الرحلة إلى أمريكا
(١) من العالم القديم إلى العالم الجديد
أذاع جناب المستر هوبسن — مندوب الولايات المتحدة المستديم في معهد الزراعة بروما — دعْوته بمصر لمن يريد الالتحاق بفرقته من العالم الزراعي بأوروبا؛ للسفر إلى واشنطون، للاطلاع على أعمال مؤتمر التربة الأرضية بالولايات المتحدة، ثم التنقل في ولاياتها الوسطى إلى سان فرنسيسكو، ومنها إلى كندا، متنقلين في جملة ولاياتٍ منها، ثم يعودون إلى نيويورك في مدةٍ لا تقل عن شهرين.
سمعْتُ هذا النداء فأسرعت بالكتابة إلى المستر هوبسن بروما، فأجابني بأن ألقاه في يوم ٢٧ مايو على رصيف إحدى شركات الملاحة الأمريكية بلوندرة، فسافرت من الإسكندرية يوم ١٤ مايو على إحدى مراكب الشركة الفرنسية، وكان معنا على هذه المركب جناب مسيو وديع هرمس المدير الوطني لبنك مصر في باريس، ومعه بعض موظفيه من شباب مصر.
وهنا أرجو القارئ يسمح لي بألا أترك هذا المقام من غير أن أبدي آيات الثناء على همة حضرة النابغة العظيم طلعت بك حرب، وحضرة العامل المجدِّ فؤاد بك سلطان، مديرَي بنك مصر؛ للمشاريع الاقتصادية الجمة التي يقومان بها، ولا يزالان يزيدان كل يوم حجرًا متينًا في أساسِ عظمة البلاد المالية والصناعية.
تركْتُ باريس إلى لوندرة في يوم ٢٦ مايو، وفي اليوم التالي ذهبتُ إلى المرفأ الذي نركب منه مركبنا إلى نيويورك، ولقد كان سروري عظيمًا عندما عرفتُ أن من إخواننا المصريين في هذه السياحة، حضرة محمد ذو الفقار بك، وعمر راتب بك.
سار بنا المركب في نهر التايمز بعد الغروب، وكان سيره وئيدًا؛ لتكاثف الضباب الذي غطى صفحة الجو واتصل بدخان آلاف المراكب التي كانت تسير أو ترسو في مياه النهر، بما أصبح معه التنفس شاقًّا على الرئتين، وفي الصباح حمدنا الله على رؤية كوكب النهار يملأ الجو بنوره، وهنا رأينا رجال فرقتنا مؤلفة من عشرين إنسانًا، من ألمان، وتشوكوسلوفاك، وطليان، وإسبانيين، وكان الأولون أكثرهم عددًا، استمر البحر يومين وهو مسالمٌ لنا بما كان فيه من وداعة تملؤنا غبطة وسعادة، وإذا به قد تغير من غير إنذار سابق! وقد صار لون الماء أسود قاتمًا، وكأن الأمواج كانت تتسابق إلى مركبنا وعلى رأسها ذلك الزبد الأبيض الذي لا أدري إذا كانت ترفع به رايات السلام أو الاستسلام. وقد ظهر الأقيانوس أمامنا، وسمات الغضب بادية على وجهه الذي كنت تقرأ في أساريره كل علامة من علامات الخطر.
وإذا نظرتَ إلى الأمواج وجدْتَها قد فغرتْ أفواهها لابتلاع كل ما يصادفها في طريقها، فوالله ما الأسد مَدَّ إليك ببراثنه، ولا النمر كشر عن أنيابه، ولا النيران قد اندلعت إليك ألسنتها، بأشنع منظرًا، ولا أبعث على الخشية من رؤية جبال هذه الأمواج، تترامى بعضها فوق بعض، كأنها تقصدك بيد القضاء لتَجُرَّكَ إلى عالم الفناء.
وبينا ترى رأس مركبنا تغوص في الماء، وذنَبها في الهواء، إذا بجانبها يغترف من اليم، والجانب الآخر يحذو حذوه، وإذا هي بجملتها تطير في الجو فتطير معها العقول، وتصعد الأرواح بحركتها إلى الحناجر، والصفراء فيما بين هذا كله قد انفرزت إلى المعدة، وكأني بها قد تحجَّرت وأصبحت لا يزحزحها عن مكانها إلا يد القدر، وكادت بها أحشاء كل إنسان تخرج من بين شفتيه، وقد استعصت على المرء كلماته وخطواته، فلا تسمع أذناه كلامًا، ولا يستطيع فِكره مرامًا، ولا يَقبل فمُه غذاءً، ولا تَقْوى رِجله على خطوة واحدة تنقله من مكان إلى مكان آخر.
قلوب واجفة، وأرواح مرتعدة، متشبعة بكل أنواع الجزع والفزع، تنقلها إلى جسوم كادت تفارقها حياتها، ولا أدري إلى رحمة الله أو إلى نقمته!
وكان كل شيء في المركب يتحرك بحركتها! ولو نظرت إلى الصالون وإلى مَن فيه من الجلوس، وقد أخذتْ كراسيهم تتحرك شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا، متتبعةً حركة المركب، لعرفتَ أن كل شيء حتى الجمادات منزوعة الإرادة، مروَّعة فوق سطح الأقيانوس! وبالجملة، فقد كنا بين رجلين؛ متجلِّد تجري أحشاؤه بين أذنيه وأخمصيه! ومتمدد لا يدري أهو من الأحياء أم من الأموات! وما كنت أعتقد قبل اليوم أن هذا المخلوق الضعيف الهين اللين غير الممتنع، الجماد الحي، الساكن المتحرك، يستحيل إلى هذا الوحش المفترس الذي يتمثل الموت فيه، ويتشكل الفَناء في فيه، وهل يمكن هذا الإنسان أن يشعر بعظمة الوجود بقدر ما يشعر بها وهو على سطح الأقيانوس؟
ولكن نجاح لندبرج في وصوله سالمًا إلى باريس يوم قيامنا منها، كان يبعث فينا الآمال، ويُذهب عنا بعض ما كان بنا من رهبة.
أمضينا يومين ونحن بين غضبات الأقيانوس التي ما كانت تنقطع دقيقة واحدة! وما كان أسعدنا عندما دخل علينا خادم المركب في صباح اليوم الثالث مبشرًا بجمال الوقت، وهدوء البحر! فأخذنا في لبس ثيابنا وصعدنا إلى ظهر السفينة التي ثبتت قدمها، وثاب إليها عقلها، وأخذت تسير على وجه الماء بخطوات الرزانة والثبات، وكان البحر في حاليه كالرجل العظيم: عظيمًا في غضبه، كبيرًا في حلمه. وهنا انتشرت أمامي صفحةُ التاريخ، وما صادَفَه الرحالون والمكتشفون من الأخطار، مما نقرأ عباراته ولا نعير أدنى تقدير لما صادفوه من عناء، ولا لِمَا لاقوه من صعوبات وأخطار! ذَكَرْتُ أولئكم الرَّحَّالين من العرب، كابن بطوطة، والإدريسي، وابن جبير وغيرهم، وقد تمثَّلَتْ أمامي تلك الفُلك التي كانوا يركبونها في اكتشافاتهم، تلك الفلك التي هي عبارة عن جملة قطع خشبية تتصل بعضها بعض، وليس فيها من مستلزمات الراحة من شيء، وما كانت تَمْنَع من خطر أو تقوى على ردِّ بلاء من مكدرات الأيام! يا لله لهذه الفلك وما يحتزمونها به من الحبال التي تتلاشى أمام أية رطمة أو صدمة! تلك الفلك التي ليس فيها من قوة تُسَيِّرها غير قوة سواعد ركابها الذين كانوا يتبادلون مجاديفها حين يقلب الريح ظهره لما فيها من شراع لا يدين له على مدافعة شيء من التيارات الهوائية، فضلًا عن تلك العواصف التي كثيرًا، بل كثيرًا جدًّا ما نراها على سطح الأقيانوس.
تذكرتُ كولومب وهو في سفينته مع نفر من قومه لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، وهم يتبادلون المجاديف، ولا بُوصلة تقودهم، ولا بخار يسيرهم، اللهم إلا علمهم البسيط بسير النجوم. ذَكَرْتُ هذا الرجل العظيم، وهو في طريقه إلى جهة الغرب ليصل في يوم ما إلى الجهة المقابلة لإسبانيا من العالم الأرضي، وقد كان يريد أن يتحقق مما شاع وذاع في تلك الأيام من فكرة دوران الأرض أو كرويتها. تذكرتُ تلك الصعاب التي قابلَتْه في طريقه، وتلكم الأخطار التي كانت تحفُّ بسفينته، وتلكم العقبات التي كانوا إذا جاوزوا واحدة منها تمثَّلَتْ لهم أخرى أشنع وأفظع، حتى وصل بهم حظهم إلى جزر خليج المكسيك! وهنا أرجو أن يسمح لي حضرات القراء بذكر كلمة بسيطة عن تاريخ هذا الرجل العظيم:
(٢) كرستوف كولومب
كرستوف كولومب، بحَّار طلياني من جنوه، التحق بخدمة الملك فرديناند بإسبانيا، ولقد كانت تقوم بخياله فكرةُ كروية الأرض، وهو مذهب كوبريكورن الذي خالف به مذهب بطليموس، وصادف في طريقه ما صادَفَهُ شهداء العلم في الأزمنة المنصرمة.
وفي ٣ أغسطس من سنة ١٤٩٢م أبحر كولومب ومعه ثلاث سفن شراعية من مرفأ فالوس بإسبانيا، وسار إلى جهة الغرب ليعود إلى إسبانيا من جهة الشرق، وفي ١٢ أكتوبر وصل بعد جهاد كبير إلى بعض جزر خليج المكسيك، ثم عاد إلى بلاده من الطريق الذي جاء منه؛ ليجهز نفسه باستعداد أكبر لرحلته الثانية التي اكتشف فيها بعض سواحل أمريكا الجنوبية. وقد تكرَّرتْ روحاته إلى إسبانيا وجيئاته منها. وفي رحلته الرابعة كاد يموت هو ومَنْ كان معه جوعًا؛ لطول الزمن الذي قَضَوْه على سواحل القارة الجديدة بما كان سببًا لوقوع الخلاف فيما بينهم، فاضطروا إلى العودة إلى بلادهم في سنة ١٥٠٤م، وهنالك سُعِيَ به إلى الملك فرديناند الذي غضب عليه ونكبه، وما زال في نكبته حتى مات بائسًا فقيرًا. وكان له من جهاده في كشف هذا العالم الجديد حظُّ طارق بن زياد، وموسى بن نصير في فتح إسبانيا! ذهب كلٌّ منهما طعمة لنيران الحسد والوشايات وجَهْل الملوك واستبدادهم!
