ابن بطوطة
هو أعظم الرحالة المسلمين قاطبة، وأكثرهم طوافًا في الآفاق، وأوفرهم نشاطًا واستيعابًا للأخبار، وأشدهم عناية بالتحدث عن الحالة الاجتماعية في البلاد التي تجول فيها. حقًّا إنه لم يكن فقيهًا دقيق الملاحظة سليم الحكم مثل ابن حجر، ولكن حديث رحلاته الطويلة غني بالأحداث، يشع بالحياة، ويشهد بأن ابن بطوطة كان من المغامرين الذين لا يقر لهم قرار، ومن الذين يدفعهم حب الاستطلاع والرغبة في الاستمتاع بالحياة إلى أن يركبوا الصعب من الأمور.
ولد محمد بن بطوطة في مدينة طنجة سنة (٧٠٣ﻫ/١٣٠٤م) من أسرة عالية، أتيح لكثير من أبنائها الوصول إلى منصب والنبوغ في العلوم الشرعية. غادر وطنه سنة ٧٢٥ﻫ لأداء فريضة الحج، ولكنه ظل حول ثمانية وعشرين سنة في أسفار متصلة ورحلات متعاقبة. وألقى أخيرًا عصى التسيار بما كان فيه ابن بطوطة يقصه من أحاديث أسفاره، فأمر كاتبه محمد بن جزي الكلبي أن يدون ما يمليه عليه هذا الرحالة. وتولى ابن جزي كاتب السلطان رواية الرحلة وتلخيصها وترتيبها وإضافة بعض الأشعار إليها وتحقيق بعض أجزائها مستعينًا بكتب الرحلات المعروفة في ذلك العصر، ولا سيما رحلة ابن جبير.
ثم سماها «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وفرغ منها سنة (٧٥٧ﻫ/١٣٥٦م) وختمها بعبارة أجزل فيها الثناء على ابن بطوطة، ولم ينس مولاه السلطان، فافتخر بأن ذاك الرحالة اختار الاستقرار في دياره دون غيرها.
قال ابن جزي: «انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبد الله محمد بن بطوطة أكرمه الله. ولا يخفى على ذي عقل أن هذا الشيخ هو رحال العصر. ومن قال: رحال هذه الملة لم يبعد. ولم يجعل بلاد الدنيا للرحلة. واتخذ حضرة فاس قرارًا ومستوطنًا بعد طول جولاته، إلا لما تحقق أن مولانا — أيده الله — أعظم ملوكها شأنًا، وأتمهم بما ينتمي إلى طلب العلم حماية. فيجب على مثلي أن يحمد الله تعالى؛ لأن وفقه في أول حاله وترحاله لاستيطان هذه الحضرة، التي هذا الشيخ بعد رحلة خمسة وعشرين عامًا.»
•••
ولعل بعض الاضطراب في أخبار ابن بطوطة يرجع إلى أنه لم يدون رحلته بنفسه، وأن ابن جزي عدل في بعض أخبارها وغير فيها بالحذف أو الإضافة، بعد أن راجع طائفة من كتب الأسفار الأخرى، حتى جاءت بعض الأخبار بعيدة عن الدقة، ولا سيما أحاديث ابن بطوطة عن الصين: فاتهمه بعض النقاد بأنه لم يصل إلى تلك البلاد كما زعم في رحلته. ولكنا لا نميل إلى تأييد هذا الاتهام كل التأييد؛ لأن معظم تلك الأحاديث يدعمها ما نعرفه عن رحلة ماركو بولو، الذي زار الصين أيضًا، ومكث فيها حول سبعة عشر عامًا، ثم أملى أخبار رحلته على كاتب آخر، وتوفي قبل أن يقوم ابن بطوطة برحلته الأولى بسنة واحدة.
وقد أشار الدكتور حسين فوزي في كتابه «حديث السندباد القديم» (ص ١١٨-١١٩) إلى قصة نزول ابن بطوطة ببلاد طوالسي في المحيط الهادي، ولاحظ أن وصفه تلك البلاد — ولا سيما نساءها — ذو صلة بأسطورة جزيرة النساء وأسطورة الوقواق. وقال: إن تلك القصة من الحكايات التي دعت كثيرًا إلى التشكك من سفر ابن بطوطة إلى بلاد الصين وأنه ليس ببعيد أن يكون حديثه عن «أودجا» ملكة تلك البلاد «نوعًا من السطو البري على قصة علقت بذهن ابن بطوطة من مطالعاته عن البلاد التي في شرق الصين ونسبها إلى نفسه».
وفي رأينا أن هذه القصة وغيرها من القصص الغريبة قد تحملنا على أن نشك في صحة بعض ما نسبه ابن بطوطة إلى نفسه، ولكنها لا تكفي لأن نشك في صحة سفره إلى تلك البلاد. والحق أن ما كتبه عن الصين يبدو قائمًا على أسس من المشاهدات الشخصية، ويجب ألا ننسى في هذه المناسبة أن مثل هذه الرحلة إلى الصين كانت أمرًا ميسورًا لابن بطوطة بوصفه سفير سلطان دلهي. وإذا كان حديثه عنها بعيدًا عن الإسهاب والإطالة، فلعل السبب في ذلك أنه لم يكن يستطيع أن يتذكر السماء الصينية أو أن ابن جزي محرر الرحلة أمعن في اختصاره لسبب من الأسباب.
•••
غادر ابن بطوطة بلاد المغرب الأقصى إلى الأراضي الحجازية، فمر ببلاد الجزائر وتونس وطرابلس. والظاهر أن هذا الطريق البري لم يكن أمينًا كل الأمن؛ فقد علم الرحالة من صديق له بضرورة الإسراع في السير خوف غارة العرب في الطريق، وحدث بعد ذلك أن أرادت طوائف الأعراب الإيقاع بالركب قبل الوصول إلى الحدود المصرية. وحرص ابن بطوطة على أن يحدثنا عن بعض شؤونه الخاصة في هذه المرحلة الخاصة في هذه المرحلة فأملى ما يأتي: «ووقع بيني وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق بنته وتزوجت بنتًا لبعض طلبة فاس وبنيت بها بقصر الزعافية، وأولمت وليمة حبست لها الركب يومًا وأطعمتهم.»
