الفصل الثاني
الطِّلَّسْمُ
جِئْتُ لَا أَعْلَمُ مِنْ أَيْـ
ـنَ ولكِنِّي أَتَيْتُ
ولَقَدْ أَبْصَرْتُ قُدَّا
مِي طَرِيقًا فَمَشَيْتُ
وسَأَبْقَى سَائِرًا إنْ
شِئْتُ هذَا أمْ أَبيْتُ
كيفَ جِئْتُ كَيْفَ أَبْصَرْ
تُ طَرِيقِي لَسْتُ أَدْرِي.
هذا السؤال الذي طرحه الشاعر في القرن العشرين سؤال طرحه الأقدمون، ولا يزال يحتفظ
بجدته
كأنما يُطرح أول مرة، فهو سؤال يقوم على النظرة الكلية إلى الوجود، وقصيدة «الطلاسم»
لأبي
ماضي تتضمن ضروبًا منوعة من الأسئلة عن الوجود، يذكرنا بعضها بالصورة الأفلاطونية التي
رسمها وردزورث في قصيدته عن «خاطرات الخلود» والتي يقول فيها: إن «المولد» يمثل غفوة
للروح
على الأرض، تنسيه المكان الذي أتى منه في عالم الملكوت عند الله، في الفقرة الخامسة التي
تبدأ كما يلي:
مَا مَوْلِدُ الإنْسَانِ إلَّا غَفْوَةٌ مِنْ بَعْدِهَا النِّسْيَانْ.
فَرُوحُهُ التي قَدْ أَشْرَقَتْ مَعَهْ … شَمْسُ الحَيَاةْ.
كَانَتْ قُبَيْلَ ذَاكَ قَدْ غَرَبَتْ،
وأَقْبَلَتْ مِنْ مَوْقِعٍ نَاءٍ قَصِيٍّ؛
لكنَّها لمَ تَنْسَ كُلَّ شيء، لَا ولَا تَجَرَّدَتْ،
مِنْ كُلِّ ما بِهَا مِنَ الرُّوَاءْ؛
إذْ إنَّنَا نَأتِي وفِي أَذْيَالِنَا سُحُبُ البَهَاءْ.
نَأْتِي مِنَ اللهِ الذي هُوَ بَيْتُنَا.
وهذا هو الأصل، (انظر مختارات من الشعر الرومانسي للمؤلف، ط٢، ٢٠٠٨م، ص١٤٨–١٤٩).
Our birth is but a sleep and a
forgetting
The Soul that rises with us, our life's
star,
Hath had elsewhere its setting
And cometh from afar:
Not in entire forgetfulness,
And not in utter nakedness
But trailing clouds of glory do we come
From God, who is our home:
W. Wordsworth, “Ode: Intimations of
Immortality from Recollections
Of Early Childhood,” ll. 58–65
ومن قبله تساءل عمر الخيام عن الوجود، قائلًا: ما يقول اليوم هايديجر به من أن وجود
الإنسان إلقاءٌ له على الأرض بلا خِيَرة من أمره، وهو يتأمل هذا «الإلقاء» (thrownness) تأملًا شاعريًّا يشبه قول الخيام (في ترجمة
أحمد رامي):
لَبِسْتُ ثَوْبَ العَيْشِ لَمْ أُسْتَشَرْ
وحِرْتُ فِيهِ بَيْنَ شَتَّى الفِكَرْ
وسَوْفَ أَنْضُو الثَّوْبَ عَنِّي ولَمْ
أُدْرِكْ لمَاذَا جِئْتُ أَيْنَ المَقَر
وهايديجر يعبر عن دهشة إدراك الوجود وحيرة المرء في عِلَّتِهِ بأسلوب «شعري» لا يتضمن
أدوات الاستقراء والقياس والاستنباط التي يتطلبها سكروتون، أستاذ الفلسفة، في الكتابة
العلمية في الفلسفة، ولكنه يحمل روح الدهشة التي تتملك كل من ينتبه إلى حقيقة وجوده،
فذلك
مما يسميه هايدجر «الكشف» عن الحقيقة، ويستخدم في التعبير عنه الكلمة اليونانية
(
aletheia) التي تعني كشف الغطاء أو إماطة اللثام،
ويشير إلى حدوث ذلك باعتباره «حدثًا»، مشبهًا إياه بلمع البرق ووميض الضوء الباهر فجأة،
ولكن الضوء لا يكشف عن علل أو أسرار، بل يكشف عن السؤال نفسه، وانظر إلى هذه الجملة التي
يصف فيها دهشته الوجودية أثناء قراءته «ترنيمة الذكرى» للشاعر هولدرلين
(
Holderlin Hymne “Andenken”) قائلًا: إن لمعة الضوء
احتفال:
والاحتفالُ … انضباطٌ للنفس، وانتباهٌ للذهن، وتساؤلٌ وتأمل، وانتظارٌ وتوقع، إنه
خطوةٌ نخطوها داخل بريقِ الدهشةِ الذي يزيدنا انتباهًا، وهي الدهشة من أن الدنيا
تدور حولنا جميعًا بشئونها الدنيوية، ومن وجود كائنات بدلًا من العدم، أي وجود
أشياء ونحن أنفسنا في وسطها، ووجودنا ونحن لا نكاد نعرف من نكون، ولا نكاد نعرف
أننا نجهل كل هذا.
(هايديجر، المجلد ٥٢ من الأعمال الكاملة، ص٦٤، مقتطف في بولت ١٩٩٩م،
ص١)
أي إن هايديجر يعلي من شأن الدهشة التي قلت في المقدمة: إنها شاعرية، ومن أحد معاني
هذه
الشاعرية أنها تجعل السؤال يستعصي على الإجابة، بل إنها تنتهي هي أيضًا بسؤال لا تقل
صعوبته
عن السؤال الأول، وكان الفيلسوف يسعى في محاضراته، مثلما كان يسعى في كتاباته، إلى تنبيه
البشر إلى أن الوعي بالوجود حدث (
ereignis) يشبه وميض
البرق، وإلى أن إدراك هذا الوميض يعني التساؤل عن معناه، وأن التساؤل يعني التفكير،
والتفكير بطبيعته صفة الإنسان الذي يدرك قيمة وجوده، ولذلك كان ينتقد أساليب تدريس الفلسفة
في شتى المعاهد، بسبب تجاهلها حث الطلاب على التفكير من طريق التساؤل، ويعيب عليها خصوصًا
ما يقول إنه:
عُقْمُ مناهج تدريس الفلسفة في الجامعات على نطاق واسع … بسبب محاولة تعليم
الطلاب، بطرائق الخطوط العريضة المشهورة، وربما في فصل دراسي واحد، كل شيء عن
الدنيا، أو حتى ما يزيد على ذلك. فالمفترض أن يتعلم المرء السباحة، ولكنه لا
يتعلمها بل يظل يضرب بخطاه متسكعًا على شط النهر، ويثرثر حول خرير المياه، ويتحدث
عن المدن والبلاد التي يمر بها النهر. ومن شأن هذا استحالةُ نقلِ وميض الشرارة إلى
الطالب الفرد، وهي الكفيلةُ بأن توقدَ ضوءًا في داخله من المحال إطفاؤه يومًا
ما.
