الفصل الرابع
الانتماء إلى العالم
يقول هايديجر:
إن أي فهم للوجود ينتمي إلى الحضور [ويعتمد عليه]، وكل نوع من أنواع الفهم [Verständnis] يتخذ صورة فعلٍ هو فعل الفهم
[Verstehen]. فإذا كان «الوجود-في-العالم» نوعًا من
الوجود الملائم في جوهره للحضور، فإن فهم «الوجود-في-العالم» ينتمي أساسًا إلى مضمون
فهمه للوجود. وإذا كان لا بد من الكشف مقدمًا عن الشيء الذي نلاقي من أجله ما يوجد «داخل-
العالم» حتى يتحرر وينطلق، فإن ذلك الشيء لا يمكن أن يقل عن فهم العالم، فهو العالم الذي
يتوجه الحضور بسلوكه — باعتباره كيانًا — نحوه.
كلما سمحنا لأنفسنا بالاشتباك مع شيء في شيء آخر مقدمًا، فلا بد أن يستند فعلنا هذا إلى
أساس فهمنا لمثل هذه الأشياء، أي السماح لشيء بالاشتباك، وللأشياء التي يشتبك معها،
والأشياء التي يشتبك فيها. أي إنه يجب الكشف مقدمًا، بقدر معين من إمكان الفهم [Verständlichkeit]، لأي شيء من هذا القبيل، وأي شيء
يمثل عنصرًا أساسيًّا فيه، كأن يكون «موجهًا نحوه»، أي نحو ما سوف يشتبك به، أو أن يكون
فعله «من أجل ذلك»، وهو الذي يبرر «التوجه نحو» ذلك الشيء أصلًا. وما هو الشيء الذي يفهم
الحضور فيه نفسه باعتباره «وجودًا-في-العالم» أي يفهم نفسه أنطولوجيا؟ ففي مجال فهم
سياق معين للعلاقات، مثل الذي ذكرناه آنفًا، نجد أن الحضور يحدد لنفسه غاية، نعبر عنها
بعبارة «من أجل» [Um-zu] وأنه يفعل ذلك من أجل تحقيق
إمكانية وجود يراها هدفًا لكيانه، وهي إمكانية ربما يكون قد ظفر بها صراحة أو ضمنًا،
وقد
تكون أصيلة أو غير أصيلة. وهذه الغاية تفرض «صورة التوجه» باعتبارها وسيلة يستطيع بها
السماح باشتباك شيء مع شيء من الأشياء، وبناء هذه الوسيلة المستخدمة في الاشتباك يوحي
بأنه
اشتباك في طوق شيء ما، وأنه اشتباك مع شيء ما. ودائمًا ما يتولى الحضور مهمة الانتقال
من
«الغاية» إلى «الوسيلة» الخاصة بالاشتباك، أو بعبارة أخرى، نقول: إنه في حدود طبيعة وجوده
دائمًا ما يسمح بالتلاقي مع الكيانات باعتبارها «جاهزة». وأما ما يفهم الحضور نفسه في
داخله
[Worin] مقدمًا أثناء طريقة تحديده لمهمته المذكورة فهو
الغاية التي من أجلها [Woraufhin] يسمح للكيانات باللقاء
مقدمًا. ففي داخل فعل الفهم الذي يحدد ذاته أو يحيلها إلى غيرها، يوجد السبب من وراء السماح
بلقاء الكيانات في نوع الوجود الذي ينتمي إلى الاشتباكات. وهذا الداخل هو مظهر العالم، وأما
بناء المهمة التي يكلف الحضور ذاته بها، فهو يشكل الخصيصة التي تجعل العالم عالمًا.
وأما الذي يفهم الحضور نفسه سلفًا فيه بهذه الطريقة فهو شيء مألوف منذ الأزل. ولا تقتضي هذه الألفة بالعالم، بالضرورة، أن تكون العلاقات التي تشكِّل العالم باعتباره عالمًا علاقات شفافة من الناحية النظرية.
(الوجود والزمن، ص١١٨–١١٩)
لا شك أن القارئ الذي استطاع أن يصبر على أسلوب هايديجر (الغامض عمدًا) فوصل إلى
نهاية
الفقرتين اللتين يُعَرِّفُ الفيلسوف فيهما مفهومه للعالم، أو للدنيا إن شئنا الوضوح حقًّا،
لا شك أنه لن يظفر بمعنى جدير بإعادة الصوغ بوضوح ولو دون سلالة! فالمترجمان الإنجليزيان
في
ترجمة ١٩٦٢م، والمترجمة الإنجليزية في ترجمة ٢٠١٠م، يلتزمون جميعًا بأسلوب هايديجر التزامهم
بنص مقدس، بمعنى أنهم يبتعدون ابتعادًا شبه كامل عن التفسير (ولو في حدود المسموح به)
ويلتزمون بالأبنية اللغوية في النص الأصلي، مهما تكن غريبة وعادة ما يستبدل المترجمون
بها
في نصوص أخرى أبنية اصطلاحية أصيلة في الإنجليزية. وهم يلتزمون أيضًا باستخدام ألفاظ
عامة
وغير محددة، مثل «شيء» التي ترد في النص نحو عشرين مرة، وكلمة اشتباك (involvement) التي تظهر في ترجمة أخرى في صورة أخرى هي
engagement وهذه وتلك من الألفاظ التي تبيح التأويل؛
ولكن الأهم من هذا هو التجريد الشديد الذي يصطبغ به النص، وخصوصًا استعمال «الحضور» بديلًا
عن «الوجود» أو مرادفًا له، بل وللدلالة على ما هو أصدق وأوضح، أي المرء أو الإنسان.