ثم وصل إلى الإسكندرية ووصفها وصفًا موجزًا ولا سيما المنار وعمود السواري، وتحدث بشيء من الإسهاب عمن زارهم من علمائها، ومنهم الإمام الزاهد برهان الدين الأعرج الذي توسم فيه حب الرحلة والأسفار، فأوصاه إذا ذهب إلى الهند أو الصين أن يزور إخوانًا سماهم له. وشجع ذلك ابن بطوطة على التفكير في التوجه إلى تلك البلاد القاصية. على أننا لا نشك في أنه لم يكن منذ البداية يقصد الحج فحسب، بل كان يزمع التجول في العالم الإسلامي، كما يظهر من قضائه عدة شهور في الطريق إلى الإسكندرية، ومن تعريجه على مدن في الدلتا بعيدة عن الطريق العادي إلى القاهرة.
ومن طريف ما ذكره ابن بطوطة عن مدينة دمياط أنها كانت مسورة، وإذا دخلها أحد لم يكن له سبيل إلى الخروج منها إلا بإذن الوالي؛ فمن كان في الناس معتبرًا أعطاه رجال الإدارة الإذن على ورق مختوم بطابع الوالي، أما طالب الخروج من عامة الناس فكانوا يطبعون على ذراعه بخاتم الوالي، فيسمح له حراس باب المدينة بمبارحتها عند رؤية هذا الختم.
ثم وصف ابن بطوطة القاهرة والفسطاط (مصر) فذكر المساجد والمدارس والمستشفيات والقرافة والنيل والأهرام، وقال عن هذه: إنها بنيت لتكون مستودعًا للعلوم ولجثث الملوك. وتحدث عن السلطان الناصر محمد بن قلاوون وعن بعض كبار الأمراء والعلماء في دولته، ووصف الاحتفال بسفر المحمل. وقال: إن بنيل مصر من المراكب ستة وثلاثين ألفًا للسلطان والرعية، تمر صاعدة إلى الصعيد ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخيرات والمرافق، وأن «الروضة» كانت حينئذ مكان النزهة والتفرج وبها البساتين الكثيرة الحسنة، وأن أهل مصر ذو طرب وسرور ولهو، وأنه شاهد بها مرة فرجة — بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده — فزين كل أهل سوق سوقهم وبقوا على ذلك أيامًا.
ثم وصلت إلى الصالحية، ومنها دخلنا الرمال ونزلنا منازلها، وبكل منزل منها فندق وهم يسمونه الخان، ينزله المسافرون بدوابهم، وبخارج كل خان ساقية للسبيل وحانوت يشتري منه المسافر ما يحتاج إليه ودابته ومن منازلها «قطيا» المشهورة، وبها تؤخذ الزكاة من التجار وتفتيش أمتعتهم، ويبحث عما لديهم أشد البحث، وفيها الدواوين والعمال … ومجباها في كل يوم ألف دينار من الذين. ولا يجوز عليها أحد من الشام إلا ببراءة (إذن أو جواز سفر) من مصر ولا إلى مصر إلا ببراءة من الشام، احتياطًا على أموال الناس، وتوقيًا من الجواسيس العراقيين. وطريقها في ضمان العرب وقد وكلوا بحفظه، فإذا كان الليل مسحوا على الرمل لا يبقي به أثر، ثم يأتي الأمير صباحًا فينظر إلى الرمل، فإن وجد به أثرًا طالب العرب بإحضار مؤثره فيذهبون في طلبه فلا يفوتهم، فيأتون به الأمير فيعاقبه بما شاء.
•••
وتنقل ابن بطوطة بين مدن فلسطين والشام تنقلًا يبدو غير منتظم في أخبار رحلته. ومهما يكن من الأمر، فإنه وصف غزة وبيت المقدس، وأعجب بقبة الصخرة وتحدث عن فضلاء القدس، وانتقل إلى وصف صور وطرابلس الشام وحلب، وسره بعض القصص التي تتصل بالنزاع بين السلطان الناصر محمد بن قلاوون ودولة إيلخانات المغول بالعراق، وما تبعه من فرار الأمير قراسنقر نائب حلب إلى إيلخان المغول.
وأسهب ابن بطوطة في الكلام على دمشق، فوصف مسجدها الجامع وصفًا دقيقًا، وتحدث عن حلقات التدريس فيه. ومن أطرف ما كتبه عنها ذكر ما بها من أوقاف لمختلف الشؤون الاجتماعية «منها أوقاف تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطريق ورصفها؛ لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير»، وسرد ابن بطوطة قصة طريفة في هذا الصدد. قال: «مررت يومًا ببعض أزقة دمشق، فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سقطت من يده صفحة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصحن، فتكسرت، واجتمع الناس، فقال له بعضهم: «اجمع شفقها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني.» فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن. وهذا من أحسن الأعمال، فإن سيد الغلام لا بد له أن يضر به على كسر الصحن أو ينهره، وهو أيضًا ينكسر قلبه ويتغير جل ذلك. فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب.»
وطبيعي أن يعنى ابن بطوطة بالكلام على ما يلقاه مواطنوه المغاربة من كرم الوفادة في دمشق فأشار إلى أن أهلها يحسنون الظن بالمغاربة، ويعهدون إليهم في شتى الأعمال، فلا يحتاج غريب إلى بذل وجهه في السؤال «وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق لا بد أن يأتي له وجه من المعاش» من إمامة مسجد، أو قراءة بمدرسة، أو ملازمة مسجد يجيء إليه فيه رزقه، أو قراءة القرآن، أو خدمة مشهد من المشاهد المباركة أو يكون كجملة الصوفية بالخوانق تجري له النفقة والكسوة. فمن كان بها غريبًا على خير لم يزل مصونًا عن بذل وجهه محفوظًا عما يزري بالمروءة. ومن كان من أهل المهنة والخدمة فله أسباب أخر، من حراسة بستان أو إمامة طاحونة أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح، ومن أراد طلب العلم أو التفرغ للعبادة وجد الإعانة التامة على ذلك.»
وأشار ابن بطوطة إلى أن من فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة، فمن كان غنيًّا فإنه يدعو أصحابه والفقراء. أما الفقراء فإنهم يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كل أحد بما عنده فيفطرون جميعًا.