(هايديجر، الأساس الميتافيزيقي للمنطق، ترجمة م. هايم (Heim) دار نشر جامعة إنديانا، ١٩٨٤م، ص٧، في بولت
صix)
والشرارة المذكورة هي التي يعتقد الباحثون أنها تكمن وراء اتجاه هايديجر لدراسة الفلسفة
أصلًا، فهي السؤال الإنساني الصادق، بمعنى أن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يسأله،
وهو
كما صاغه هايديجر «لماذا توجد كائنات بدلًا من العدم؟» وهو يبذل جهده، مثل كل مفكر أصيل،
لتعريف ألفاظه، فالكائنات (das Seiende) تعني كل ما هو
موجود، و«الموجودات» قد تكون كائنات بمعنى الكيانات المادية أو بمعنى الصور الذهنية
الخيالية، أو الأشكال الهندسية أو الأرقام، فما الذي يميز وجود كل موجود، وكيف نعرف أنه
موجود ولو لم نسأل عن سبب وجوده؟
أقول من جديد: إن هذه هي الشرارة الأولى، وهي شرارة يعرفها كل متأمل للكون، سواء
كان
باحثًا في العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية، ولكن بعض المتأملين ينحون نحو الشعر،
على
نحو ما فعله أبو ماضي والخيام، وبعضهم يدرس الكون دراسة علمية، مثل ستيفن هوكنج (Hawking) أو دراسة فلسفية (تحليلية) مثل فتجنشتاين (Wittgenstein)، أو دراسة فكرية محضة مثل هايديجر، فإن
هوكنج يتساءل عن سر الوجود بمعنى ما وراء وجود الكون، وفتجنشتاين يصف من يشعرون بوطأة
السؤال المذكور بأنهم يدهشون لوجود العالم، ومع رفضه لمذهب الدهشة المذكور يُقِرُّ بأنه
يحترم أصحابه. («محاضرة عن الأخلاق» في مناسبات فلسفية ١٩١٢–١٩٥١م، (١٩٩٣م)، ص٤١)، وأما
هايديجر فإنه ينطلق من سؤاله السابق إلى سؤال آخر أهم في نظره، وهو ما معنى الوجود؟
أما السؤال الأول، أي ما سبب الوجود، فيقول: إن لايِبْنِتْسْ (Leibniz) قد سبقه إليه، وهو يصفه في كتابه مقدمة للميتافيزيقا بأنه
من «أعظم» مفكري الألمان. (هايديجر (١٩٣٥م)، ٢٠١٤م، ص٩٢) ولكنه يعترض على أن لايبنتس
(١٦٤٦–١٧١٦م) يجيب عن السؤال بالإشارة إلى أن الله هو العلة الأولى، ثم يتجاهل القضية
العامة
منتقلًا إلى عرض قضيته الخاصة، وهي: ما معنى الوجود؟ (المرجع نفسه، ص٢٥) وكلمة الوجود
بالعربية، مثل نظيرتها بالإنجليزية (being) والألمانية
(Sein)، قد تعني الشيء الموجود أي الكون كله، وقد تعني
كونَ الشيء موجودًا، فالمعنى الأول مجسد، والمعنى الثاني مجرد، ومترجمو هايديجر يكتبون
الحرف الأول من المعنى الثاني بصورته الكبيرة (Being)
تمييزًا له عن المعنى الأول (being) وهذا ما لا يفعله
هايديجر؛ لأن جميع الأسماء الألمانية تُكتب بحرف كبير في البداية، ويحذر المترجمون القراء
من
الخلط بين المعنى المجرد وبين ما تعنيه كتابته بحرف كبير بالإنجليزية أي «الموجود».
وكما أوضحت فيما سلف، تكتسب معظم مصطلحات هايديجر دلالاتها الخاصة من السياقات التي
يستخدمها فيها، والمعاني الخاصة التي يضفيها على كل منها، وهي معان خاصة بمعنى آخر، ألا
وهو
اتصالها المباشر بخبرته «الخاصة» أي الشخصية، فهو يشبه الشعراء في الاستناد إلى الخبرة
الحياتية، أو ما يسميه «الخبرة المعاشة» (erlebnis) [من
الفعل erleben الذي يفيد العيش والمشاهدة والخبرة] وهو يذكر
في مناسبات عديدة هذا الاستناد إلى الحياة الحقيقية، مؤكدًا أن تأملاته ذات جذور في حياته
الشخصية، وهو أمر يتحول في فلسفته فيما بعد إلى التأكيد الشديد لخبرة المرء المباشرة
التي
يستمد منها، أو ينبغي أن يستمد منها وعيه بالوجود أي بوجوده (Being) وبما حوله من الكائنات (beings)
أو الموجودات، وهي الوعي الذي تبلور في نظريته عن «الوجود-في-العالم». ويورد أحد شراح
هايديجر ومترجميه، وهو ت. كيزيل (Kisiel) في كتابه نشأة
الوجود والزمن عند هايديجر (١٩٩٣م) عبارة وردت في خطاب كتبه هايديجر ونشر في كتاب بالألمانية
بعنوان في الحديث عن الزمن عام ١٩٩٠م، ويترجمه كيزيل على النحو التالي: يقول هايديجر [وتاريخ
الخطاب عام ١٩٢١م]: «إنني أعمل بأسلوب مجسد وحقائقيٍّ نابع من إدراكي بأنني موجود، ونابع
من
أصولي وبيئتي وسياقاتي الحياتية الفكرية والحقائقية، وكل ما تتيحه هذه لي من خبرة حيوية
أعيش فيها.» وهو يعود إلى هذه الفكرة من جديد بعد كتابة الوجود والزمن، في مقال بعنوان «ما
الميتافيزيقا؟» [ارجع إليها في الكتابات الأساسية، ص٩٣] ولكنْ في صورة أكثر تعميمًا،
قائلًا: «لا يمكن طرح أي سؤال ميتافيزيقي إلا بأسلوب يكفل حضور السائل مع سؤاله، أي يكفل
أن
يصبح هو نفسه موضع تساؤل.» ومن ثم فأتصور أن علينا أن نلقي نظرة على نشأة هذا المفكر
الشاعر
وتطوره حتى نشهد نشأة ذلك الطِّلَّسْمِ وتطوره.
النشأة
ولد مارتن هايديجر يوم ٢٦ سبتمبر ١٨٨٩م في بلدة صغيرة اسمها ميسكيرش (Misskirch) في منطقة يطلق عليها اسم الغابة السوداء
في مقاطعة بادن-فورتمبرج (Baden-Wurttemberg) في جنوب
غربي ألمانيا، وتنتصب في البلدة كنيسة كاثوليكية تتسم بزخارف باهرة تسمى كنيسة سانت
مارتن. وفي المدفن الملحق بالكنيسة الواقع على قمة التل شاهد قبر نقش عليه اسم مارتن
هايديجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) ولكنه يختلف عن باقي القبور في عدم وجود صليب فوقه، بل نقش لنجمة
بارزة، وفق وصيته، للتذكير ببيت من الشعر كتبه المفكر عام ١٩٤٧م يقول:
الفِكْرُ مَعْنَاهُ اخْتِيَارُكَ فِكْرَةً وَاحِدَةً
حَتَّى تَرَاها في سَمَاءِ الكَوْنِ نَجْمًا سَاطِعًا.
