الفصل السابع
الآخرون والحياة اليومية
يقول هايديجر:
إن الحضور، باعتباره وجودًا مع غيره في كل يوم، يرتبط بالآخرين بعلاقة خضوع،
ونفسه غير موجودة، إذ يستولي عليها الآخرون. وإمكانيات الحضور في الوجود في الحياة
اليومية في أيدي الآخرين يتصرفون فيها كما يحلو لهم. زد على ذلك أن هؤلاء الآخرين
ليسوا آخرين محددين، بل على العكس، فإن أي آخر يمكنه أن يمثلهم. والأمر الحاسم
ينحصر في أن تلك السيطرة الخفية موجودة في أيدي الآخرين، إذ إنها انتُزِعَتْ
سَلَفًا من الحضور دون أنْ يَدْرِيَ باعتباره مُصَاحِبًا لغيره. فالمرءُ ينتمي إلى
الآخرين بنفسه ويزيد من سلطانهم. وأما «الآخرون» الذين يطلق عليهم المرء هذا الاسم،
حتى يحجب الحقيقة التي تقول: إنه ينتمي إليهم أساسًا بذاته، فهم بشكل تقريبي وفي
معظم الحالات «الموجودون» في الصحبة اليومية بين الأشخاص. وأما «من هم» فليسوا هذا
الشخص وليسوا ذاك، وليسوا بعض الناس وليسوا مجموعهم الكلي. إنهم «من هم» دون تحديد
أي نوع، أي إنهم «هُمْ» وحسب.
كنا قد أوضحنا من قبل كيف أن البيئة اللصيقة بنا تتضمن «البيئة» العامة التي
تعتبر سلفًا جاهزة لنا وتثير اهتمامنا. ففي الانتفاع بوسائل المواصلات العامة
والاستفادة من الخدمات الإعلامية مثل الصحف، يتشابه كُلُّ آخر مع غيره من الآخرين.
فالوجود في صحبة الأفراد يؤدي إلى إذابة حضور المرء إذابةً تامةً في نوع الوجود لدى
«الآخرين» إلى حد بعيد بحيث يزيد بدوره من إخفاء الآخرين، باعتبارهم أفرادًا يمكن
تمييزهم ومعرفتهم معرفة سافرة، زيادة مطردة. وهكذا ففي هذا الخفاء واستحالة اليقين
تتجلى الدكتاتورية الحقيقية التي يمارسها هؤلاء [الآخرون]. فنحن نُسَرُّ ونتمتعُ
بما يَسُرُّ هؤلاء ويُمْتِعُهُمْ، ونحن نقرأ ونرى ونصدر أحكامًا على الأدب والفن
بأسلوب رؤية هؤلاء وأسلوب أحكامهم، وعلى غرار ذلك نبتعد عن الدهماء مثلما يبتعد
هؤلاء، ونحن نشعر «بالصدمة» إزاء ما يُشْعِرُ هؤلاء بالصدمة. أي إن «هؤلاء» — وهي
كلمة لا تدل على شيء محدد وإن تكن تشملهم جميعًا، من دون أن تكون مرادفة لمجموعهم
الكلي — كلمة تفرض نوع وجود الحياة اليومية.