فكأنما
يريدنا هايديجر أن نتصور أن المقصود بكلامه هو الإنسان الواعي بوجوده فقط، ومن ثم بحضوره
في
هذا العالم، أو هذه الدنيا.
ما خلاصة ما يقوله هايديجر في هاتين الفقرتين الرئيسيتين في الوجود والزمن؟ الخلاصة —
وأعترف بأنني توصلت إليها مستعينًا بشرح الشراح وقراءة ما سبقها وما تلاها في الكتاب
— تقول:
إن الوجود الحق للإنسان يقوم على فهم علائقه بدنياه، وإن هذا الفهم ليس نظريًّا؛ بل عمليًّا،
بمعنى أن المرء لا يستطيع تحقيقه إلا بالانغماس فعليًّا في الدنيا، بمعنى القيام بأعمال
تتيح له أن يفهم معاني الأشياء التي «يشتبك» معها في حياته اليومية سلفًا، أي إن فهم المرء
للكتاب مثلًا لا بد أن يقوم على فهم سابق لوظيفة الكتاب، وإن التعامل مع الكتاب بهذه
الصفة
يعين الإنسان على إدراك جانب من جوانب وجوده في العالم، أي انتمائه إلى عالم يضم الكتب
والكتابة والقراءة وما إلى ذلك من صفات مألوفة نراها في عالم الكتب. وإذن فنحن نتكلم
عن
دور الفهم في الوعي بوجود العالم، ومن ثم بمعنى الحضور في هذا العالم، أي بوجود الإنسان
الواعي بوجوده وعلاقة وجوده بعالمه (دنياه) وبالعالم أو الدنيا. وما دمنا ضربنا المثل
بالكتاب فلنا أن نطبق نظرة هايديجر إلى العالم مستعينين بهذا المثل: من لا يعرف القراءة
ولا
الكتابة لن يستطيع أن يقوم «بفعل» تجاه الكتاب (towards …)
يكشف له عن حقيقة وجوده، ولن يستطيع أن يجعل الكتاب «يقوم بمهمة» هذا الكشف، وقد يفعل
بالكتاب ما يفعله من يستخدم الورق في أغراض لا علاقة لها بما في الكتاب من كلام، ولذلك
يقول
هايديجر إن: «الفعل» قد يكون أصيلًا أو «غير أصيل»
(authentic/inauthentic) وصريحًا أو ضمنيًّا
(explicit/tacit) فالذي يستخدم أوراق الكتاب في لف
البضائع، أو في إشعال موقد وما يشبه ذلك من أغراض، يفعل فعلًا غير أصيل، ولو أنه صريح، ولكن
الذي يستخدم الكتاب فيما جُعل له ذو وجود أصيل؛ لأن علاقته بالكتاب تربط ضمنًا بين الغاية
والوسيلة، فالكتاب في الحالين وسيلة، ولكن الوسيلة في الحالة الأولى لا تحقق الغاية من
وجود
الكتاب أصلًا أي الغاية التي جُعل الكتاب «من أجلها». وخلاصة الخلاصة أن لكل إنسان عالمًا
خاصًّا به، فإذا نجح المرء بأفعاله في فهم معاني وجود الأشياء في عالمه أصبح يعي حضوره
الحقيقي «معها» و«بها» واستطاع أن يواجه وجوده مواجهة من يدرك «وجوده-في-العالم» أي
انتماءه إلى عالمه، ومن ثم إلى العالم الكبير.