(هايديجر، الشعر واللغة والفكر، ترجمة هوفستادتر، ١٩٧٥م)
وكانت تلك «الفكرة الواحدة»، كما نعرف الآن، هي الطلسم الذي بدأنا به الحديث، أي سر
الوجود، أو السؤال عن معنى الوجود، فالنشأة الريفية للمفكر كانت تربطه بالأرض وبالعمل
الشاق وبالطبيعة، أما الأرض فكان يرمز لها عمل والده في الكنيسة الكاثوليكية، إذ كان
يحفر القبور، ويتولى خدمات تتعلق بالصلوات، مثل دق الأجراس والإشراف على أردية الكهان
والأواني، وكان الفلاحون من حوله يذكِّرونه بذلك الارتباط بالأرض والعمل الشاق، وأما
الطبيعة فكانت ملاذًا دائمًا له، حيث يستمتع بالتريض على سفوح التلال صيفًا والتزحلق
على الجليد في الشتاء، وهذا الجو الخاص كان يرتبط بالنشأة الدينية، وخصوصًا المبادئ
المسيحية التي تؤكدها الكاثوليكية مثل الخطيئة والغفران، ولا شك في تأثير ذلك كله في
مذهبه الفلسفي في مرحلة النضج، بل إنه رفض الانتقال من جامعة فرايبورج عام ١٩٣٣م إلى
جامعة برلين قائلًا: إن عمله الفلسفي ينتمي إلى «الفلاحين». (شيهان، ١٩٨١م، ص٢٨، مقتطف
في
واطس١).
وكانت هذه النشأة من وراء انجذابه إلى الفكر التجريدي (أو الذي يسميه «الميتافيزيقي»)
الذي يشجعه الدين، فبدا أنه سوف يتخصص في اللاهوت وينضم إلى الطائفة اليسوعية، إذ التحق
بالمدرسة الإكليركية اليسوعية عام ١٩٠٩م؛ ولكنه تركها بعد أسبوعين وفضل الدراسة
الأكاديمية للاهوت في جامعة فرايبورج، ولم يمض عامان حتى اكتشف أنه يود دراسة الفلسفة
طلبًا لحرية التفكير، وبذلك بدأ دراسة الفلسفة جامعيًّا عام ١٩١١م، وربما كان من وراء
قراره الكتاب الذي وضعه فرانز برنتانو (Brentano) عام
١٨٦٢م بعنوان عن المعاني المتعددة للوجود عند أرسطو، والكتاب الآخر الذي وضعه أستاذ
اللاهوت في فرايبورج كارل بريج (Braig) بعنوان عن
الوجود. والواضح أن التضاد بين المدخلين دفع هايديجر إلى التساؤل، كما يقول لنا في مقال
له بعنوان «طريقي إلى الظاهراتية» (في كتاب عن الزمن والوجود، ترجمة ستامباو، ١٩٧٢م، ص٢٨):
«وشغلني السؤال التالي انشغالًا مبهمًا إلى حد كبير؛ إذ قلت في نفسي: إذا كانت للوجود
معان كثيرة، فما معناه الجوهري الرئيسي؟ ماذا يعني الوجود؟»
الظاهراتية
وقد عُرِفَ عنه في فترة دراسته الجامعية ولعه بأرسطو، إلى جانب اهتمامه بالظاهراتية،
المذهب الذي وضعه إدموند هوسرل، إذ اجتذبه الكتاب الذي أصدره هذا الفيلسوف عام ١٩٠٠م
بعنوان بحوث في المنطق، وأصبح يُؤَرَّخُ به مولدُ الظاهراتية (phenomenology)، فماذا يقول هذا المذهب؟ يقول — بإيجاز شديد: إن معرفتنا
بالأشياء قد تكون مباشرة أو غير مباشرة بمعنى اقتصارها على جانب واحد من جوانب أي شيء،
فالمعرفة من طريق الحواس تقتصر دائمًا على ما تدركه الحواس، والمدارك الحسية دائمًا
ناقصة، وأما المعرفة المباشرة فهي معرفة جوهر الشيء أو صفته التي لا تختلف باختلاف
إدراكها الحسي، فرؤيتك لشيء أبيض مقصورة على الجانب أو الجوانب التي ترى الشيء منها،
والحالة التي ترى هذا الشيء فيها، ومعنى ذلك أننا نعرف الأشياء البيضاء وفقًا للجانب
الذي نراها منه، أما المعرفة المباشرة بجوهر البياض فلا تتغير أبدًا، إذ إن المرء
يدركها بالوعي، والوعي أداة إدراك الجوهر. وهكذا يختلف نوعا المعرفة بالأشياء طبقًا
للوعي، وأما النفس (the self) فهي «الذهن الفرد» الذي
تنبع منه جميع «الأفعال الذهنية» فلا ندركها إلَّا إدراكًا غير مباشر، وهكذا فإن عالم
الأشياء المفردة ينقسم إلى جزء «حلولي» (immanent) أي
حالٌّ في الفرد ملازم له، وهو الوعي، وقسمين خارجيين بالنسبة إليه (أي متعاليين transcendent) هما الأشياء المدركة والنفس. ومعنى
هذا، كما يقول راينهارت
جروسمان (Reinhardt
Grossmann) أن للوعي مكانة خاصة «لأن ما نعرفه مباشرة وحقًّا لا يزيد عن
الوعي [أي عمَّا نعيه]. ولكنَّ بعض أرباب الظاهراتية يبالغون في تصوير الوعي، زاعمين
أن
له نوعًا من الوجود الذي يختلف عن سائر «الموجودات»، وينهض هذا الزعم بدور رئيسي في
الوجودية أو المذهب الوجودي» (مرجع أوكسفورد الفلسفي، ١٩٩٥م، ص٦٥٩).
