الفصل الثامن
الموت والأصالة
يقول هايديجر:
إن أشد اقتراب يستطيعه المرء من الموت في وجوده المتجه نحو الموت باعتباره أمرًا ممكنًا،
أشد ما يكون ابتعادًا عنه باعتباره شيئًا فعليًّا. وكلما ازداد فهمُ هذه الإمكانية فهمًا
يُزيلُ الأستارَ والحجبَ، ازداد تغلغلُ الفهم فيها ونقاؤه، إذ يمكن أن تعني إمكان استحالة
أي وجود على الإطلاق. فالموت باعتباره إمكانية لا يقدم إلى الحضور أي شيء يمكن تحقيقه
فعليًّا، ولا أي شيء يمكن للحضور — باعتباره متحققًا فعليًّا — أن يصبح كيانًا له: إنه
إمكانية استحالة كل أسلوب لسلوك المرء تُجاه أي شيء، ولكل شكل من أشكال الوجود …
الموت أشدُّ ما ينتمي إلى الحضور من إمكانيات. والاتجاه نحو هذه الإمكانية يكشف للحضور عن
أشد ما ينتمي إليه من إمكانيات الوجود الكامنة، حيث تنحصر القضية في وجوده هو نفسه. وهنا قد
يتضح للحضور أنه قد تعرض في هذه الإمكانية، المميزة لذاته الخاصة، إلى الانتزاع بعنف
من
قبضة «الغير» [هم = هؤلاء]. وهذا يعني أنه في مقدور الحضور أن يستبق الموت فينتزع نفسه
من
قبضة «الغير» سلفًا. ولكن حين يفهم المرء أن ذلك شيء كان بمقدور الحضور أن يفعله، فسوف
يكشف
له هذا عن ضياعه الحقائقي في كنف الحياة اليومية لنفس «الغير» (لنفس هؤلاء، انظر الفصل
السابق).
وهذه الإمكانية المتسمة بأشد انتماء غيرُ علائقية. والاستباق يسمح للحضور أن يفهم أن تلك
«الإمكانية الكامنة للوجود»، والتي يصبح فيها أشد الانتماء قضية، لا بد أن يتولاها الحضور
وحده. فالموت لا «ينتمي» وحسب إلى حضور المرء بأسلوب لا يتسم بالتمييز، بل إن الموت يؤكد
حقه فيه باعتباره حضورًا فرديًّا. والطابع غير العلائقي للموت، حسبما يُفهم استباقًا له،
يطبع الحضور بطابع فردي خاص بذاته. وهذا «التفريد» يتكشف فيه «كونه» للوجود، إذ يوضح
أن
«الوجود-الموازي» كله للأشياء التي نشغل أنفسنا بها، والوجود المصاحب كله للآخرين، سوف
يخذلانِنا عندما تصبح إمكانية الوجود الكامنة، والتي تنتمي إلينا أشد انتماء، هي القضية.
ولا
يمكن للحضور أن يصبح نفسه بأصالة إلا إذا ضم هذه الإمكانية إلى ذاته عن طيب خاطر. ولكن إذا
خذلنا القلق والهم، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن هذه الأساليب التي يتبعها الحضور
قد
تقطعت بها سبل تحقيق الحضور وجوده في ذاته بصورة أصيلة، فباعتبارها أبنية جوهرية في تكوين
الحضور، فإنها تسهم في تحديد شكل إمكانية أي وجود على الإطلاق. ولا يصبح الحضور ذاته
الأصيلة إلا في حدود قدرته، باعتباره مشغولًا بوجوده الموازي، وراعيًا لوجوده المصاحب،
على
إسقاط ذاته على إمكانية وجوده الكامنة المنتمية أشد انتماءٍ له، لا على إمكانية نفس الغير
[هؤلاء = هم]. وهكذا فإن الكيان الذي يستبق إمكانيته غير العلائقية، يرغمه هذا الاستباق
نفسه على قبول إمكانية النهوض بدلًا من ذاته [بالمسئولية عن] وجوده الذي ينتمي إليه أشد
انتماء، وأن يفعل ذلك من دون قسر وبطيب خاطر.
