رسالة الملائكة
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس مولاي الشيخ — أدام الله عِزَّه — بأول رائد ظن في الأرض العازبة، فوجدها من النبات قَفْرًا، ولا آخر شائم ظن الخير بالسحابة، فكانت من قَطرٍ صِفرًا. جاءتني منه فوائدُ كأنها في الحسن بنات مخرٍ، متمثلًا ببيت صخْرٍ:
إن الله يُسمع مَن يشاء، وما أنت بمُسمعٍ مَن في القبور، أولئك يُنَادَوْنَ من مكان بعيد. وكنتُ في عُنفوان الشبيبة أودُّ أنني من أهل العلم فَسَجَنَتْنِي عنه سواجن، غادرتني مثل الكُرَة رَهْنَ المحاجن. فالآن مشيتُ رويدًا، وتركتُ عَمْرًا للضارب وَزَيْدًا. وما أُوثر أن يُزاد في صحيفتي خطأٌ في النحو، فيَخْلُدَ آمنًا من المحو، وإذا صَدَقَ فَجْرُ اللمَّة فلا عُذر لصاحبها في الكذب، ومن لمعذَّب العطش بالعَذِب؟ وصِدْق الشَّعَر في المَفْرِق، يُوجب صدْقَ الإنسان الفَرِق، وكون الحالية بلا خُرُص، أَجْمَلُ بها من التخرُّص، وقيام النادبة بالمنادب، أحسنُ بالرجل من القول الكاذب. وهو أدام الله الجمالَ به يلزمه البحث عن غوامض الأشياء؛ لأنه يعتمد بسؤال رائحٍ وغادٍ، وحاضرٍ يرجو الفائدة وبادٍ، فلا غَرْوَ أن كشَفَ عن حقائق التصريف، واحتجَّ للتنكير والتعريف، وتكلم على هَمْزٍ وإدغام، وأزال الشُّبَهَ عن صدور الطَّغام. فأما أنا فَحِلْسُ البيتِ، إن لم أكن الْمَيْتَ فشبيهٌ بالمَيْتِ. لو أعرضتِ الأغربة عن النعيب، إعراضي عن الأدب والأديب، لأصبحتْ لا تُحِسُّ نعيبًا، ولا يُطيق هَرِمها زعيبًا. ولمَّا وافى شيخنا أبو فلان بتلك المسائل ألفيتها في اللذة كأنها الراح، يستفز من سمعها المراح، وكانت الصهباء الجرجانية طَرَق بها عميد كَفْر، بعد ميل الجوزاء وسقوط الغَفْر، وكان على يجباها جلب إلينا الشمس وإِيَاها، ذكرتُ ما قال الأسدي:
وما رغبتي في كوني كبعض الكرِوْان، تكلم في خطب جرى، والظليم يسمع ويرى. فقال الأخفش أو الفرَّا: أَطْرِقْ كَرا! إن النعامة في القُرى. وحقُّ مثلي [أن] لا يسأل، فإن سئل تعين عليه أن لا يجيب، فإن أجاب ففرضٌ على السامع أن لا يسمع منه، فإن خالف باستماعه ففريضةٌ أن لا يكتب ما يقول، فإن كتبه فواجبٌ أن لا ينظر فيه، فإن نظر فقد خبط خبطَ عشواء. وقد بلغتُ سنَّ الأشياخ، وما حار بيدي نفعٌ من هذا الهذيان، والظعن إلى الآخرة قريب، أفتراني أدافع ملك الموت، فأقول: أصل ملكٍ مألكٌ، وإنما أُخِذ من الأُلوكة وهي الرسالة ثم قُلِبَ، ويدلنا على ذلك قولهم في الجمع: الملائكة؛ لأن الجموع تردُ الأشياء إلى أصولها، وأُنْشِدُ قولَ الشاعر:
فيُعجبه ما سمع فينظرني ساعة لاشتغاله بما قلت، فإذا همَّ بالقبض، قلت: وزن مَلَك على هذا مَعَل؛ لأن الميم زائدة، وإذا كان المَلَك من الألوكة فهو مقلوبٌ من ألك إلى لأك، والقلب في الهمز. وهمز العلَّة معروف عند أهل المقاييس. فأما جَبَذَ وجذب ولَقَم الطريق ولمقه، فهو عند أهل اللغة قلب، والنحويون لا يرونه مقلوبًا، بل يرون اللفظين كل واحد منهما أصلًا في بابه، فوزن الملائكة على هذا معافلة؛ لأنها مقلوبة عن مآلكة، يقال ألِكْني إلى فلان، قال الشاعر:
وقال الأعشى في المأْلُكة:
فكأنهم فروا من المألُكة من ابتدائهم، ثم بحثوا بعدها بالألف، فرأوا أن مجيء الألف أولًا أخف كما فرُّوا من شَأَى إلى شاءَ، ومِن نأى إلى ناءَ، قال عمر بن أبي ربيعة:
وأنشد أبو عبيدة:
فيقول الملك: مَن ابن أبي ربيعة؟ وما أبو عبيدة؟ وما هذه الأباطيل؟ إن كان لك عمل صالح فأنت السعيد، وإلا فَاخْسَأْ وَرَاءَك! فأقول: فأمهلني ساعة حتى أخبرك بوزن عِزرائيل، وأقيم الدليل على أن الهمزة فيه زائدة. فيقول الملك: هيهات! ليس الأمر إليَّ، إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون. أم تُراني أداري منكرًا ونكيرًا، فأقول: كيف جاء اسماكما عربيين منصرفين وأسماء الملائكة كلها من الأعجمية، مثل: إسرافيل وجبرائيل وميكائيل. فيقولان: هاتِ حجَّتَك، وخلِّ الزخرف عنك! فأقول متقربًا إليهما: كان ينبغي لكما أن تعرفا ما وزن جبرئيل وميكائيل على اختلاف اللغات، إذ كانا أخويكما في عبادة الله — عز وجل. فلا يزيدهما ذلك إلا غيظًا، ولو علمت أنهما يرغبان في مثل هذه العلل لأعدت لهما شيئًا كثيرًا من ذلك، ولقلت: ما تريان في وزن موسى، اسم كليم الله الذي سألتماه عن دينه وحجَّته، فأبان وأوضح؟ فإن قالا: موسى أعجميُّ إلا أنه يوافق من العربية على وزن مُفعَل وفُعلى، أما مُفعل إذا كان من بنات الواو مثل أَوْسَيْتُ وأَوْرَيْتُ؛ فإنك تقول: موسى ومُورَى، وإن كان من ذوات الهمز فإنك تخفف حتى تكون الواو خالصةً من مُفعل، تقول: آنيت العشاء فهو مُؤنى، وإن خففت قلت مُونى. قال الحطيئة:
وحكى بعضهم همزَ موسى إذا كان اسمًا، وزعم النحويون أن ذلك لمجاورة الواو الضمَّة؛ لأن الواو إذا كانت مضمومة ضمًّا لغير إعراب أو غير ما يشاكل الإعراب جاز أن تحوَّل همزةً، كما قالوا: أُفِّيت ووُفِّيت، وحَمام وُرْق وأُرْق، ووشِّحَتْ وأُشِّحت. قال الهذلي:
وقال حميد بن ثور الهلالي (رض):
وقد ذكر الفارسي هذا البيت مهموزًا:
وعلى مجاورة الضمة جاز الهمز في سُوق جمع ساق في قراءة من قرأ كذلك، ويجوز أن يكون جُمع على فُعُل، مثل أُسُد فيمن ضم السين، ثم همزت الواو ودخلها السكون بعد أن ذهب فيها حكم الهمز. وإذا قيل إن موسى فُعْلَى، فإنْ جُعل أصله الهمز وافق فُعْلَى من مَأسَ بين القوم إذا أفسد بينهم. قال الأفوَهُ:
ويجوز أن يكون فُعلى من ماس يَمِيس، فقُلبت الياء واوًا للضمة، كما قالوا: الكُوسَى من الكيس، ولو بنوا فُعْلَى من قولهم: هذا أعيش من هذا وأغيظ منه، لقالوا: العوشى والغوظى، فإذا سمعتُ ذلك منهما قلتُ: لله درُّكما! لم أكن أحسب أن الملائكة تنطق بمثل هذا الكلام وتعرف أحكام العربية. فإن غُشي عليَّ من الخيفة ثم أفقت وقد أشارا إليَّ بالإرزَبَّة، قلت: تثبتا رحمكم (كذا) الله، كيف تصغِّران الإرزبَّة وتجمعانِها جمعَ تكسير؟ فإن قالا: أُرَيْزِبَّة وأرازبُّ بالتشديد، قلت: هذا وهمٌ، إنما ينبغي أن يقال: أُرَيْزِبَةُ وأَرَازبُ بالتخفيف. فإن قالا: كيف قالوا علانيَّ؟ فشددوا كما قال القريعي:
قلت: ليس الياء كغيرها من الحروف، فإنها وإن لحقها التشديد ففيها عنصر من اللين. فإن قالا: أليس قد زعم صاحبكم عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه أن الياء إذا شُددت ذهب منها اللين، وأجاز في القوافي ظبأ مع ظي. قلت: وقد زعم ذلك إلا أن السماع عن العرب لم يأتِ فيه نحوُ ما قال، إلا أن يكون نادرًا قليلًا.
فإذا عجبتُ مما قالاه أظهرا لي تهاونًا بما يعلمه بنو آدم، وقالا: لو جُمع ما عَلِمه أهل الأرض على اختلاف اللغات والأزمنة ما بلغ علمَ واحد من الملائكة يعدونه فيهم ليس بعالم! فأُسبِّح الله وأمجِّده، وأقول: قد صارت لي بكما وسيلة، فوسِّعا لي في الجَدَث إن شئتما بالثاء، وإن شئتما بالفاء، فإن إحداهما تُبدل من الأخرى، كما قالوا: مغاثير ومغافير، وأفافيُّ وأثافيُّ، وفُوم وثُوم. وكيف تقرآن — رحمكما الله — هذه الآية: «وثُومِها وعدسها» بالثاء، كما في مصحف عبد الله بن مسعود أم بالفاء كما في قراءة الناس؟ وما الذي تختاران في تفسير الفُوم، أهو الحنطة كما قال أبو محجن:
أم الثوم الذي له رائحة كريهة؟ وإلى ذلك ذهب الفراء، وجاء في الشعر الفصيح، قال الفرزدق:
فيقولان، أو أحدهما: إنك لتهدم الحول، وإنما يوسِّع لك في رَيمك عمُلك، فأقول لهما: ما أفصحكما! لقد كنت سمعت من الحياة الدنيا أن الرَّيْم القبر، وسمعتُ قول الشاعر:
وكيف تبنيان — رحمكما الله — من الرَّيْم مثل إبراهيم؟ أتريان فيه رأي الخليل وسيبويه، فلا تبنيان مثله من الأسماء العربية، أم تذهبان إلى ما قاله سعيد بن مَسْعَدة، فتجيزان أن تبنيا من العربيِّ مثل الأعجميِّ؟ فيقولان: تُربًا لك ولمن سمَّيت! أيُّ علم في ولد آدم؟ إنهم القوم الجاهلون. وهل أتودد إلى مالكٍ خازن النار فأقول: رحمك الله! أخبرني ما واحد الزَّبانية؟ فإن بني آدم فيه مختلفون، يقول بعضهم: الزبانية لا واحدَ لهم من لفظهم، وإنما يُجْرَونَ مجرى السواسية، أي القوم المستوين في الشر، قال:
ومنهم من يقول: واحد الزبانية زَبْنِيَةٌ، وقال آخرون: واحدهم زِبْنى أو زبانيٌّ. فيعبِّس لما سمع ويكفهر. فأقول: يا مال، رحمك الله! ما ترى في نون غِسْلِينٍ، وما حقيقة هذا اللفظ؟ أهو مصدر كما قال بعض الناس، أم واحد، أم جمعٌ أُعربت نونه تشبيهًا بنون مسكين، كما أثبتوا نون قلين وسِنينَ في الإضافة، وكما قال سُحيم بن وَثِيل:
فأعرب النون؟ وهل النون في جَهنَّم زائدة؟ أما سيبويه فلم يذكر في الأبنية فَعَنَّلًا إلا قليلًا، وجَهنَّم اسم أعجميٌّ. ولو حملناه على الاشتقاق لجاز أن يكون من الجهامة في الوجه، من قولهم: تجهَّمتُ الأمرَ إذا جعلنا النون زائدةً، واعتقدنا زيادتها في هَجَنَّفٍ، وأنه مثل هِجَف، وكلاهما صفة الظليم، قال الهذلي:
وقال جِرانُ العَوْد:
وقال قوم: رَكْية جِهِنَّام إذا كانت بعيدةَ القعر، فإن كانت جهنَّم عربية فيجوز أن تكون من هذا. وزعم قوم أنه يقال: أحمر جِهنَّام، إذا كان شديد الحُمرة. ولا يمتنع أن يكون اشتقاق جهنم منه. فأمَّا سَقَر فإن كان عربيًّا فهو مناسب لِقولهم سَقَرْتُه إذا آلمت دماغه، قال ذو الرُّمَّة:
والسين والصاد يتعاقبان في الحرف، إذا كان بعدهما قاف أو خاء أو غين أو طاء. تقول: سَقَبٌ وصقَبٌ، وسويق وصويق، وبسط وبصط، وسَلَغَ الكبش وصَلَغَ. فيقول مالكٌ: ما أَجْهَلَكَ وأقلَّ تمييزك! ما جلستُ هنا للتصريف، وإنما جلستُ لعقاب الكفرة والقاسطين. وهل أقول للسائق والشهيد اللذَين ذُكرا في كتاب الله — عز وجل — وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ: يا صاحِ، أَنْظِرَاني! فيقولان: تخاطبنا مخاطبة الواحد ونحن اثنان؟! فأقول: ألم تعلما أن ذلك جائز من الكلام، وفي الكتاب العزيز: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. فوحَّد القرين وثنَّى في الأمر، كما قال الشاعر:
وكما قال امرؤ القيس:
هكذا أنشده الفرَّاء، وبعضهم ينشد: ألم ترياني. وأنشد أيضًا:
فهذا كله يدل على أن الخروج من مخاطبة الواحد إلى الاثنين أو مخاطبة الاثنين إلى الواحد سائغ عند الفصحاء. وهل أجيءُ في جماعة من جهابذة الأدباء، قَصَرَتْ أعمالهم عن دخول الجنة، ولحقهم عفو الله فزُحزحوا عن النار، فنقف على باب الجنة فنقول: يا رِضْوَ، لنا إليك حاجة! ويقول بعضنا: يا رِضْوُ، فيضم الواو؟ فيقول رضوان: ما هذه المخاطبة التي ما خاطبني بها قبلكم أحد. فنقول: إنَّا كنا في الدار الأولى نتكلم بكلام العرب، وإنهم يُرَخِّمون الذي في آخره ألف ونون فيحذفونهما للترخيم. وللعرب في ذلك لغتان يختلف حُكماهما. قال أبو زُبيد:
فيقول رضوان: ما حاجتكم؟ فيقول بعضنا: إنا لم نصل إلى دخول الجنة لتقصير الأعمال، وأدركنا عفوُ الله فنجونا من النار، فبقينا بين الدارين، ونحن نسألك أن تكون واسطتنا إلى أهل الجنة، فإنهم لا يستغنون عن مثلنا، وإنه قبيح بالعبد المؤمن أن ينال هذه النعم وهو إذا سبَّح الله لَحَنَ، ولا يحسن بساكن الجِنان أن يصيب من ثمارها في الخلود وهو لا يعرف حقائق تسميتها، ولعل في الفردوس قومًا لا يدرون أَحُروفُ الكُمَّثْرَى كلها أصلية أم بعضها زوائد؟ ولو قيل لهم ما وزن كمَّثرى على مذهب أهل التصريف لم يعرفوا فُعَّلَّى، وهذا بناء مستنكر لم يذكر سيبويه له نظيرًا. وإذا صحَّ قولهم للواحدة كمثراة، فألف كمَّثرى ليست للتأنيث. وزعم بعض أهل اللغة أن الكَمثَرة تَداخلُ الشيء بعضه في بعض، فإن صحَّ هذا فمنه إشقاق الكمَّثرى. وما يَجْمُل بالرجل من الصالحين أن يصيب من سَفَرْجَلِ الجنة وهو لا يعلم كيف تصغيره وجمعه؟ ولا يشعر إن كان يجوز أن يشتق منه فعل أم لا؟ والأفعال لا تشتق من الخماسية؛ لأنهم نقصوها عن مرتبة الأسماء، فلم يبلغوا بها بنات الخمسة، مثل إسفرجل يسفرجل اسفرجالًا. وهذا السندس الذي يطؤه المؤمنون ويفرشونه كم فيهم من رجلٍ لا يدري أَوَزْنُهُ فُعْلل أم فُنْعُلُ! والذي نعتقد فيه أن النون زائدة، وأنه من السدوس وهو الطيلسان الأخضر. قال العبديُّ:
ولا يمتنع أن يكون سندس فُعللًا، ولكن الاشتقاق يوجب ما ذُكر. وشجرة طُوبْى كيف يستظل بها المتقون ويجتنونها آخر الأبد، وفيهم كثير لا يعرفون أَمِن ذوات الواو هي أم من ذوات الياء؟ والذي نذهب إليه إذا حملناها على الاشتقاق أنها من ذوات الياء؛ لأنَّا إذا بنينا فعلًا ونحوه من ذوات الواو قلبناها ياءً، فقلنا: عِيدٌ وقيل، وهما من عاد يعود، وقال يقول. فإن قال قائل: فلعلَّ قولهم طاب يطيب من ذوات الواو وجاء على مثال حسِب يحسِب، وقد ذهب إلى ذلك قوم في قولهم تاه يتيه، وهو من تَوِهتُ! قيل له: يمنع من ذلك أنهم يقولون: طَيَّبتُ الرجلَ ولم يحكِ أحد طوَّبته. والمُطيَّبون أحياء من قريش احتلفوا فغمسوا أيديهم في طيب، فهذا يدلك على أن الطيب من ذوات الياء، وكذلك قولهم: هذا أطيب من هذا. فأما حكاية أهل اللغة أنهم يقولون: أوبَةً وطوبةً، فإنما ذلك على معنى الإتباع، كما يعتقد بعض الناس في قولهم: حيَّاك الله وبيَّاك أنه إتباع، وأن أصل بياك بوَّاك، أي بوأك منزلًا ترضاه. وأما قولهم للآجُرِّ طُوب، فإن كان عربيًّا صحيحًا فيجوز أن يكون اشتقاقه من غير لفظ الطيب إلا على رأي أبي الحسن سعيد بن مسعدة، فإنه إذا بَنى فُعلًا من ذوات الياء يقلبه إلى الواو، فيقول: الطوب والعوش. فإن كان الطوب الآجُرُّ اشتقاقُه من الطيب فإنما أريد به — والله أعلم — أن الموضع الذي يُبنى به طابت الإقامة فيه، ولعلنا لو سألنا من يرى طوبى في كل حين لِمَ حُذفَ منها الألف واللام لم يُحِرْ في ذلك جوابًا. وقد زعم سيبويه أن الفُعلى التي تؤخذ من أفعل منك لا تُستعمل إلا بالألف واللام أو الإضافة، تقول: هذا أصغر منك، فإذا رددته إلى المؤنث قلت: هذه الصغرى أو صُغرى بناتك، ويَقْبُح عنده أن يقال صغرى بغير إضافة ولا ألف ولام، وقال سُحيَم:
وقرأ بعض القراء: «وقولوا للناس حسنى» على فُعلى بغير تنوين، وكذا قرأ في الكهف: «إما أن تعذِّب وإما أن تتخذ فيهم حسنى»، على فُعلى بغير تنوين، فذهب سعيد بن مسعدة أن ذلك خطأ لا يجوز، وهو رأي أبي إسحاق الزجَّاج؛ لأن الحسنى عندهما وعند غيرهما من أهل البصرة يجب أن تكون بالألف واللام، كما جاء في موضع وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، وكذلك اليسرى والعسرى؛ لأنها أنثى أفعل منك. وقد زعم سيبويه أن أخرى معدولة عن الألف واللام، ولا يمتنع أن يكون حُسنى مثلها، وفي الكتاب العزيز: وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، وفيه: لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى. قال عمر ابن أبي ربيعة:
فلا يمتنع أن تُعدل حُسنى عن الألف واللام كما عُدِلت أخرى. وأفعل منك إذا حُذفت منه «من» بقي على إرادتها نكرة أو عُرِّف باللام، ولا يجوز أن يجمع بين من وبين حرف التعريف. والذين يشربون ماءَ الحيوان في النعيم المقيم، هل يعلمون ما هذه الواو التي بعد الياء؟ وهل هي منقلبة كما قال الخليل أم هي على الأصل كما قال غيره من أهل العلم؟ ومَن هو مع الحور العين خالدًا مخلَّدًا، هل يدري ما معنى الحوَر؟ فيقول بعضهم: هو البياض، ومنه اشتقاق الحُوَّارَى من الخبزة، والحواريِّين إذا أريد بهم القصَّارون، والحواريات إذا أريد بهن نساءُ الأمصار. وقال قوم: الحوَر في العين أن تكون كلها سوداء، وذلك لا يكون في الإنس، وإنما يكون في الوحوش. وقال آخرون: الحوَر شدَّة سواد العين وشدَّة بياضها. وقال بعضهم: الحوَر سعة العين وعِظَم المقلة. وهل يجوز أيها المتمتع بالحور العين أن يقال حيرٌ كما يقال حُور، فإنهم ينشدون هذا البيت بالياء:
فإذا صحَّت الرواية في هذا البيت بالياء قدح ذلك في قول من يقول: إنما قالوا الحير إتباعًا للعين، كما قال الزاجر:
وكيف يستجيز من فرشه من الإستبرق أن يمضي عليه أبدٌ بعد أبد وهو لا يدري كيف يجمعه جمع التكسير؟ وكيف يصغِّره النحويون؟ يقولون في جمعه: أبارق وفي تصغيره أبيرق. وكان أبو إسحاق الزجَّاج يزعم أنه في الأصل سُمِّيَ بالفعل الماضي، وذلك الفعل استفعل من البَرَق، أو من البرْق، وهذه دعوى من أبي إسحاق، وإنما هو اسم أعجمي عُرِّب. وهذا العبقري الذي عليه اتِّكاء المؤمنين، إلى أي شيء نُسبَ؟ فإنَّا كنا نقول في الدار الأولى: إن العرب كانت تقول إن «عبقر» بلاد يسكنها الجن، وإنهم إذا رأوا شيئًا جيِّدًا قالوا عبقريٌّ؛ أي كأنه عمل الجن، إذ كانت الإنس لا تقدر على مثله، ثم كثر ذلك حتى قالوا سيِّد عبقري وظلم عبقريُّ. قال ذو الرُّمة:
وقال زهير:
وإن كان أهل الجنة عارفين بهذه الأشياء، قد ألهمهم الله العلم بما يحتاجون إليه، فلن يستغني عن معرفته «الولدان المخلَّدون»؛ فإن ذلك لم يقع إليهم، وإنَّا لنرضى بالقليل مما عندهم أجرًا على تعليم الوِلدان. فيبسم إليهم رضوان ويقول: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ، فانصرفوا — رحمكم الله — فقد أكثرتم الكلام فيما لا منفعة فيه، وإنما كانت هذه الأشياء أباطيل زُخرفت في الدار الفانية، فذهبت مع الباطل. فإذا رأوا جِدَّه في ذلك قالوا: رحمك الله! نحن نسألك أن تعرِّف بعض علمائنا الذين حصلوا في الجنة بأنَّا واقفون على الباب، نريد أن نخاطبه في أمر. فيقول رِضوان: مَن تؤثرون أن أُعلم بمكانكم من أهل العلم الذين غُفر لهم؟ فيشتورون طويلًا، ثم يقولون: عرِّف بموقفنا هذا الخليل بن أحمد الفُرهُودي. فيرسل إليه رضوان بعض أصحابه، فيقول: على باب الجنة قوم قد أكثروا القول، وإنهم يريدون أن يخاطبوك، فيشرف عليهم الخليل، فيقول: أنا الذي سألتم عنه، فماذا تريدون؟ فيعرضون عليه مثل ما عرضوا على رضوان، فيقول الخليل: إن الله — جلَّت قدرته — جعل من يسكن الجنة ممن يتكلم بكلام العرب ناطقًا بأفصح اللغات، كما نطق بها يعرب بن قحطان، أو معد بن عدنان، لا يدركهم الزَّيْغ ولا الزلل، وإنما افتقر الناس في الدار الغرَّارة إلى علم اللغة والنحو؛ لأن العربية الأولى أصابها تغييرٌ، فأما الآن فقد رُفع عن أهل الجنة كل الخطأ والوهم، فاذهبوا راشدين إن شاء الله. فيذهبون وهم مخفقون مما طلبوه.
ثم أعود إلى ما كنت متكلمًا فيه قبل ذكر الملائكة: مَنْ أهدى البريرة إلى نعمان، وأراق النطفة على الفرات، وشرح القضية لأمير المؤمنين، فقد أساء فيما فعل، ودلَّني كلامه على أنه بحرٌ يستجيش مني ثمدًا، وجبلٌ يستضيف إلى صخور حصًى، وغاضية من النيران تجتلب إلى جمارها سقطًا، وحسب تهامة ما فيها من السَّمُر. وسؤال الشيخ مولاي كما قال الأول:
لا هيثمَ الليلة للمطيِّ. قضيةٌ ولا أبا حسنٍ لها. وشكاة فأين الحارث بن كَلَدَة. وخَيْلٌ لو كان لها فوارس. والله المستعان على ما تصفون. والواجب أن أقول لنفسي: وراؤك أوسع لك، فالصيف ضيعتِ اللبن، ولا يكذب الرائدُ أهلَه، ولو كان معي ملء السقاء لسلكت في الأرض المقَّاء. وسوف أذكر طرفًا مما أنا عليه غريبٌ في العامة مِن شَبَّ إلى دَبَّ. يزعمون أنني من أهل العلم، وأنا منه خِلْوٌ إلا ما شاء الله، ومنزلتي إلى الجُهَّال أدنى منها إلى الرهط العلماء. ولن أكون مثل الربداء أزعم في الإبل أنني طائرٌ، وفي الطير أني بعيرٌ سائرٌ. والتمويه خُلُقٌ ذميم، ولكني ضبٌّ لا أحمل ولا أطير، ولا ثمني في البيع خطير، أقتنع بالحيلة والسِّحاء، والعوذ من بني آدم في مساء وضحاء، وإذا خلوتُ في بيتي تعللتُ، وإن فارقتُ مأواي ضللتُ.