وعندما بدأ هايديجر دراسته العليا في الجامعة، متأثرًا بأستاذه هوسرل، كان المشرف
على
أطروحته «العليا» الأولى أستاذًا ينتمي إلى ما يسمى «الكانطية الجديدة» (neo-Kantism) ويُدعى هاينريش ريكرت (Heinrich Rickert) وكان من المحتوم أن يتأثر به، فما الكانطية الجديدة؟
يقول لويس بك (Lewis Beck): إن الصفة تطلق على «أسرة»
من المدارس في الفلسفة الألمانية ازدهرت في الفترة من ١٨٧٠م إلى ١٩٢٠م، وكانت سماتها
الرئيسية رفض اتجاهات التفكير اللاعقلانية، وضروب المذهب «الطبيعي» القائمة على الحدس،
وفروع مذهب الوضعية المنطقية، وكان دافعها الأول الإيمان بأن الفلسفة لا يمكن أن تصبح
عِلْمًا (a science) لا مجرد نظرةٍ أو تصورٍ
للعالم، إلا بالعودة إلى روح الفيلسوف عمانويل كانط الذي كان يرى أن نظرية المعرفة تؤهل
طالب العلم لدراسة الميتافيزيقا وجميع المباحث الفلسفية الأخرى. (المرجع نفسه، ص٦١١)
والواضح أن هايديجر قد استفاد من كتاب هوسرل المذكور ومن آراء المشرف على أطروحته
الأولى (توازي الماجستير عندنا) عندما أطلق عليها اسم نظرية الحكم في المذهب النفسي؛
إسهام نقدي إيجابي في البحوث المنطقية (١٩١٣م) والباحثون يدهشون لأن هايديجر أقدم على
«الإسهام في المنطق» وهو الذي اشتهر عنه في سنوات النضج رفضه للمنطق الرمزي التحليلي،
الذي وصل إلى الذروة على أيدي فلاسفة التحليل اللغوي، وكان جهدهم يرمي إلى دراسة مدى
صدق الأقوال والتثبت من مدى صحتها أو حقيقتها، إذ اشتهر عن هايديجر قوله في مرحلة النضج:
«إن فكرة المنطق نفسه تتفتت في الاضطراب الذي يحدثه التساؤل الأصيل» («ما
الميتافيزيقا؟» في الكتابات الأساسية، ص١٠٧) ومبعث الدهشة هنا هو أن هايديجر له بحوث
في تاريخ اللغة، كما أنه كان مولعًا بالتلاعب اللفظي وكسر أصول المنطق الرمزي في
كتاباته، وهذا وذاك لا يتبعان «أصول» المنطق الرمزي. ويفسر بولت (هايديجر، مقدمة، ١٩٩٩م،
ص١١) هذه المفارقة قائلًا: إنه كان يفهم المنطق آنذاك باعتباره مجموع شروط المعرفة
بصفة عامة، ويقول هايديجر في أطروحته المذكورة: إن المنطق هو «نظرية النظرية» (أي
ميتانظرية)، ومعنى هذا التعبير هو ما نطلق عليه اليوم «فلسفة العلم»، أو «فلسفة الذهن»،
أو «نظرية المعرفة»، أو «فلسفة اللغة»، أو كل هذه مجتمعة. ويدلل الباحثون على صدق هذا
المعنى للمنطق، بالرجوع إلى أطروحته الجامعية الثانية (مثل الدكتوراه عندنا) وكان
عنوانها نظرية المقولات والمعنى (١٩١٦م) حيث يستعمل مفهوم المنطق وفقًا لتلك «المجالات»
بحيث لا يشعر القارئ أن كاتب الأطروحة يفرض معنى واحدًا للمنطق، بل يغير مفهومه حسب
السياق. ولم تترجم أيٌّ من هاتين الأطروحتين، بل نُشرتا بالألمانية فقط في سلسلة أعماله
الكاملة، وهما توجدان، طبقًا لما يقوله الباحثون، في ركن خاص يتضمن أعماله المبكرة (Frühe Schriften).
وعندما نشر هايديجر أطروحته الثانية عام ١٩١٦م كانت الدنيا تتغير من حوله، مثلما
كانت
حياته الشخصية قد بدأت تتغير، إذ كانت الحرب العالمية الأولى قد اندلعت عام ١٩١٤م، وكان
قد بدأ التدريس في جامعة فرايبورج (Freiburg) عام
١٩١٥م، وعينته السلطة العسكرية للقيام بالرقابة على البريد في مكتب بريد فرايبورج عام
١٩١٦م، وتزوج من إلفريدا
بتري (Elfride
Petri) عام ١٩١٧م، ولم ينفصل عنها طول عمره، وكان هو كاثوليكيًّا وهي
بروتستانتية، ولكنهما لم يكونا متدينين. وفي عام ١٩١٨م كُلِّفَ بالسفر إلى الجبهة للعمل
في محطة الأرصاد الجوية، أي إنه لم يشترك قط في القتال، ثم عاد عام ١٩١٩م حيث استأنف
محاضراته عن جوهر الفلسفة والجامعة (ويورد كتاب كيزيل المشار إليه آنفًا ملخصات للكثير
من محاضراته الدراسية في الفترة من ١٩١٥م إلى ١٩٣٠م). وفي عامي ١٩١٩م و١٩٢٠م ولد ابناه
يورج
وهيرمان.
المؤثرات المبكرة
ولننظر الآن في أهم المؤثرات في تطوره الفكري في تلك المرحلة، كان التأثير الأول
هو
الفيلسوف فيلهلم ديلثي (Dilthey) (١٨٣٣–١٩١١م)، وكان
الثاني والأكبر إدموند هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٩م). وكان أهم ما جاء به ديلثي في كتابه مقدمة
للعلوم الإنسانية (١٨٨٣م) أن العلوم الإنسانية، مثل التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع،
تختلف عن العلوم الطبيعية، مثل الفيزياء والكيمياء، لأن موضوعات الأولى هي الإنسان وهو
كائن تاريخي، وموضوعات الأخيرة هي الطبيعة وهي غير تاريخية. ويقول هايديجر في كتابه
تاريخ مفهوم الزمن: مقدمة (١٩٢٥م، والترجمة الإنجليزية ١٩٨٥م) — وهو عنوان مضلل، فالحقيقة
أنه يعتبر مسودة لبعض أجزاء كتاب الوجود والزمن (١٩٢٧م) — يقول: «إن ديلثي حدد لنفسه
المهمة التي كان يعتزم القيام بها في ذلك الكتاب وهي «تفسير «الحياة» نفسها في أبنيتها،
باعتبارها الحقيقة الأساسية للتاريخ.» والواقع أن ديلثي لم يكن يعتزم تفسير الحياة فقط
بل تفسير مبحث الهرمانيوطيقا نفسه، أو نظرية التفسير نفسها، وقد أدى عدد من مفاهيم
ديلثي إلى تحليل الوجود الإنساني في الوجود والزمن، كما يقول كيزيل مترجم ديلثي
المذكور.
وأما التأثير الثاني، أي تأثير هوسرل في هايديجر، فكان مختلفًا بعض الشيء، إذ إن
انبهار هايديجر بفكر هوسرل لم يكن قائمًا في البداية على أساس الفهم الكامل، إذ يقول
في
الفصل الذي سبق الاستشهاد به من كتابه
عن الزمن والوجود وعنوانه «طريقي إلى
الظاهراتية»:
تناقصت حيرتي ببطء، وانقشع تشوش فكري بجهد جهيد، ولكن ذلك لم يحدث إلا بعد أن
قابلت هوسرل شخصيًّا في مختبره. كان هوسرل قد وصل إلى فرايبورج عام ١٩١٦م خلفًا
لهاينريش ريكرت … وكان أسلوب تدريسه يتخذ صورة التدريب التدريجي على «الرؤية»
الظاهراتية، وهي التي كانت تتطلب من المرء آنذاك أن يتخلى عن استعمال أية معرفة
فلسفية لم تخضع للاختبار. (ص٧٨).
وسرعان ما بدأ هايديجر يعمل مع هوسرل باعتباره مساعده الموثوق به، كما كُتِبَ
لهايديجر أن ينهض بدور حاسم في تطور الحركة الظاهراتية بقيادة هوسرل، ولكن هوسرل أدرك
أن تلميذه بدأ يختلف معه حين نشر هايديجر كتابه الوجود والزمن. وأظن أنه من المفيد أن
أضيف إلى ما قلته آنفًا عن مذهب الظاهراتية كلمة موجزة عن رؤية هايديجر لها، حسبما
يشرحها لنا في الفصل المشار إليه عاليه، فهو يركز على مسألتين ترتبطان لديه بالطلسم
الذي لم يبرح خياله منذ بواكير الصبا، الأولى كان هوسرل يسميها «التجلي» (evidence) أي إظهار الشيء ذاته أو وجوده في داخل
الوعي، ولو لم يكن له وجود أو حضور «خارجي»، وهو ما يمكن تطبيقه على الوعي بأي شيء،
فالوعي دائمًا وعي بشيء ما، وهوسرل يطلق على هذه الظاهرة «العمد» (intention) وإن كان المعنى المراد هو القصد أي
تَوَجُّه الذهن (أو الوعي) إلى شيء ما، وهو المعنى الأصلي للكلمة اللاتينية
(intentio) التي كانت شائعة في الدراسات
الإسكولائية في العصور الوسطى، ومن ثم فإن العمد أو العمدية (intentionality) لا علاقة لها
بالتعمد بمعناه الحديث، بل تقتصر على معنى «التوجه الأساسي للوعي» إلى شيء أو أشياء،
وأظن أن هذه الفكرة تتطلب إيضاحًا بسبب علاقتها بتطور فكر هايديجر.