وكان ابن بطوطة يعنى بالنواحي الاقتصادية في مشاهداته، فيذكر أجل ما تختص به المدن التي يزورها من منتجات زراعية أو صناعية ولا تفوته الإشارة إلى الطريف منها. ومن ذلك قوله في بعلبك: «ويصنع بها أواني الخشب وملاعقه التي لا نظير لها في البلاد، وهم يسمون الصحائف بالدسوت، وربما صنعوا الصحفة وصنعوا صحفة أخرى تسع في جوفها أخرى إلى أن يبلغوا العشر، يخيل لرائيها أنها صحفة واحدة. وكذلك الملاعق يصنعون منها عشرًا واحدة في جوف واحدة ويصنعون لها غشاءً من جلد …» فليس لنا أن نعجب إذن حين نرى مصانع الغرب في العصر الحاضر تطبق هذه الفكرة في إنتاج بعض أنواع الآنية ومنافض السجاير.
•••
أدَّى ابن بطوطة بعد ذلك فريضة الحج، ووصف مناسكها، وتحدث عن الحجازيين وعاداتهم وأحوالهم الاجتماعية، وأثنى على أهل مكة ومدح ما شاهده فيها من الكرم وحسن الجوار للغرباء، ولاحظ أن نساء مكة «فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات صلاح وعفاف، وهن يكثرن التطيب، حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طِيبًا. وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة فيأتين في أحسن زي، وتغلب على الحرم رائحة طيبهن، وتذهب امرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقًا»!
ثم غادر الحجاز سنة (٧٢٦ﻫ/١٣٢٦م) مع الركب العراقي، ولكنه تركه عند النجف، وعرج على واسط والبصرة. وعجب لهذه التي إلى أهلها كانت انتهت رياسة النحو، فلم يبق بها من يعرف شيئًا من هذا العلم، حتى الخطيب يلحن في الخطبة لحنًا كثيرًا جليًّا.
ولم يشأ ابن بطوطة أن يقفل إلى العراق من الطريق عينها التي دخل منها. وقال في ذلك: إن من عادته في سفره ألا يعود على طريق سلكها ما أمكنه ذلك. فزار بعض المدن في غربي إيران مثل تستر وأصبهان وشيراز وكازرون. وأظهر في وصفها ذوقًا فنيًّا وإعجابًا بجمال الطبيعة، فضلًا عن عنايته المعهودة بالناس وأعيادهم وأحوالهم الاقتصادية والعلمية والاجتماعية، ومن ذلك قوله في وصف مدينة اشتركان: «وهي بلدة حسنة كثيرة المياه والبساتين. ولها مسجد بديع يشقه النهر.»
ورجع ابن بطوطة إلى العراق فنزل بالكوفة ثم انتقل إلى بغداد، وأتيح له أن يرى موكب السلطان أبي سعيد، فوصفه على نحو ما وصف القلقشندي مواكب الفاطميين والأيوبيين والمماليك في مصر.
•••
وقام ابن بطوطة برحلات من بغداد إلى تبريز والموصل ونصيبين وسنجار وماردين، ثم رافق ركب الحاج العراقي إلى الحجاز فأدى الفريضة ثانية، وأقام يدرس بمكة سنة كاملة. ثم حج مرة ثالثة، وركب البحر إلى اليمن مارًّا بسواكن، وأشار إلى أن البحر في هذه المنطقة لا يسافر فيه ليلًا لكثرة أحجاره، وإنما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون وينزلون إلى البر. فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب.
وزار الرحالة زبيد، وقال: إنها أملح بلاد اليمن وأجملها، وليس في تلك البلاد بعد صنعاء أكبر منها ولا أغنى من أهلها. وأعجب بجمال نسائها وبقبولهن تزوج الغرباء. وغادرها إلى صنعاء وذكر أن أرضها مبلطة فإذا نزل المطر غسل جميع أزقتها وأنقاها. وطبيعي أن يلاحظ ابن بطوطة — وهو الناشئ في إقليم البحر الأبيض المتوسط حيث يهطل المطر شتاء — أن المطر ببلاد الهند واليمن والحبشة إنما ينزل في أيام القيظ.
وقابل الرحالة سلطان اليمن في صنعاء ووصف بلاطه وترتيب الطعام فيه ثم أضاف: «وعلى مثل هذا الترتيب ملك الهند في طعامه؛ فلا أعلم أسلاطين الهند أخذوا ذلك عن سلاطين اليمن، أم سلاطين اليمن أخذوه عن سلاطين الهند.»
وسافر ابن بطوطة إلى عدن وأشار في وصفها إلى ثروة التجار فيها، ثم عبر البحر إلى زيلغ بالصومال الإنجليزي الحالي، ووصفها بأنها أقذر مدينة في المعمور وأوحشها وأكثرها نتنًا «حتى إنه اختار المبيت بالبحر على شدة هوله ولم يبِت بها لقذرها»، وسافر بعدها إلى مقدشو عاصمة تلك البلاد (وهي تقع على ساحل المحيط الهندي). ونزل بأمر السلطان في دار الطلبة، وهي معدة لضيافة أهل العلم. وغادرها إلى جزيرة منبسي ثم إلى كلوا على ساحل أفريقية الشرقي جنوبي خط الاستواء، وأهلها من الزنوج. وقال الرحالة عن المسلمين منهم: إنهم «أهل جهاد؛ لأنهم في بر واحد متصل مع كفار الزنوج».
وعاد ابن بطوطة إلى بلاد العرب طائفًا حول سواحلها الجنوبية والشرقية ومارًّا بمدينة ظفار، وعجب لأنه رأى الدواب والغنم فيها بسمك السردين، وتحدث عن تجارها مع الهند وعن سلطانها. ثم مر بهرمز وسيراف والبحرين، ووصف الغواصين على الجوهر، وعبر الخليج الفارسي إلى القطيف في إقليم اليمامة، وانحدر منها إلى مكة فأدى الفريضة مرة أخرى وشاهد السلطان الناصر محمد يحج ومعه طائفة من الأمراء والمماليك.
وأراد ابن بطوطة أن يبحر إلى اليمن والهند ولكنه لم يجد في ثغر جدة مركبًا أو رفيقًا إلى الجنوب فرجع إلى مصر. وسافر منها إلى الشام على طريق بلبيس. ووصل إلى اللاذقية. وركب منها البحر إلى العلايا في الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، وكانت حينئذ مشتى الروم السلاجقة.