(٣) هل الحظ للحاسبين؟
لقد كان بإسبانيا في ذلك الوقت بحَّار طلياني اسمه أمريك فسبيس «وُلِدَ في فلورانسا في مارس سنة ١٤٥١م» وكان قد التحق بخدمة عائلة مديشي النبيلة في إشبيلية عندما عاد كولومب من إحدى سفراته، وسمع أمريك من كولومب شيئًا كثيرًا عن هذه البلاد، فعنَّ له أن يسافر إليها، وفي سنة ١٤٩٩م رَكِبَ البحر حتى وصل إلى القارة الجديدة، وقطع على ساحلها الشرقي جملةَ أميال، وكتب مذكراته عما شاهده فيها، ولمَّا عاد إلى إسبانيا في سنة ١٥٠٠م قدمها إلى أحد أمراء مديشي. وفي سنة ١٥٠١م انتظم أمريك في خدمة ملك البورتغال الملك عمانوئيل، فطلب إليه أن يرسله في رحلة إلى سواحل البرازيل، فجهزه إليها وكتب وهو هناك تقريرًا عما شاهده فيها وأرسل به إليه، ونُشرت هذه الرسائل وذاعَ أَمْرُها بين الناس، فنسبوا إليه كشْف هذه البلاد الجديدة، وسمَّوْها باسمه «أمريك» أو أمريكا.
وقد أصبح اسمه اليوم ملازمًا لما في هذه البلاد من العلم والفن والجلال والعظمة والمال والقوة والمنعة، بل رمزًا لهذه المدنية، ولهذه الحضارة التي بَذَّتْ كلَّ حضارة قبلها، وهي لا تزال راقية في مدارج سموِّها لا تقف في طريقها موانعُ الزمان ولا صعوبات الطبيعة إلا تغلَّبَتْ عليها، بما لها من تلك الإرادة الهائلة التي تراها في شذوذها وقوتها، كأنها صادرة عن عالَم آخر غير هذا العالم الإنساني.
وبعد يومين من سَيْرنا في هذا الجو الجميل والهواء العليل، إذا بأبخرة الضباب تتصاعد إلى جوِّنا، بما أصبح معه النهار أشبه بِلَيْل حالك، حتى صِرْنَا لا نبصر أَبْعَدَ من «دربزين» السفينة، وهنا أخذت المركب تُصفِّر باستمرارٍ؛ خوفًا من وجود سفينة أخرى تكون في طريقها، والحمد لله لم تقابل شيئًا من ذلك، واستمر الضباب إلى نصف الليل، وهنا شعرنا ببرد شديد أيقظَنا من نومنا، والتزمْنا معه سرعة التدثر والتزمل، وكان صفير المركب يزداد بما لم نعلم له من سبب.
وفي الصباح عَلِمْنا — مع شكرنا لله — أننا مَرَرْنا بقرب خمس قطع ثلجية كبيرة (آيسبرج)، كانت تعوم على سطح الأقيانوس، وما كان صفير المركب إلا ليتعرف به قومندانها من قوة رجوع الصدى مقدار بعدها عنا أو بعدنا منها، والحمد لله الذي جعل اتجاهها إلى غير جهتنا، وما كان أكثرَ ثنائنا على الله تعالى أنا لم يكن نصيبنا منها ما كان نصيب الطيار «ولنجسر» مع طائره الأبيض الذي يزعمون أن برودة هذه المثالج هي التي تجمَّد معها زيت طيارته، فوقفت عن العمل وسقطت حيث لم يعثروا لها على أثر للآن.
ذهبت برودة الجو، وبدأ الحر بغتةً يُذكِّرنا بما كنا نسمعه عن جو أمريكا، وخصوصًا في أمريكا الوسطى وما إليها، ولم نعلم لذلك من سبب إلا ما عرفناه أخيرًا من أننا كنا نجتاز بمركبنا تيار «جولف ستريم» الذي حرارته أكثر من درجة الغليان، وهو يَصْدُر من خليج مكسيكا، ويعمل دورته في المحيط الأطلانطي حتى يصل إلى بحر الشمال.
ويقال: إن أحسن وقْت للسفر في الأطلانطي هو شهر يونيو وأغسطس، أما يوليو فتثور فيه رياح الانقلاب الصيفي، وسبتمبر تثور فيه رياح الانقلاب الخريفي، أما الشتاء فليس فيه من ثبات للبحر الخضم، فالمراكب تكون فيه عُرضة لتقلبات العواصف، كلما وُجدتْ، وهي تكاد لا تنقطع في هذا الوقت.
وما زلنا سائرين بين تقلُّباتٍ من غَيْمٍ إلى صَحْوٍ، ومن جُوعٍ إلى اطمئنان، حتى وصلنا إلى مياه نيويورك والحمد لله بعد تسعة أيام من قيامنا من لوندرة.
وأول ما ظهر لنا من هذه المدينة العظيمة تلك الكتلة البنائية الهائلة التي كانت في نَظَرِنا تَصِلُ الأرض بالسماء، ولما اقتربنا من الشاطئ رأينا في وسط مينائها تمثالًا للسيدة الحرية، وهو تمثال قام على صخرة في وسط الميناء، وقد رفع يده اليمنى إلى السماء كأنه يشير إلى القادمين إلى هذه البلاد بالدخول إليها متمتعين بحريتهم، تلك الحرية التي هي شعار هذه البلاد، والتي قامت عليها حيويتها وعظمتها. وهل قامت الأمم في طريق مدنيتها وعظمتها إلا على الحرية الصحيحة التي تطلق للمرء زمامه في دائرة القوانين الدينية والاجتماعية؟ لا كما يفسرها بعضهم من أنها إطلاق الإرادة فيما لا حَدَّ له ولا قَيْدَ، وهو تعريف باطل. وهل وصل عربي البادية إلى تلك المدنية التي كانت من أرقى مدنيات العالم إلا بما كان له من تلك الحرية البدوية؟ كما أن الأمريكي المتحضر إنما وصل بحريته إلى مدنية هي أرقى المدنيات وإلى حضارة لم يُسمع بمثلها فيما فات.
ومن داخل الميناء قريبًا من تمثال الحرية جزيرة أليس، وهي جزيرة صغيرة فيها بناء كبير خاص بنزول المهاجرين إليه ليُكْشَف عنهم طِبِّيًّا، وبعد فَحْص أوراقهم قانونيًّا، إما أن يُسْمَح لهم بالدخول أو يبقَوْن في مقرِّهم حتى يعادوا إلى بلادهم، ومن ينزل منهم إلى أرض هذه البلاد يكون تحت رحمة القضاء والحظ إما صعود إلى السماء أو بقاء في الحضيض، وليس من وسط بينهما في هذه البلاد.
ولقد كانت قبل الحرب الأوروبية أبواب البلاد مفتحة على مصاريعها لكل من أراد الهجرة إليها، فخشي الأمريكان بعد الحرب أن يُشَمِّر الناس في أوروبا للهجرة إلى أراضيها، وربما وصل عددهم إلى حدٍّ يُخْشَى منه على بلادها، فسَنُّوا قانونًا في سنة ١٩٢١م يقضي بألا تَقْبَل الولايات المتحدة في بلادها من كل دولة إلا ما كان مجموعُ المقيمين فيها لا يزيد على ثلاثة في المائة من أهاليها. وفي سنة ١٩٢٤م سَنُّوا قانونًا آخر يقضي بأن تكون هذه النسبة اثنين في المائة فقط، وقد منعوا هجرة اليابانيين بتاتًا كما منعوا قبل ذلك هجرة الصينيين، ومع هذا كله فصعوبة الكشف الطبي على المهاجرين من شأنها رفْض عدد غير قليل منهم، فيعودون إلى بلادهم مقهورين وهم يلعنون الساعة التي مرَّتْ فيها بخاطرهم فكرة الهجرة.
ولما نزلنا إلى البر وجدنا عمال الجمرك في انتظارنا، فأخذوا في فتح حقائبنا جميعها؛ علهم يعثرون على شيء يأخذون عليه ما يزيدون به ذهبهم. والحق يقال: إن الجمرك عندهم ليس على ما يُحْمَد من النظام رغمًا عما فيه من الشدة التي لا معنى لها! وربما كانت هذه الشدة للبحث عن مهرَّبات المشروبات الروحية.
ولما انتهينا من الجمرك ركبنا الأوتوموبيلات إلى اللوكندة التي كانت تنتظر حضورنا، وقد أدهشتْنا لأول مرة حركة الآلاف من الأوتوموبيلات في شوارع المدينة بما لم نَرَ له مثالًا في مدينة أخرى في مدن أوروبا.
وهنا أُحَدِّثك عن نيويورك: هذه المدينة العظيمة التي تعدادها الآن هو تعداد القطر المصري في أوائل القرن العشرين.
(٤) نيويورك
هي مدينة … لا أجد وصفًا يفي بعظمتها! ولكن إذا كان الحاسبون وَضَعوا الصفر على يمين العدد فنقله من درجة الآحاد إلى العشرات إلى المئات إلى الألوف، فأنا أشير عليك أن تضع إلى جانب لفظ «عظيمة» كلمة جدًّا مكررةً ثلاثَ مراتٍ لتنقلها إلى درجة الآلاف، وهي أول الوحدات العددية عند الأمريكان، وبالجملة فهي أكبر مدينة في العالم كله.
أما شكلها فمستطيل بين نهرين: النهر الشرقي من جهة الشرق، ونهر هديسون من جهة الغرب، وهما النهران العظيمان اللذان لا تهدأ فيهما حركة المراكب البخارية التي تنقل صادرات البلاد الشمالية والغربية إلى ثغرها العظيم، وتنقل واردات البلاد الأجنبية إلى داخلية الولايات الشرقية والشمالية من الاتحاد الأمريكي، والقسم الذي بين النهرين إلى المحيط الأطلانطي هو المدينة القديمة ويسمونه المدينة الواطئة أو الجنوبية، أمَّا ما فَوْقَه إلى الشمال فيسمَّى «منهاتان».
وأول من استكشف هذا المكان البحار الإنجليزي هديسون في سنة ١٦١٠م، وسُمِّي النهر باسمه، ثم بنى فيها الهولنديون أمكنة يأوون إليها وسموها «أمستردام الجديدة»، ولكن الإنجليز أجْلوهم عنها في سنة ١٦٦٤م وسموها «نيويورك»، وكان عدد أهلها في ذلك الحين ٢٥٠٠ نفس، وكان في حرب الاستقلال سنة ١٧٦١م ٢١٠٠٠ نفس، وفي سنة ١٨٠٠م ٦٠٠٠٠ نفس، وفي سنة ١٨٥٠م ٥١٥٠٠٠ نفس، وفي سنة ١٨٩٧م ٢٠٠٠٠٠٠ تقريبًا. وهي الآن تموج بالسكان الذين لا يقل عددهم عن تسعة ملايين نفس، منهم مليونان يسكنون خارج المدينة. وسكانها اليوم وإن كانوا يستظلون براية واحدة، هي راية الولايات المتحدة، فهم خليط من إنجليز وفرنسيين وألمان وأيرلنديين وبولونيين وطليان وروسيين، وغيرهم.