ذكر ابن حبيب أنه يقال في المثل: «أحير من ضب»؛ وذلك أنه إذا فارق بيته، فأبعد لم يهتدِ أن يرجع إليه. وقد علم الله — تعالت قدرته — أني لا أبتهج بأن أكون في الباطن أستحق تثريبًا، وأُدعى في الظاهر أريبًا، ومَثَلِي مَثَلُ البِيعة الدامرة، تُجْمِع طوائف من المسيحية أنها تبرئ من الحُمَّى أو من كذا، وإنما هي جُدُر قائمة لا تفرق بين مِلْطسِ الهادم والمبيعة بيد الهاجريِّ، وسيان عندها صِنُّ الوبر وما يُعتَصر من ذكيِّ الورد. وليس بدعًا من كُذِبَ عليه وادُّعِيَ له ما ليس عنده. وقد ناديت بتكذيب القالة نداء من خصَّ وعمَّ، واعترف بالجهالة عند من نقص وأمَّ، واعتذرت بالتقصير إلى من هزل وجِد، وقد حُرمَ عليَّ الكلامُ في هذه الأشياء؛ لأني طلقتها طلاقًا بائنًا لا أملك فيه الرجعة؛ وذلك لأني وجدتها فوارك، فقابلت فركها بالصلف، وألقيت المرامي إلى النازع، وخَلَّيْتُ الخُطب لرُقاة المنابر، وكنت في عِداد المُهلة أجدُ إذا زاولت الأدب كأنني عارٍ ينضمُّ، أو أَقْطَعُ الكفين يتختَّم. وينبغي له أدام الله تمكينه إن ذكرني عنده ذاكرٌ أن يقول دُهدُرَّين! سعد القينُ! إنما ذلك أجهل من صَعْلِ الدَّوِّ، خالٍ كخُلوِّ البوِّ. ولو كنت في حسن العمر كما قيل لكنتُ قد أُنسيت أو نَسيت؛ لأن حديثي لا يُجهل في لزوم عطنيَ الضيق، وانقطاعي عن المعاشر ذهاب السيق. ولو أنني كما يُظنُّ لفعلت كما اخترت وبرزت للأعين فما استترت. وهو يروي البيت السائر لزهير:
وإنما ينال الرُّتبَ من الآداب من يباشرها بنفسه، ويُفنِي الزمنَ بِدَرْسِه، ويستعين الزِّهْلِق، والشعاع المتألق، لا هو العاجز ولا هو المحاجز.
ومثله لا يسأل مثلي للفائدة، بل للامتحان والخبرة، فإن سكتُّ جاز أن يسبق إليَّ الظنُّ الحسن؛ أنَّ السكوتَ سِتر يُسْبَلُ على الجَهول، وما أحب أن يفترى عليَّ الظنون، كما افترت الألسن في ذكرها أني من أهل العلم، وأحلف بِمُرُوَّة الكذوب لأن أرمي صابة، أو مقرًا آثر لديَّ من أن أتكلم في هذه الصناعة كلمةً. وقد تكلَّفت الإجابة، فإن أخطأت فمنبت الخطأ ومعدنه، غاوٍ تعرَّض لما لا يحسنه، وإن أصبت فما أُحمدُ على الإصابة، رُبَّ دواءٍ ينفع وصفه من ليس بناسٍ، وكلمة حُكمٍ تُسمع من حليفِ وسواس.
تمت الرسالة بحمد الله وعونه، ولطفه وصَوْنه، والحمد لله على أفضاله، وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه وآله أجمعين.