ياقوت الحموي
كان ياقوت يوناني الجنس. ولد حول سنة (٥٧٤ﻫ/١١٧٨م) وأسر في حداثته، وبيع إلى تاجر
حموي
مقيم في بغداد، فنشأ مسلمًا، وعني التاجر بتعليمه لينتفع به في تجارته، فتلقى العلوم
المعروفة في عصره. ثم قام بعدة أسفار في أعمال تجارية لسيده، ولا سيما بمنطقة الخليج
الفارسي. وأعتقه مولاه سنة (٥٩٦ﻫ/١١٩٩م). وأشركه في تجارته، وأخذ يبعثه في شئونها إلى
الأصقاع المختلفة. وجدت أن دب بينهما الخلاف، فاحترف ياقوت نسخ الكتب، وأفاد من ذلك كثيرًا،
ثم صافى سيده السابق، واستأنف الأسفار التجارية. ومات السيد، فاشتغل ياقوت بتجارة الكتب،
ولكنه لم يلبث أن عاد إلى حياة الأسفار والرحلات، فجال في إيران وبلاد العرب وآسيا الصغرى
ومصر والشام وبلاد ما وراء النهر. وأقبل على التنقيب في خزانات الكتب، فجمع المواد اللازمة
للمعاجم التي عقد العزم على تأليفها في أسماء البلاد وتراجم الأدباء.
ويلوح أنه أفاد من خزائن مدينة إفادة كبيرة؛ فقد أشار إلى ذلك في كلامه على هذه المدينة
في «معجم البلدان»؛ فذكر أنه أقام بها ثلاثة أعوام وأنه تركها وفيها عشر خزانات كبيرة،
لم
يرد في أي مدينة أخرى مثلها. وكان العمل فيها واستعارة كتبها الموقوفة أمرًا سهلًا، حتى
إن
عدد ما كان عند ياقوت من هذه الكتب في الآن الواحد كان يقرب من مائتي مجلد. والظاهر أنه
كان
يدفع رهنًا للنادر منها. ولكن أكثرها كان بغير رهن. وقد ختم ياقوت حديثه عن هذه الخزانات
بقوله: «فكنت أرتع فيها، وأقتبس من فوائدها، وأنساني حبها كل بلد، وأنهاني عن الأهل
والوالد. وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته، فهو من تلك الخزائن.»
•••
والمعروف أن ياقوت لم يدون أخبار رحلاته. ولا ريب في أن ما شاهدته في أسفاره وما
جمعه من
الخزائن التي نقب فيها، كان خير عدة له في تأليف كتابه «معجم البلدان» الذي امتاز بترتيبه
على حروف الهجاء، وبدقته واتساعه وجمعه بين الجغرافية والتاريخ والعلم والأدب، حتى إن
أحد
المستشرقين قال فيه: إنه من المؤلفات التي يحق للإسلام أن يفخر بها كل الفخر.
١ وقد فرغ ياقوت من تأليف هذا المعجم في سنة (٦٢١ﻫ/١٢٢٤م).
ومما يؤسف له أننا لا نستطيع أن نحدد مقدار ما أفاده ياقوت من رحلاته تحديدًا دقيقًا.
فإنه نقل في معجمه عن كثير من الجغرافيين والرحالة والمؤرخين، ولم يعين الأقاليم التي
زارها
بنفسه وكتب عنها مشاهداته الخاصة؛ مع أنه كان من أكثر العلماء طوافًا في عصره، ومن أشدهم
عناية بالتاريخ الطبيعي ومظاهر الثقافة الشاملة، ومن أبعدهم عن الأخذ بالخرافات والأساطير.
وقد عني أحد المستشرقين “Heer” في نهاية القرن الماضي
بدراسة معجم البلدان، وأخرج بحثًا في المراجع التاريخية والجغرافية التي اعتمدها ياقوت
لتصنيف هذا المعجم. ولكن أحدًا لم يستطع حتى الآن أن يبين الخاص وآثار أسفاره وتجاربه
في
هذه الموسوعة الجغرافية الجليلة الشأن.
•••
ومهما يكن من شيء فقد امتاز ياقوت عن كثير من مؤلفي العرب بملكة النقد التي كانت
تتجلى في
روايته بعض الأساطير الذائعة في عصره، وفي حكمه على بعض الأساطير والتعليل لها. من ذلك
ما
لاحظه الدكتور حسين فوزي في كتابه «حديث السندباد القديم» (ص١٢٣). فقد كتب ياقوت في مادة
(جاسك) من «معجم البلدان»:
جاسك بفتح السين المهملة وآخره كاف. جزيرة كبيرة بين جزيرة قيس هي المعروفة بكيش
وعمان قبالة مدينة هرمز. بينها وبين قيس ثلاثة أيام وفيها مساكن وعمارات يسكنها جند
ملك جزيرة قيس. وهم رجال أجلاء أكفاء لهم صبر وخبرة بالحرب في البحر وعلاج للسفن
والمراكب ليس لغيرهم. وسمعت غير واحد من جزيرة قيس يقول: أهدى إلي بعض الملوك جواري
من الهند في مراكب فرفأت تلك المراكب إلى هذه الجزيرة فخرجت الجواري يتفسحن،
فاختطفهن الجن وافترشهن فولدن هؤلاء الذين بها.
وطبيعي أن يروي ياقوت هذا الحديث المتداول بين أهل زمانه، ولكنه يحرص على أن يشعرنا
بأنه
أسطورة وعلى أن ينسبه إلى قائليه، فينص على أنه سمعه من «غير واحد من جزيرة قيس» كما
يحرص
بعد هذا كله على محاولة تفسيره فيضيف:
يقولون هذا لما يروى فيهم من الجلد الذي يعجز عنه غيرهم، ولقد حدثت أن الرجل منهم
يسبح في البحر أيامًا، وأنه يجالد بالسيف وهو يسبح مجالدة من هو على الأرض.