وعلى يمين هذا القسم النهر الشرقي، وفي ضفته الشرقية مدينة بروكلن، وفي شمالها مدينة لونج أسلاند، وهما ضاحيتان عظيمتان من ضواحي نيويورك، ويصلها بالمدينتين المذكورتين جملة أنفاق تحت النهر، وكَبَارٍ فوقه، أهمها كوبري بروكلن الشهير، وهو هذا الكوبري المعلق الذي ليس له نظير في الدنيا، وطوله ٦٠١٦ قدمًا، وعرضه ٨٦ قدمًا، وتكاليفه ٢٦ مليون ريال تقريبًا، وهو يرتفع عن مياه النهر نحو ١٣٣ قدمًا. ويَبْعُد عنه بقليل كوبري «منهاتان»، وفي كليهما طريقان للراجلين وطريقان للترام الكهربائي وآخران للمركبات المختلفة، ويمتاز الأول بطريقين للقُطُر الكهربائية.
وعلى الشاطئ الغربي من نهر هديسون مدينة «نيوجرزا»، وفي شمالها مدينة «هوبكن»، وتتصل بهما مدينة نيويورك بمواصلات عديدة بعضها تحت النهر، وبعضها فوقه خصوصًا بواسطة المعديات البحرية الكبرى، وهاتان المدينتان من ضواحي نيويورك. وكأني بهذه الضاحيات الأربع كلها معامل لصناعات مختلفة وسكانها من العمال بطبيعة الحال.
ومن هذه البنايات بناية لشركة اسمها «شركة وضع الأمانات»، في دورها الأرضي ٢٥ ألف خزانة حديدية بين ظلام حالك بطبيعتها، وأرضها من الكاوتشوك، من تحته أجراس كهربائية تَدُقُّ في مقر الحارس عند أية حركة من غير أن يسمعها مَن حَدَثَتْ منه؛ ولهذا المحل باب لا يُفْتَح إلا بحالة ميكانيكية يَنْزِل بها الباب مع ما يُحِيطُ به من كتل الرخام مسافة ٣٠ سنتيمترًا، والباب من الصلب سمْكه ٥٠ سنتيمترًا.
وقبْل الدخول إلى هذا المحل يجب على الداخل أن يقول كلمة المرور السرية إلى الحارس، وقد يصل ارتفاع بعض هذه الخزائن إلى ٣ أمتار. وبالجملة فهذه الخزائن من الصلابة بحيث لا تعمل فيها قلل المدافع، وقد وَضَعُوا في سقف المكان أنابيب إذا فُتِحَتْ من مكانٍ معلوم للحارس مَلَأَت المكان بخارًا حارًّا يقتل الذين يجرءون على الدخول فيه مهما كان عددهم، كما أن بابَه لو قُفِلَ لا يكون للنيران ولا للماء سبيل للدخول فيه، وأغلب البنوك في «وول ستريت» مشتركة في هذا المحل، ولها خزانة أو جملة خزائن تضع فيها ذهبها.
وإذا كان في الولايات المتحدة ١١ ألف مليونير منهم ٧٤ إيرادهم أكثر من مليون، فسَوَادُهم مقيم في نيويورك، وأعظم البنايات الموجودة في المدينة الواطئة هي: ووول ورث بلدنج، إدامس بلدنج، كينار بلدنج، ترينتي بلدنج، وينهال بلدنج، سنجر بلدنج … إلخ!
وكان أعظم البنايات في نيويورك إلى سنة ١٩١٣م هذا البناء الذي يسمونه حديدة المكواة؛ لأنه على شكلها، وهو في ميدان مدسون، وفيه عشرون طبقة، وكان إلى ذلك الوقت محلَّ إعجاب كل من وَقَعَ نظره عليه، أما الآن — وقد وصلت البنايات إلى ستين طبقة، وهم يصِلُون الآن فيما يَصِلُ إلى ما فوق المائة — فقد أصبح بناءُ الفلَّات أمرًا عاديًّا صرفًا، ويَجْمُل بنا هنا أن نذكر لك البناء الذي يقابله من النهاية الأخرى بميدان مدسون وهو ما يسمونه «متروبوليتان طور»، وهي كنيسة على نظام كنيسة سان مارك بفنسيا، ومنارتها تصعد في الجو إلى ارتفاع مائتي متر.
وفي هذه المنارة أكبر ساعة في العالم، قُطْرها ثمانية أمتار، وارتفاع أرقامها عن قاعدتها متر، وعقرب الدقائق طوله خمسة أمتارٍ وزِنَتُه ٥٠٠ كيلوجرام، وعقرب الساعات طوله ٤ أمتار وزِنَتُه ٣٤٠ كيلوجرامًا، وحركة هذه الساعة بالتيار الكهربائي، وتدق كل ربع ساعة بواسطة أجراس تَسْمَعُ صوتها من بُعْد جملة كيلومترات من محيطها، وما أشد عجبك إذا رأيت هذه الساعة ليلًا وقد ظهرتْ أرقام ساعاتها ودقائقها وثوانيها وعقاربها كلها منارة بواسطة مصابيح صغيرة كهربائية ذات ألوان مختلفة تأخذ بالألباب، وهنا نكتفي أن نذكر لك إحدى هذه البنايات حتى تكون على علم بشيء من عظمتها.
(٥) وول ورث بلدنج
هذا البناء العظيم سُمِّيَ باسم صاحبه، ذلك العصامي الذي كان في أول هذا القرن عاملًا بسيطًا في دكان صغيرة، فأشار على صاحب الدكان بأن يتَّجِر في الأشياء الصغيرة التي لا يزيد ثمنها على عُشْر الريال ونصف عُشْر الريال، ذلك بأن يضع مائدة في وسط محله ويضع عليها هذين الصنفين من الأشياء، فسمع الرجل هذا الرأي ونجَحَ فيه بعض الشيء، وبعد مدة يسيرة ترك وول ورث هذا المحل وفتح له محلًّا مستقلًّا صغيرًا يبيع فيه هذه الأشياء بنوعيها، فلم يُفْتَح له باب النجاح، فنَقَل مركز المحل إلى جهة أخرى فنجح نجاحًا عظيمًا، فأضاف إلى ذلك محلًّا ثانيًا فنجح، فثالثًا فرابعًا فخامسًا، وكلها كانت في منتهى النجاح، وها هي الآن محاله، وبعبارة أخرى محال تجارته الواسعة في كل جهة من جهات الولايات المتحدة، بل وفي إنجلترا نفسها، وكلها على سعتها وكبرها وعظمها لا تبيع إلا بهذه القيمة التي أفاضت على صاحبها مئات الملايين، بحيث أصبح من أعاظم سراة البلاد، وتجد في هذه الدكاكين الهائلة كل ما يلفت نظر الناس إليها من أصوات فونوغرافات جميلة، وصور بائعات رشيقات، ونظافة ورواء وبهاء، حتى لكأنك في محل «الماس بيره».
وقاعدة هذا البناء تتكون من ثلاث طبقات في باطن الأرض، وُضِعَتْ فيها الآلات التي تُوَلِّد الكهرباء للمصاعد التي تراها على الدوام في حركة لا تَعْرِف للراحة وقتًا، لا ليلًا ولا نهارًا.
وكتلة البناء فوق الأرض ارتفاعها ٢٤١ مترًا، وبها ثلاث وجهات، بها تسعة مداخل، اثنان منها يتصلان بمحطة السكة الحديدية التي تحت الأرض، وفي هذا البناء خمسة آلاف شبَّاك في وجهاته، وضعها في غاية الجمال والتناسب، تحيط بها تلك النقوش القوطية العجيبة.
أما داخله فحوائط من الرخام الجميل الملوَّن الذي أثوابه من بلاد اليونان، وسقْفه من الفسيفساء المذهَّبة البديعة الصنع.
وفي البدروم غير الآلات الكهربائية محل فيه بِرْكة كبيرة للعَوْم، وإلى جانبها حمامات تركية مفتوحةٌ أبوابها ليلًا ونهارًا لمن يريد الاستحمام بها، وفيه أيضًا أمكنة للأكل والزينة.
وفي هذا البناء ٣٤ مصعدًا، منتشرة في جميع جوانبه، يصعد واحد منها كل نصف دقيقة، وحركتها مستمرة ليلًا ونهارًا، بحيث ينتقل فيها كلَّ يوم خمسون ألف نفْس، ومنها ما يسير بصفة إكسبريس لا يقف إلا في الأدوار الهامة، ومنها ما يقف في جميع الأدوار.
وقد أحاطوا هذه المصاعد بما يحفظها من كل خَطَر فيما لو قُطِعَت أسلاكها الرافعة؛ ذلك أن قاعدة المصعد إذا نزلت ارتكزت على مرتبة لينة رُكِّبَتْ على منطقة فُرِّغَتْ من الهواء؛ لتحمل عنها صدمة الضغط الشديد بحيث لا يُحَسُّ فيها بهزة ولا بوكزة، وقد وَضعوا أثناء تجربة هذه الحالة في قعر المصعد كوبة مملوءة بالماء، فلم تَسِلْ منها قطرة واحدة على جدر الكوبة في نزوله بعد قطع أسلاكه!
وقد أحاطوا هذا البناء بما يمنعه من الحريق؛ بحيث لو اشتعلت النيران في مكتب من المكاتب لا يمكن بأي حال أن تتصل بالمكتب المجاور له؛ ذلك لأن جُدُر المكان كلها من البناء المسلح، وأبوابه من الصلب، وشبابيكه مغلَّفة بشبكة من الحديد، وفي أسفل البناء مضخة عظيمة أنابيبها واصلة إلى الطبقة الستين، فإذا فُتِحَتْ فوهتها تفجَّر منها الماء بنسبة ٢٠٠٠ لتر في كل دقيقة.
ومجموع من يشتغل في هذا المكان خمسة عشر ألف نفس، وفيه ٢٠٠٠ تليفون، والبريد يُحمل إليه يوميًّا ١٥٠ ألف مظروف، ولكل مكتب أسطوانة يلقون فيها بكتبهم، فتنزل إلى مخزن في أسفل البناء يصل إليه عمال البريد فيأخذونها منه ٢٧ مرة في كل أربع وعشرين ساعة، وفي هذا المكان نقطة بوليس، وفيه من عمال الصيانة والنظافة من يقوم بجميع حاجاته، وفيه مستشفى للعمال وطبيب وممرضة.
وقد صَعِدْتُ إلى قِمَّتِه مع صديق لي هو حضرة الفاضل أمين أفندي رستم، ولكن كان الضباب من تحتنا كثيرًا بحيث لم نتمكن من مشاهدة منظر المدينة، وأجرة الصعود فيه لكل شخص نصف ريال، ومجموع ما يُحصَّلُ من هذه الأجرة سنويًّا مليون ريال.