ما العمد؟
كان فرانز برنتانو (Franz Brentano) هو الذي ابتدع
هذا المعنى للعمد أو القصد، فأحيا بذلك المعنى القروسطي القديم، فكان يقول إن كل نشاط
ذهني أو نفسي لا بد أن تكون له علاقة بشيء ما، وذلك في كتاب وضعه في عام ١٨٧٤م بعنوان
علم النفس من زاوية تجريبية (والترجمة الإنجليزية ظهرت عام ١٩٧٣م). وعادة ما يشير
الباحثون إلى هذه المقولة باسم «أطروحة برنتانو»، ويشرحها تيم كرين (Tim Crane) قائلًا: إن الإنسان لا يمكن أن يعتقد أو
يتمنى أو يرجو إلا إذا كان لديه ما يعتقده أو ما يتمناه أو يرجوه، ومن ثم «فإن العقائد
والأماني والرغائب وما يجري مجراها تسمى حالات عمدية» (مرجع أكسفورد نفسه، ص٤١٢).
وكثيرًا ما يصف الفلاسفة المعاصرون «عمدية» الحالات الذهنية والنفسية بأنها ما تتعلق
به
(أي their aboutness). والواضح أن افتراض وجود شيء في
الذهن أو في النفس، ولو لم يكن له وجود مادي، أي خارج الذهن أو النفس، كان يسهم إلى حد
ما في إيضاح جانب من جوانب الطلسم الذي كان يشغل بال هايديجر آنذاك، ولكن المعضلات التي
أدى هذا الافتراض إلى نشأتها تكاثرت على مر الزمن إلى الحد الذي دفع راينهارت جروسمان
الذي أشرت إليه آنفًا إلى القول بأن تجنب معضلات أطروحة برنتانو يقتضي افتراض عدم وجود
ذهن أو نفس! وعلى أية حال، فإن ما اجتذب هايديجر إلى الظاهراتية الهوسرلية، وصعوباتها
التي كان يراها حاسمة، لم يكن يتعلق بأطروحة برنتانو قدر ما كان يتعلق بما أسميته
«التجلي» (evidence) أي تجلي الظواهر للذهن، وما
يصاحب ذلك مما كان هوسرل يسميه الحدس القاطع (categorical intuition).
فأما قضية التجلي فقد قبلها هايديجر أولًا، ما دام هوسرل يستند إليها في تفسير وجود ما
لا ينتمي إلى عالم الحس، قائلًا: إنه يكشف عن نفسه للذهن وللنفس، وفكرة الكشف كانت تمثل
أهمية قصوى لنظرة هايديجر، حتى في بداياته الأولى، إلى العالم القائم على الطلسم المشار
إليه، ومن ثم فقد قبلها؛ لكنه لم يلبث أن أدخل عليها تعديلًا مُهمًّا وهو أن الحقائق
التي
تكشف عنها «الكائنات» للوعي، لا تمثل الحقيقة الكاملة، بل إنها دائمًا تقترن بعناصر زيف
معينة، ومن ثم فإن الكشف يصاحبه إخفاء في كل الحالات، أو كما يقول أحد الشراح: إن
الحقيقة تقترن بالباطل بالضرورة. (بولت، ١٥).
ومن الطريف أن هايديجر كان مبهورًا — مع عدد آخر من تلاميذ هوسرل — بفكرة الحدس القاطع
التي كان هوسرل قد أوردها في كتابه المذكور، في الوقت الذي كان هوسرل قد تخلى عنها من
فترة طويلة، حسبما يقول هايديجر في كتابه عن الزمن والوجود (ص٧٩). وأما الفكرة فتضيف
إلى القول «بالتجلي» شرحًا لعمل الوعي في مجال الإدراك. فالتجلي يعني أن الوعي موجه إلى
إدراك شيء يمكن البحث فيه باعتباره ظاهرة معينة، وأن هذا الإدراك — وفق شرح هوسرل —
يتوسل بالحواس وبالحدس معًا. فنحن ندرك حمرة التفاحة بالبصر، ولكننا حين نقول في أنفسنا
«هذه تفاحة» فإن وعينا يتضمن ما يزيد عمَّا نقلته الحاسة البصرية، أي إننا ندرك أن
التفاحة موجودة هنا لا في مكان آخر، وندرك وحدة الشيء (أي «التفاحة») وندرك وجودها،
وهذه عناصر أساسية في الخبرة التي تدركها الحواس، إذ يقول هوسرل «أستطيع أن أرى اللون،
لا كون الشيء ذا لون، وأحس بأن ملمسها أملس، لا بكونها ملساء» (هوسرل، بحوث في المنطق،
ص٧٨٠، مقتطف في بولت، ١٥). ولكن بعض الظواهر، مثل الوجود (أي وجود شيء ما) لا بد أن
تكشف عن أنفسها لنا، وهو ما يقطع بأننا نتمتع بقوة الحدس، وهي قوة حاسمة، والمقصود بصفة
الحسم هو الأبنية الأساسية التي تشكل تلاقينا مع الأشياء، أو أنساق هذا التلاقي، وهو
ما
يفتح الباب لإمكان فحص الوجود، أي وجود الأشياء، باعتباره ظاهرة، ويقول هايديجر في هذا
الصدد: «يقوم [الوعي] بمهامَّ معينةٍ تؤدي إلى أن تُظْهِرَ المقومات الرئيسية [مثل
الوجود] نفسها كما هي في الحقيقة، فهي [مقومات رئيسية] وليست من ثمار نشاط الوعي، بل
من
وظائف التفكير أو من وظائف الذات» (تاريخ مفهوم الزمن، ص٧١).
تأثير الحرب
وعلى الرغم من الاختلاف الشديد بين ديلثي وهوسرل؛ بل وتضاد موقفيهما من قضية التاريخ
تحديدًا، فإن هايديجر قد تأثر بهما معًا، وإن كان قد انحاز إلى ديلثي فيها، ويقول بعض
الشراح إنه قد مزج بين موقفيهما، إذ جمع في فلسفته التي بدأت تتشكل بين الدقة المنهجية
عند هوسرل وإحساس ديلثي العميق بالوجود المجسد، وهو ما أدى بهايديجر إلى وضع مذهب
ظاهراتيٍّ للحياة التاريخية، وبذلك انتهى عهد إيمانه «بالمنطق»، وانطلاقًا من أن
الحقيقة النظرية لا تشغل إلا مكانة ثانوية بالقياس إلى انفتاحنا غير النظري على كل كائن،
أي على الوجود، وأظن ظنًّا أن انتهاء الحرب العالمية الأولى جعله يزداد إيمانًا بوقائع
الحياة والتاريخ، فالحرب كانت أهوالًا تستعصي على المنطق، ولم يكن وحده الذي تأثر بما
رآه رأي العين، ولدينا في الأدب أدلة على ما أحدثته من تأثير في الشعراء والكتاب، وأما
المفكرون الذين يتعاملون بالمجردات فقد سخِرت الحرب منهم سخرية مريرة.
