عبد الباسط بن خليل بن شاهين الظاهري
هو زين الدين عبد الباسط، ولد في ملطية في رجب سنة ٨٤٤/ديسمبر سنة ١٤٤٠. وكان أبوه خليل بن شاهين الظاهري من أمراء المماليك وأعلام رجال الإدارة في عصره، بل كان من كبار المؤلفين كما يشهد بذلك كتابه «زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك». وهو عرض للوظائف السياسية والإدارية في إمبراطورية المماليك في القرنين السابع والثامن بعد الهجرة (١٣-١٤م).
ولكن عبد الباسط لم يتبع أباه في سلك الإدارة، بل درس الفقه والأدب والطب واشتغل بالتجارة والتأليف. ومن آثاره كتاب «الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم»: ويبحث في تاريخ الدول الإسلامية ولا سيما مصر وسورية، على نمط كتاب السلوك للمقريزي. ولم يصلنا منه إلا أجزاء في مخطوطتين بمكتبة الفاتيكان. وتشمل إحداهما الكلام على ما بين سنتي ٨٦٥ و٨٤٧ﻫ. وفيها إشارات إلى رحلة طويلة قام بها عبد الباسط في بلاد المغرب للتجارة، ودراسة الطب على أعلام الأطباء في تلك البلاد.
وقد أتيح له أن يقضي في هذه الرحلة بضع سنوات في زيارة الممالك والدويلات الإفريقية الواقعة في حكم الحفصيين وبني عبد الواد وبني نصر. وكان سفره من الإسكندرية في شوال سنة ٨٦٦ﻫ/يوليه سنة ١٤٦٢ على إحدى سفن البندقية ومر بجزيرة رودس، ثم نزل في تونس بعد رحلة بحرية دامت ثلاثة وثلاثين يومًا.
وبعد أن أقام عدة أشهر في عاصمة بني حفص غادرها على إحدى سفن البندقية إلى طرابلس ومنها إلى قابس ثم القيروان. ورجع بعد ذلك إلى تونس ثم رحل عنها إلى قسطنطينية وبجايا والجزائر ومازونا وتلمسان وواهران وأبحر على باخرة جنوية إلى الأندلس في ربيع الثاني سنة ٨٧٠/ديسمبر سنة ١٤٦٥، وزار مالقة وغرناطة في شهرين ونصف. ثم رجع إلى وهران وغادرها بعد عدة أشهر إلى تونس على باخرة جنوية. ثم رجع إلى مصر مارًّا بليبيا، فوصل الإسكندرية في شوال سنة ٨٧١/مارس ١٤٦٧.
•••
وكان عبد الباسط يكسب نفقات أسفاره من التجارة في العبيد، وفي البضائع المصرية والمغربية واستطاع بذلك أن يختلط بالتجار في البلاد التي مر بها. ولكنه كان يجتمع — فضلًا عن ذلك — بالفقهاء والعلماء ولا سيما رجال الطب. وكان ينظم الشعر فأمكنه الوصول إلى مجالس العظماء. وكان يكافأ على قصائده في المديح بإعفائه من الضرائب على تجارته أحيانًا، وبمنحه العطايا أحيانًا أخرى. من ذلك أنه نظم قصيدة في مدح صاحب تلمسان «فكتب له ظهيرًا بمسامحته في كل ما يتصرف فيه من نوع المتجر»، وأنه في سنة ٨٦٧ أنشد للمتوكل على الله صاحب تونس بيتين في مدح بني حفص، هما:
فأعجب بهما المتوكل وكتب لعبد الباسط «ظهيرًا بإعفائه من المغارم واللوازم فيما يتجر فيه».
وعرف عبد الباسط بالتسامح الديني واحترام عقائد الآخرين كما يتبين من حديثه عن طبيب إسرائيلي لقيه في تلمسان سنة ٨٦٩ﻫ، قال: «ولازمت في الطب الرئيس الفاضل الماهر … موسى بن صموئيل بن سهودا الإسرائيلي المالقي الأندلسي اليهودي المتطبب … هداه الله تعالى للإسلام. لم أسمع بذمي ولا رأيت كمثله في مهارته في هذا العلم، وفي علم الوقت والميقات وبعض العلوم القديمة مع التعبد الزائد في دينه على ما يزعمه ويعتقده. وهو في الأصل من يهود الأندلس وولد بمالقة قبل العشرين وثمانمائة، وأخذ عن أبيه وغيره، وأجازني وبلغني عنه في هذه الأيام بأنه انتهت إليه الرياسة في الطب بتلمسان وهو مقرب ومختص بصاحبها.»