وإلى زاوية من هذا القسم يبدأ شارع برودوي، ولا يزال إلى النهاية الشمالية من المدينة، وربما كان أطول شارع في الدنيا، وطوله أكثر من اثنين وعشرين كيلومترًا، وفي هذا الشارع الحركة التجارية بمعناها الحقيقي، وفيه أكبر المحالُّ التجارية في نيويورك، وأكبرها وأعظمها هي محالُّ وناميكر، ومحالُّ جميل، ومحالُّ ميسي، وهي تُماثل محالَّ البون مارشيه واللوفر والبيراميد في باريس، وإن كانت الأولى أكبر، والحركة فيها أكثر، ترى كل شيء في هذه المحلات، حتى السينما، حتى التمثيل، حتى المطاعم من أي صنف، وبالجملة ففيها من كل معنًى طرب، وقد أذاع أحدُها عهدًا بأنه إذا أتى أيُّ إنسان وطلب أيَّ طلب لم يكن موجودًا في محل تجارته أعطاه المحل خمسة آلاف ريال، ومن هذا تعْرف أن كل واحد من هذه الأمكنة فيه كل ما يدور حتى بالخيال من كل شيء يصحُّ وجوده.
والدكاكين الكبرى والبنوك وغيرها مما على شاكلتها ليس لها حراس ليلًا، بل لها أجراس أوتوماتيكية في أبوابها ومنافذها، إذا مستها يد إنسان قامت قيامَتُها بما لها من اتصال بمركز البوليس، فيحضر لوقته ويضبط الواقعة من غير مُبلِّغٍ إلا صوت صدَى هذه الطبيعة الراقية.
وثمن الأرض في هذا الشارع غالية جدًّا، وخصوصًا إلى جهة وول ستريت، وقد بيعت به نقطة خمسون ياردة مربعة تكون زاوية على شارعين بستة ملايين دولار «هذا أخبرني به أحد كبار التجار السوريين بنيويورك، وهو الخواجا شالوم نمرة ٢٤٤ بالشارع الخامس.»
وفي هذا الشارع قسم لإخواننا السوريين، لهم فيه فنادق ومطاعم وأمكنة تجارية، منها الكبير ومنها الصغير، ويقدِّرون عددهم بهذه المدينة بثلاثين ألف نفس، وصل غير واحد منهم إلى دائرة الملايين، ولهم بها بيوت تجارية كبيرة، من أشهرها؛ محل تجارة ملوك إخوان بالشارع الرابع، وشغلهم في الحراير، ومحل بردويل إخوان بالشارع الخامس، وعملهم في الحرير والسجاجيد، وللسوريين بنك في الشارع الخامس بنيويورك اسمه بنك لبنان، والتجارة السورية هنا محصورة في الحراير، والمُخَيَّشات والمطرَّزات والأواني النحاسية الشرقية المنقوشة وغير المنقوشة، ولهم بنيويورك جريدتان عربيتان «البيان» و«مرآة الغرب».
وهاتان الجريدتان القيِّمتان لهما فائدتان: الأولى نقل أخبار الشرق إلى بني اللغة العربية الذين في أمريكا، والثانية: نقل أخبار أمريكا إلى بني اللغة العربية في الشرق، مما لا يتيسر العثور عليه في غير هاتين الجريدتين، وهذا يدلك على أن السوريين هنا لهم روابط قوية، واعتبارهم لقوميتهم — حتى مع تغيير جنسيتهم إلى الأمريكية — يدلك على ما فيهم من روح حية لا تزال تناجي مثوى الآباء والأجداد، وهذا غير ما في قوَّتهم المعنوية من مساعَدةِ مَن يَفِدُ عليهم من أهل جنسهم، فيمهدون له الطريق للعمل، ويخففون عنه أثقال الغربة حتى يجد إلى الحياة بجهاده سبيلًا.
وعلى ذِكْر الجرائد العربية هنا، أقول: إن للصحافة في أمريكا مركزها من الإجلال والاحترام، ولا برهان على ذلك أظهر من أن رئيس الولايات المتحدة مستر كولدج كان يرأس جلسة من جلسات نقابتها في شهر يونيو الماضي، ولا غرابة في هذا؛ فإن أغلب الرجال العظام بأمريكا يَمتُّون بصلة إلى الصحافة في مبدأ أمرهم.
وفي نيويورك جرائد كثيرة جدًّا من سياسية وتجارية وصناعية ورياضية وتمثيلية، وغيرها من مجلات أسبوعية وشهرية، وأهم الجرائد اليومية هي، نيويورك تيمس ونيويورك هرالد، وقد نكتفي بذِكْر شيء عنهما لتعرف شيئًا عما يقال له جريدة هنا.
فنيويورك تيمس، يُطْبَع منها يوميًّا ٣٥٠ ألف نسخة، والنسخة مؤلفة من ٢٤ صفحة، وتُطْبَع يوم الأحد ٦٠٠ ألف نسخة، والنسخة مؤلفة من ٦٠ صفحة، والاشتراك في الجريدة بنسبة ٧٠ / ١٠٠ من الأعداد المطبوعة، ومطبعة الجريدة تطبع في الساعة الواحدة ٤٠٠ ألف نسخة مطبقة ومعنونة، وعدد العمال بها ٢٢٠٠ عامل، ومصاريف المطبعة يوميًّا ٤٠ ألف دولار.
وأما نيويورك هرالد، فتَطْبَع يوميًّا ٣٣٠ ألف نسخة، ذات ٨٠ صفحة، وتطبع يوم الأحد ٤٠٠ ألف نسخة، ذات ١٨٠ صفحة، وفيها من العمال ١١٠٠ عامل، وتستهلك يوميًّا من الورق ٢٠ طنًّا.
ولقد كنت أظن أن إخواننا المصريين أبعد الناس عن الهجرة، وأنهم لا يُحِبُّون الرحلة، ولا يميلون إلى الاغتراب، حتى علمت بأنه يوجد في ناحية شيكاجو رجل مصري اسمه أحمد حسنين، هاجر إلى الولايات المتحدة واشتغل فيها حتى وصل من طريق التجارة إلى ثروة غير قليلة، وقد عَلِمْتُ أنه يتخاطب مع قنصلية مصر بنيويورك لمساعدته في إرسال ولده إلى إحدى مدارس القطر المصري حتى لا يُحرم من لغة آبائه. فهل كان السيد أحمد حسنين هو الشذوذ الوحيد الذي تثبت به قاعدة عدم ميلنا إلى الهجرة؟ والأرمن هنا كثيرون، وقد وصل منهم شخص اسمه بول آدم إلى أن صار له بنك خاص في شارع ٤٩، ومنهم كثير من ذوي النفوذ، وقد حالوا بنفوذهم وشدة قوميتهم بين الولايات المتحدة وما كانت تريده من عقْد معاهدتها مع تركيا.
ومع فخامة المباني في وول ستريت فمجموعها ليس فيه شيء من التناسب؛ لأنك تجد العالي منها بجوار الواطئ، والشكل الحديث بجانب القديم، مما جعل بين هذه الشامخات فراغًا لا بد أن يمتلئ يومًا من الأيام بما يزيد في تشاكُله وتناسُقه.
وكيفية بنائهم لهذه الشامخات: أن يحفروا في أرض هذه المدينة الصخرية قاعدة عمقها ثلاثة أو أربعة أمتار، ثم يحفرون فيها حُفَرًا بعيدة القاع في زواياها الأربع، وفيها يضعون كُتَلًا كبيرة من الحديد، وهذه الكتل تكون أركانَ العمارة الخارجية، ويقيمون في داخلها كتلًا أخرى ربما كانت أصغرَ منها، لكل تربيع كبير تتكون به المداخل والطرق، ثم مربعات أصغر تتكون منها الغرف ويصعدون بهذه التخشيبة الحديدية إلى الارتفاع الذي يرغبون فيه، وهنا يبدءون في وضْع سقْف كل دور على حدته، مع بناية محيط البناء بالمادة التي يرغبون فيها من رخام أو آجُر أحمر أو أبيض، حتى إذا اكتمل البناء وضعوا أبوابه ونوافذه ثم طلوه بما أرادوه من ألوان مختلفة، غالِبُها من اللون الذهبي الذي يكاد يكون شعارَ هذه المباني الهائلة، تلك المباني التي لا تمضي بضع سنوات على نيويورك حتى تراها عمَّت شوارعها جميعها؛ لأنهم من الآن يهدمون البنايات التي من الشكل القديم ليقيموا مكانها شيئًا من تلك الشامخات، وكثرة الصلب في هذه الشامخات يُرى أثره في المراكب الداخلة إلى نيويورك والخارجة منها؛ فإنها تُحْدث بها اضطرابًا في بوصلاتها على مسافات بعيدة.
والسبب في التجائهم إلى هذه البنايات الهائلة، هو زيادة السكان زيادة مستمرة، وزيادة العمل طبعًا مع غلوِّ أرض نيويورك وضيقها؛ لأنها محصورة بين النهرين، ولأن صخرية الأرض تساعد عليها، وهم الآن يهدمون المباني التي على النظام القديم مهما كانت جديدة، ومهما كانت لا تقل عن ست أو سبع طبقات؛ ليبنوها على نظام الشامخات.
وفي هذا القسم أكبر بورصات العالم، نذكر لك باختصار ما زرناه منها.
(٦) بورصة الأوراق المالية
زرنا «أعضاء المؤتمر» هذه البورصة بدعوة من غرفة نيويورك التجارية، وهي مكان عظيم دخَلْنا إليه من بابه العمومي، وصعدنا إلى دوره الثاني أو الثالث مع مندوب هذه الغرفة، ومنه دخلنا إلى إيوان يُشْرف على متسع مربَّع في الدور الأرضي يبلغ طوله نحو ٥٠ مترًا في مثلها (أو تزيد)، وهذا الوسط ممتلئ بالناس الذين تراهم في جيئاتهم وغدواتهم كالنمال أزعَجَها شيء في جُحْرها، فإذا بها تغدو وتروح بسرعة هائلة، وهي في شدة الاضطراب، والفارق بين هؤلاء وبينها أن الناس في حركاتهم في هذا الوسط تراهم يصرخون هنا وهناك بأثمان الأسهم المبيعة أو المشتراة، وفي حائط البناء لوحان كبيران أحدهما في اليمين، والآخر في الشمال، وهما مُقَسَّمان إلى مربعات صغيرة (تقريبًا عشرة سنتيمترات مربعة) وفي وسط المربعات علامات حمراء أو خضراء، تراها على الدوام متحركة بحركات أوتوماتيكية بمختلف الأسعار في كل وقت «وذلك بواسطة تيار كهربائي».