ولا أظنني مبالغًا إذا رأيت آثار الحرب في كل مكان، حتى في مصر التي كان بعض مفكريها
يحترمون الفكر الغربي والقيم الإنسانية التي درجوا على نسبتها إلى كبار مفكري الغرب،
بل
لا أظنني أتعسف إن ربطت بين الثورة المصرية عام ١٩١٩م ومحاضرة هايديجر التي ألقاها في
العام نفسه بعنوان «فكرة الفلسفة ومشكلة صور العالم»، فروح الثورة فيهما واحدة، وهي
تدعو إلى «إعادة النظر» في مفاهيمنا للدنيا والوجود البشري. لقد انتفى وجود الملايين،
وأُريقت الدماء بغير حساب، وهو عامل لا بد أن يكون من وراء موقف الفيلسوف الذي يؤمن
بالأرض وبالعمل الإنساني الشاق وبالطبيعة، كما ذكرت آنفًا، ثم إذا هو يثور على ما يؤمن
به ويقول في تلك المحاضرة: «لقد قيل يومًا ما: إن المنطق هو نظرية النظرية. هل يوجد مثل
هذا الشيء؟ أفلا يمكن أن يكون وهمًا من الأوهام؟» ومن أهم ما هاجمه في هذه المحاضرة وما
تلاها فكرة الصواب أو «الصحة» (validity) والكلمة
الألمانية التي يستعملها وتترجم عادة بالصحة هي
Geltung التي تعني أيضًا «القيمة» والمنزلة
العليا (من الفعل gelten أي أن يكون ذا قيمة أو جدارة)،
وهي التي كان يقول: إنها تتمتع بوجود من نوع خاص. وكلمة «الصحة» لم تكن تفيد صواب
المقولة أو اتساقها المنطقي، بل كانت تعني عنده أسلوبًا لا زمنيًّا للوجود، ينبغي
التمييز بينه وبين «وجودنا» نحن المرتبط بالزمن، أو كلامنا وأفكارنا والموضوعات التي
نناقشها، كما يقول في كتاباته المبكرة. فها هو ذا يتنكر لهذه الفكرة ويقول: إنه أصبح
يعتقد أن التوصل إلى فهم الوجود الإنساني الحق لا يتحقق بالنظريات والحدس؛ بل بالاستناد
إلى الخبرة العملية التي تهم الفرد باعتباره فردًا في حياته، وتشكل جانبًا من هذه
الحياة، وكما يقول في تعليقه على كتاب كارل ياسبرز (Jaspers)سيكلوجية صور العالم (١٩١٩–١٩٢١م) نجده مهتمًّا «بالنفس
الكاملة الملموسة القائمة على الحقائقية التاريخية، والتي تستطيع الوصول إلى ذاتها في
خبرتها العملية التاريخية بذاتها» (ترجمة ج. فان بورن، في كتاب من تحرير و. ماكنيل،
بعنوان مسارات، ١٩٩٨م، ص٢٦).
أفلا نستنبط من هذا التحول في نظرة هايديجر تأثره بما شاهده ورآه رأي العين من خبرة
بالحرب التي أصبح يشير إليها باسم الخبرة المعاشة
(
Erlebnis)؟ أفلا نلمس حين نستعرض أقواله في
العشرينيات (خصوصًا في محاضراته التي كان يلقيها بحماس بالغ وبحذق في صوغ الأسئلة
والأسئلة المضادة) محاولة صرف الطلاب عن طلب الإجابات الجاهزة والأسئلة النظرية
التقليدية؟ أفلم يكن يدعو إلى التركيز على الخبرة المعاشة، بل وتحاشي عودة ظهور التشيؤ،
أي معاملة المادة الإنسانية النابعة من الخبرة معاملة الأشياء، ومن ثم بناء نظريات
عليها، وهو ما أثبتت الحياة فشله؟ بل لقد وضع في سبيل ذلك مفهومًا لمدخلٍ أطلق عليه اسم
المؤشر الصوري أو الإشارة الصورية
(formal indication)
وكان يعني به أن نخطو بحذر شديد من أجل العثور على الموقف الصحيح
(
Ansatz) لشرح ظاهرة من الظواهر، أو الطابع الخاص
لخبراتنا المعاشة وإحساسنا الخاص بها، فالمؤشر الصوري يقنع بالإشارة في تواضع إلى
الاتجاه أو الطريق المؤدي إلى فهم تلك الظاهرة أو تحليلها، من دون تقديم حكم سابق على
النتيجة أو مصادرة إمكان تصحيح فهمنا إياها أو تحليلها في المستقبل. ويقول إنجو فارين
(Ingo Farin): إن «أفضل سبيل إلى فهم معظم المصطلحات
التقنية التي يستخدمها هايديجر، حتى ما يرد منها في أعماله الأخيرة، هو اعتبارها مؤشرات
صورية، وهي على سبيل المثال: الحضور (
Dasein)،
والحقائقية
(facticity) والعالم/الدنيا
(world) والهَمُّ
(care) والموت
(death) وهلم
جَرًّا» («هايديجر، التحول الهرمانيوطيقي» في
موسوعة رتلدج للهرمانيوطيقا ٢٠١٥م، ص١٠٩)،
ولا يحتاج القارئ إلى عميق معرفة باللغة الألمانية حتى يحدس أن كلمة
Erlebnis التي ترجمتُها كما ترجمها الباحثون
الناطقون بالإنجليزية إلى الخبرة المعاشة (
lived
experience) تختلف في الدلالة عن كلمة
Erfahrung التي نترجمها عادة «بالخبرة» وحسب، وقد
يلجأ الدارس إلى المعاجم فلا يجد ضالته، فالمعاجم الألمانية إما توازي بينهما (إن كانت
موجزة) وإما تتوسع في الشرح توسعًا يؤدي إلى حيرة الدارس لا هدايته، ولذلك اعتمدت
الباحثة بياتا سيروي
(Beata Sirowy) على ما كتبه
جادامر وما يقوله مفسروه للتمييز بين الكلمتين. تقول سيروي:
وهذا النمط من الخبرة [أي بالأعمال الفنية] يشير إليه جادامر بكلمة
Erfahrung [التي تفيد الدُّربة أيضًا]
مقابلًا بينه وبين مفهوم Erlebnis الذي يشير
إلى نوع الخبرة التي يُعَرَّفُ بها علم الجمال الحديث. وأما
Erleben فتعني في المقام الأول «أن يظل
المرء في قيد الحياة عندما يحدث شيء ما» ومن ثم فإن كلمة
Erlebnis توحي «بالحضورية (immediacy) التي تصف إدراك شيء حقيقي على
الفور»، فهي خبرة فردية مؤقتة معزولة (جادامر، الحقيقة والمنهج، ٢٠٠٤م، ص٥٣) وأما
كلمة Erfahrung فتستخدم للدلالة على الخبرة
المتواصلة التراكمية …
(«الهرمانيوطيقا وعلم الجمال والفنون» في موسوعة رتلدج للهرمانيوطيقا،
٢٠١٥م، ص٥٣٣)
ويقول بولت: إن «المؤشرات الصورية» لا تقدم جوهر أي شيء ولا تشرحه شرحًا نظريًّا
كامل
الوضوح، فهي مفاهيم تُحِيلُنا إلى ظاهرة من ظواهر حياتنا وتشجعنا على أن نعيش بأسلوب
يُمكِّنُنَا من أن نلتفت إليها التفاتًا أكبر. (هايديجر، مقدمة، ١٩٩٩م ص١٨)، ويضرب بولت
مثالًا على المؤشر الصوري بقول هايديجر في عام ١٩١٩م: «لما كنت أعيش في بيئة معينة، فإنها
تعني لي الشمول والديمومة، فهي كل العالم في نظري، و«تُعَوْلمُنِي» …»، ويقول بولت: إن
مستمعي هايديجر صدمهم هذا التعبير (es weltet)
بالألمانية [it worlds] أو [it's
worlding] بالإنجليزية، مُضِيفًا: «ولكن ماذا يعني ذلك؟ الواضح
أنها ليست مقولة علمية، والواضح أيضًا أنها لا تشرح شيئًا. ولكنها محاولة للإشارة إلى
شيء ذي جذور أساسية أعمق من جذور العلم، تتمثل في الحقيقة المجردة لاكتشافنا أننا نعيش
في عالم له معنى» (ص١٨)، والملاحظ أن الفعل العربي «يُعَوْلِمُ» والاسم منه
«العَوْلَمة» من المصطلحات التي سُكَّتْ أخيرًا، وشاعت بعد عام ١٩٩٤م، (عام إنشاء منظمة
التجارة العالمية)، للدلالة على شيء لا يقصده هايديجر، أي نشر شيء في العالم كله،
وتطبيق بعض المبادئ والشروط على كل من في العالم، أي (to globalize,
globalization) وأما هايديجر فيعني أن العالم يَدْهَمُ الإنسان
ويجرفه في مساره رغم أنفه (انظر حواشي المعجم في آخر الكتاب).