العلاقة مع العالم
ومثلما قلت: إننا نتكلم عن دور الفهم في الوعي بوجود العالم، ومن ثم بمعنى الحضور
في
هذا العالم، فنحن نتكلم في الواقع عن العلاقة أو العلاقات بين الإنسان والعالم، وليس
هدف هذا الفيلسوف أن يشارك علماء الاجتماع أو علماء النفس محاولاتهم لتصنيف العلاقات
فيما بين البشر، وبين البشر وبين العالم؛ ولكنه ينظر نظرة أعم إلى الإنسان، أظن أن
الفيلسوف المعاصر مايكل واطس أوفاها حقها، وسأنتقي من شرحه المفصل المطول فقرتين أو
ثلاثًا لتأكيد ما أجملته أعلاه. يقول واطس:
يقول تصور هايديجر للحضور: إنه «الوجود في مكانٍ ما» وهذا المكان يشير إلى
العالم. ولكن «العالم» بالدلالة التي نجدها عنده ليست المكان المادي [الفيزيقي]
بل هي سياق من المعنى، مجال من الإمكانيات التي يسكنها الفهم الفعَّال من جانب
الحضور، وهو يتجلى في إدراك كُلِّ واعٍ بوجوده. أي أن يدرك ماذا عليه أن يفعل،
ولماذا يُعتبر فعلُه مقبولًا منطقيًّا. واستعمال هايديجر لكلمة «العالم» بهذا
المعنى، أي باعتباره إمكانيات منوعة، يشير إلى الظروف أو السياق الذي يؤثر في
الوجود الكلي للحضور، فهو «المكان الذي نقول: إن الحضور الحقائقي [factical] «يعيش» فيه» (وهو ما يسميه هوسرل
«عالم الحياة»).
(واطس، فلسفة هايديجر، ٢٠١١م، ص٤٤)
ويقول واطس: إن عالم الحياة المذكور يتضمن بلد الإنسان، وثقافته وبيئته وتعليمه وأسرته
وأصدقاءه وعمله، وطرائق التسرية والترفيه المتاحة له؛ فالمحامي لديه عالم من طرائق
تنظيم حياته من حيث مهام عمله، والأدوار الاجتماعية والاهتمامات الشخصية وأوقات الفراغ
وكونه أبًا أو زوجًا، وهلم جرًّا، وقس على ذلك حياة رجل الأعمال وانشغاله بأعماله، أو
حياة الأكاديمي وغيره ما دام إنسانًا يتمتع بالوعي بعالمه والطرائق التي يفتحها له
العالم، ويسميها هايديجر «الإمكانيات» التي يتيحها الوجود لكل واع به أي بالحضور، ويضيف
واطس قائلًا:
كان الفلاسفة الغربيون قد دأبوا، مثلما فعل ديكارت، على ملاحظة البشر وفهمهم بأسلوب
تقليدي يقضي «بانتزاعهم» من عالمهم، وعزلهم لفحص «الجوهر» الإنساني أو «الوعي الخالص»،
وهو مدخل يعتبره هايديجر بالغ الخطأ، ولا نفع فيه، بل ومضلل؛ فالحضور ومساحة الإمكانيات
(العالم) التي يعيش فيها ليست مما يمكن قياسه «موضوعيًّا» ما دام الحضور له جذور
متغلغلة ولا يمكن اقتلاعها من تربة العالم، كما إن خبرة الحضور بالعالم خبرة تقوم على
الألفة. وهكذا فنحن لا نشعر عادة بالغربة عن العالم المحيط بنا، بل نحس بالانتماء إليه
والارتباط به، ونشعر أننا نفهم ما غُرِسْنا فيه. والواقع أن إدراك هويتنا — المجسدة في
أسلوب حياتنا لا في أسلوب تفكيرنا أو حديثنا عن حياتنا — ينبع من عالمنا ومن المحال
فصله عنه.
ويشرح واطس سبب كتابة كلمة الحضور (Dasein) أحيانًا
مقسومة بين Da
وSein حتى تعني الوجود في مكان معين، وهو العالم،
ويقول: إن ألفتنا الشديدة بعالمنا تمنعنا من إدراك الدلالة الجوهرية للوجود في العالم،
وأعتقد أنه يريد أن يُشَبِّهَ هذا الانتماء «بالصحة» التي لا يدرك أهميتها المرء إلا
حينما يعتل فينتبه لدلالة ما فقده، ولكنه يضرب مثلًا آخر قائلًا: إن الشجرة لا يمكن أن
تلقى التقدير الحق والفهم عندما تُقْتَلَعُ من التربة، إذ إن هايديجر يؤكد تأكيدًا
شديدًا هذا الانتماء إلى العالم قائلًا: إنهما ينصهران كل في الآخر، ومن المحال أن نتصور
الحضور من دون أن نتصور ما «يحضره»، فهو يتلاعب هنا بصفة «الحضارة» التي يريد لها أن
تعني نفي العزلة وتوكيد الصلة الحيوية أو الوجودية، ما دامت تفيد المسئولية والحرية
معًا، بين الوجود الواعي أو الحضور وبين عالمه. ولكن هذا الوعي ليس يسيرًا في كل حالة،
فالإنسان ذو ميول وأمزجة قد تمكنه وقد تمنعه من إدراك هذه الصلة الوثيقة بعالمه، وسوف
ننظر في هذه الميول أو الاتجاهات والحالات النفسية فيما يلي.