وفي هذه الصالة عشرون مكتبًا للتلغراف منتشرة في وسطها، تأتي في كل دقيقة بأسعار جميع الولايات المتحدة، كما أن في جهتي الصالة مكاتب للسماسرة الذين لهم حق العضوية في البورصة، وكل مكتب له تليفون خاص يذيع به الأخبار إلى عملائه في وقتها، ورسم العضوية في هذه البورصة أربعون ألف جنيه، لكل من أراد أن يكون عضوًا فيها.
وهذا المكان فيه أكبر حركة مالية في العالم كله، ويكفي أن تعرف بأنه يباع فيه في اليوم الواحد ثلاثة ملايين من مختلف الأوراق والسندات المالية، وهو محلُّ إسعاد الألوف من الناس وإشقائها في كل ساعة، بل في كل دقيقة من دقائق الزمن، فبينا ترى الرجل بجوارك غنيًّا لا يتكلم إلا بمئات الألوف، إذا به بين كلمة وأخرى ينفض وفاضه بكل غضاضة! وإذا بالآخر قد رَفَعَتْهُ يد الحظ مرة واحدة إلى مكانةٍ ما كان يحلم هو بها، وهما نتيجتان لازمتان للتهور والمخاطرة اللتين هما من صفات الرجل الأمريكي، وكثيرًا ما ترى ملوك الأموال أنفسهم ينزلون عن عروشهم وسط هذه المعارك!
(٧) بورصة القطن
أما صالة بورصة الأقطان بنيويورك، فهي عبارة عن ٢٥ مترًا في ١٥ مترًا، وفي وسطها دائرة فيها البائعون والمشترون، وفي جانِبٍ منها هؤلاء الذين يكتبون الأسعار، وبحركة أوتوماتيكية تكتبها آلات في لوح كبير على إحدى حوائط الصالة بحيث يَطَّلع عليها من يُعْنَى بالنظر إليها.
وفي جانب منها على ارتفاع نحو مترين ونصف ألواحٌ خضراءُ يَكتبُ فيها الأسعارَ التي تأتي من الخارج بالطباشير عمالٌ على آذانهم سماعات التلغراف اللاسلكي، وفي الصالة لوح مبيَّن فيه قوة الرياح واتجاهاتها في مناطق القطن، وكذلك حركة السحب والأمطار في الجهات التي تنزل بها من الولايات القطنية، وفي هذا اللوح علامات حمراء وصفراء وزرقاء ذات اتجاهات مختلفة، وهي تبين حركات البارومتر؛ فاللون الأحمر للصحو، وتحته درجة الحرارة مبينة، والأصفر للمطر، ومكتوب تحته مقدار الكمية التي نزلت منه، والأزرق — وأظنه — للرياح، وتحته مقدار قوتها واتجاهاتها، وهذا اللوح يغيَّر مرتين كل يوم، مرة في الصباح، ومرة بعد الظهر، وعمل هذه البورصة خاص بالقطن الأمريكي، أما القطن المصري فالعمل فيه خاص ببورصة نيو أورليانس.
وفي الجملة فحركة العمل في هذه البورصة أقل منها في بورصة السندات المالية.
(٨) بورصة المحاصيل
مكان هذه البورصة فسيح جدًّا، وفيه جملة موائد عليها المحاصيل المختلفة، فترى في جهة المحاصيلَ الزراعية من قمح وذرة وشعير وبطاطس وما إلى ذلك من شحم وزيوت مختلفة، وإلى جانبٍ منها المحاصيل الأرضية من فحم وحديد وقصدير وبترول وغير ذلك، وفي هذا المكان سماسرة يعرضون العينات على المشترين، وعلى كل حال فالبيع والشراء في هذه البورصة بطبيعته؛ لأنه مرتبط بأسعار العالم كله، وهي أبعد البورصات عن المخاطرة.
وقد أُخِذَتْ صورتنا في إحدى غرف هذه البورصة، وفيها وَزَّعَتْ علينا الغرفةُ التجارية (على أعضاء المؤتمر) أوسمة شرف، وقَدَّمَ إلينا رئيس هذه البورصة الأخيرة طعام الغداء في مطعم قريب منها جزاه الله خيرًا.
ورجال الفرقة البوليسية تساعدها مصلحة تحقيق الشخصية مساعَدةً هامة، وأفرادها من جميع الطبقات؛ بحيث يوجد منهم من يمكنه أن يَدْخُل في الصالونات المعتبرة، ومنهم الظرفاء والأدباء الذين يملكون ناصية الحديث بفكاهاتهم، وهم في كل مباحثهم في حزم وسكينة من غير أن يشعر أحد بصفتهم الحقيقية، وهنا أُلْفِتُكَ إلى ما يسمونه عندنا بالبوليس السري المكتوب على وجهه تلك اليافطة «حضرته بوليس سري» كفانا الله شر تلفيقاته!
وبمناسبة الكلام على البوليس السري أقول لك: إنه يوجد في نيويورك نادٍ خَطَرُه جسيم، وشعاره وخيم، هو «نادي الإجرام» يجتمع فيه أولئك الذين لا قلب لهم ولا رحمة فيهم، ويقرِّرُون القتل أو الفتك بكل فريسة أورَدَها سوء حظها بين أيديهم، وهذه الفئة المنحوسة منبثة في كل الولايات المتحدة، وخطَرُها في نيويورك ربما كان أقل من خطرها في جهة أخرى، وضحايا هذه الفرقة الشريرة في البلاد الكبرى نسبتها هكذا في كل مائة ألفِ نفسٍ: نيويورك ٥ ونصف، فيلادلفيا ٨، شيكاجو ١٢ منفيس ٧٠.
والبوليس ينسب هذه الجرائم إلى الأساليب التي يتعلمونها من مناظر السينما التي لا تنطبق على مصلحة الجمهور، وعلى الكتب الساقطة، وعلى عدم سرعة بَتِّ القضاء في قضاياهم.
وبمناسبة الكلام على هذا النادي أقول لك: إن بنيويورك ناديًا من السخافة بمكان، هو «نادي المنتحرين»، هذا النادي يجتمع فيه كل من وَقَفَتْ به آماله عن الوصول إلى غاياتها من حب، أو زواج، أو ثروة، أو أية صفةٍ من صفات الحياة، وأعضاءُ هذا النادي يجتمعون من وقت لآخر، ويعملون قرعةً عن الذي لا بُدَّ وأن ينتحر منهم!
وقد ينتحر منهم في نيويورك كل سنة ما يقرب من ألف شخص، نحو ثلثهم من النساء والأطفال، ويبلغ عدد أعضاء هذا الكلوب ١٥ ألف نفْس.
وقد تألَّفَتْ تلقاء هذا الخطر الإنساني «جمعية اسمها جمعية النجاة»، ومهمتها أن تكتب إلى أعضاء هذا النادي الخبيث بكل نصحها وإرشادها، وتساعدهم على الإقلاع عن فكرتهم بأية وسيلة من الوسائل.
وقصارى القول أن أهل نيويورك — بصفة عامة — لكل طائفة منهم أندية يجتمعون إليها وقت فراغهم من أعمالهم، فالطلبة لهم أندية كثيرة، والعَمَلة لهم أندية مختلفة، والتجار لهم أندية عديدة، ولكل جالية أندية خاصة بها، فالإنجليز لهم أندية، والفرنسيون لهم أندية، وهكذا …
وإذا كانت حالة البلاد العامة تلبس اللباس الديموقراطي في مظهرها، فإن كثيرًا من هذه الأندية تلبس لباسها الأرستقراطي؛ فلا يَقْبَلون فيها إلا مَنْ كان في درجتهم من الوجاهة وسعة المال، وحتى الطلبة لا يَقْبَلون في أنديتهم هؤلاء الفقراء الذين وإن جمعَتْهُم معهم قاعات الدراسة، فقد تُفَرِّق بينهم ما يقومون به من خدمتهم بعد فراغهم من الدرس، وهي أنانية لا تتفق مع الديموقراطية التي يدَّعُونها ويرفعون عقيرتهم بها.
(٩) قسم منهاثان
هذا هو القسم العالي أو الشمالي من مدينة نيويورك، وهو القسم الجديد، ويبتدئ من المدينة الواطئة متجهًا إلى الشمال إلى مسافة ثمانية أميال تقريبًا، أعني إلى قنال هارلن الذي يفصلها عن مدينة برونكس، وهي ضاحيةٌ كبيرة في شمالها، ومتوسطُ عَرْضه فيما بين النهرين نحو ميلَيْن، وتخترق هذا القسمَ جملةُ شوارع رأسية تقطعها جملة شوارع أفقية، وكأنهم فرغوا من الأسماء التي يسمون بها الشوارع عادة؛ فوضعوا نمرًا وصفية للرأسية، ونمرًا عددية للأفقية، فيقولون عن الأول: الشارع الخامس أو السادس، وفي الثانية الشارع خمسة أو ستة، وقد يبلغ العدد في نمر الأفقية نحو المائتين، وأهم شوارع المدينة هو الشارع الخامس، ويتلوه الرابع من جهة بارك أفنيو، وفي الأول أكبر المحال التجارية وأفخمها، على أن جميع الشوارع سواء كانت رأسية أو أفقية لا تخلوا من الحركة التجارية، وينتهي الشارع الخامس إلى الحديقة المتوسطة، وعليها فيما يلي هذا الشارع مساكن الخاصة، مثل منزل استور وفندربلت، وجراي، وفرنك، ويقدِّرون بيت الأخير بخمسة ملايين وأربعمائة ألف دولار، ويقدِّرون ما فيه من الأثاث والرياش بخمسة عشر مليون دولار!
والحديقة المتوسطة مستطيلة، واتجاهها من الجنوب إلى الشمال، وفيها أمكنةٌ لبعض الحيوانات المفترسة كالسباع والذئاب والنمور والدباب وغيرها، كما يوجد فيها جملة محالَّ للألعاب الرياضية، كالتنس والجولف وغير ذلك، وفيها بركتان للتجديف، ومساحتها ٣٥٠ هكتارًا، ويقطع «منهاتان» التراموايات الكهربائية، والسكك الحديدية التي تسير في الهواء على قواعد من الحديد، ترتفع عن سطح الأرض بنحو ثمانية أمتار أو أكثر، ثم السكك الحديدية التي تسير تحت الأرض، وهي هنا أقل جمالًا من مثلها في لوندرة وبرلين وباريس، ويسير تحت الأرض أربعة قُطُر، الواحد تلو الآخر إلى جهات مختلفة، ولا بد لمن يركبها أن يكون له علم باتجاهاتها، خصوصًا مع سرعتها الهائلة وعدم وجود خرائط لها بالقطارات تساعد المسافر بها على تحديد سفره بها كمثيلاتها في البلاد التي مَرَّ ذِكْرها.
