ابن جبير
ولد ابن جبير في مدينة بلنسية سنة ٥٤٠ﻫ/١١٤٥م. ودرس على أبيه وغيره من علماء العصر في سبتة وغرناطة، ثم دخل في خدمة أبي سعيد بن عبد المؤمن صاحب غرناطة. ومما جاء في ترجمة ابن جبير عن كتاب نفح الطيب للمقري أن الأمير أبا سعيد استدعاه يومًا ليؤلف فيه كتابًا، وهو في مجلس شرابه وحدث أن دفع إليه كأسًا من النبيذ، فاعتذر ابن جبير بأنه ما شرب الخمر قط، فقال الأمير: والله لتشربن منها سبعًا؛ فلم يستطع إلا الإذعان. وكافأه الأمير بأن قدم إليه القدح سبع مرات أخرى مملوءة بالدنانير وصب ذلك في حجره. وانصرف ابن جبير. وعقد العزم في الليلة نفسها على أن يذهب لتأدية فريضة الحج تكفيرًا عن ذنبه في شرب النبيذ. وأنفق تلك الدنانير في سبيل البر وباع عقارًا له تزود به.
•••
أقلعت السفينة من ثغر سبتة الواقع على شاطئ مراكش في مواجهة جبل طارق. وسارت محاذية لشاطئ الأندلس حتى ثغر دانية جنوبي بلنسية. ثم اتجهت شرقًا مارة بجزائر البليار. وكادت أنواء البحر وأمواجه أن تعبث بها، لولا مركبًا مسيحيًّا آخر، كان قادمًا من قرطاجنة الإسبانية وميمها شطر صقلية، فاقتفت أثره. واستطاعت أخيرًا أن تصل مع ذلك المركب إلى برسردانية حيث جدد المسافرون الماء والحطب والزاد. وقيد ابن جبير أن مسافرًا مسلمًا ممن يعرفون اللسان الرومي هبط مع جماعة من الروم إلى أقرب المواضع المعمورة من المرسى الذي وصلت إليه السفينة، فرأى نحو ثمانين من أسرى المسلمين رجالًا ونساء يباعون في السوق، وكان الروم قد عادوا بهم من غزوة في سواحل البحر ببلاد المسلمين.
أقلعت السفينة بعد ذلك إلى صقلية. ووصف ابن جبير ما مر بها من العواصف والأهوال إلى أن أرست على شاطئها عند موضع لم يحدده. ثم فارقته إلى ثغر الإسكندرية فوصلت إليه في ٢٩ من ذي القعدة أي بعد شهر من بدء رحلتها من مراكش.
وطبيعي أن أول ما شاهده ابن جبير في الإسكندرية إنما كان متصلًا بما نسميه اليوم «إجراءات الجمارك». والحق أنه وصفها في دقة وطرافة، تحملنا على روايتها على لسانه؛ لنتبين أن كثيرًا من الأنظمة التي تبدو لنا اليوم من تمخضات مدنيتنا ليس في الحق إلا تطورًا طبيعيًّا لما عرفه القوم في العصور الوسطى.
قال ابن جبير: «فمن أول ما شاهدنا فيها (أي: في الإسكندرية) يوم نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه، فاستحضر جميع من كانوا فيها من المسلمين واحدًا واحدًا وكتبت أسماؤها وصفاتها وأسماء بلادهم، وسئل كل منهم عما لديه من سلع أو ناض (نقد) ليؤدي زكاة ذلك كله، دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل. وكان أكثرهم متشخصين لأداء الفريضة لم يستصحبوا سوى زاد لطريقهم، فلزموا أداء زكاة ذلك دون أن يسأل هل حال عليه حول أم لا. واستنزل أحمد بن حسان منا، ليسأل عن أنباء المغرب وسلع المركب؛ فطيف به مرقبًا على السلطان أولًا. ثم على القاضي ثم على أهل الديوان ثم على جماعة من حاشية السلطان، وفي كل يستفهم ثم يقيد قوله فيخلى سبيله.