وطاف الرحالة في كثير من بلاد الأناضول، فوصف أحوالها السياسية قبل أن تصبح دولة واحدة على يد العثمانيين. كما تحدث عن آثارها وصناعاتها وعادات أهلها، ولا سيما نظام جماعات الإخوان أو الفتيان. وهي جماعات تضم الشبان العزباء أبناء الطائفة الواحدة أو القرية الواحدة، فيقدمون عليهم رئيسًا لهم ويتخذون مقرًّا لجمعيتهم ويتعاونون على البر وإكرام الضيف الغريب ويشتركون في الطعام وفي الغناء وفي الرقص وما إلى ذلك من اللهو البريء. ونظامهم يتصل بنظام فتوة الإسلام. وقد ذكر ابن بطوطة أن فتيان مدينة قونية «لهم في الفتوة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولباسها عندهم السراويل كما تلبس الصوفية الخرقة».
وأبحر الرحالة إلى شبه جزيرة القرم من ثغر صنوب شمالي آسيا الصغرى، ونزل بمرسى «الكرش». ثم انتقل إلى تغر كافا، وأكثر سكانه من أهل جنوة، جعلوه من أهم مراكز التجارة وأكبر أسواق الرقيق. ورحل عنها إلى مدينة القرم. وكانت تابعة للسلطان محمد أوزبك، خان المغول المعروفين بالقبيلة الذهبية. وغادر القرم إلى أزاق وأشار إلى كثرة الخيل بتلك البلاد وإلى أن ثمنها زهيد فينقل التجار ألوفًا منها الهند ويغنمون الأرباح الطائلة.
وانتقل إلى مدينة الماجر بالقوقاز حيث لقي يهوديًّا كلمه بالعربية وظهر أنه من الأندلس، وأنه قدر إلى القوقاز بطريق البر الأوروبي، وأن رحلته استغرقت حول أربعة أشهر، وعلم ابن بطوطة صحة ذلك من بعض التجار الآخرين ممن لهم المعرفة في هذا الشأن. وأعجب الرحالة بتعظيم النساء في تلك البلاد حتى قال: «وهن أعلى شأنًا من الرجال.» ووصف بعض مواكبهن ولاحظ أنهن لا يحتجبن «وربما كان مع المرأة منهن زوجها، فيظنه من يراه بعض خدمها».
وتحدث ابن بطوطة عن السلطان محمد أوزبك وزار معسكره على أربعة أيام من مدينة الماجر في موضع يقال له «بش دغ». وكان هذا المعسكر مدينة عظيمة متنقلة «فيها المساجد والأسواق ودخان المطبخ صاعد في الهواء. وهم يطبخون في حال رحيلهم والعربات تجرها الخيل بهم» فإذا بلغوا المكان الذي يريدون المقام فيه، أنزلوا البيوت عن العربات وجعلوها على الأرض. وقد أفاض ابن بطوطة في الكلام على مواكب خواتينه أو نسائه الأربع.
وذكر الرحالة أن هذا السلطان أوفد معه دليلًا لتوصيله إلى مدينة بلغار على الشاطئ الأيسر لنهر أتل (الفولجا). وقد مر بنا ذكرها في الكلام على ابن فضلان. وأراد ابن بطوطة أن يجاوز هذه المدينة إلى الشمال لزيارة أرض الظلمة (سيبريا وشمالي روسيا) وبينها وبين مدينة بلغار أربعون يومًا، ولكنه لم يفعل، فقال في رحلته: «ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤونة فيه وقلة الجدوى. والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار، تجرها كلاب كبار، فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا تثبت قدما الآدمي ولا حافر الدابة فيها. والكلاب لها أظفار فتثبت أقدامها في الجليد. ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها، موقرة بطعامه وشرابه وحطبه، فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر. والدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي سار فيها مرارًا كثيرة. وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها وتربط العربة إلى عنقه ويقرن معه ثلاثة من الكلاب. ويكون هو المقدم وتتبعه سائر الكلاب بالعربات، فإذا وقف وقفت … فإذا كملت للمسافرين الفلاة أربعون مرحلة نزلوا عند الظلمة وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك، وعادوا إلى منزلهم المعتاد. فإذا كان من الغد لتفقد متاعهم. فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم. فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء من متاعه أخذه، وإن لم يرضه تركه فيزيدونه. وربما رفعوا متاعهم، أعني أهل الظلمة، وتركوا أمتاع التجار، وهكذا بيعهم وشراؤهم. ولا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم … والقاقم هو أحسن أنواع الفراء، وتساوي الفروة منه ببلاد الهند ألف دينار … وهي شديدة البياض من جلد حيوان صغير في طول الشبر وذنبه طويل، يتركونه في الفروة على حاله. والسمور دون ذلك. تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها.»
عاد ابن بطوطة إلى بلاط أوزبك خان في القوقاز وأتيح له أن يغادره إلى القسطنطينية في رفقة الخاتون بيلون زوجة هذا السلطان، وكانت تقصد زيارة أبيها ملك الروم «لتضع حملها عنده». وكانت هذه الرحلة بطريق البر في جزيرة البلقاء. ولقي الرحالة من رعاية قيصر القسطنطينية ما اعتاد أن يلقاه من سلاطين المسلمين. وذكر أنهم فتشوه قبل الدخول على الإمبراطور «لئلا يكون معه سكين»، وأنه في البلاط ترجمان يهودي يتكلم العربية وأصله من بلاد الشام. وقد خلع الملك على ابن بطوطة وأمر له بفرس. والغريب أن الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسًا من هداياه يطاف به في أسواق المدينة بالأبواق والطبول؛ ليراه الناس. وعلق ابن بطوطة على ذلك بقوله: «وأكثر ما يفعل ذلك بالأتراك الذين يأتون من بلاد السلطان أوزبك؛ لئلا يؤذوا.»
•••
وسافر ابن بطوطة بعد ذلك إلى خوارزم وبخارى. ومن طريف ما شاهده في المدينة الأخيرة أن شواهد القبور الموجودة في مدافن علمائها كانت تتضمن أسماء الكتب التي صنفوها في حياتهم. وقد أعجب الرحالة بهذا الأسلوب في تخليد ذكراهم؛ فنقل بعض نصوص تلك الشواهد، ولكنه أضاعها بعد ذلك. وأشار إلى ذلك بقوله: «وزرت ببخارى قبر الغمام العالم أبي عبد الله البخاري مصنف الجامع الصحيح شيخ المسلمين — رضي الله عنه — وعليه مكتوب: هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري وقد صنف من الكتب كذا وكذا. وكذلك على قبور علماء بخارى أسماؤهم وأسماء تصانيفهم. وكتب قيدت من ذلك كثيرًا، وضاع مني في جملة ما ضاع لي لما سلبني كفار الهند في البحر.»