وعند اتصال الشارع الخامس بالشارع ٤٢ تجد مكتبة المدينة، ويقولون: إن هذه النقطة أكثر بقاع الأرض حركة، ويُقَدِّرون المارِّين فيها على أرجلهم يوميًّا بما يزيد على مائتي ألف نفس، أما حركة الأوتوموبيلات، فإن لها منظِّم يقيم في جهةٍ مرتفعة وسط الطريق ليرشدها بواسطة أنوار كهربائية، فالأحمر للوقوف، والأخضر للمرور، وكثيرًا ما ترى هذا المنظم أوتوماتيكي يعمل بواسطة آلة كهربائية، وبهذه الطريقة أمكنهم أن يقللوا من الخطر الملازم لمثل هذه الحركة الهائلة، وبناءُ هذه المكتبة فخمٌ وفيه أكثر من ثلاثة ملايين كِتَاب، ويزورها يوميًّا ما بين ثمانيةِ وعشرة آلاف زائر!
أما حركة البريد فإني أَكِلُ إليك وصْفَها بعد أن أقول لك: إن متوسط ما يأتي إلى مدينة نيويورك وحدها كل يوم مائة مليون من الخطابات، ويُنقل إليها البريد البري على القطارات، والجوي على الطيارات.
وأما السكك الحديدية، فإنها تنقل كل يوم فيها نحو نصف مليون من الناس، والتراموايات التي تسير على وجه الأرض تنقل سنويًّا خمسمائة مليون من النفوس.
أما السكك الحديدية العالية، والتي تحت الأرض، فهي تسير في المدينة بامتداد ٨٠٠ ميل، وكان عدد من ركب فيهما في سنة ١٩٢٥م بليونين وخمسمائة مليون نفْس، والأجرة التي حُصِّلَتْ منهم ١١٩ مليون دولار.
وفي نيويورك ٤٧ كُبريًا للحركة العامة على نهر هيدسون، وعلى النهر الشرقي، وكانت حركة المرور عليها في سنة ١٩٢٥م كما يأتي:
عدد | |
---|---|
١٤٤٩١٨٢٠ | قُطُر ترام وقُطُر كهربائية عالية |
١٠٣٧٧٠٧٢٠ | مَرْكَبات مختلفة الأنواع |
٦٥٨١٥٩٠٨٠ | عَدَدُ مَنْ مَرَّ عليها من الأنفس راجلِين أو راكبين |
وكان نصيب كوبري بروكلن من ذلك:
عدد | |
---|---|
٣٢٠٢١٢٠ | قُطُر ترام وقُطُر كهربائية عالية |
١٧٠٣١٦٤ | مَرْكبات مختلفة الأنواع |
٥١٠٧١٧٤٠ | عدد مَنْ مَرَّ عليه من الأنفس |
أما السكك الحديدية بمعناها المعروف عندنا، فيكفي أن أقول لك: إن في «منهاتان» اثنتي عشرة محطة، تنتهي إليها كل يوم مئات من القُطُر، ويدخل منها إلى المدينة يوميًّا أكثر من أربعمائة ألف نفس، وأكبر هذه المحطات هي محطة … جنرال سنترال … ويقال: إنها أكبر محطة في العالم، ثم محطة بنسلفانيا، وهما من العِظَمِ بحيث لا تتسع كَلِمَتِي لشرح واحدة منهما، ويصح أن أقول لك: إن محطة مصر كلها في مساحة بهو من أبهائهما، وحركة القطر في هذه المحطات كلها تحت الأرض، وكل قطارٍ يخرج من المحطة تَجُرُّه قاطرة كهربائية إلى خارج المدينة، وكذلك الداخل إليها تُدْخِله قاطرة كهربائية؛ خشية الدخان الذي ينشأ عن الفحم في القاطرة البخارية.
وفي نيويورك ثلاث شركات لإنارتها بالنور الكهربائي، ولها فيها ثلاث مكنات هائلة، مجموع قوتها ٦٠٠٠٠٠ ألف حصان بخارية.
وفيها شركة للتليفونات يبلغ عدد موظفيها ٦٣١٠٦ نفْسٍ، والمشتركون فيها يبلغ عددهم ١٥٦٤١٢٠ مليونًا وخمسمائة أربعة وستين ألفًا ومائة وعشرين مشتركًا.
ومن هذا وذاك تَعْلم أن الحركة هنا حركة هائلة ولكنها عملية صرفة، وهذا يُظْهِر لك جليًّا من عَدَم وجود مكتبات في نيويورك تليق بعظمتها، وأقصد بالمكتبات تلك التي تبيع الكتب للجمهور، وتجدها بالقاهرة تملأ دائرة الأزهر والأزبكية والظاهر، سألت بعض المقيمين هنا عن مكتبة أشتري منها كتابًا، فقال لي بعد تفكير: «توجد مكتبة في الشارع الخامس»، ومن هذا تعلم أنْ ليس للقوم من زمن يقرءون فيه شيئًا مما يُذْكَر في الكتب، فكل قديم عندهم لا قيمة له، بل الجديد هو المرغوب فيه؛ لذلك ترى الجرائد عندهم لها المركز الأول، خصوصًا التي تبحث منها عن المال والصناعات والتجارة، وللمجلات المركز الثاني، وقد ترى لبعض سراة الناس غرامًا بحيازة الكتب، ولكن لا ليقرأ فيها؛ بل ليُذَهِّبها ويجعلها ضمن رياش منزله ليزيده جلالًا وفخامة.
ويكفي أن أقول لك عن حركة الناس في نيويورك: إنها وقت الظهر عند انصراف الناس من أعمالهم للغداء حركة هائلة، خصوصًا في الشوارع الكبرى مما يلي المدينة الواطئة، أما في الصباح وفي المساء، فإذا عرفْتَ أن تعداد نيويورك هو تسعة ملايين نفس، يقطنها منهم سبعة ملايين، والمليونان يسكنان في الضواحي، فيأتون إليها في الساعة الثامنة صباحًا، وينصرفون منها في الساعة السادسة مساءً، وفي هذا الوقت رأيت الحركة هائلة في شوارع السيتي (المدينة القديمة)، وفي الشوارع التي بها المحلات التجارية الكبرى، فالتراموايات والقطارات التي على الأرض وفوقَها وتحتها تراها كلها مكتظة بالناس، بعضهم فوق بعض، وترى في الطرق الأوتوموبيلات الخصوصية والأتوباثات والتكسات والموتسكلات، كلها تراها في حركة لا يُمْكِن وَصْفها.
أمَّا مَنْ يَسِيرُ على أفاريز الطرق، فهم في حركتهم أشبه شيء بحركة النمال في هيجانها، وكنت أتحرك فيها بحركة المجموع حركة أتوماتيكية من غير ما إرادة ولا مقصد، ولا تزال هذه الحركة العامة إلى الساعة الثامنة مساءً، فتخفُّ نوعًا بمن يقصد أبواب المطاعم والتياترات والسيماتوغرافات، وما إليها من محلات اللهو أو الرياضة النفسية.
وفي هذه المدينة تتهيج أعصاب الإنسان بكل ما يضعفها، حتى إن أعصاب الدماغ تَضْعُف إلى درجة فقدان الذاكرة، وهذا من شدة التعب الذي ينال الإنسان من كثرة الحركة، وشدة ضغط الجو! وهل تريد برهانًا على شدة هذه الحركة الجهنمية أظهر من أنك كثيرًا ما تُصَادِف من المارة من يأخذهم دُوَار الأرض بنفس الحالة التي يأخذهم بها دُوَار البحر!
وفي الجملة فَنيويورك عالَم وحده قد يضل الإنسان فيه عن كل شيء، وقد يبحث فيه عن نفسه فلا يجدها! خصوصًا إذا كان مثلي من عابري الطريق.
وقد يأخذك العجب كلُّ العجب إذا نظرت إلى الناس وهم في حركتهم الكبرى في الطريق ووجدْتَ أَغْلَبَهُم من النساء. فهل نسبة الإناث هنا أكثر من نسبة الذكور؟ وإذا سلَّمْنا بذلك. فهل هذه النسبة تتمشى على كل الولايات المتحدة؟ وإذا كان هذا صحيحًا فهل تعدُّد الزوجات عند طائفة المورمون من الأمريكيين وهم على دين النصرانية له أصل يتصل بذلك؟
ومما يلفت نظرك في نيويورك أنك لا تجد إنسانًا في يده عصاة مطلقًا، حتى ولو كان به عرج، وفي وقت المطر تجد في يد بعضهم وخصوصًا السيدات «مطريات» ولكن عامة الناس، وعلى الأخص الشبيبة نساء ورجالًا، تراهم متمنطقين برداء خفيف من الكاوتشوك؛ حتى إذا انقطع نزول المطر فلا يضره أن يُمْسِك به في يده.
أما الكنائس في الولايات المتحدة فلا حصْر لها، وفي نيويورك وحدها ١٧٠٠ كنيسة عدد القُسُس بها أكثر من ٢٤٠ ألفًا، وفيها من اليهود ١٧٥ ألفًا، ومن العبيد أكثر من ٢٠٠ ألفٍ.
وخيْر ما تُدْهَش له آداب الاجتماع في الطريق؛ فإن النساء يَسِرْن بحالة عامة محترمات لأنفسهن، بحيث لا يرتفع نظر امرأة أو شابة أو بنت في عين أي رجل في الطريق؛ لذلك تراهن يَسِرن حيث شئن وهن في حماية القانون والشعب، وإذا تعدى أي إنسان على واحدة بكلمة أو بنظرة كان البوليس ثالثهما.
وأهل نيويورك يخرجون عصر كل يوم في الصيف إلى جهة على المحيط في بروكلن اسمها «كوتي أيلن» والمواصلات إليها إما بطريق الأقيانوس، أو بالطريق الحديدي الهوائي، أو الذي تحت الأرض، وهناك عربات كبيرة (أوتوباث) تُوصِل من يريد إلى هذه الجهة في مسافة ساعة، وأُجْرَتها ريال في الذهاب ومِثْله في الإياب.
توجَّهْتُ إلى هذه الجهة فوجدت الناس قد حُشِدَتْ فيها بمئات الآلاف، ويتوفر في هذه الجهة كثير من دواعي التسلية كما ترى صورة مصغرة منها في لونابارك بمصر الجديدة، وبجوار هذا كله دكاكين كثيرة بها من أنواع المآكل (على الماشي)، وترى الناس منكبَّة عليها، نساءً ورجالًا، فيأخذون ما يشتهون، وكلٌّ يده في جيبه، والأخرى في فمه، ولا يزالون يأكلون في الطريق بكل قابلية، وإن شئت فقل بكل شراهة، لا فرق بين آنسة لطيفة أو شابٍّ متأنق أو عامل من العمال، وقد يمشون في الطريق بلباس البحر؛ لأنهم في مدده.