والإمكانية غير العلائقية المنتمية أشد انتماء له لا ينبغي أن يتخطاها أي شيء. فالوجود
المتجه نحو هذه الإمكانية يُمَكِّنُ الحضور من أن يفهم بأن التخلي عن ذاته يوشك أن يقع
باعتباره الإمكانية المطلقة القصوى لوجوده، بيد أن الاستباق، على عكس الوجود المتجه نحو
الموت بأسلوب غير أصيل، لا يتحاشى الحقيقة القائلة بأن الموت محال تفاديه، بل إن الاستباق
يحرر ذاته لقبولها. وعندما يتحرر المرء، بفضل الاستباق، كي يتهيأ لموته، فإن المرء يتحرر
من
ضياعه في تلك الإمكانيات التي قد تلقي بنفسها عَرَضًا على المرء، كما إن المرء يتحرر
بأسلوب
يمكِّنه أن يفهم للمرة الأولى أن المرء قادر على أن يفهم بأسلوب أصيل، وأن يختار بالأصالة
نفسها ما يشاء من الإمكانيات التي تسبق الإمكانية التي يستحيل تفاديها. فالاستباق يكشف
للوجود أن إمكانيته المطلقة القصوى تكمن في التخلي عن ذاته، ومن ثم فهي تفتت الاستمساك
العنيد من جانب المرء بأي درجة من درجات الوجود وصل إليها المرء.
(الوجود والزمن، ص٣٠٦–٣٠٨)
لما كانت قضية الموت من القضايا الجوهرية في فلسفة هايديجر وفي التقاليد الوجودية
في
الفكر الغربي، فقد يكون من المستحسن أن نلقي نظرة فاحصة (على إيجازها) على انتساب هذه
الفلسفة إلى تلك التقاليد، وكيفية مواجهة هايديجر لقضية الموت من خلالها، وسوف أعتمد
على
تحليل الفيلسوف راذول، مُلَخِّصًا ومُتَرْجِمًا ما يقوله في هذا الصدد.
يقول راذول: إن تقاليد الوجودية في الفكر الغربي تقول بأن كل فكر فلسفي لا بد أن
يقوم على
أساس اشتباكنا الشخصي بالعالم. فالوجوديون يؤكدون أهمية العاطفة ويولونها مكانة أعلى
من
النظرة العقلانية المحايدة، كما يولون الأولوية للحرية ويمنحونها منزلة أرفع من منزلة
الحركة الآلية للكون المادي (الفيزيقي)، كما يركزون على طبيعة أساليب حياتنا قائلين:
إنها لا
تستند إلى أسس منطقية ولا إلى علل أو أسباب مفهومة، على عكس الزعم بضرورة الثقة في وجود
نظام عقلاني يقوم عليه عالمنا في آخر المطاف.
كان هايديجر — مثل باسكال وكيركجارد ودستويفسكي ونيتشه الذين سبقوه، ومثل الوجوديين
الفرنسيين الذين كان ملهمًا لهم — يقول: إننا لا خيار لنا إلا أن نبدأ البحث الفلسفي
من تأمل
حالنا الراهنة، أي من وجودنا. وهو في هذا تابع مخلص لكيركجارد (١٨١٣–١٨٥٥م) الذي ذكَّرنا
بأن
«التفلسف لا يعني الكلام الخيالي الموجه إلى كائنات خيالية؛ بل الحديث إلى أفراد لهم
وجود»
(ص٢١). إذ كان الفلاسفة، ابتداءً من أفلاطون، يسعون إلى اكتشاف «صور» لا زمنية، وهي المثل
الخالصة التي لا تتغير وتوجد خلف جميع الأشياء الخاصة المتغيرة التي يمكن أن تفسد، والتي
نراها في العالم، وأما المفكر الوجودي فهو، على العكس من ذلك، ينفي قدرتنا على الوصول
المباشر إلى أية حقائق ميتافيزيقة لا زمنية، بل إن فَهْمَنَا بشتى ضروبه يتوسل بالمقولات
التاريخية والاجتماعية التي تشكل العالم الذي نجد أنفسنا فيه. ويعني هذا أن علينا أن
نحدد
بأنفسنا كيف نعيش وأية معايير ينبغي لنا اتباعها. وهذا أمر يدعو إلى القلق؛ لأننا فيما
يبدو
نحتاج إلى الإيمان بأن لحياتنا معنًى عميقًا وغرضًا ما، لا أنها مجرد حدث عارض في المكان
الذي حدث أن وُلِدْنا فيه.
(راذول، كيف تقرأ هايديجر، ص٦٠)
وكان هايديجر يؤمن، مثل غيره من الوجوديين، بأن الاستجابة الطبيعية للطابع العرضي
للوجود
هي «الفرار» منه، أي محاولة تجاهل أنفسنا أو خداعها، أو قل: تجاهل أن أسلوب حياتنا لا
هو
«محتوم» ولا هو «صحيح» ولا هو الأسلوب الإنساني الحقيقي. وقد يحاول الفرد أن يعتنق معاييرنا
الثقافية بكل حماس ومن دون تفكير، ولكن الوجوديين يزعمون أننا ندرك على الرغم من ذلك،
إدراكًا قد يكون مُبْهَمًا، أننا لسنا مرغمين على أن نعيش وفق نسق العيش الذي نعيشه.