وأمر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم. وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم وبحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان، فاستدعوا واحدًا واحدًا، وأحضر ما لكل واحد من الأسباب. والديوان قد غص بالزحام فوقع التفتيش لجميع الأسباب، ما دق منها وما جل. واختلط بعضها ببعض. وأدخلت الأيدي إلى أوساطهم بحثًا عما عسى أن يكون فيها. ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غيري ما وجدوا لهم أم لا. وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام. ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم … وهذه لا محالة من الأمور الملبس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين. ولو علم بذلك، على ما يؤثر عنه من العدل وإيثار الرفق، لأزال ذلك وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة، واستؤدوا الزكاة على أجمل الوجوه. وما لقينا ببلاد هذا الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة، التي هي من نتائج عمال الدواوين.»
فقد آلم ابن جبير أن يساء إلى الحجاج المسلمين، وأن يطلب إليهم أداء الزكاة عن جميع ما معهم، بدون تفرقة بين الذي حال الحول فاستحقت عليه الزكاة وما لم يحل عليه الحول فلا زكاة عليه، كما آلمته القسوة في تفتيشهم. والظاهر أن هذه الدقة في «جمرك» الإسكندرية قديمة، فقد ذكر الأستاذ نقولا زيادة في كتابه «رواد الشرق العربي»، الذي أخرجته مجلة المقتطف، أن السائح المسيحي برنارد الحكيم روى عن نفسه (في القرن التاسع الميلادي) أنه فتش في الإسكندرية وحقق معه، ودفع ستة دنانير ذهبية.
وقد لقي ابن جبير مثل هذا التفتيش بالإسكندرية في رحلته الثانية إلى مصر؛ فكتب قصيدة يمدح فيها السلطان صلاح الدين، ويشير إلى فتحه ببيت المقدس سنة ٥٨٣ﻫ/١١٨٧م، وينصحه بإزالة هذه الأساليب التي تهتك فيها الحرمات وتنسى حقوق المسلمين، ومن أبيات هذه القصيدة:
أما الطواف بأحمد بن حسان — زميل ابن جبير — على طائفة من الموظفين لسؤاله عن أبناء المغرب، فيذكرنا بما يحدث اليوم بين دول المتحاربة من استجواب القادمين إليها من أبناء بلاد الأعداء أو ممن مروا بتلك البلاد؛ ليمكن الإفادة مما قد يدلون به من أخبار. ومما يؤسف له أن ابن جبير لم يدون شيئًا عما اتبع الثغر مع المسافرين من غير المسلمين.
عرض ابن جبير بعد ذلك لوصف الإسكندرية، فذكر آثارها وعمائرها ومنارها وأعجب بما فيها من مدارس للغرباء «يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنًا يأوي إليه ومدرسًا يعلمه الفن الذي يريد تعليمه»، كما أشار إلى المستشفى الذي شيده السلطان لأولئك الغرباء، وإلى الخيرات التي أوقفها للعناية بهم. ولاحظ كثرة المساجد إلى حد أن توجد منها الأربعة والخمسة في موضع واحد. وأتيح لابن جبير أن يشاهد في الإسكندرية دخول الأسرى الصليبيين، الذين وقعوا في يد المسلمين في الحملة الصليبية الفاشلة، التي كان صاحب الكرك قد دبرها في البحر الأحمر للاستيلاء على المدن الإسلامية المقدسة. وقد أدخل الأسرى «راكبين على الجمال ووجوههم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق».
ثم انتقل ابن جبير إلى القاهرة ومصر — وهذا الاسم الأخير هو الذي كانت تعرف به حينئذ مدينة الفسطاط وضواحيها المتصلة بالقاهرة — ونزل بفندق أبي الثناء في زقاق القناديل بمقربة من جامع عمرو بن العاص. وأقام في عاصمة البلاد أيامًا؛ زار فيها مشهد الحسين والقرافة وضريح الإمام الشافعي، والمدرسة الناصرية التي شيدها بإزائه السلطان صلاح الدين، ولم تكن عمارتها قد تمت بعد. وأعجب ابن جبير بسعتها فكتب: «يخيل لمن يتطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته. بإزائها الحمام إلى غير ذلك من مرافقها.» وحرص على لقاء شيخها نجم الدين الخبوشاني؛ لأنه كان قد سمع في الأندلس بفضله وبركته. ثم شاهد مارستان القاهرة وبنيان القلعة والسور الذي كان صلاح الدين يريد أن يتخذه حول القاهرة والقطائع والعسكر والفسطاط، فيجمع عواصم مصر الإسلامية كلها. وقد عثرت دار الآثار العربية في حفائرها على أطلال هذا السور.
