ابن فضلان
هو أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد. كان مولى لأحد الخلفاء العباسيين وللقائد محمد بن سليمان، الذي أفلح في هزم الدولة الطولونية وإعادة مصر إلى حظيرة الخلافة سنة (٢٩٢ﻫ/٩٠٥م). ولسنا نعرف من سيرة ابن فضلان شيئًا كثيرًا. والذي لا نشك فيه أنه قام سنة (٣٠٩ﻫ/٩٢١م) برحلة إلى بلاد البلغار. وهم الشعب الذي أسس في بداءة العصور الوسطى دولتين: أقدمهما في حوض الفولجا الأوسط (أو نهر أتل كما تسميه المصادر العربية)، والأخرى في حوض الطونة. والأولى هي التي زارها ابن فضلان وانتشر فيها الإسلام. وتطلق كلمة بلغار على الشعب وعلى البلاد، وعلى عاصمتها، التي كانت تقع شرقي نهر الفولجا، والتي لا يزال بعض أطلالها قائمًا على مقربة من مدينة قازان الحالية وعلى نحو ستة كيلومترات من شاطئ الفولجا الأيسر، وحيث الدرجة خمس وخمسون من العرض الشمالي وست وستون من الطول الشرقي. ولسنا نعرف على وجه التحقيق متى اعتنق البلغار الإسلام. فابن رسته الذي ألف كتابه «الأعلاق النفسية» حول سنة (٢٩١ﻫ/٩٠٣م) ذكر فيه أن «أكثرهم ينتحلون دين الإسلام، وفي محالهم مساجد ومكاتب ولهم مؤذنون وأئمة … وملابسهم شبيهة بملابس المسلمين، ولهم مقابر مثل مقابر المسلمين». أما رحلة ابن فضلان فيبدو منها أنهم لم يدخلوا في الإسلام إلا قبيل زيارة هذا الرحالة.
والحق أن لهذه الرحلة شأنًا خاصًّا؛ لأن ابن فضلان كان في بعثة أرسلها الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى ملك البلغار، بعد أن أسلم وكتب إلى الخليفة يسأله «أن يبعث إليه من يفقهه في الدين، ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدًا، وينصب له منبرًا ليقيم عليه الدعوة في جميع بلده وأقطار ملكته، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له». وقد أجابه الخليفة إلى طلبه. وأرسل إليه هذه السفارة، التي كان ابن فضلان الخبير الديني فيها، والتي كان على رأسها مندوب من الخليفة لبحث الأمور السياسية والحربية. وغادر المندوبون بغداد في (١١ من صفر سنة ٣٠٩ﻫ/٢١ من يونية سنة ٩٢١م)، متجهين إلى بخارى فخوارزم فبلاد البلغار، حيث وصلوا في (١٢ من محرم سنة ٣١٠ﻫ/١٢ من مايو سنة ٩٢٢م).
والحق أن ابن فضلان ترك لنا في وصف رحلته صورة واضحة للبلغار وحضارتهم وعادتهم وتجارتهم. ويشهد ما كتبه في هذا الصدد بأنهم كانوا لا يزالون دون ما وصل إليه المسلمون في مدينتهم، وإن بدت بعض عاداتهم طريفة، كأن يأكل كل واحد من مائدته لا يشاركه فيها أحد ولا يتناول من مائدة غيره شيئًا، وكلبسهم القلانس يرفعونها عن الرأس ويجعلونها تحت الإبط للتحية وإظهار الاحترام.
ويلوح أن علاقة ملك البلغار بشعبه كانت علاقة أبوية وديمقراطية؛ فقد دون ابن فضلان أن «كل من زرع شيئًا أخذه لنفسه، ليس للملك فيه حق؛ غير أنهم يؤدون إليه من كل بيت جلد ثور. وإذا أمر سرية بالغارة على بعض البلدان كان له معهم حصة … وكلهم يلبسون القلانس فإذا ركب الملك ركب وحده بغير غلام ولا أحد معه. فإذا اجتاز في السوق لم يبق أحد إلا قام، وأخذ قلنسوته عن رأسه وجعلها تحت إبطه، فإذا جاوزهم ردوا قلانسهم فوق رؤوسهم، وكذلك كل من يدخل على الملك من صغير وكبير حتى أولاده وإخوته، ساعة يقع نظرهم عليه، يأخذون قلانسهم فيجعلونها تحت آباطهم ثم يومئون إليه برؤوسهم ويجلسون، ثم يقومون حتى يأمرهم بالجلوس؛ وكل من جلس بين يديه يجلس باركًا ولا يلبس قلنسوته ولا يظهرها حتى يخرج من بين يديه فيلبسها عند ذلك.
والظاهر أن السمن كان محبوبًا عند البلغار؛ وقد كان ملكهم بدينًا. ورأى ابن فضلان عندهم تفاحًا «أخضر شديدة الحموضة جدًّا تأكله الجواري فيسمن»، ومما أتعب ابن فضلان في مهمته الدينية أن الرجال والنساء كانوا ينزلون النهر فيغتسلون جميعًا عراة لا يستتر بعضهم من بعض. وقد اجتهد في منع ذلك فلم يوفق، وكان مركز المرأة بينهم عاليًا، وكانت الملكة تجلس إلى جانب الملك في المناسبات الرسمية.
وطبيعي أن هذا الرحالة عرض في رسالته لطول الليل شتاءً وطول النهار صيفًا، وتعذر تحديد ساعات الصلاة فكتب في هذا الصدد: «ودخلت أنا وخياط كان للملك من أهل بغداد قبتي لنتحدث؛ فتحدثنا بمقدار نصف ساعة ونحن ننتظر أذان العشاء؛ فإذا بالأذان، فخرجنا من القبة، وقد طلع الفجر. فقلت للمؤذن: أي شيء أذنت؟ قال: الفجر. قلت: فعشاء الأخيرة. قال: نصليها مع المغرب. قلت: فالليل؟ قال: كما ترى، وقد كان أقصر من هذا وقد آخذ الآن في الطول … إلخ.» ونقل ابن فضلان عن ملك البلغار «أن وراء بلده بمسيرة ثلاثة أشهر قومًا يقال لهم: ويسو؛ الليل عندهم أقل من ساعة».