ومن ضمن ما في هذه المنطقة من الألعاب خيْل يركبونها ويجْرُون بها أشواطًا بعيدة في دائرة مخصوصة لها، وقد رأيت كثيرًا من الشابات — مع قصر ملابسهن — يَرْكَبْن مثل ما يَرْكب الرجل، ويَجْرِين في هذا الميدان، رغم مخاصمة الهواء لملابسهن، ولكنها قوة الإرادة مع شدة الحرية التي قد ترجع بهم في كثير من الأمور إلى نقيض ما يَقْصِد الشارعُ منها.
وأما سراة الناس فيذهبون إلى جهة اسمها أطلانطق سيتي، فيقضون بها أيام عطلتهم، وهي تَبْعُد عن نيويورك ثلاث ساعات في السكك الحديدية.
وفي نيويورك كثير من الحدائق العمومية، ومن أكبرها حديقة برونكس ومساحتها ٢٦٠ هكتارًا، وفيها بستان نباتي جميل جدًّا فيه كثير من الأشجار المختلفة التي لأهل الفن عناية بها، أما قِسْمها الحيواني ففيه كثير من أنواع الحيوان في العالمين الجديد والقديم، وشُهْرَته على الخصوص في الطيور والثعابين المختلفة الأنواع، وعلى الخصوص البوا.
ويسافر من نيويورك أناس كلَّ سنة إلى إفريقية والهند ليشتري جملة من أصنافها.
والبوا يعيش من ٢٠ سنة إلى خمسين، وهو في شيخوخته لا يأكل إلا قليلًا جدًّا، وربما مرت عليه ثلاث سنوات من غير أن يأكل مطلقًا! وفي هذه الحال لا بد من تلقيمه غذاءه من وقت إلى آخر، وهو عبارة عن ست بيضات مضروبة في لترين من اللبن، وتُلقى في حلق البوا بواسطة خرطوم، والبوا والبيتون لا يأكلان عادة إلا مرة واحدة في كل شهر، فيُلْقُون إليهما بالحيوانات الصغيرة وهي على قيد الحياة فتتلقفها وتبتلعها بكل شراهة.
أما دُورُ التعليم في هذه المدينة فهي كثيرة؛ ففيها ١٢ جامعة وكلية، بها نصف مليون من الطلبة، ثم ٥٥٣ مدرسة، بها مليون تلميذ، وأكبر هذه الجامعات هي جامعة كولومبيا، وهي عبارة عن جملة أبنية فخمة على مرتفع على نهر الهيدسون، ومساحتها ٢٨ أكر (فدانًا)، وفيها من الطلبة ٢٩ ألفَ طالبٍ، ومن المعلمين ١٥٠٠.
والدراسة في هذه الجامعة مدةَ أربع سنين لمن أراد أن يَحْصُل على درجة «دجري» أو على درجة «بكالوريوس في الفنون»، أو في الهندسة، أو فن المعمار (أرشتكتور)، أو الحقوق، أو الطب، أو العلوم السياسية، أو الفلسفة، أو العلوم.
أما جامعة نيويورك فيُعَلَّم بها العلوم والفنون المختلفة، وبها قسم للتعليم العملي، وقسم للأشغال، وقسم للإدارة، والتعليم نهارًا وليلًا، وفيها قسم للتعليم مدة الصيف.
وفي نيويورك مدارس أخرى كثيرة، منها: مدرسة للصحافة، فيها مكتبة بها عشرة آلاف كتاب! ويأتي إليها كلَّ يوم خمسون من الصحف اليومية الكبرى، وفيها مجموعات للصحف بها نحو مليون صحيفة.
والجامعات والمدارس في نيويورك لا تتسع لتعليم الفقراء الذين لا قدرة لهم على مصاريفها، ومَن مِن الطلبة لا يُمْكِنه دَفْع المصاريف يشتغل في أوقات الفراغ بنفس الجامعة في أية خدمة، فمنهم الفراشون، ومنهم السفرجية، ومنهم من يَكْسِب ما يَدْفَعُه للجامعة من عَمَل في الخارج بعد مواعيد الدراسة، كأن يشتغل في محل تجاري، أو في مطعم أو غيره، وقد رأيت طالبًا في الطب يشتغل بصفة فراش في قنصلية مصر بنيويورك، وهذا شأن الطالبات أيضًا؛ يشتغلن في المحلات التجارية أو غيرها بما يُحصِّلن من أجرة تعليمهن، وهي همة نَذْكُرها بالشكر لهؤلاء الأفراد، وكان يجب على الأغنياء هنا أن يعنوا بمثل هذا الأمر لولا أن في دَمِهم الهرب من كلمة فقْر، ومن كل ما يتصل بها كفقير أو بائس أو مسكين، وهي كلمات عندهم لا يقابلها غير كوليرا، أو طاعون، أو سُل، مما تجب محاربته والهرب من وجهه.
وفي هذه المدينة كثير من المتاحف العمومية، منها ما هو للتاريخ الطبيعي، ومنها ما هو للآثار العامة، ومنها ما هو للجغرافيا والتاريخ، ومنها ما هو للفنون الجميلة، وكلها آثار قيمة ولكنها في مجموعها لا تصل إلى مثلها في عواصم أوروبا الكبرى.
وقد ترى في هذه الأخيرة تمثالًا على شكلِ عربيٍّ بين يديه إلى صدره لوحة قرأت فيها لفظ محمد … الله، وأظن أن بها لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومكتوب تحت اسم الجلالة لفظ محمد!
وفي «منهاتان» وحدها ألف وخمسمائة لوكندة من مختلف الدرجات، فهي هنا كمثلهما عندنا، تجد الكونتينانتال وليس ببعيد عنها لوكندة كتكوت، والأجرة هنا تتراوح بين ريال واحد، وعشرين ريالًا للأودة في الليلة الواحدة — وسنذكر لك شيئًا عن بعض اللوكندات لتكون عندك فكرة عامة منها.
(١٠) لوكندة ولدورف
تُشْرِف هذه اللوكندة على الشارع الخامس، ولها أبواب على شارعي ٣٣ و٣٤ — وتتكون من سبع عشرة طبقة، وفيها ١٥٠٠ غرفة — منها ١٢٠٠ في كل واحدة حمامها، وكانت كلفة إنشائها ٤٠ مليون دولار، وصالاتها وباراتها ومطاعمها وغرف التدخين بها تحت تصرُّف عموم الناس، وفيها تياترو ودكاكين لكل ما يريده المسافر، مما هو للفوتوغرافيا، والزهور، والزينة، والسجاير، وعيادات لثلاثة أطباء، ومكتب للصحف، وآخر لتذاكر التياترات، ومكتب للتلغراف، وآخر للبوستة، ولكل غرفة فيها صندوق بوستة خاص بها، حتى إذا ورد مكتوب لصاحبها فتُخْتَم عليه الساعة والدقيقة التي وصل فيها، وإذا وصلت إليه بطاقة زيارة توضع في مظروف يُخْتَم عليه الثانية التي وصلت فيها وتُرْسَل في أنبوبة بواسطة الضغط الهوائي في نصف دقيقة إلى الدور المقيم به، وهناك عمال مخصوصون يوصلونها إليه في الحال، أو يجيبون عليها بأنه غير موجود.
وتوجد لكل طبقة مصاعد خاصة بها، وصالات هذه اللوكندة غنية بكل أنواع الرياش الثمين، وفيه ما يؤجر في الليلة بألف ريال لمن يريد.
ويوجد في هذه اللوكندة مساكن لا تزيد عن أودة نوم فاخرة، وأودة استقبال صغيرة، وغرفة للتواليت بحمامها ولوازمها، وأودة صغيرة للسفرة وأجرتها في الليلة ٥٠٠ دولار.
وفيها ٨ آلات لتوليد الكهرباء اللازمة للإنارة والمصاعد والطبخ والتدفئة والتهوية قوتها ٣٠٠٠ حصان بخارية! ولها وحدها من العمال ١٥٠ شخصًا بين مهندسين وغيرهم، وعندهم على الدوام في جانب من اللوكندة عشرين ألف طن من الفحم لإدارة هذه الآلات.
ومصانع الثلج في اللوكندة تَصْنَع كل يوم ٥٠ طنًّا من الثلج، يأخذون منه طلبهُم والباقي له مشترون في الخارج، ولها آلات للغسيل، وغيرها للتجفيف، وغيرها للكي، وكلها تعمل على الدوام بحالٍ أوتوماتيكية، والذي تغسله وتكويه يوميًّا لا يقل عن ٦٠ ألف قطعة بين ملاءات فرش، وفُوَط، ومفارشَ، وغيرها.
وفضلات الأكل توضع في براميل خاصة بها، لها متعهد يشتريها كل سنة بخمسة آلاف ريال ليستخرج منها الدهن الذي فيها بآلات مخصوصة.
وتستهلك هذه اللوكندة كل سنة من الفضيات بمبلغ عشرة آلاف دولار، ومن البياضات بثلاثين ألف دولار.
وتستهلك من ورق الخطابات كل سنة بمليون دولار.
وتدفع اللوكندة للبلدية ٥٠ ألف دولار لأجل الماء الذي تستهلكه كل سنة، والماء الذي يُسْتَعْمَل في حماماتها كله مرشح، والذي يُسْتَعْمَل للسفرة مُقَطَّر، ومجموع ما فيها من الخدم ١٦٣٦ بين طباخين وخبازين وسفرجية وليوانجية وغيرهم، ممن يبلغ مجموع مرتباتهم ٨٠٠ ألف دولار في السنة، وقد يبلغ إيراد هذه اللوكندة في بعض الأيام مليون دولار!
(١١) لوكاندة مانجر
وهنا أضرب لك مثلًا بلوكندة أخرى نزلْنَا فيها مع جماعة المؤتمر، وهي لوكندة كبيرة جديدة، فيها أكثر من عشرين طبقة، وهي في الشارع السابع، ولكنها تجارية بالمعنى الصحيح؛ ففي كل أودة منها حمام إما بمفرده أو هو مشترك بينها وبين أودة أخرى، وقد يكون الحمام مقتصرًا على الدش فقط، والماء فيهما جميعًا حارٌّ وبارد ليلًا ونهارًا، وبجوار ذلك أداة التواليت بكل معناها، ومن هذا تعرف أنْ ليس لإنسان أن يترك أودته لقضاء حاجته؛ لأن بها كل ما يَلْزَمه، وفيها حنفية مسلطة على حوض الغسيل متصلة بثلاجة الفلتر العمومي المخصص للشرب، تأخذ منها ماء مثلجًا في أي وقت شئت، وباب الغرفة عبارة عن دولاب له بابان محدودبان، أحدهما داخلها، والآخر خارجها، فتضع ملابسك التي هي في حاجة إلى التنظيف من الباب الداخلي ثم تقفله، فيأتي الخادم كل صباح ويفتح البابَ الخارجي فينظفها ثم يضعها مكانها من غير أن تشعر به، وإذا فتحت باب غرفتك في الصباح تجد على عتبته أهمَّ الجرائد اليومية، فتأخذها وتقرأ فيها ما تريد، وفي دورها الأرضي مصاعد خمسة أو ستة بجوار بعضها البعض لا تزال صاعدة نازلة بمن يريد.