كما شاهد القناطر التي شيدها السلطان عند بدء الصحراء الغربية «بعد رصيف ابتدئ به من حيز النيل بإزاء مصر، كأنه جبل ممدود على الأرض تسير فيه مقدار ستة أميال حتى يتصل بالقنطرة المذكورة». وكانت القنطرة والطريق المرصوف معًا جزءًا مما أعده السلطان للدفاع عن البلاد من جانب الغرب. ولاحظ ابن جبير أن جميع المسخرين في العمائر والمنشآت المختلفة كانوا من أسرى الروم. ووصف أهرام الجيزة «وأبا الهول».
وأشار في حديثه عن القاهرة إلى فضل السلطان صلاح الدين في محو المكوس، التي كانت مفروضة على الحجاج في عصر الدولة الفاطمية، والتي كانت تجبى يضطهدون ويعذبون في سبيل دفعها؛ وأما الذين لا يدفعون الضريبة في عيذاب، وتصل أسماؤهم إلى جدة «غير معلم عليها علامة الأداء»، فكانوا يلقون فيها أضعاف هذا التنكيل. فأبطل صلاح الدين هذه المكوس، وعوض أمراء مكة بما يرسله إليهم سنويًّا من الطعام والمال.
•••
ثم صعد ابن جبير في النيل إلى قوص. ووصف بعض المعابد في المدن. التي توقفت عندها المركب، كما شرح ما يلقاه الحجاج والمسافر من عسف العمال المكلفين جمع الزكاة، فقد كانوا يعترضون المركب ويفتشون المسافرين ويفحصون الأمتعة بوساطة مسلة طويلة يتخللون بها الأكياس والحزم.
ودخل ابن جبير قوص فكتب أنها حافلة الأسواق، متسعة المرافق، كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار المصريين والمغاربة واليمنيين والهنديين وتجار أرض الحبشة. ثم سافر منها إلى عيذاب بطريق الصحراء الذي ذاعت شهرته في عالم التجارة في العصور الوسطى. ووصف ابن جبير هذا الطريق وأشار إلى ضخامة تجارته في الفلفل وأنواع التوابل فقال: «ورمنا في هذا الطريق إحصاء القوافل الواردة والصادرة فما تمكن لنا، ولا سيما القوافل العيذابية المتحملة لسلع الهند الواصلة إلى اليمن، ثم من اليمن إلى عيذاب وأكثر ما شاهدنا من ذلك أحمال الفلفل، فلقد خيل إلينا لكثرته أنه يوازي التراب قيمة. ومن عجيب ما شاهدناه بهذه الصحراء أنك تلتقي بقارعة الطريق أحمال الفلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها، تترك بهذا السبل إما لإعياء الإبل الحاملة لها، أو غير ذلك من الأعذار. وتبقى بموضعها إلى أن ينقلها صاحبها مصونة من الآفات، على كثرة المارة عليها من أطوار الناس.
وصل ابن جبير إلى عيذاب ولاحظ أنها من أعظم الثغور شأنًا «بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها زائدًا إلى مراكب الحجاج الصادرة والواردة». كما لاحظ أنها في صحراء لا نبات فيها ولا يؤكل فيها شيء إلا مجلوب، ولكن أهلها في نعمة بما يكسبونه من خدمة الحجاج ولا سيما من تأجير الجلاب — والواحدة جلبة — وهي المراكب التي تنقل الحجاج بين عيذاب وجدة. وقد وصفها ابن جبير وصفًا فريدًا؛ لأنها كانت غريبة لا يستعمل فيها مسمار البتة. وكان أهل عيذاب لا يحفلون براحة الحجاج؛ فكانوا «يشحنون الجلاب بهم، حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج»؛ لكي يستطيع صاحب الجلبة منهم أن يستوفي ثمنها في رحلة واحدة. والواقع أن ابن جبير قدر أن الحلول بعيذاب من أعظم المكاره التي حف بها السبيل إلى الحج، فقد كان ساخطًا على هوائها الذي «يذيب الأجسام» ومائها «الذي يشغل المعدة على اشتهاء الطعام»، وسكانها «الذين لا خلاق لهم ولا جناح على لاعنهم». وأشار في هذه المناسبة إلى ما يزعمه الناس من أن سليمان بن داود كان اتخذها سجنًا للعفارتة. ونصح ابن جبير بتجنبها وباتخاذ طريق الشام. والحق أن هذا الطريق الأخير ومثله طريق العقبة، كان طريقًا طبيعيًّا ولا سيما لحجاج المغرب والأندلس. ولكن وجود الصليبيين في الشام حمل معظم الحجاج على التحول إلى طريق عيذاب.