ترانا نبالغ إذا ربطنا بين هذا المفهوم «النظري» وبين أصوله في الخبرة المعاشة عند
هايديجر، أي خبرة الحرب العالمية الأولى التي دَهَمَت العالم، وعالم هايديجر على وجه
الخصوص؟ إن تلاميذه يروون أسلوب إلقائه محاضراته في العشرينيات قائلين: إنها ملتهبة
العاطفة (passionate) وكلمة
(passion) ونظيرتها الألمانية في هذا السياق
(Leidenschaft) ترتبطان بالشدة والمعاناة، بل
وتحملان ظلالًا من آلام المسيح عليه السلام، خصوصًا تاريخ معاناته (Leidensgeschichte) التي صورها القديس مَتَّى،
وكتب لها باخ موسيقاه المشهورة. والمعروف أن هايديجر كان ذا حساسية عالية، وكان لا يكتم
انفعاله؛ بل يبثه في دفقات أسئلته المتوالية، فهو يمثل انصهار الفكر في العاطفة أو
التوحد بينهما، وهو ما كان يجده في شعر هولدرلين (Holderlin) ونجده نحن، دارسي الأدب الإنجليزي، عند وردزورث وشلي،
فللأول تعبير يمثل ذلك بدقة وهو «القلب
المفكر» (thinking heart)، وللثاني عبارة مماثلة feeling
intellect أي الذهن الشاعر، أو الذي يحس ويشعر، وأعتقد أن ذلك يصف
حال هايديجر، خصوصًا في منتصف العشرينيات أثناء انشغاله بالأفكار والمشاعر التي أدت إلى
وضع كتابه الرائع الوجود والزمن، ومن ثم فأنا أقبل وصف سكروتون إياه بالشاعر، وأعيد
ترجيحي بأن هذه الفترة المشحونة بالانفعالات كان وراءها ضيقه بما آل إليه العالم،
وخصوصًا عالمه في ألمانيا، وكان تفريج توتره يظهر في محاضراته.
وأعتقد أن ذلك كان — إلى حد كبير — من وراء «غرابة» أسلوبه، فكما سوف نرى عند عرض
آرائه
في الأدب والفن، وفي فن الشعر خصوصًا، كان هايديجر يعلي من قدر الشعراء لعدة أسباب ليس
بأهونها أنهم يقدمون رؤاهم الخاصة بأساليب لغوية غير مألوفة، والذي يختص به هايديجر هو
أنه كان يجعل من حياته اليومية في الجامعة — تدريسًا وسلوكًا — مثالًا حيًّا للثورة على
المألوف، ويقول الفيلسوف الألماني كارل
لوفيث
(Karl Löwith) في الكتاب الذي كتبه عام ١٩٣٩م، أثناء وجوده في المنفى في
اليابان، ولم يُنشر في ألمانيا إلا عام ١٩٨٦م، وكان من تلاميذ هايديجر:
كنا نطلق كُنْيَةً على هايديجر فسميناه «الساحر الصغير ابن مدينة ميسكيرش» …
كان أسلوبه في المحاضرات يتكون من بناء صرح من الأفكار ثم القيام بنفسه بهدمها
حتى يتسبب في حيرة سامعيه المبهورين، ثم لا يأتيهم بالاطمئنان بل يتركهم ما بين
الأرض والسماء. وكان فن السحر المذكور أحيانًا ما تكون له آثار مقلقة ومؤسفة،
إذ كان يجتذب بعض المرضى النفسيين، أو أصحاب الشخصية المضطربة، حتى إن إحدى
الطالبات انتحرت بعد استغراقها لمدة ثلاث سنوات في محاولة حدس إجابات
لأسئلته.
(لوفيث، حياتي في ألمانيا قبل عام ١٩٣٣ وبعده، ص٤٤–٤٥، مقتطف في بولت،
ص٢٠)
وكانت الكاتبة هَنَّا أرنت (Hannah Arendt) قد
استمعت إلى هايديجر للمرة الأولى وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت تتمتع بموهبة
واضحة، وشعرت بسحر شخصيته، فكتبت فيما بعد دراسة عنه بمناسبة بلوغه الثمانين من عمره
(نُشرت في كتابٍ عنوانه هايديجر والفلسفة الحديثة، من تحرير م. مَرِي، عام ١٩٧٨م) تقول
فيها: «كنا قد اعتدنا التعارض القديم بين العقل والعاطفة، وبين الروح والحياة، ولكن ما
شاهدناه من اجتماع الفكر بالعاطفة أو التفكير الزاخر بالمشاعر، أذهلنا وسحرنا» (ص٢٩٧)،
والذي حدث على المستوى الواقعي أن العاطفة الجياشة لم تقتصر على الفكر الذي ربط بين فكر
الطالبة المجتهدة وفكر أستاذها، بل تعدى ذلك إلى تقارب عاطفي شديد عام ١٩٢٥م، واستمرت
وقدة الغرام حتى عام ١٩٣٠م، ثم ابتعدت أَرِنْت عن هايديجر اعتراضًا على قبوله في عام
١٩٣٣–١٩٣٤م منصب رئيس جامعة فرايبورج ممثلًا للحزب النازي. ولكنهما استأنفا صداقتهما
بعد
الحرب، كما بذلت أرنت جهودًا جبارة في سبيل نشر مؤلفات هايديجر المترجمة إلى الإنجليزية
في أمريكا. ولا شك أن مذهبها الفلسفي يكشف عن تأثرها بفكر هايديجر.
