الهروي السائح
هو علي بن أبي بكر — وقيل: أبي طالب — بن علي الهروي الأصل. ولد في الموصل. وطاف في أنحاء الشرق الإسلامي وفي الهند وفي القسطنطينية والمغرب وصقلية وغيرها من جزائر البحر الأبيض المتوسط. وكان مغرمًا بالأسفار وبكتابة اسمه على الآثار التي يزورها، حتى كتب عنه ابن خلكان «أنه لم يترك برًّا ولا بحرًا ولا سهلًا ولا جبلًا من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه، ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه»، وقد سار ذكره بذلك، حتى عرف باسم الهروي السائح.
والمعروف أنه زار القسطنطينية في زمن الإمبراطور عمانوئيل كومنينوس، وأنه زار دمشق سنة (٥٦٨ﻫ/١١٧٣م) قبل أن يستعيدها صلاح الدين من يد الصليبيين. وكان في الإسكندرية سنة ٥٧٠ﻫ. ثم كان في قافلة نهبها الصليبيون سنة (٥٨٨ﻫ/١١٩٢م)، ففقد فيها كتبه وبعض المذكرات التي جمعها، ولعله كان حانقًا لهذا السبب، أو لعل تقواه وشدة اعتداده بنفسه حملاه على أن يرفض مقابلة الملك ريكاردوس قلب الأسد، الذي سمع بفضله، وحرص على أن يتحدث إليه.
واتصل الهروي في خاتمة حياته بالملك الظاهر ابن صلاح الدين؛ فأقام تحت رعايته في حلب إلى أن توفي سنة (٦١١ﻫ/١٢١٤م).
وقد وصل إلينا من مؤلفات الهروي كتاب «الإشارات إلى معرفة الزيارات»، ولا يزال مخطوطًا لم يطبع إلى اليوم، ولكن الرحالة يشير فيه إلى كتب أخرى من تأليفه، مثل كتاب «منازل الأرض ذات الطول والعرض» و«كتاب الآثار والعجايب والأصنام.»
أما كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات، فقوامه ذكر الآثار والعمائر الدينية التي زارها الهروي والتي يستطرد في الحديث عنها إلى بعض البيانات التاريخية الطريفة. وفي دار الكتب المصرية نسخة مخطوطة منه بعنوان «رحلة أبي الحسن بن أبي بكر بن علي الهروي الموصلي، تمت كتابتها سنة ٦٠٢ﻫ» أي: قبل وفاة المؤلف. ومما يؤسف له أن هذه الرحلة غنية بالخرافات والأساطير، وإن كنا نجد في بعض أجزائها وصفًا وأحاديث تدل على دقة الملاحظة.
وقد نسخ الهروي على منوال كثير من المؤلفين، فقال في مقدمة كتابه: إن بعض الإخوان والخلان سألوه أن يذكر لهم ما زاره من الزيارات، وما شاهده من العجائب والأبنية والعمارات، وما رآه من الأصنام والآثار والطلمسات «في الربع المسكون والقطر المعمور»، وأنه رفض أن يلبي هذا الطلب، إلى أن اجتمع برسول الخليفة العباسي إلى صلاح الدين، وأقنعه هذا الرسول بتأليف الكتاب الذي وصل إلينا.
ومن الطريف أن الهروي اعتذر عما في الكتاب من خطأ فقال: «وإن جرى السهو فيما أذكره بطريق الغلط لا بطريق القصد، فأسأل الناظر فيه والواقف عليه الصفح في ذلك وإصلاح الخطأ وإيضاح الحق؛ فإن كتبي أخذها الانكتار ملك الفرنج، ورغب في وصوله إليه، فلم يمكن ذلك، ومنها ما غرق في البحر، وقد زرت أماكن ودخلت بلادًا من سنين كثيرة، وقد نسيت أكثر ما رأيته، وشذ عني أكثر ما عاينته، وهذا مقام لا يدركه أحد من السائحين والزهاد، ولا يصل إليه أكثر المسافرين والعباد، إلا رجل جال الأرض بقدمه، وأثبت ما قلته بقلبه وقلمه.»