•••
على أن الجزء الأساسي في رحلة ابن جبير إنما هو وصف مكة والمسجد الحرام ومناسك الحج وزيارة المدينة؛ فقد استغرق هذا كله أكثر من ثلث الكتاب، ووفق فيه الرحالة لتدوين أخبار وملاحظات ذات شأن عظيم في دراسة التاريخ والآثار الإسلامية. ولا عجب فقد أقام بمكة حول ستة شهور. وغضب ابن جبير لما شاهده من سوء معاملة الحجاج، وإمعان أهل مكة في استغلالهم، لولا تدارك صلاح الدين بإرساله المال والطعام إلى مكثر الحسني أمير مكة، فضلًا عن منحه إقطاعات في صعيد مصر واليمن. غير إن غياب صلاح الدين في حروبه مع الصليبيين في الشام كان يشجع مكثر الحسني على التمادي في نهب الحجاج، حتى تمنى ابن جبير أن تطهر تلك الأراضي المقدسة بسيوف مولاه ملك الموحدين.
وكان أمراء مكة يدينون بالطاعة للخليفة العباسي ولصلاح الدين، ولكنهم كانوا ينعمون بقسط وافر من الاستقلال، ما دام الخليفة العباسي ضعيفًا، وما دام صلاح الدين مشغولًا بقتال الصليبيين. وذكر ابن جبير أن الخطيب في الحرم الشريف كان يدعو يوم الجمعة للخليفة العباسي. ثم لأمير مكة ثم للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولأخيه وولي عهده أبي بكر. «وعند ذكر صلاح الدين بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه في كل مكان. وحق ذلك عليهم، لما يبذله من جميل الاعتناء بهم وحسن النظر لهم … وحسن رفعه من وظائف المكوس عنهم.» وليس هذا هو الوضع الوحيد الذي أشار فيه ابن جبير إلى صلاح الدين بأعظم الإعجاب والتقدير.
أكمل ابن جبير حجته، ولكنه لم يعقد العزم على العودة إلى وطنه مباشرة. ولم يكن ليفكر في الرجوع من طريق عيذاب؛ فرافق ركب الحجاج العراقي، ومر بطريق نجد قاصدًا الكوفة، ودون أن هذه المدينة «كبيرة عتيقة البناء قد استولى الخراب على أكثرها، ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها، فهي لا تزال تضر بها». وعبر الفرات عند مدينة الحلة على جسر جديد أمر الخليفة بتشييده لراحة الحجاج. وكان هذا الجسر معقودًا على مراكب كبار متصلة من الشط إلى الشط، تحف بها من جانبها سلاسل من حديد «كالأذراع المفتولة عظمًا وضخامة، ترتبط إلى خشب مثبتة في كلا الشطين تدل على عظم الاستطاعة والقدرة». واجتاز ابن جبير بظاهر مدينة الحلة جسرًا آخر على نهب متشعب من الفرات يسمى «النيل».