ويزعم
الوجوديون أننا قد نوفق في لحظات اليأس إلى اكتشاف أننا لم نعد قادرين على إخفاء قلقنا
الباطن إزاء ما يبدو لنا من أن وقف أنفسنا على ما نفعله وحسْب في إطار ثقافتنا أمرٌ أجوف
ومبتذل ولا معنى له.
وكان هايديجر يؤمن باستحالة التخفف من هذا القلق بأي وسيلة لاستحالة العثور على أي
طريق
مثالي وصادق ونهائي للعيش الحق، لكنه كان يؤمن أيضًا أن إخضاع أفهامنا وخياراتنا لما
يفعله
الآخرون يعني أننا نتخلى عما يعتبر أهم عنصر جوهري في كياننا باعتبارنا بشرًا، ألا وهو
«تحمل المسئولية عن أسلوب الوجود الذي نختاره، أي القدرة على تحقيق الأصالة» (ص٦١).
ولكن تحقيق الأصالة ليس مهمة يسيرة، إذ كتب هايديجر يقول: إن ذلك يتطلب بذل جهد
جهيد «ما
دمت لا أستطيع أن أكتشف العالم بأسلوبي الخاص إلا إذا أزلتُ من طريقي حالات الإخفاء
والتعمية» (الوجود والزمن، ص١٦٧)، ويعتقد هايديجر أن القلق الذي يساور الإنسان بسبب الطابع
العرضي لجانب كبير من حياته يُعتبر في الحقيقة مصدرًا لكرامته في الوجود؛ لأنه يستطيع
تغيير
هذه العوارض، فنحن نتساءل عن دلالة الأشياء وعن علاقتنا بها، أي إننا نفكر ونثبت قوتنا،
ومن
ثم نثبت أصالة وجودنا. والموت يتيح لنا فرصة تحمل المسئولية عن وجودنا إذا أردنا أن
نتحملها. ويشرح هايديجر ذلك قائلًا: إن القلق في مواجهة الموت «يحرر [الحضور] من الإمكانيات
التي «لا قيمة لها» ويتيح [للحضور] التحرر إزاء الإمكانيات الأصيلة» (الوجود والزمن، ص٣٩٥).
ويقول هايديجر: إن الموت هو أقرب الإمكانيات إلى كينونة الإنسان، فإننا نختلف عن
الملائكة
لأننا بشر فانون، ونختلف عن الحيوان لأننا نشعر بخبرة الكيان الفاني. وخبرة الموت إذن صفة
تحدد معنى الإنسان وتميزه عن غيره، ولكن معرفة العواقب الوجودية لطبيعتنا الفانية تقتضي
منا
أن نعرف أوَّلًا التصور الصحيح لطبيعة الموت. وهو يقول: إننا لا ننتبه إلى أهمية الموت
الوجودية لأننا في العادة نخلط بين سبب الموت وبين جوهره. وفي مصطلح هايديجر، فنحن نركز
على
«وفاتنا» (demise) لا على «موتنا» (death). «والفرق بين «الموت» وبين «الوفاة» يكمن، بتعبير آخر، في
التمييز «بين الدلالة الوجودية لحادثة من الأحداث وبين الأسباب والعواقب المنطقية أو
الاجتماعية أو القانونية للحادثة المعنية»» (ص٦٢)، ويضرب راذول مثالًا للخلط المذكور
من
حادثة «الزواج»، مؤكدًا ضرورة التمييز بين الأحداث التي تؤدي إلى حالة الموت وبين الحالة
نفسها. ويلخص حجة هايديجر في هذا الصدد قائلًا (في آخر الفقرة الأولى من النص المقتطف
أعلاه): إن الموت هو «إمكانية استحالة كل أسلوب لسلوك المرء تجاه أي شيء»، وأما تعريفه
الوجودي الأنطولوجي، بمعنى وصفه من حيث بناؤه ودلالته لأسلوب وجودنا في العالم، فيحدد
كيفية
تشكيل الموت لخبرتنا بالدنيا، إذ يقول: إن الموت إمكانية غير علائقية، ويقينية وغير محددة،
ومن المحال تجاوزها. (الوجود والزمن، ص٣٠٣). فأما أنها من المحال تجاوزها فلأنها محتومة وسيف
مُصْلَتٌ، وأما كونها غير محددة فيعني أننا لا نعرف على وجه الدقة متى «يصبح من المحال
أن
تأتي، إذ إنها يمكن أن تأتي في أية لحظة، وهي يقينية لا لأننا نستطيع أن نثبت أن الموت
سوف
يأتينا، بل لأن إمكانية الموت تشكل خبرتنا بكل شيء في العالم، وهي غير علائقية لأنها
تبين
أن علاقاتنا بغيرنا من الناس ومع الأشياء ليست العامل الذي يجعلنا ما نحن عليه في آخر
المطاف» (ص٦٥).