وهذا الذي نسميه «هُمْ» يتمتع بطرائق وجود خاصة به. فالتوجه الوجودي الذي نسبنا
إليه ما أسميناه «إقامة مسافة معينة» يقوم على أساس حقيقة معينة تقول: إن حقيقة
الترابط بين وجود أبناء البشر تتعلق، بصفتها المذكورة، بالنظرة المتوسطة
(averageness) [أي بحساب حاصل قسمة جمع المرتفع
والمنخفض من الصفات على عدد معين لوضع المتوسط] وهي خصيصة وجودية يتصف بها هؤلاء
[هُمْ]، و«هُمْ» — في وجودهم — يعتبرون هذه قضية مهمة. وهكذا فإن هؤلاء يحافظون على
ذواتهم من الزاوية «الحقائقية» استنادًا إلى الطبيعة «المتوسطية» لكل ما ينتمي
إليهم، وكل ما يرونه صحيحًا وسليمًا، وكذلك ما لا يرونه كذلك، وكل ما يمنحونه
النجاح وكل ما ينكرونه عليه. وفي هذه المتوسطية التي تحدد بمقتضاها ما يمكن أو ما
يجوز فعله، تمارس الرقابة واليقظة لكل شذوذ يدفع بنفسه إلى مقدمة الصفوف. ومن ثم
يتعرض للقمع الصامت كُلُّ نوع من أنواع الأولوية. وإذا نحن نرى، بين عشية وضحاها،
أن كل ما هو أزلي قد تعرض للتغاضي عنه بذريعة أنه أمر مشهور من زمن سحيق. وكُلُّ
شيء يُنالُ بالكفاحِ يصبحُ مُجَرَّدَ شيء يمكن استغلاله. وهكذا يفقد كُلٌّ سِرَّ
قوته. ويكشف هذا الاهتمام بالمتوسطية، بدوره، عن توجه أساسي للحضور نطلق عليه «فرض
المساواة بالتخفيض» بين جميع إمكانيات الوجود.
(الوجود والزمن، ص١٦٤–١٦٥)
يركز هايديجر في هذه الفقرات على ما يسميه «الوجود مع الغير» بصورة معينة، ألا وهي
«صحبة
الآخرين في الحياة اليومية»، أو الوجود في صحبة غيره الذي يشير إليه الفيلسوف بعبارة
das man الألمانية، التي تُرجمت إلى الإنجليزية بكلمة
«هُمْ» (أو «هؤلاء») مع تعريفها بالألف واللام، وهو ما لا تسمح به اللغة العربية، أو
بلفظ
«المرء» [
“the they” or “the one”]. وكلمة
man الألمانية ضمير نكرة، يقابل العربية العامية
«الواحد»، في بعض التراكيب مثل (
man sagt das …) أي «يقول
المرء إن …»، أو العامية «الواحد بيقول …»، أو مثل (
man muss es tun) أي «على المرء أن يفعل ذلك»، أو العامية «الواحد لازم يعمل كده»، أو
(
man macht das eben so) أي «ذلك ما يفعله المرء وحسب»
أي «الواحد بيعمل كده وبس». والترجمة الأخيرة للتعبير الأخير أقدر على نقل ما يعنيه هايديجر
من استخدام ضمير الجمع، إذ يريد أن يقول أساسًا: إننا نرتبط بالآخرين بالرباط الذي يربطنا
بأي فرد، فنفهم أنفسنا بالأسلوب الذي يقول أي فرد: إن على المرء أن يحيا به، أي من حيث
ما
يفعله المرء عادة في أي موقف نصادفه (راذول، ص٥١–٥٢). ويشرح راذول ذلك قائلًا:
القضية هنا إذن هي الدور الذي تقوم به العلاقات الاجتماعية في تكويننا بالصورة
التي نحن عليها، فمن قبل أن نبدأ في الواقع التفكير أو اتخاذ قرارات لأنفسنا، يكون
الناس الذين نعيش معهم قد أحاطونا بفهم معين لأنفسنا وللعالم من حولنا. ومعنى هذا
أنه لن يتسنى لي قط أن أقرر لنفسي كيف أفهم الدنيا من القاعدة إلى القمة، أو أن
أبتكر أسلوب وجودي الخاص في العالم بصورة مستقلة عن أية علاقات مع البشر الآخرين.
إذ إن كل تجديد، وكل تمرد نقوم به تشكله ضروب فهمنا المشتركة ومعايير سلوكنا.
فالتمرد على سبيل المثال تمرد على شيء محدد، وهو يكتسب طابعه باعتباره تمردًا من
ذات الشيء الذي يرفضه نفسه» (ص٥٢).
وقد يبدو للقارئ أن هذا لا يتضمن أي جديد، فقد قتل علماء التربية (وعلماء الاجتماع)
الموضوع بحثًا، ومن قبلهم ذكر الشاعر وردزورث في قصيدة «خاطرات الخلود» المشار إليها
آنفًا
كيف يتولى المجتمع «تلقين» الطفل ما يقوله وما يفعله، قائلًا: «كأنما كانت رسالته في
الحياة
محاكاة لا تنتهي.»