وأخيرًا ألقى الرحالة عصا التسيار في بغداد. ووصف أحياءها المختلفة ومساجدها وأسواقها وحماماتها ومدارسها ومستشفياتها، ولكنه لم يجد العاصمة العباسية على حسب ما تخيل فكتب: «إن هذه المدينة العتيقة، وإن لم تزل حاضرة الخلافة العباسية … قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها … أما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه عجبًا وكبرياء. يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء. قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود يصغر بالإضافة لبلده؛ فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادًا أو عبادًا سواهم … يظنون أن أسنى الفخار في سحب الإزار … يتبايعون بينهم بالذهب قرضًا؛ فلا نفقة فيها إلا من دينار تقرضه، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف. فالغريب منهم معدوم الإرفاق متضاعف الإنفاق، لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق، أو يهش إليه هشاشة انتفاع واسترفاق … فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها … أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين ووعاظهم المذكرين … لكنهم معهم يضربون في حديد بارد.»
وعرض ابن جبير في وصف بغداد لقصور الخليفة وأسرته. وذكر أن بني العباس كانوا وقتئذ متعلقين اعتقالًا جميلًا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة، ولم يكن للخليفة وزير؛ بل كان له موظف لشئونه الخاصة، يعرف بنائب الوزارة، وله فضلًا عن ذلك قيم على الدولة كلها يعرف بالصاحب أستاذ الدار، ويدعي له في الخطبة إثر الدعاء للخليفة.
•••
وانتقل ابن جبير إلى الموصل مارًّا بسر من رأى وتكريت وأعجب بما في الموصل من عمائر حربية ودينية ومستشفيات. ثم واصل الرحلة بين مدن الشام المختلفة فوصف آثارها، وتحدث عن عادات أهلها وعن عنايتهم بالغرباء. ودون «أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به أحد المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله — عز وجل — فتجب مشاركتهم».
والحق أن ابن جبير نبه إلى ما كان من مودة وعلاقات تجارية بين أفراد المسلمين والمسيحيين، حتى في العهد الذي كانت الحروب الصليبية ناشبة فيه بين أمراء الفريقين، فقد كتب في رحلته: «ومن أعجب ما يحدث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف (القتال) بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت الذي هو شهر جمادى الأولى من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك، وهو من أعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر، بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشق قليلًا، وهو سرارة أرض فلسطين، وله نظر عظيم الاتساع متصل العمارة، يذكر أنه ينتهي إلى أربعمائة قرية، فنازله هذا السلطان وضيق عليه وطال حصاره، واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك، وتجار النصارى أيضًا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم. وهي من الأمنة على غاية. وتجار النصارى أيضًا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب. هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم، وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك، ولا تعترض الرعايا ولا التجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلمًا أو حربًا، وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه.»
ولاحظ ابن جبير أن الفلاحين المسلمين في الأرض التابعة للمسيحيين كانوا في رخاء، بينما كان إخوانهم الفلاحون المسلمون عند الملاك من بني دينهم لا ينعمون بمثل ذاك الرفق والعدل. قال ابن جبير: «ورحلنا من تبنين سحر يوم الاثنين وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منظمة، سكانها كلها مسلمون وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه … وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط، ولا يعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدون أيضًا، ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم، وكل ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذا السبيل، رساتيقها كلها للمسلمين وهي القرى والضياع، وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم، لما يبصرون عليه إخوانهم من رساتيق المسلمين وعمالهم؛ لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق. وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الإفرنج ويأنس بعدله.»
لاحظ ابن جبير أن الصليبيين كانوا يفرضون على المسلمين المغاربة ضريبة خاصة قدرها دينار على كل شخص. ودون أن السبب في ذلك أن طائفة من المجاهدين المغاربة اشتركت مع مسلمي الشرق الأدنى في فتح أحد الحصون الصليبية، وكان لهم الفضل الأكبر في هذا الميدان. والظاهر أن الصليبيين ضايقهم قدوم المغاربة من بلادهم البعيدة للمساهمة في قتالهم، فجزوهم بهذه الضريبة «وقال الإفرنج: إن هؤلاء المغاربة كانوا يختلفون على بلادنا ونسالمهم ولا نرزأهم شيئًا، فلما تعرضوا لحربنا وتألبوا مع إخوانهم المسلمين علينا وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم». ولكن الواقع أن اشتراك المغاربة في الحروب الصليبية في الشرق ليس غريبًا في شيء، ولا سيما إذا تذكرنا أن بلاد المغرب والأندلس كانت في حروب صليبية مع المسيحيين قبل أن تنشب الحروب الصليبية في الشرق الأدنى.
