أقول أولًا: إن النص المترجم عن الألمانية، والذي ترجمتُه هنا من الإنجليزية إلى العربية،
مشتركٌ بين الترجمتين المتاحتين؛ فالترجمة الأولى صدرت عام ١٩٦٢م، والثانية صدرت عام
٢٠١٠م،
وكلاهما موثوق بدقته البالغة (انظر الببليوغرافيا)، ومن ثم فقد اطمأن قلبي إلى صدقه أو
«دقته» وفق المصطلح المستخدم في مبحث دراسات الترجمة. ولما كانت ترجمتي تحافظ بدقة على
معاني الألفاظ مهما تبلغ غرابتها، فلا بد أن يجد القارئ غرابة في النص منذ الجملة الأولى،
فهي لا تقول: إن للإنسان حضورًا؛ بل إنه هو نفسه «حضور»، ويقول «راذول»: إن هايدجر ابتدع
هذا
المصطلح (انظر تحليل الترجمة العربية له في الفصل الأول) للدلالة على شيء يميز الإنسان
تمييزًا أصدق من قولنا: إنه «ذات» أو «حيوان عاقل»؛ لأنه يشير إلى «حضوره» وسط أشياء
وأشخاص
وأنشطة وأهداف، فالحضور يعني الوجود في صحبة بشر أو داخل جماعة أو
شهود حدث، وفي التنزيل:
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ (النساء: ٨). أي إن المعنى يفترض
دائمًا وجود أشياء أخرى أو بشر آخرين، ولكن هايديجر يحدد طبيعة هذا الحضور باستخدام كلمة
«سلوك» (
to comport, comportment) وهي كلمة غريبة في
السياق، ولكنها لازمة للإفصاح عن العلاقة بين المرء وما حوله ومن حوله، وهي العلاقة التي
تجعله حضورًا؛ فكيف يكون ذلك؟ إن كلمة السلوك تعني أسلوب عمل شيء ما (أو شخص ما) تجاه
شيء
ما (أو شخص ما) تجاه شيء آخر أو شخص آخر أو أشخاص أُخر، وأسلوب العمل تفرضه طبيعة الشيء
أو
الشخص، ومن ثم تنشأ العلاقة بينه وبين غيره، فلقد درجنا على تصور أن كيان الشيء مادي،
بل
وتصور أن الإنسان ذو وجود ماديٌّ أولًا وقبل كل شيء، ولكن هايديجر يقول: إن الطابع المادي
للأشياء والبشر نوع واحد فقط من الوجود. (
الوجود والزمن ص١٢٢–١٢٥)، فالعبرة بما تعنيه
الكيانات لبعضها البعض، فاللهب كيان، ولكن له معان متعددة للأشياء والأشخاص، وكيان النار
يعتمد على «سلوك» النار؛ إما للتدفئة، وإما للطهي، وإما للتطهير، وإما للإحراق، وهي ما
يعتبرها
هايديجر «طرائق وجود»
(modes of
being) وهو
التعبير الذي كان وردزورث أول من ابتدعه، عندما أحس (بعد أن سرق القارب في قصيدته
المقدمة)
بوجود كائنات ذوات «أشكال وجود مجهولة» تتبعه أو تطارده، ويقول: إنها (
unknown
modes of being). وهايديجر يؤكد تعدد معاني الوجود الذي يسميه
الحضور
لهذا السبب. وذلك وفقًا لما يعنيه بالتركيب اللغوي الخاص، وهو «الوجود-في-العالم»، أي
العلاقات القائمة بين الإنسان وما حوله ومن حوله، وهو ما لا يدركه إلا
الإنسان، فالإنسان
وحده هو الذي يستطيع أن يتصور حضوره وسط الأشياء والناس بسبب الروابط التي ذكرت أنها
العلاقات النابعة من «سلوك» كل شيء وكل إنسان وفق طبيعته. ويقول هايديجر إن الشيء لا
يوجد
إلا حين تكون طريقة وجوده إحدى الصور المتعددة التي نتوقع أن يتخذها وجوده، أو قل: يجب
أن
يتخذها وجوده. ويقول راذول:
كان لهذه الفكرة الخاصة عن الوجود تأثير عميق في الحركة الوجودية الفرنسية، كما
كانت مصدر إلهام مباشر للشعار الذي رفعه سارتر، وهو: «إن الوجود يسبق الجوهر». وكان
هذا الشعار يمثل أسلوب سارتر في التعبير عن الفكرة التي تقول بعدم وجود طريقة
مثالية ثابتة مطلقة لكون الإنسان إنسانًا.
(راذول، كيف تقرأ هايديجر، ٢٠١١م، ص١٣)