(As if his whole vocation/Were endless
imitation.)
كما يفصِّل القول في قصيدته الطويلة
المقدمة التي تعتبر سيرة ذاتية أدبية له عن الجهود
التي بذلها للتغلب على تأثير الناس من حوله، إما بالقراءة وإما بالهروب إلى «الطبيعة»
حتى
يبتعد عما كان «هؤلاء» — بتعبير هايديجر — يلقنونه. ولكن من يواصل قراءة
الوجود والزمن يجد
أن الفيلسوف يرجع إلى ذكر الخصيصة التي ينتقدها بشدة في تأثر الإنسان بما حوله وبمن حوله،
وهي التي يسميها «المتوسطية» أي إن وجود المرء، الذي ينمو ليصبح «حضورًا»، يفرض عليه
أن
يخضع «للمتوسط» من كل شيء، أي أن يتعلم تلطيف شدة الشديد ورفع مستوى اللطيف حتى يصل في
الحالين إلى المتوسط، ولذلك فإن هايديجر كان ينقم على بعض الدارسين اقتناعهم «بالمتوسط»،
وهو
اليسير المبسط الذي لا يغضب أحدًا ولكنه لا يفيد أحدًا أيضًا، كما تقول تلميذته النابهة
هنَّا أَرنْتْ في مقالها المشار آنفًا إليه («هايديجر في الثمانين» في
هايديجر والفلسفة
الحديثة، من تحرير م. مري، ١٩٧٨م، ص٢٩٦) وهذا هو الاختلاف الأول الذي يميز نظرة هايديجر، وهو
ما يتسم به (في رأيه) «الحديث العاطل» قائلًا:
توجد أشياء كثيرة نتعرف عليها بهذا الأسلوب أول مرة، ولا تقل نسبة الأشياء التي لا تتجاوز
مطلقًا هذا الفهم المتوسط. وهذا الأسلوب المتبع في الحياة اليومية والذي تفسر فيه الأشياء
على هذا النحو، أسلوب ينمو «الحضور» فيه أصلًا، بلا أدنى إمكانية في اقتلاعه. وتدور جميع
العمليات الصادقة للفهم والتفسير والتواصل في داخله وخارجه وضده، وجميعها تعيد اكتشافه
وامتلاكه. ولا يتمكن الحضور في أي حالة من الحالات من النجاة من تأثير هذا الأسلوب ومن
غوايته، أعني أسلوب فهم الأشياء [على هذا النحو المتوسط] بحيث يستطيع أن يواجه الساحة
الطليقة للعالم كما يوجد في ذاته وحتى يتمكن من رؤية ما يقابله [على حقيقته].
(الوجود
والزمن، ص٢١٣)
وأما الاختلاف الثاني فهو أن تأثير الناس في الإنسان المنتقل إلى مرحلة الوعي بوجوده
(أي
الحضور) لا يقتصر على «الفهم المتوسط»، بل يتضمن التأثير في حالته النفسية ومزاجه، فالعامل
الذي يشير إليه هايديجر بتعبير «المرء»، وأترجمه هنا بتعبير «هؤلاء» (الناس) أو هُمْ
(مثل
مترجمي هايديجر قبل القرن الحادي والعشرين) عامل يتحكم أيضًا في «الحالة النفسية»، التي
تكفل أن يرى «الحضورُ» العالَم باعتباره شيئًا مهمًّا، وأن يحيل وجوده فيه إلى اشتباك
أصيل
به، يضفي الأصالة (أي الصدق) على الحضور. إذ يواصل هايديجر
قوله بعد السطور المقتطفة عاليه:
إن هيمنة الأسلوب العام الذي فُسِّرَتْ به الأشياء سلفًا عامل حاسم حتى فيما
يتعلق بإمكانية التمتع بمزاج معين [أو حالة نفسية معينة] أي بالنسبة للأسلوب
الأساسي الذي يجعل به الحضورُ العالمَ شيئًا مهمًّا يكترث له. «فهؤلاء» يفرضون حالة
الحضور النفسية [أو موقفه] ويحددون أسلوب «رؤيته».
(الوجود والزمن، ص٢١٣)