•••
أرست السفينة أخيرًا عند مدينة مسينة في صقلية، فوصفها ابن جبير، ولكنه وصف ملؤه المفارقات المتناقضات فبينما يقول: إنه «لا يقر فيها لمسلم قرار»، وإنها «لا توجد لغريب أنسًا» إذ به يضيف إلى ذلك «أن أسواقها نافقة حفيلة، وأرزاقها واسعة بأرغاد العيش كفيلة، لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان، وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان». ويلوح أن ابن جبير لم يكن قد اطمأن بعد إلى حال المسلمين في صقلية، فإنه زار بعد ذلك بالرمة عاصمة البلاد، وزار غيرها من مدن الجزيرة، ووصف عمرانها، وثقة حكامها المسيحيين برعاياها من المسلمين، وقد كان عددهم وافرًا في هذا الإقليم، الذي التقت فيه مختلف المدنيات الوثنية والمسيحية والإسلامية.
ولكنا لا نستطيع أن نركن إلى رحلة ابن جبير في الوقوف على حال المسلمين بصقلية، ومعرفة ما كانوا يتمتعون به من الحرية الدينية بعد أن زال سلطانهم عن هذه الجزيرة بقرن من الزمان. فإنا نراه يدون ما يشهد بأن المسيحيين كانوا يحسنون معاملة المسلمين، ويستخدمونهم في الوظائف والمهن، حتى في أعظمها شأنًا ببلاط الأمير، وإنا نراه يروي حديث رجل مسلم لقيه في مسينة، اسمه عبد المسيح، وقال له: «أنتم مدلون بإظهار الإسلام فائزون بما قصدتم له، رابحون إن شاء الله في متجركم، ونحن كاتمون إيماننا، خائفون على أنفسنا، متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرًّا.»
وعلى كل حال فإن الذي وصل إليه المؤرخون أن الدولة النورمانية في صقلية كانت تشمل المسلمين بقسط وافر من رعايتها، وكانت تعترف بفضلهم وسبق مدينتهم في كثير من نواحي الحياة. وإذا لم يكن ما كتبه ابن جبير في هذا الصدد واضحًا تمامًا، فإن سائر وصفه لبلاد صقلية عظيم الفائدة من الناحيتين التاريخية والجغرافية؛ لأنه كان دقيق الملاحظة في وصف الظواهر الاجتماعية. من ذلك ما فطن له من أن الخلاف بين أفراد الأسرة الواحدة من المسلمين كان يؤدي أحيانًا إلى دخول بعضهم في المسيحية، فرارًا من رقابة أو ولاية أو علاقة شرعية أخرى.
ثم أقلع ابن جبير من صقلية على ظهر سفينة جنوية حملته إلى ثغر قرطاجنة في الأندلس، فوصل إليها في الخامس عشر من المحرم سنة ٥٨١ ثم واصل السفر حتى وصل إلى غرناطة في الثاني والعشرين من المحرم (٢٥ أبريل سنة ١١٨٥) بعد أن غاب عنها حول سنتين وثلاثة أشهر.
وقام ابن جبير برحلة ثانية إلى الشرق الإسلامي سنة (٥٨٥ﻫ/١١٨٩م)، استغرقت سنتين وبضعة أشهر. وقيل: إن الذي جذبه إلى الشرق هذه المرة ما سمعه من استيلاء صلاح الدين على بيت المقدس سنة (٨٥٣ﻫ/١١٨٧م). ثم ترك ابن جبير المقام في غرناطة، وانتقل إلى بلاد المغرب حيث أقام عشرين سنة أو نيف؛ رحل بعدها إلى الشرق مرة ثالثة سنة (٦١٤ﻫ/١٢١٧م). وقيل: إن ذلك كان بسبب وجده على زوجه عاتكة، التي توفيت في تلك السنة والتي نظم فيها ديوانه «نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح». واستقر ابن جبير في الإسكندرية، وتوفي بها في السنة نفسها، وقد جاوز الثانية والسبعين.