ومما كتبه الهروي: «الأهرام من عجائب الدنيا، وليس على وجه الأرض شرقيها وغربيها عمارة أعجب منها ولا أعظم ولا أرفع، ورأيت بمصر أهرامًا كثيرة منها خمسة كبار والباقي صغار. فأما الكبار فاثنان عند الجزيرة واثنان عند قرية يقال لها: دهشور، وهرم عند قرية يقال لها: ميدوم، وقد اختلفت أقاويل الناس فيها وفي بانيها وما يريد بها، ومنهم من قال: إنها قبور للملوك، ومنهم من قال: إنهم عملوها خوفًا من الطوفان، وقيل: إن المأمون فتح هرمًا منها، وهو أحد الهرمين اللذين عند الجزيرة؛ فوجدوا داخله بئرًا مربعة، في تربيعها أبواب يفضي كل باب منها إلى بيت فيه موتى بأكفانهم، وقيل: إنهم وجدوا في رأس هذا الهرم بيتًا فيه حوض من الصخر على مثال القبر، وفيه صنم كالآدمي الرهنج، وفي وسطه إنسان عليه درع من الذهب مرصع بالجوهر، وعلى صدره سيف لا قيمة له وعند رأسه حجر ياقوت كالبيضة كالنار.» وأضاف الهروي أنه دخل إلى هذا الهرم ورأى الحوض واضحًا، وقد كتب أنه سيذكر في كتاب العجائب والآثار والأصنام والطلسمات جميع ما سمعه من أخبار الأهرام والصنم أبي الهول، وجميع البرابي (المعابد) التي ببلاد الصعيد.
ومما دونه عن الأقصر: «مدينة بها من الآثار والقصور والأصنام، وصور الأصنام وصور السباع والدواب ما لم أَرَ مثله في بلاد الصعيد ولا في غيرها، وذرعت يد صنم فكان من المرفق إلى مفصل الكف سبعة أذرع.»
وقد كتب الهروي عن المقابر الأثرية في صعيد مصر، وعن الجثث المدفونة فيها، وعن أكفانها المحفوظة على حالها الأولى. والحق أن الاكتشافات الأثرية الحديثة، والمنسوجات الوافرة التي عثر عليها المنقبون عن الآثار في تلك المقابر، كل ذلك يؤيد ما كتبه الهروي كل التأييد.
وكتب عن أسوان: «آخر بلاد الصعيد وبلاد الإسلام وبها الجنادل حجارة نابتة في وسط البحر. فإذا كان وقت زيادة النيل، يوضع عليها سرج فإذا زاد البحر وأخذها، وأرسلوا البشارة إلى مصر. فينزلوا في مركب صغير ويسبقوا الماء ويبشروهم بالزيادة. وجميع معادن حجارة المانع والعمد التي بالديار المصرية ومسال فرعون وعمد السواري بالإسكندرية من جبال هذه المدينة. ورأيت آثار القطاعات في الجبل والحجارة المانع والعمد مقطوعة.»
وقد أعجب الهروي بما رأى في مصر من زهور ونبات، فكتب في رحلته: «وبالجملة في ديار مصر ونيلها من عجائب الدنيا، ورأيت بها في أوان واحد مجتمعًا وردًا ثلاثة ألوان وياسمين لونين ونيلوفر لونين وآسا ونسرينًا وريحانًا وخبريًّا وبنفسجًا ومسورًا ونبقًا وأترنجًا وليمونًا مركبًا وطلعًا ورطبًا وموزًا وجميزًا وحصرمًا وعنبًا وطينًا (تينًا) أخضر ولوزًا وقثاء وفقوسًا وبطيخًا وباذنجانًا وباقلا أخضر ويقينًا وحمصًا أخضر وخسًّا وجوزًا أخضر ورمانًا وهليونًا وقصب سكر.»