ويدعم راذول تفسيره لموقف هايديجر من الموت بمقارنته برأي فلسفي آخر في الموت، وهو
رأي
أبيقور، الراجع إلى عام ٣٠٠ قبل الميلاد، وهو الذي يصف الموت بأنه «أشد الشرور هولًا
ورعبًا
… وهو لا يعني لنا شيئًا، ما دام لا يوجد في أثناء حياتنا، وعندما يحضر الموت ينتفي
وجودنا.» ويقول راذول إن موقف اللامبالاة من جانب أبيقور يتناقض تناقضًا شديدًا مع موقف
هايديجر الذي يرى أن القلق إزاء الموت يمثل رد الفعل الصحيح تجاهه. وإيضاحًا لهذا يلخص
راذول حجة أبيقور إزاء الموت قائلًا: إنها تتكون من خطوات يمكن «أن تكون كما يلي:
-
(١)
لا يكتسب أي شيء أهمية لنا إلا إذا استطاع أن يقع في نطاق خبرتنا.
-
(٢)
لا يقع الشيء في نطاق خبرتنا إلا إذا كان لنا وجود عندما يكون حاضرًا.
-
(٣)
عندما يحضرنا الموت ينتفي وجودنا.
-
(٤)
ومن ثم لا يمكن أن يكتسب الموت أهمية لنا» (ص٦٦).
وينتهي راذول إلى القول بأن فساد استدلال أبيقور يرجع إلى إيحائه بأن الموت شيء مادي،
ومن
ثم تنطبق عليه حجة أبيقور القائمة على وجود «شيء» في نطاق خبرتنا، فذلك ما يوحي به استعمال
أبيقور لصفتي الوجود والحضور، ولكن وجود شيء في نطاق خبرتنا. لا يقتضي كونه شيئًا ماديًّا
(ملموسًا أو «إيجابيًّا») فالعمى يقع في نطاق خبرتنا وهو شيء سلبي، بمعنى أنه يحدث حين
«أَعْمَى» عن رؤية شيء ولو كان أمامي، ومن ثم فالوجود هنا يشمل الإيجابي والسلبي، ولكن
العمى يختلف بطبيعة الحال عن الموت، «ومع ذلك فإن هايديجر قدم لنا درسًا مهمًّا: وهو
أن
المرء لا يهتم فقط بالأشياء التي تؤثر فيه تأثيرًا ماديًّا؛ بل أيضًا بأي شيء يشكل أو
يؤثر
في أسلوب وجوده في الدنيا» (ص٦٧).
ويعرض راذول بعد ذلك موقف هايديجر من إمكان اهتمام المرء لا بالأشياء ذوات الكيان
الإيجابي أو السلبي؛ بل بإمكانية حدوث شيء أو بالإمكانيات على إطلاقها، مؤكدًا أن الموت
باعتباره احتمالًا مؤكدًا يؤثر في الإنسان الذي يعي وجوده ومعناه. كيف يؤثر الموت في
وجودنا، أو قل: كيف يشكل وجودنا؟ يقول راذول:
تقول إجابة هايديجر: «إن الموت يفرض الطابع الفردي على الحضور بحيث يستقل به. وهذا
التفرد يكشف عن حالتي إلى الوجود، أي إنه يوضح أن الوجود الموازي للأشياء التي نشغل
أنفسنا بها، وكل الوجود المصاحب للآخرين، سوف يخذلاننا عندما تتعرض للخطر إمكانية
وجودنا التي تنتمي إلينا أشد انتماء.» وبعبارة أخرى نرى أن إمكانية الموت تكشف لي عن
عالمي باعتباره المكان الذي لن ينجح فيه أي أسلوب من أساليب الوجود في آخر المطاف، ولن
يسمح لي أي أسلوب من أساليب الوجود بأن يستمر كياني في حالته الراهنة. ويعتقد هايديجر
أن هذا الإدراك كفيل بتحطيم اعتمادنا على المعايير والممارسات الثقافية، وهي التي تزعم
أنها تقدم لنا الأسلوب الصحيح للعيش، دون سواه. وإذن فإن التصالح مع الموت يسمح لنا
بأن نتولى المسئولية عن أنفسنا. (ص٦٨-٦٩).