ثم واصل ابن بطوطة أسفاره إلى سمرقند وترمذ وبلح وهراة وطوس ونيسابور وبسطام وغزنة وكابل. ثم دخل بلاد الهندسنة (٧٣٤ﻫ/١٣٣٣م) واتصل بسلطانها محمد بن تغلق. وتولى منصب القضاء في دهلي. وأقام فيها حوالي ثماني سنين. وترك في رحلته وصفًا حسنًا لكثير من مدنها وآثارها ونباتها وحيوانها. كما تحدث عن أمراء المسلمين فيها، ومن كان يفد عليهم من أعلام الغرباء. وأشار إلى كثير من عادات الهنود وأحوالهم الاجتماعية، فذكر مثلًا كيف يتشرف نساء الهندوس بإحراق أنفسهن بعد موت أزواجهن. وقال: إن التي لا تفعل ذلك تقيم عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها. كما ذكر الذين يغرقون أنفسهم في نهر الكنج تقربًا إلى معبودهم.
وطبيعي أنه أسهب في الكلام على مدينة دهلي وعمائرها وسكانها ومن حكمها من الأمراء المسلمين، ولا سيما السلطان محمد شاه بن تغلق؛ فقد أفاض في وصف بلاطه ومراسيم احتفالاته وفيض كرمه وعطاياه واستقباله للملوك والأمراء، ولكنه وصف إلى جنب ذلك قسوته وشغفه بإراقة الدماء. والحق أن ابن بطوطة أتيح له أن يكتب في وصف هذا السلطان والمتصلين به ما لم يظفر التاريخ الإسلامي بمثله عن بلاط أي أمير آخر. ولم يكن ابن بطوطة مرضيًّا عنه دائمًا في بلاط ابن تغلق، فقد كان هذا السلطان يقصيه أحيانًا ويقربه أحيانًا أخرى.
•••
وكان أن غضب عليه السلطان مرة، فاعتزل الخدمة ووهب ماله للفقراء والمساكين، ولازم أحد الزهاد، ولكن السلطان أراد أن يرسل وفدًا من قبله إلى ملك الصين يحمل هدية سنية. واختار ابن بطوطة لرياسة هذا الوفد إلى قندهار وركب منها البحر إلى ثغر قاليقوط التي كانت تقصدها سفن أهل الصين وجاوة وسيلان واليمن وإيران وغيرها.
ورأى الرحالة في هذا الثغر ثلاثة عشر مركبًا للصين. ووصف في هذه المناسبة أنواع المراكب الصينية وأساليب بنائها. وأشار إلى ضخامة تلك السفن وقال: إن للمركب أربعة ظهور. ويكون فيه البيوت (أي: مجموعة الغرف) والمصاري (أي: مجموعة الغرف وما يتبعها) والغرف للتجار. والمصرية منها يكون فيها البيوت والسنداس (أي: الرحاض) وعليها المفتاح، يسدها صاحبها ويحمل معه الجواري والنساء. وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف به غيره ممن يكون بالمركب حتى يتلاقيا إذا وصلا إلى بعض البلاد»، وأضاف ابن بطوطة أن البحارة كانوا يسكنون مع أسراتهم في السفن، وأنهم كانوا يزرعون الخضر والبقول في أحواض من خشب.
ثم شاء القدر أن هبت على مرسى قاليقوط عاصفة شديدة، قذفت إلى عرض البحر بالمركب الذي كانت فيه الهدية التي يحملها الوفد إلى ملك الصين ولكن ابن بطوطة نفسه كان وقتئذ بالشاطئ. وكان متاعه وغلمانه وجواريه بسفينة أخرى. فلما رأى أهل هذه السفينة ما حل بالسفينة الكبرى التي كانت تحمل الهدية أقلعوا، وبقي ابن بطوطة منفردًا على الساحل لا يملك إلا عشرة دنانير وبساطًا كان يفترشه. فلم يشأ أن يعود إلى سلطان دهلي؛ بل تنقل بين الساحلين الغربي والشرقي في شبه جزيرة الهند. واشتغل حينًا بالغزو والجهاد في خدمة جمال الدين سلطان مدينة هنور.
ثم سافر إلى جزائر ديبة المهل (جزائر الملديف الحالية). وتولى القضاء فيها وأعجب بصلاح أهلها وتقواهم. وكان أكثر نساء هذه الجزائر لا يلبسن سوى «فوطة واحدة تسترهن من السرة إلى أسفل»، وسائر أجسادهن مكشوفة. وكن يمضين كذلك في الأسواق وغيرها. فجهد ابن بطوطة لما ولي القضاء بها أن يقطع تلك العادة ويأمرهن باللباس فلم يوفق. ومما عجب له الرحالة «أنهن يؤجرن أنفسهن للخدمة بالديار، على عدد معلوم من خمسة دنانير فما دونها، وعلى مستأجرهن نفقتهن، ولا يرين ذلك عيبًا. ويفعله أكثر بناتهم، فتجد في دار الإنسان الغني منهن العشر والعشرين. وكل ما تكسره من الأواني يحسب عليها قيمته».
وكان حكم هذه الجزائر قد آل إلى السلطانة خديجة بنت جلال الدين البنجالي حين لم يبق من بيت الملك غيرها وأختان لها. وكان ابن بطوطة صارمًا في منصب القضاء؛ فأبعد عنه قلوب بعض الوزراء والعيان في الجزائر. ولم يشأ البقاء فيها بعد ذلك؛ فغادرها إلى جزيرة سيلان، ثم إلى ساحل الهند الشرقي فإقليم بنجالة فشبه جزيرة الملايو فسومطرة.
•••
ووصل ابن بطوطة إلى الصين. وفي رحلته بيانات طيبة عن أحوال الصينيين من المسلمين والوثنيين، وعن إتقانهم الصناعات والفنون، ولا سيما التصوير وصناعة الصيني. كما أن فيها أقدم إشارة إلى استخدام ورق النقد في المعاملات. فقد ذكر الرحالة أن عادة التجار في الصين أن يسبكوا ما يكون عندهم من الذهب والفضة قطعًا، تكون القطعة منها من قنطار فما فوقه وما دونه، ويجعل ذلك على باب داره، وأن «أهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم. وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعًا كما ذكرنا». وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد. كل قطعة منها بقدر الكف، مطبوعة بطابع السلطان. وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان، حملها إلى دار كدار السكة عندنا؛ فأخذ عوضها جددًا ودفع تلك. ولا يعطي على أجرة ولا سواها.»
