٠٠٨م، ص٢٤٥)
رفض الارتباط بالأخلاق التقليدية
نستطيع تلخيص موقف هايديجر من هذه القضية ذات الحساسية الخاصة، بسبب ارتباط هايديجر
يومًا ما بالفكر النازي الذي يجمع الدارسون على أنه لا أخلاقي، بأن نقول: إنه كان يؤمن
بأن الأفعال لا يمكن فهمها فهمًا صحيحًا بالاستناد إلى القواعد أو إلى القيم. فلقد سبق
له في كتاب الوجود والزمن أن أعرب عن رفضه تقديم قواعد للسلوك، قائلًا: إن المرء يتخذ
قراراته على ضوء كل حالة على حدة، ولا تؤدي أية قواعد إلى تيسير هذه المهمة. وأما في
«الرسالة عن المذهب الإنساني» فيقول: إن المطالبة بالقواعد سمة من سمات المدخل
التكنولوجي للدنيا، فهو مدخل يحاول إدارة جميع الكيانات بما فيها البشر والسيطرة عليها.
ومثل هذه الإدارة قد تكون لازمة أحيانًا، ولكن مهمة المفكر لا تتضمن القيام بها (ص٢٥٥
من الرسالة).
وإذا كان الحديث عن القيم أمرًا شائعًا في هذه الزمان، وفي بلدان العالم المختلفة،
وليس الوطن العربي مستثنى من هذا التوجه الحديث، فإنه يكاد يكون خصيصة من خصائص
«الخطاب» السياسي المعاصر، ولكن العداء «للقيم»، أو للحديث عنها، أمر ثابت في فكر
هايديجر في مرحلة النضج. فهو يذكر في كتابه
مقدمة للميتافيزيقا الذي كان أصلًا مجموعة
محاضرات ألقاها في الفصل الدراسي الصيفي في جامعة فرايبورج عام ١٩٣٥م، ثم نشره عام ١٩٥٣م
كما سبق أن ذكرت، أن الحديث عن «القيم» أصبح من سمات العصر، قائلًا: إنه شاهد قائمة
بالمطبوعات التي نشرت في عام ١٩٢٨م وتتحدث عن مفهوم القيمة، وكان عددها ٦٦١، وربما وصل
آنذاك (أي في عام ١٩٣٥م) إلى ألف. ثم يقول:
وهذا كله يسمي نفسه فلسفة. وأقول بصفة خاصة إن الذي يباع هذه الأيام باسم
فلسفة الاشتراكية القومية، وإن لم يكن يتصل على الإطلاق بالحقيقة الباطنة لهذه
الحركة وعظمتها [ألا وهي اللقاء بين التكنولوجيا العالمية والإنسانية الحديثة]
يعتبر محاولة لصيد «القيم» و«المبادئ الكلية» في هذه المياه المضطربة.
(هايديجر، مقدمة للميتافيزيقا، ترجمة جريجوري فريد وريتشارد بولت، ط٢،
٢٠١٤م، ص٢٢٢)
ويقول المترجمان في الهامش إن العبارة المطبوعة بين قوسين مربعين واردة على هذه
الصورة في جميع الطبعات الألمانية، ولكن يكاد يكون من المؤكد أنها أضيفت عند إعداد النص
للطباعة. والواضح هنا أن هايديجر يحاول تبرير تمجيده للنازية، في السياق الخاص بنظرية
القيمة. وسوف أورد فيما يلي ما يقوله بولت:
ماذا يمكن أن يعيب القيم؟ كان هايديجر في شبابه مرتبطًا ببعض الفلاسفة مثل
ريكرت الذي كان يرى أن الحقيقة نفسها «قيمة». لكنه سرعان ما اكتشف أن المكانة
الأنطولوجية للقيم بالغة الغموض، إذ لن يستطيع السياسي أن يُعَرِّف «القيمة»،
وأما الفيلسوف فقد يلجأ إما إلى المذهب الأفلاطوني (الذي يقول: إن القيم توجد في
عالم خالد من نوع ما)، وإما إلى المذهب الذاتي (الذي يقول: إن القيم تخلقها
المفاهيم الإنسانية أو الرغبات أو الإرادة). فأما الإجابة الأفلاطونية فتتعثر
في أشكال التضاد التقليدية بين الوجود والصيرورة، وبين الوجود وما «ينبغي أن
يكون»، وهو ما طعن في صحته هايديجر في كتابه مقدمة للميتافيزيقا. وأما الإجابة
الذاتية فترفعنا إلى مصاف سادة الوجود، ولكنها مثل كل الأفكار الميتافيزيقية
تعجز عن إدراك انفتاحنا على الوجود. فالتقييم يفرض معاييرنا على الكائنات بدلًا
من الاعتراف بما هي عليه. وقد أكد هايديجر سلفًا في الوجود والزمن بأن الكائنات
تكشف عن أنفسها لنا باعتبارها ذوات معنى قبل أن نصدر أية أحكام قيمة
عليها.