نحو كتاب الوجود والزمن
لم ينشر هايديجر شيئًا ما بين عام ١٩١٦م — حين نشر أطروحة تعيينه
(Habilitationsschrift) في الجامعة — وعام ١٩٢٧م عام
نشر الوجود والزمن، وكان كما ذكرنا آنفًا يلقي محاضراته المثيرة بانتظام، ويكتب كل
محاضرة بدقةِ مَنْ يعتزم أن ينشرها، إلى جانب «مذكرات» تعتبر من قبيل «فيض الخاطر»،
ويجد فيها الباحث بذور مذهبه الذي وصل إلى مرحلة النضج في الوجود والزمن. وقد اكتُشف في
مطلع التسعينيات مخطوطُ مقالٍ بعنوان «تفسيرات ظاهراتية فيما يتعلق بأرسطو: إرهاصٌ
بحالة هرمانيوطيقية»، وترجمه م. باور (M. Baur) ونشره
باعتباره الفصل الخامس والعشرين من كتاب الإنسان والعالم، عام ١٩٩٢م، ص٣٥٥–٣٩٣، وكان
هايديجر يعتزم أن يجعله مقدمة لكتاب ينشره في المستقبل ويقدم فيه قراءة ظاهراتية
لأرسطو. ولكن هذا المقال لم يكن يعالج الفكر الأرسطي في المقام الأول؛ بل يمثل مدخل
هايديجر الخاص «لحال الإنسان»، أو ما شاع لدينا في الوطن العربي في الستينيات باسم «أزمة
الإنسان المعاصر»، وأرسل هايديجر هذا المقال إلى بول
ناتورب (Paul Natorp) (١٨٥٤–١٩٢٤م) الأستاذ في جامعة ماربورج، والذي كان داعية
للكانطية الجديدة، عام ١٩٢٣م، واستنادًا إلى جودة المقال وأصالته العلمية وحدها عُيِّن
هايديجر محاضرًا في تلك الجامعة في العام نفسه. وتدلنا هذه «الوثيقة» على أن قراءة
هايديجر للفلسفة القديمة — أو بالأحرى إعادة قراءتها وإعادة تفسيرها — نهضت بدور بالغ
الأهمية في تطوره الفكري، وأظن أننا ينبغي ألا ننسى قط أن تاريخ الفلسفة والفكر المنهجي
كانا يتضافران في تشكيل مذهبه الفلسفي الخاص، وأما النص نفسه فهو معقد وثقيل الوطأة
بسبب امتلائه بمصطلحات «الحرفة»، وأما سبب اهتمامنا به في هذا الكتاب فهو أنه يقدم
للمرة الأولى عددًا من الأفكار الرئيسية التي نصادفها في الوجود والزمن، ومن بينها
التمييز البالغ الدلالة بين الوجود الأصيل (authentic)
والوجود غير الأصيل (inauthentic) إلى جانب مشروع
هايديجر الخاص لتقويض تاريخ الميتافيزيقا ونقضه. ومن أهم معالم هذه الفترة أيضًا محاضرة
بعنوان «مفهوم الزمن» (١٩٢٤م) وهي التي صدرت في طبعة ثنائية اللغة في عام ١٩٩٢م، وكان
مترجمها هو و. ماكنيل (W. McNeill). ولنلقِ الآن نظرة
«من الخارج» على كتاب الوجود والزمن قبل تقديم بعض نصوصه مترجمة إلى العربية والتعليق
بإيجاز عليها.
يقول ثيودور كيزيل، المشار إليه آنفًا، في كتابه المرجعي نشأة الوجود والزمن لهايديجر
(١٩٩٣م): إننا نستطيع أن نتبين ثلاث مراحل منفصلة لتأليف كتاب الوجود والزمن، وتمتزج هذه
المراحل الثلاث امتزاجًا مُحْكَمًا في الكتاب المنشور، حتى ما نكاد نميز فيه مرحلة عن
أخرى، إذ كانت الجهود الأولى التي بذلها هايديجر تركز على الطابع التاريخي للوجود
الإنساني، ومن الطبيعي أن يستند استنادًا شبه كامل إلى أفكار ديلثي. وكانت المسودة
الثانية للكتاب توجه النص إلى مسألة الوجود بصفة عامة، ويركز فيها هايديجر على الفكر
الظاهراتي الذي قدمه أستاذه هوسرل، ونذكر بالمناسبة أن هذه المسودة كانت محاضرة ألقاها
هايديجر في سلسلة محاضراته عن تاريخ مفهوم الزمن. وأما المسودة الثالثة التي تركز على
الزمن فيبدو فيها تأثير كانط واضحًا، إذ كان هايديجر منكبًّا على دراسة كتاب كانط نقد
العقل الخالص. وعلى الرغم من أن هايديجر كثيرًا ما يوصف بأنه وجودي، فإن معظم مصطلحات
«الوجودية» لم تظهر في هذا الكتاب إلا في مسودته الأخيرة. والواقع أن الفلسفة الوجودية
(existenzphilosophie) كانت قد بدأت
الانتشار في ألمانيا منذ أن نشر صديقه كارل ياسبرز كتابه سيكلوجية صور العالم عام ١٩١٩م،
ولكن هايديجر كان دائمًا عازفًا عن الارتباط بذلك التوجه.
ويقول بولت: إن شعار «النشر أو القبر» أي (Publish or
Perish) كان ينطبق على ألمانيا في العشرينيات مثلما ينطبق على كل
بلدان العالم هذه الأيام، فالنشر وسيلة الترقي في المناصب الجامعية؛ بل الحصول عليها
أيضًا، ويقول ديفيد جورج في كتابه عن إحدى مسرحيات شيكسبير: إن صناعة النشر ازدهرت بفضل
القوانين الأكاديمية غير المكتوبة، والتي لا تعترف بجدارة باحث مهما علا كعبه إلا إذا
كانت له أبحاث أو كتب منشورة، ومن ثم ابتُدِعَتْ موضوعاتٌ شتى ومداخلُ معقدةٌ، أو على
الأقل مركَّبة، حتى تتيح للطامحين إلى الترقي أن يكتبوا فيها وينالوا رضى الجماعة
العلمية، أو ما نسميه «المجتمع
العلمي» (academic
community)، في كل تخصص على حدة، وكان هايديجر يواجه ضغوطًا هائلة حتى
ينشر شيئًا في العشرينيات، ومن ثم عقد العزم على إجابة طلب جامعة ماربورج بنشر كتاب حتى
يُعَيَّنَ أستاذًا، وتمكن في مارس ١٩٢٦م من كتابة معظم القسمين الأولين من الجزء الأول
من كتابه الذي كان يعتزم تأليفه في جزأين، بحيث يتكون كل منهما من ثلاثة أقسام. وخلال
التفاوض بين مسئولي الجامعة الذين كانوا يريدون تعيينه ورفض الجهاز الحكومي في برلين
(يوازي وزارة التعليم العالي عندنا) إجابتها لما تطلب بسبب قلة منشوراته؛ تمكن هايديجر
من استكمال بعض أجزاء الوجود والزمن في إبريل ١٩٢٧م ونشرت في الكتاب السنوي للبحوث
الفلسفية والظاهراتية من تحرير هوسرل، كما طبعت وحدها.
وذاع صيت هايديجر بعد نشر الكتاب، واستدعته جامعة فرايبورج ليعود ويشغل كرسي
الأستاذية الذي كان هوسرل يشغله قبل أن يتقاعد، في عام ١٩٢٨م. ومن الطريف أن نشر الكتاب
الذي لم تكتمل كتابته حقق له سمعة دولية، وأدى إلى تثبيت مكانته العلمية بين عشية
وضحاها.