سليمان السيرافي
تشير المصادر التاريخية في اللغتين العربية والصينية إلى وجود جموع من المسلمين في الصين في عهد أسرة تنج التي حكمت الصين بين عامي ٦١٨ و٩٠٦م وكان معظمهم من التجار الذين نزلوا الثغور.
وكان التجار المسلمون المنصرفون إلى الشرق الأقصى يبحرون من البصرة ومن سيراف على الخليج الفارسي أو «الخليج الصيني»، كما كانوا يسمونه أحيانًا في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). وكانت السفن الصينية الكبيرة تصل إلى ثغر سيراف، وتشحن بالبضائع الواردة من البصرة؛ ثم تتجه إلى ساحل عمان وتعبر المحيط الهندي مارة بسرنديب وجزائر البحار الجنوبية، حتى تصل إلى مدينة خانفو، حيث كانت تعيش جالية إسلامية وافرة العدد عظيمة الشأن. وفي كتاب المسالك والممالك لابن خرداذبه عبارة تفيد أن بعض تجار المسلمين وصلوا إلى شبه جزيرة كوريا.
والمعروف أن قدوم التجار الصينيين أنفسهم إلى الخليج الفارسي، أخذ يهبط تدريجيًّا منذ بداية القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)؛ على حين زاد سفر العرب إلى البحار الجنوبية. ثم حدث أن خرج ثغر خانفو نحو سنة (٢٦٤ﻫ/٨٧٨م)؛ بسبب بعض الاضطرابات في بلاد الصين؛ فقتل كثير من المسلمين، ولم تعد المواصلات البحرية تامة الانتظام بين الصين والشرق الأدنى في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي). وأصبحت السفن من الجانبين لا تبحر إلا إلى مدينة في منتصف الطريق بين البلدين تسمى «كلاه»، اشتهرت بمناجم القصدير. وأكبر الظن أنها كانت من ثغور الشاطئ الغربي في ملقا.
وقد أشار أبو زيد حسن والمسعودي إلى هذه الحالة في حديثهما عن رجل من أهل مدينة سمرقند: «خرج من بلاده ومعه متاع كثير حتى انتهى إلى العراق، فحمل من جهازه وانحدر إلى البصرة، وركب البحر حتى وصل إلى بلاد عمان، وركب إلى بلاد «كلاه» وهي النصف من طريق الصين أو نحو ذلك، وإليها تنتهي مراكب الإسلام من السيرافيين والعمانيين في هذا الوقت، فيجتمعون مع من يرد من أرض الصين في مراكبهم. وقد كانوا في بدء الزمان بخلاف ذلك، وذلك أن مراكب الصين كانت تأتي بلاد عمان وسيراف من ساحل فارس وساحل البحرين والأبلة والبصرة … ولما عدم العدل وفسدت النيات … التقى الفريقان جميعًا في هذا النصف. ثم ركب هذا التاجر من مدينة كلاه في مراكب الصين إلى مدينة خانفو.»
•••
وتحدث الدكتور حسين فوزي عن هذه الرحلة في كتابه «حديث السندباد القديم» (ص٢١–٣٢)، وقال: إنها «تعد من أهم الآثار العربية عن الرحلات البحرية في المحيط الهندي وبحر الصين في القرن التاسع. وربما كانت الأثر العربي الوحيد الذي يتحدث عن سواحل البحر الشرقي الكبير والطريق الملاحي إليها على أساس الخبرة الشخصية مع التزام الموضوع، وعدم الخروج عنه إلى أحاديث تاريخية وغيرها مما عودنا الجغرافيون والمؤرخون العرب؛ وإذا رأينا فيما بعد ابن خرداذبة وابن الفقيه والإصطخري وابن حوقل والمسعودي يتكلمون على أساس من المعرفة الشخصية لبعض المواضع التي يذكرونها، فإنهم أيضًا ينقلون الكثير عن ذلك الأثر العربي الأول بلفظه ومعناه في بعض الأحيان، وبما يكاد يكون لفظه ومعناه في البعض الآخر.
وتمتاز رحلة سليمان والذيل الذي وضعه أبو زيد بما فيهما من وصف صادق للطرق التجارية، ولبعض العادات والنظم الاجتماعية والاقتصادية، ولأهم المنتجات في الهند وسرنديب وجاوه والصين، مع قلة الخرافات والأساطير التي تكثر في أحاديث البحارة. وتمتازان أيضًا بالأخبار الوافية عن علاقة المسلمين بالصين في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة (التاسع والعاشر بعد الميلاد). من ذلك أن مدينة خانفو، أكبر أسواق الصين حينئذ، كان فيها رجل مسلم «يوليه صاحب الصين الحكم بين المسلمين الذين يقصدون إلى تلك الناحية … وإذا كان في العيد صلى بالمسلمين وخطب ودعا لسلطان المسلمين»، والواقع أن المصادر الصينية تشهد بوجود هذا النوع من الامتيازات، وبأنه امتد إلى الجاليات الإسلامية الأخرى في سائر مدن الصين؛ فكان لكل منها قاضيها وشيوخها ومساجدها وأسواقها، وإن كانت الحكومة الصينية احتفظت لنفسها بحق النظر في الجرائم التي قد يترتب عليها النفي أو الإعدام. والحق أن الاختصاصيين في الدراسات الصينية من المستشرقين ثبت عندهم صدق كثير مما جاء في حديث سليمان عن أحوال الصين الاجتماعية.
ومن الطريف أن سليمان السيرافي أول مؤلف غير صيني يشير إلى الشاي. وذلك حين يذكر أن ملك الصين يحتفظ لنفسه بالدخل الناتج من محاجر الملح ومن نوع من العشب، يشربه الصينيون في الماء الساخن ويباع منه الشيء الكثير في جميع مدنهم ويسمونه «ساخ».
وقال سليمان في وصف بعض جزائر المحيط الهندي أن لأهلها ذهابًا كثيرًا «وأكلهم النارجيل وبه يتأدمون ويدهنون، وإذا أراد واحد منهم أن يتزوج. لم يزوج إلا بقحف رأس رجل من أعدائهم، فإذا قتل اثنين زوج اثنين، وكذلك إن قتل خمسين زوج خمسين امرأة بخمسين قحفًا، وسبب ذلك أن أعداءهم كثير، فمن أقدم على القتل أكثر كانت رغبتهم فيه أوفر».
ومما ذكره أبو زيد حسن، في الذيل الذي وضعه لرحلة سليمان، أن السفن القادمة من سيراف متجهة إلى البحر الأحمر كانت إذا وصلت جدة أقامت بها، ونقل ما فيها من السلع إلى مراكب خاصة تحمله إلى مصر، وتسمى مراكب القلزم؛ وذلك لأن المراكب الأخرى كانت لا تستطيع الملاحة في شمالي البحر الأحمر.
وأتى أبو زيد بكثير من أخبار الهند وسائر الأقاليم المطلة على المحيطين الهندي والهادي، وتحدث عن العنبر واللؤلؤ والمسك ومصادرها. وأشار إلى قلة الاتصال بالصين بعد رحلات سليمان وذلك بسبب قيام ثورات فيها.