ابن سعيد وابن فاطمة
ولد علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد المغربي في غرناطة حول سنة (٦١٠ﻫ/١٢١٤م). وتلقى العلم في إشبيلية، ثم أدى فريضة الحج مع أبيه، ولكن أباه توفي في طريقهما للعودة إلى أرض الوطن سنة ٦٣٩ﻫ، وأقام الابن في الإسكندرية بضع سنوات، ثم قام برحلات طويلة في العراق والشام والحجاز وتونس وأرمينية، واتصل ببعض أمراء المسلمين وعلمائهم. وتوفي في الربع الأخير من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
وقد دون ابن سعيد أخبار بعض رحلاته. وأفاد من مشاهداته فيما ألف من كتب التاريخ. وقد خلف تواليف كثيرة معظمها مخطوط إلى الآن، فلم يطبع إلا بعضها وأجزاء من البعض الآخر، ولا سيما من كتاب «المغرب في حلى المغرب» وهو كتاب كبير أتم ابن سعيد تأليفه بعد أن بدأه أبوه وجده من قبله.
والظاهر أن ابن فاطمة قام بأسفار طويلة في أفريقية. ولعله كتب أخبار هذه الرحلات، ولكن شيئًا من آثاره لم يصل إلينا ما خلا الذي نقله عنه ابن سعيد، حين أشار إليه في أكثر من موضع واحد.
•••
ومن طريف ما خلفه ابن سعيد وصف للقاهرة والفسطاط نقله المقري في كتابه «نفح الطيب». وقد جاء في هذا الوصف: «قال ابن سعيد: ولما استقررت بالقاهرة تشوقت إلى معاينة الفسطاط، فسار معي إليها أحد أصحاب القرية، فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدة لركوب من يسير إلى الفسطاط حملة عظيمة، لا عهد لي بمثلها في بلد. فركب منها حمارًا وأشار إلي أن أركب حمارًا آخر، فأنفت من ذلك، على عادة من أخلفته في بلاد المغرب. فأخبرني أنه غير معيب على أعيان مصر، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والشارة الظاهرة يركبونها فركبت. وعندما استويت راكبًا أشار المكاري إلى الحمار فطار بي، وأثار من الغبار الأسود ما أعمى عيني ودنس ثيابي وعاينت ما كرهته. ولقلة معرفتي بركوب الحمار، وشدة عدوه على قانون لم أعهده، وقلة رفق المكاري، وقعت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج فقلت:
فدفعت إلى المكاري أجرته، وقلت له: إحسانك أن تتركني أمشي على رجلي، ومشيت إلى أن بلغتها … ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرة، وتأملت أسوارًا مثلمة سوداء، وآفاقًا مغبرة، ودخلت من بابها وهو دون غلق، يفضي إلى خراب مغمور بمبان مشتتة الوضع، غير مستقيمة الشوارع، وقد بنيت من الطوب الأدكن والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة، وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف ويغض طرف الظريف. فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال، إلى أن صرت في أسواقها الضيقة، فقاسيت من ازدحام الناس فيها لحوائج السوق والروايا التي على الجمال ما لا تفي به إلا مشاهدته ومقاساته، إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت ضده في جامع إشبيلية، جامع مراكش، ثم دخلت إليه فعاينت جامعًا كبيرًا قديم البناء غير مزخرف ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه وتنبسط فيه. وأبصرت العامة رجالًا ونساءً قد جعلوه معبرًا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق. والبياعون يبيعون فيه أصناف المسكرات والكعك وما سوى ذلك. والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير متحشمين لجري العادة عندهم بذلك. وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقًا. وفضلات مأكلهم مطروحة في صحن الجامع، وفي زواياه العنكبوت قد عظم نسجه في السقف والأركان والحيطان والصبيان يلعبون في صحنه، وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة …
وأما ما يرد إلى الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني والبحر الحجازي فإنه فوق ما يوصف، وبه مجمع ذلك لا بالقاهرة، ومنها يجهز إلى القاهرة وسائر البلاد. وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ومعظم ما يجري هذا المجرى …
والمكان المعروف بالقاهرة بين القصرين هو من الترتيب السلطاني؛ لأن هنالك ساحة متسعة للعسكر والمتفرجين ما بين القصرين. ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر … ولكن ذلك أمد قليل، ثم تسير منه إلى أمد أضيق وتمر في مكان كدر حرج بين الدكاكين، إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان مما تضيق به الصدور وتسخن منه العيون، ولقد عاينت يومًا وزير الدولي وبين يديه الأمراء وهو في موكب جليل، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة، وقد سدت جميع الطرق بين الدكاكين، ووقف الوزير وعظم الازدحام، وكان في موضع طباخين، والدخان في وجه الوزير وعلى ثيابه. وقد كاد يهلك المشاة، وكدت أهلك في جملتهم.»