وقد وصف عبد الباسط نزوله وغيره من التجار المسلمين في ساحل البحر بالقرب من بجاية، بعد تركهم السفينة الجنوية التي قدموا عليها، وأشار إلى أن طائفة من البربر في تلك النواحي فروا عندما رأوه وسائر التجار وظنوا أن السفينة لبعض القرصان من الفرنج «غيروا هيئتهم حيلة لأخذ المسلمين»، فصار التجار ينادونهم من البعد باللغة العربية ويقرون بالشهادتين، والبربر «لا يلتفتون إليهم لكونهم لا يعلمون اللغة العربية بل البربرية، فلا يفرقون بين لغة الفرنج والعرب».
وفي هذه القصة إشارة إلى الغارات الكثيرة التي كان المسيحيون يشنونها على ثغور إفريقية لأسر المسلمين. وكان من المألوف في تلك البلاد أن يأتي الإفرنج بأسراهم من المسلمين إلى إفريقية فيفديهم أهل البلاد.
ومن طريف ما رواه عبد الباسط قصة على عبث قطاع الطرق واللصوص بالتجار في ذلك الحين. وخلاصتها أن جمعًا من التجار باعوا تجارة لهم في فاس وأرادوا الرجوع إلى أوطانهم، ولكنهم كانوا يحسبون لقطاع الطرق ألف حساب «فاتفق أربعة منهم على الرجوع بحيلة احتالوها، مشت على العرب وقطاع الطريق، بأن شروا حميرًا وجعلوا عليها أخراجًا بما كان معهم من المال النقد، وعمدوا إلى عبي عتيقة فجعلوها أغطية على الأخراج، وأنهم أخذوا الطحال من الغنم فجففوه ودقوه، وحملوه معهم مع شيء من الغراء وخرجوا وكانوا إذا قربوا من طائفة من العريان أو نجع أذابوا الغراء الذي معهم وجعلوا يلطخون مواضع من أبدانهم على رقابهم ووجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى نصف الساق، ثم يذرون على ذلك مما معهم من الطحال المدقوق المجفف ويمشون بأسكانهم، يوهمون بأنهم مجاذيم من أهل البلاء، وأنهم يجولون بحميرهم عليها زادهم وأثاثهم، فكانوا إذا اجتازوا على العرب ورأوهم على تلك الحالة هربوا فارين منهم وأبعدوا عنهم يخشون العدوى حتى كانوا يجعلون لهم من أنواع المآكل على ممرهم بالطريق، ويشيرون إليهم من البعد بأن يأخذوا ذلك ويدعون لهم من غير أن يقربوا منهم ولا يصلوا إليهم … ولم يزالوا على ذلك حتى وصلوا إلى بلادهم ولم يروا إلا الخير والسلامة، وكان يكاد أن لا يطير الطير من شرور من اجتازوا بهم من العربان وعد ذلك من غريب الحيل والنوادر».
وروى عبد الباسط قصة أخرى يتبين منها أن التجار الداخليين مدينة واهران كان يؤخذ منهم عند باب المدينة عشر قيمة ما معهم من البضائع، وأن بعضهم كان يلجأ إلى تهريب بضائعه بتوزيعها على من يدخل المدينة من أهلها؛ لأنهم لا يفتشون ولا يطلب إليهم أن يدفعوا أي ضريبة على ما يحملون. وكان التجار يستردون بضائعهم في المدينة بعد نجاح حيلتهم في التخلص من دفع الضريبة المطلوبة.
وأشار عبد الباسط إلى أن الأشراف من بني هاشم كانوا يلقون في بلاد العرب تعظيمًا كبيرًا، مما أدى إلى أن بعض المحتالين كان يفد من مصر والعراق إلى بلاد المغرب منتسبًا إلى أسرة النبي، وجامعًا حوله نفرًا من الأنصار والمحتالين ولم يكن من السهل أن يكشف أمرهم.
ومما لاحظه هذا الرحالة أن المسجونين في تونس كانوا في حالة يرثى لها، وقد حدث في جمادى الثانية سنة ٨٦٧ﻫ أن كثرت استغاثتهم، «حتى أعيوا السامعين، فسأل السلطان صاحب تونس عن حالهم فبلغه بأنهم يشكون الجوع، فأمر لهم بطعام يفرق فيهم وحصل لهم بذلك نوع رفق في الجملة.»
وصفوة القول: أن عبد الباسط روى في كتابه أخبارًا كثيرة عن رحلته في بلاد المغرب والأندلس. وكلها تشهد بدقة ملاحظته وتشير إلى نظم تلك البلاد في عصره وإلى أحوالها الاجتماعية والاقتصادية.