ومما ذكره ابن بطوطة في معرض الحديث عن مهارة أهل الصين في التصوير أن عادتهم أن يصوروا كل من يمر بهم من الغرباء «وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم بعثوا صورته إلى البلاد، وبحث عنه، فحيثما وجد في تلك الصورة أخذ».
ولابن بطوطة إشارات طريفة إلى عادة رجال الإدارة والبحرية في تقييد أسماء البحارة ورجال السفن قبل الإذن لها بالسفر، فإذا عادت «صعدوا إليها وقابلوا ما كتبوه بأشخاص الناس، فإذا فقدوا أحدًا ممن قيدوه طالبوا صاحب المركب به، فإما أن يأتي ببرهان على موته أو فراره أو غير ذلك مما يحدث له، وإلا أخذ فيه، فإذا فرغوا من ذلك أمروا صاحب المركب أن يملي عليهم تفصيلًا بجميع ما فيه من سلع قليلها وكثيرها. ثم ينزل من فيه، ويجلس حفاظ الديوان لمشاهدة ما عندهم. فإن عثروا على سلعة قد كتمت عنهم عاد جميع ما فيه مالًا للمخزن».
وأشار ابن بطوطة إلى ما كان للمسلمين من امتيازات في الصين، فقال: «ولا بد في كل بلد من بلاد الصين من شيخ الإسلام، تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه، وقاض يقضي بينهم.» وذكر أن كل مدينة من مدن الصين كان فيها حي للمسلمين يسكنونه ويتخذون فيه المساجد، وأن الحكومة كانت تعنى بمراقبة التجار المسلمين وضمان أموالهم التي يدخلون البلاد بها، بحيث لا يمكنهم إنفاقها في الفساد. وكان أولو الأمر في الصين حريصين أشد الحرص على ألا يقال: إن المسلمين يخسرون أموالهم في الصين.
وأعجب ابن بطوطة ببيوت أهل الصين فقال: «وجميع بلاد الصين يكون للإنسان بها البستان والأرض وداره في وسطها كمثل ما هي بلدة سجلماسة ببلادنا. وبهذا عظمت بلادهم.» كما أعجب ببعض منشآت الشؤون الاجتماعية ولا سيما بمعبد كبير شاهده في مدينة «جيني كلان» كان فيه بيوت لسكن الضريرين وذوي العاهات وفيه مستشفى كبير. وكان الأيتام والأرامل والشيوخ الذين لا قدرة لهم على التكسب يحصلون من هذا المعهد على ما يلزمهم من النفقة والكسوة. وطبيعي أن المعهد كانت له أوقاف غنية.
ويبدو من رحلة ابن بطوطة أن المسافرين المسلمين القادمين إلى الصين كانوا يلقون من بني دينهم في تلك البلاد أعظم الترحيب والإكرام. من ذلك أن ابن بطوطة، حين وصل إلى مدينة قنجنفو، خرج إليه القاضي وشيخ الإسلام والتجار ومعهم الأعلام والطبول والأبواق والأنفار وأهل الطرب، وأتوه بالخيل، فركب ومشوا بين يديه ولم يركب معه غير القاضي والشيخ. وكان المسلمون في البلاد الصينية التي ينزلها ابن بطوطة يقيمون له الولائم، ويقدمون له الهدايا ويصحبونه إلى رحلات في القوارب ومعهم المغنون والموسيقيون، يغنون بالصينية والعربية والفارسية.
ومن أعلام المسلمين الذين لقيهم ابن بطوطة في بلاد الصين أسرة مصرية الأصل نزل بدارها في مدينة «خنسا». قال الرحالة: «ونزلنا منها بدار أولاد عثمان بن عفان المصري. وكان أحد التجار الكبار؛ استحسن هذه المدينة فاستوطنها. وعرفت بالنسبة إليه، وأورث عقبه بها الجاه والحرمة، وهم على ما كان عليه أبوهم من الإيثار على الفقراء والإعانة للمحتاجين. ولهم زاوية تعرف بالعثمانية حسنة العمارة لها أوقاف كثيرة. وبنى عثمان المسجد الجامع بهذه المدينة، ووقف عليه وعلى الزاوية أوقافًا عظيمة. وعدد المسلمين بهذه المدينة، وكانت إقامتنا عندهم خمسة عشر يومًا، فكنا كل يوم وليلة في دعوة جديدة، ولا يزالون يحتفلون في أطعمتهم، ويركبون معنا كل يوم للنزهة في أقطار المدينة.»
ومن غريب ما ذكره ابن بطوطة عن نظم التأمين الاجتماعي في الصين أن «العامل أو الصانع كان يعفى من العمل، وتنفق عليه الحكومة إذا بلغ الخمسين، وأن من بلغ ستين سنة عدوه كالصبي فلم تجر عليه الأحكام».
•••
وعاد ابن بطوطة من الصين معرجًا على سومطرة، حيث حظي بضيافة سلطانها الملك الظاهر وأتيح له أن يشهد أعراس ابنه وولي عهده مع بنت أخيه، ولاحظ أن الزفاف بدأ بخروج العروس «من داخل القصر عل قدميها بادية الوجه، ومعها نحو أربعين من الخواتين يرفعن أذيالها من نساء السلطان وأمرائه ووزرائه، وكلهن باديات الوجوه، ينظر إليهن كل من حضر من رفيع أو وضيع. وليست تلك أهل الطرب رجالًا ونساء يلعبون ويغنون؛ ثم جاء الزوج على فيل مزين، على ظهره سرير، وفوقه قبة والتاج على رأس العروس المذكور، عن يمينه ويساره نحو مائة من أبناء الملوك والأمراء قد لبسوا البياض وركبوا الخيل المزينة وعلى رؤوسهم الشواشي المرصعة وهم أتراب العروس، وليس فيهم ذو لحية. ونثرت الدنانير على الناس عند دخوله. وقعد السلطان بمنظرة له يشاهد ذلك. ونزل ابنه فقبل رجله، وصعد المنبر إلى العروس فقامت إليه وقبلت يده. وجلس إلى جانبها والخواتين يروحن عليها …»
ولم يشأ ابن بطوطة أن يعود إلى دلهي ثانية واستأنف أسفاره إلى الخليج الفارسي والعراق. ولقي في بغداد بعض المغربة. فعرف منهم الهزيمة التي حلت بأبي الحسن سلطان المغرب في قتال الفونس الحادي عشر ملك قشتالة. (وكان ذلك على مقربة من طريف سنة ٧٤١ﻫ/١٣٤م) كما علم بسقوط الجزيرة الخضراء في يد الأسبان المسيحيين سنة ٧٤٣ﻫ/١٣٤٢م.