ما البديل إذن عن القواعد والقيم؟ يقول هايديجر: «على الإنسان أن يفعل ما هو
أهم من سَن القواعد، ألا وهو العثور على الطريق الموصل إلى مكان إقامته في
حقيقة الوجود» (ص٢٦٢). وأقول من جديد: إن المفتاح هو إدراك علاقتنا بالوجود،
ويعمد هايديجر، جريًا على عادته إلى تحليل اشتقاق الألفاظ لتدعيم موقفه.
فالمعنى الأساسي لكلمة (ēthos) [اليونانية،
التي تعني الأخلاق] هو «مكان الإقامة» (abode)
(ص٢٥٦–٢٥٨): فنحن نقيم في ساحة مكشوفة، هي حقيقة الوجود، وفيها نستطيع التلاقي
مع الكائنات. وما دام الفعل «يفكر» يعني أساسًا أن ندرك الوجود، فإن التفكير
يصبح أرفع شكل من أشكال الفعل (ص٢١٧)؛ لأنه أعمق أسلوب للعثور على
«أخلاقنا».
ويقول هايديجر: إن الخير والشر ينبغي أن يُفهما باعتبارهما شفاء الجرح
بالتئامه واندلاع سورة الغضب (ص٢٦٠–٢٦١)، وإن هذين يرجعان أصلًا إلى التفاعل
بين الوجود والعدمية، وهو ما ناقشه أول مرة في مقاله «ما الميتافيزيقا؟»
ونستطيع أن نجد آراء مماثلة في العديد من النصوص المنتمية إلى تلك الفترة …
ولكن هايديجر لا يطور قط هذه الفكرة بصورة مسهبة، وشراحه يتجاهلونها في العادة،
فلنحاول إذن أن نشرحها هنا على النحو التالي: عندما نُقَدِّرُ قيمة الوجود
ونؤويها في الكائنات، فإننا نحترم الوجود ونبدي الاهتمام بماهيته. فإذا
خَبَرْنَا حدودَ المعنى — أو إنكار المعنى — استطعنا تقدير قيمة معنى العالم.
ولكن هذه الخبرة يمكن أن تنحرف فتصبح عدمية، وتكشف عن نفسها في ضروب التخريب
والهدم والحقد الخبيث المتهور. وقد تؤدي مثل هذه الأفكار إلى زيادة فهمنا للشر
عما تستطيعه أية تحليلات للقواعد والقيم.
ويجد كثير من النقاد أن موقف «الرسالة» إزاء الأخلاق غامض إلى حد لا يحتمل؛
فعلى نحو ما يفعل في كتاب الوجود والزمن يتركنا هايديجر من دون توجهات عملية.
فالوجود والزمن يقول لنا: تسلحوا بالعزم والتصميم! ولكنه لا يبين القضية التي
ينبغي أن نبدي الحسم والعزم بشأنها. ويقول هايديجر لنا الآن: استمعوا إلى
الوجود! ولكنه لا يقول لنا ماذا يقول الوجود، أو لا يقول ذلك على الأقل
بالتفصيل اللازم للتأثير في كيفية معاملة بعضنا للبعض. وعلى القراء أن يتخذوا
قراراتهم بأنفسهم، فهل غموض هايديجر عيب، أم إنه اعتراف صريح بأن الحقيقة
والحرية لا يمكن الظفر بهما في أي مذهب أخلاقي؟
ولنا أن ننظر في مسألة أخرى، وهي أنه لا تلزم إقامة الأخلاق، في المقام الأول،
لا على القواعد ولا على القيم، بل يمكن أن تقام أيضًا على مفهوم الفضيلة، وهو
المفهوم الذي حظي في الواقع بحركة إحياء فلسفية منذ أن كتب هايديجر «الرسالة عن
المذهب الإنساني»، بل إننا نستطيع أن نقيم الحجة، من عدة زوايا، على أن هايديجر
نفسه قريب من أرسطو، فيلسوف الفضيلة العظيم، إذ يرى كلاهما أن أرفع غاية لنا أن
نصبح ما يتفق مع جوهرنا بممارسة أرفع نشاط في طوقنا، وهو العمل المنفتح على ما
هو كائن وعلى الوجود نفسه.
ويوجد طريق آخر لتناول قضية الأخلاق، أي من حيث مسئوليتنا تجاه «الآخر». وقد
صاغ هذه الفكرة عمانويل لفيناس (Levinas) أو
طورها بصورة تتضمن انتقادًا لهايديجر يتسم بالاتساق ويقوم على حجة مقنعة إلى حد
ما، والمعروف أن لفيناس ربما يكون أشد المفكرين المعاصرين المختصين بهذا
الموضوع نفوذًا، إذ يقول: «إن تأكيد أولوية الوجود على الكائنات معناه إنزال
العلاقة مع شخص ما، أي مع كائن (أي العلاقة الأخلاقية) منزلة ثانوية بالقياس
إلى العلاقة مع وجود الكائنات، وهي غير شخصية.»
(بولت، هايديجر: مقدمة، ١٩٩٩م، ص١٦٩–١٧١)