•••
ثم وصل إلى دمشق. وذكر في الكلام عليها حديثًا يؤيد ما أشرنا إليه من تزوج الرحالة المسلمين في كثير من البلاد التي يمرون بها. قال: «وكانت مدة غيبي عنها عشرين سنة كاملة. وكنت تركت بها زوجة لي حاملًا. وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت ولدًا ذكرًا. فبعثت حينئذ إلى جده للأم، وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين دينارًا ذهبًا هنديًّا. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة لم يكن لي هم إلا السؤال عن ولدي. فدخلت المسجد فوقف لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم فسلمت عليه فلم يعرفني، فعرفته بنفسي وسألته عن الولد فقال: مات منذ اثنتي عشرة سنة، وأخبرني أن فقيهًا من أهل طنجة يسكن بالمدرسة الظاهرية؛ فسرت إليه لأسأله عن والدي وأهلي، فوجدته شيخًا كبيرًا فسلمت عليه وانتسبت له، فأخبرني أن والدي توفي منذ خمس عشرة سنة، وأن الوالدة بقيد الحياة.»
وكان ابن بطوطة بالشام حسن انتشر الطاعون في مدنها سنة ٧٤٩ﻫ/١٣٤٨م، فأشار إلى كثرة ضحاياه وواصل السفر في مصر، ووجد أن الوباء كان قد انتشر في بعض مدنها ثم خفت حدته. واتجه الرحالة إلى عيذاب حيث أبحر إلى الحجاز لتأدية الفريضة مرة أخرى. ثم قصد إلى فلسطين ومنها إلى القاهرة.
وأكبر الظن أنه لم يكن قد عقد العزم على الرجوع إلى وطنه بعد، ولكنه سمع في مصر عن عظمة السلطان أبي عنان ونجاحه في النهضة ببلاد المغرب وإحسانه على الخاص والعام، فأراد أن يقصد بابه، ويمم شطر وطنه الأول.
•••
أبحر ابن بطوطة من مصر إلى تونس في صفر سنة ٧٥٠/مايو سنة ١٣٤٩. وسافر من تونس على سفينة مع القطلانيين مرت بجزيرة سردانية. ولم تكن رحلته إلى أرض الوطن خالية من الأخطار؛ فقد كاد أن يقع في أيدي القرصان المسيحيين، ولكنه وصل أخيرًا إلى مدينة فاس ونزل في بلاط السلطان أبي عنان. ثم سافر إلى طنجة وزار قبر والدته، وعرج على مدينة سبته، فمرض بها ثلاثة أشهر. وكأنه أراد ألا يلقي عصا التسيار قبل أن يزور الدولتين الإسلاميتين اللتين لم تطأهما قدماه بعدُ وهما الأندلس ومملكة المسلمين في السودان الغربي.
قام ابن بطوطة إذن برحلة ثانية، زار فيها الأندلس. وأشار إلى موت الفونس الحادي عشر ملك قشتالة أثناء حصاره جبل طارق وعمله على الاستيلاء على ما بقي بأيدي المسلمين من بلاد الأندلس. وأتيح للرحالة أن يشاهد الحصون وأعمال الدفاع التي أقامها في جبل طارق السلطان أبو عنان وأبوه السلطان أبو الحسن. ثم زار مالقة وأعجب بالخزف النفيس ذي البريق المعدني، وكان يصنع بها ويصدر إلى أقاصي البلاد. ودخل بعد ذلك غرناطة وأعجب بجمال موقعها وما بها من قصور وبساتين وكروم.
•••
وصلت القافلة إلى إيوالاتن بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة. وذكر ابن بطوطة أنها أول أقاليم مملكة السودان وأقصاها شمالًا، وأن أهلها كانوا يحتقرون البيض، وأن ثيابهم كانت من المنسوجات المصرية، وأن معظمهم من قبيلة مسوفة. «وشأن هؤلاء القوم عجيب وأمرهم غريب. فأما رجالهم فلا غيرة لديهم ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله. ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود. وأما هؤلاء فهم مسلمون محفظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القرآن. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات. ومن أراد التزوج منهم تزوج. لكنهم لا يسافرن مع الزوج. ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها. والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات، ويدخل أحدهم داره فيجد امرأته ومعها صاحبها، فلا ينكر ذلك.»
وروى ابن بطوطة قصتين في هذا الشأن. قال في الأولى: «دخلت يومًا على القاضي بإيوالاتن بعد إذنه في الدخول، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع فضحكت مني ولم يدركها خجل. وقال لي القاضي: «لم ترجع؟ إنها صاحبتي.» فعجبت من شأنهما، فإنه من الفقهاء الحجاج، وأخبرت أنه استأذن من السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته لا أدري أهي هذه أم لا، فلم يأذن له.»
وقال ابن بطوطة في الحكاية الثانية: دخلت يومًا على أبي محمد بندكان المسوفي الذي قدمنا في صحبته فوجدته قاعدًا على بساط وفي وسط داره سرير مظلل عليه امرأة معها رجل قاعد وهما يتحدثان فقلت له: ما هذه المرأة؟ فقال: هي زوجتي، فقلت: وما الرجل الذي معها منها؟ فقال: هو صاحبها. فقلت له: أترضى بهذا وأنت قد سكنت بلادنا وعرفت أمور الشرع؟ فقال لي: مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وحسن طريقة لا تهمة فيها، ولسن كنساء بلادكم؛ فعجبت من رعونته وانصرفت عنه فلم أعد إليه بعدها واستدعاني مرات فلم أجبه.»
وأشار الرحالة إلى أن المسافر في تلك البلاد لا يحمل زادًا وإنما يحمل قطع الملح وحلي الزجاج أو الخرز وبعض السلع العطرية، فإذا وصل إلى إحدى القرى جاء نساء السودان بالذرة واللبن والدجاج ودقيق النبق والأرز والفوفي — وهو كحب الخردل يصنع منه الكسكسو — والعصيدة ودقيق اللوبيا، فيشتري منهن ما أحب من ذلك.
ووصل ابن بطوطة إلى مدينة كارسخو على نهر النيجر وظنه نهر النيل وقال: إنه ينحدر من كارسخو على بلدة كابره فبلدة زغة ثم إلى تنبكتو. ولاحظ أن أهل زاغة قدماء في الإسلام متمسكون بأهداب الدين ومقبلون على طلب العلم. والواقع أن هذه المنطقة، وهي على فرع النيجر الشمالي الغربي مقر مملكة تكرور التي كانت أول معقل للإسلام بالسودان في بداءة القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).
ووصل ابن بطوطة أخيرًا إلى مدينة مالي محاضرة مملكة السودان المسماة بهذا الاسم. وأشار إلى أن من عادات أولي الأمر فيها أن يمنعوا الناس دخولها إلا بالإذن. وكان الرحالة قد كتب إلى زعماء الجالية العربية فيها، فحصلوا على ذلك الإذن واكتروا له دارًا وكان بين أولئك الزعماء تاجر مصري اسمه شمس الدين بن النقويس المصري. والظاهر أن هذه المدينة كان فيها جالية مصرية بارزة، وقد أشار ابن بطوطة إلى مرض أصيب به فيها، وكان علاجه على يد أحد أفراد تلك الجالية.
وقد ذكر الرحالة بخل منسا سليمان سلطان مالي في عبارة ظريفة تشهد بما اعتاده من كرم الأمراء والسلاطين، قال: «ولما انصرفت بعث إلي الضيافة، فوجهت إلى دار القاضي. وبعث القاضي بها رجاله إلى دار ابن الفقيه. فخرج ابن الفقيه من داره مسرعًا حافي القدمين، فدخل علي وقال: «قم قد جاءك قماش السلطان وهديته. فقمت وظننت أنها الخلع والأموال، فإذا هي ثلاثة أقراص من الخبز وقطعة لحم بقري مقلو بالغرتى، وقرعة فيها لبن رائب؛ فعندما رأيتها ضحكت وطال تعجبي من ضعف عقولهم وتعظيمهم للشيء الحقير.»
وطبيعي أن السودان في تلك المملكة كانوا يتكلمون لغة غير العربية، ولعل المسلمين المقيمين فيها من العرب والبربر كانوا يتعلمون تلك اللغة الوطنية. وقد أشار ابن بطوطة إلى وجود مترجم في بلاط الملك كان وساطة الكلام بينه وبين من لا يعرفون لغة البلاد. وكان لهذا المترجم شأن كبير بارز في البلاد فكان كالأمين الأول للملك.
وتحدث ابن بطوطة عن كثير من أحوال السكان في تلك البلاد وعن عاداتهم البدائية، وأعجب بقلة الظلم في بلادهم، وشمول الأمن بحيث لا يخاف المسافر فيها ولا القيم من سارق ولا غاصب؛ كما ذكر أنهم لا يتعرضون لمال من يموت في بلادهم من البيض، يتركونه لثقة من جنس المتوفى حتى يأخذه مستحقه. وأشار إلى عنايتهم بحفظ القرآن وإقبالهم على صلاة الجماعة، وحرصهم على لبس الثياب البيض النظيفة يوم الجمعة، حتى إنه إذا لم يكن لأحدهم إلا قميص بال غسله ونظفه وشهد به الجمعة. ولكن ضايق ابن بطوطة أن رأى الخدم والجواري والبنات الصغار يظهرن للناس عرايا باديات العورات، كما أغمه أن النساء كن يدخلن على السلطان عرايا غير مستترات وأن بنات السلطان نفسه كن عرايا.
ومن طريف ما ذكره ابن بطوطة عن السودان أن منسا موسى أحد ملوك مالي كان قد غضب على قاض من البيض، فنفاه إلى بلاد الزنوج الذين يأكلون بني آدم. وأقام هذا القاضي عندهم أربع سنين ثم رجع إلى مملكة مالي. ولم يأكله الزنوج لبياضه؛ فقد كانوا يعتقدون أن أكل الأبيض مضر؛ لأنه لم ينضج بعد! أما الأسود فهو وحده ذو اللحم الناضج.
واصل ابن بطوطة السفر شرقًا في الصحراء حتى وصل إلى مدينة تكدا. وذكر أن أهلها لا عمل لهم إلا التجارة «يسافرون كل عام إلى مصر، ويجلبون ما بها من حسان الثياب وسواها». وكان سلطانها من البربر، ولعله كان زعيم قبيلة المسوفة. وذكر ابن بطوطة أن أهل تكدا كانوا في رفاهية وسعة حال، وكانوا يتفاخرون بكثرة العبيد والخادمات. وكان معدن النحاس يوجد بكثرة على مقربة من بلدهم فكانوا يأتون به، ويسبكونه في دورهم، وينصعون منه قضبانًا في طول شبر ونصف بعضها دقاق وبعضها غلاط، ويتخذون هذه القضايا صرفًا لهم فيشترون برقاقها اللحم والحطب، ويشرون بغلاظها العبيد والخدم والذرة والسمن والقمح.
•••
وكانت هذه المدينة آخر مرحلة في رحلة ابن بطوطة، فقد وصل إليه فيها رسول من قبل السلطان أبي عنان، يطلب إليه الرجوع إلى فاس. فغادر تكدا في الحادي عشر من شهر شعبان سنة ٧٥٤ﻫ/١١ سبتمبر سنة ١٣٥٣، ووصل إلى فاس بعد سفر ثلاثة شهور.
•••
وقد وفق ابن بطوطة كل التوفيق فيما أملاه عن رحلته، فخلف لنا صورًا صادقة، كلها حياة للعصر الذي عاش فيه، ووصف لنا الأشخاص والجماعات وصفًا يجعلنا نشعر كأنهم بين أيدينا وزار كل الدول الإسلامية في عصره، وقطع في أسفاره مسافة قدرها بعض العلماء بخمسة وسبعين ألف ميل، وهي مسافة لا يظن أن رحالة غيره قطعها قبل استخدام البحار في وسائل السفر؛ لذلك كله خصصناه بالإطالة في هذا العرض.