وليس لأحد من الموجودين باللوكندة صلة بالخدم، بل عنده مكتب فيه جميع أدوات الكتابة من حِبْر وورق وظروف وكارتات وأقلام، وعلى المكتب الكتاب المقدس من جهة، ومن جهة أخرى مجلَّد ضخم فيه جميع العناوين التليفونية التي في المدينة وضواحيها، وبجوار هذا كله كرسي عليه آلة التليفون المتصل بعامل اللوكندة، فإذا أدرت منه شيئًا أَمَرْتَه به فيأتيك في الحال، وإذا أردت أن يصلك بنمرة أخرى باللوكندة أو المدينة فَعَلَ بكل سرعة فتتكلم ما شئت وأنت في سريرك.
وفي اللوكندة صالة للأكل كبيرة لمن يريد أن يأكل فيها، وأجرة الأودة في الليلة تبتدئ هنا من ثلاثة ريالات، ومساحتها في الغالب ٢ متر عرضًا في أربعة طولًا، وفيها نصف هذه المساحة للحمام والتواليت.
وفي جوار باب اللوكندة محل يأخذون فيه الشاي والقهوة أو الأكل الخفيف لمن يريد من أهل اللوكندة أو غيرهم.
وتجد الحركة في اللوكندة هائلة بحيث تجد الداخل أكثر من الخارج.
•••
وفي نيويورك كثير من المطاعم، ومنه ما هو للخاصة بثمنه العالي، وما هو للعامة بثمن محتمل، ربما لا تصل الأكلة فيه إلى ريال، وهي في عمومها لا بأس بها.
وأغلب المطاعم هنا ما يسمونه «الكافيتريا» ونظام الأكل فيها أنْ ليس فيها جرسونات للخدمة، بل إذا دخل المرء إليها أعطوه ورقة فيذهب بنفسه إلى العامل المختص بتوزيع الأكل ويتناول صينية وسكينة وفوطة من جواره، ويطلب منه ما يريد مما هو معروض أمامه، ولكل صنف ثمن معلوم يقيده العامل في الورقة التي بيد الآكل، فإذا أتم أكله حاسب صاحب الصندوق على ما فيها كثيرًا كان أو قليلًا.
وليس في نيويورك شيء من تلك القهاوي التي كثيرًا ما تجدها في عواصم أوروبا «إلا لوندرة» مما يمكن أن يستريح إليه الغريب على الخصوص فيقضي في دائرته بعض الزمن؛ لذلك ترى الإنسان هنا إن لم يكن له عمل في مصرف أو في محل تجاري أو ما يشبه ذلك، فإنه لا يجد ما يستريح إليه إلا الالتجاء إلى لوكندته أو الدخول إلى أحد الطاعم أو التياترات أو السينماتوغرافات، وكلها هنا كثيرة جدًّا، وخصوصًا في الشارع السابع.
أما التياترات فإذا أردتها بمعناها هنا فهي: الفاريتيه أو الهوتفيل، أما التياترو بمعناه الحقيقي — وهو الذي تُبْنَى فصوله على العبرة التاريخية — فيكاد لا يوجد هنا، وليس من دليل على ذلك غير رؤيتك لدار الأوبرا وأنها بناء قديم لا يصل بأي حال من الأحوال إلى ما عليه سينماتوغرافات المدينة من فخامة البناء وبديع الشكل، وكأني بك إذا زُرْتَ سينما برامونت أو روكس أو الكابيتول، وشاهدْتَ ما فيها من الأبهاء التي جمعتْ لطافة الشكل إلى جلال المنظر، ورأيتَ هذه السلالم الرخامية الفخمة التي توصل إلى الأدوار العالية وما فيها من صالونات للاستراحة كلها موشاة بالذهب وغريب الألوان، ورأيتَ ما إلى ذلك من ثمين الأثاث، وجميل الرياش، وما يتلو ذلك من خَدَمٍ وَحَشَمٍ جَمَعُوا بديع الهندام إلى حسن النظام، لما ترددْتَ لحظة واحدة في أنك في أعظم قصر من قصور الملوك.
فإذا دخلت إلى قاعة السينما وجدتها فسيحة الأرجاء، عظيمة الرواء، تسع من النظارة بضعة الألوف، وليس فيها كرسي واحد غير مشغول بصاحبه، وكثيرًا ما ترى العشرات بل المئات من المتفرجين واقفين على أبواب القاعة في كل أدوارها ينتظرون خُلُوَّ مكان لاحتلاله، والسبقُ للمتقدم؛ ذلك لأن التشخيص مُدَّتُه ساعتان، وآخره مُتَّصِل بأوله من أدوار كثيرة من الساعة الخامسة بعد الظهر إلى الساعة الحادية عشر مساءً.
أما التشخيص ذاته فقد وصل الأمريكان فيه إلى الإبداع في الاختراع، والإغراب في كل باب؛ لأنهم يستقدمون من أوروبا أعظم المُشَخِّصين والمُشَخِّصات، ويفيضون عليهم ميازيب الأموال حتى يَصِلُوا في الرواية من جمال الإحسان إلى كمال الإتقان.
وقد يتخلل التشخيص فصول من الرقص الصامت الذي لا يَتَكَلَّم إلا بحركات صاحباته، يتلو ذلك شيء من الغناء والموسيقى، وقد يبلغ عدد الأوركستر في هذه السينماتوغراف إلى مائة كلهم من كبار الفنيين، إذا لعبوا دَوْرَهُم وهم في وسط تيارات تلك الألوان الكهربائية التي تتناسب مع القطعة التي يمثلونها ذهب بك الخيال كُلَّ مَذْهَب، وتصورْتَ أنك في عالم آخر هو ما ترتاح إليه النفوس، وتسموا إليه العقائد، ومن هذا ترى أن السينما هنا في أرقى درجاته وأتم آياته.
وَجَوُّ نيويورك غير صحي بالمرة؛ لأنه شديد الحرارة صيفًا مع ما يصحبها من الرطوبة التي تهيج الأعصاب وتكاد تزهق منها النفوس! وفي الشتاء ترى جوها شديد البرودة بما تكاد تُجَمَّد منه الدماء في عروقها — وهي ومدريد على خط عرض واحد — أما هواؤها فكله متسمم بما يختلط به من البنزين المحترق من مئات الألوف من الأوتوموبيلات التي لا تنقطع حركتها فيها ليلًا ولا نهارًا.
•••
ولشدة حرها تجد فيها دكاكين خاصة كثيرة يبيعون فيها شراب البرتقال والأناناس، حتى تراه في دكاكين البقالة والمطاعم والصيدليات وغيرها.
ولا أدري إذا كانت شدة الحر هي السبب في كونهم يمضغون اللبان بصفة عامة حتى وهم في الطريق، لا فرْق بين رجل وامرأة، وشاب وشابة، وطفل وطفلة، وكذلك يبصقون فيه من غير مبالاة!
وعلى كل حال فالذي كتبْتُه عن هذه المدينة لا يخرج عن مذكرات سائح، وهو ليس بشيء يُذكر بجانب ما لم أَرَهُ من مَشَاهِدِها، وقد تَمُرُّ هنا على العين في آنٍ واحدٍ صور كثيرة، ومناظر جمة لا يدري الكاتب ماذا يتخير منها:
وما عساك تريد أن أكتب عن مدينة كأن الثماني والأربعين الولايةَ المكوِّنةَ للولايات المتحدة قد اندمجت فيها مع من انضم إليها من زُوَّارِ وتُجَّارِ ممالك أخرى، بحيث تستلزم الإحاطة ببعض حقيقة ذلك تحليلًا واسعًا نفسانيًّا واجتماعيًّا وصناعيًّا وتجاريًّا واقتصاديًّا، خصوصًا في مدة يسيرة كالتي أَقَمْتُها فيها؟
هذه هي نيويورك التي كل ما تقوله عنها كتب الجغرافيا بمصر هي هذه الكلمة: «ونيويورك مشهورة بكوبري بروكلن.»
(١٢) حول نيويورك
نزهة في النهرين
أَعَدَّت الغرفة التجارية نزهة نهرية لأعضاء المؤتمر، فقُمْنَا بعد الغداء الذي قُدِّمَ لنا، وَعَدَّيْنَا إلى جهة نيوجرسي في السابوي (الطريق الحديدي الذي يمر تحت النهر)، وهناك رأينا يختًا جميلًا أقلَّنا وسار بنا إلى النهر الشرقي، وهنا ظهرتْ لنا نيويورك بعظمتها، وكانت مراكب النقل تغدو وتروح أمامنا بكثرةٍ هائلة، والذي لَفَتَ نظري منها بصفة خاصة مركب ذات سطح مستطيل تحمل سبع عربات من عربات السكك الحديدية لتنقلها من شاطئ إلى شاطئ آخر من هذا النهر العظيم، ومن أَعْجَب ما رأيناه في محطة نيوجرسي عربات خاصة لنقل الفاكهة، فيها مثالج تُلَطِّف من حرارتها؛ حتى تصل إلى مواردها سليمة من كل ما يُؤَثِّر فيها، وهناك معديات هائلة ذات دورين لتعدية الناس من جهة إلى أخرى، والدور الأول مخصَّص للعربات بجميع أنواعها، والثاني خاص بالركاب، بهذا وذاك كانت عظمة المدينة تتمثل أمامنا في هدوء وسكينة حتى كأننا في حلم من الأحلام.
دَخَلْنَا إلى النهر الشرقي، فرأينا على يمينه ويساره من مرافئ الشركات البحرية والنهرية ما لا يُحْصيه العدُّ، وبعد قليل مَرَرْنَا من تحت الكوبري العظيم التاريخي الذي يربط نيويورك ببروكلن (كوبري بروكلن)، وهو يرتفع فوق رءوسنا بأربعين مترًا، وكانت حركة العربات والتراموايات والقُطُر الكهربائية تَصِلُنا من ناحيته بما يصم الآذان، وقد بدا لنا منظر هذا الكوبري بعظمته الحقيقية، بل بدا لنا وهو مُعَلَّق بين السماء والأرض في هذا الطول المروِّع، ولا يتصل بالأرض إلا على قاعدتين من البناء قام عليها من كل جهة عمودان هائلان يَبْلُغ ارتفاعهما عن سطح الماء اثنين وتسعين مترًا، وعن سطح الشارع بنحو عشرة أمتارٍ تقريبًا، وكل عمودين متقابلين يربطهما حبل ضخم من الصلب، اتصلت به فروع مائلة تَحْمل هذا الكوبري العظيم، ثم مررْنَا من تحت كوبري «منهاتان»، وربما كان أكبر وأعظم من سَابِقِهِ، ولكن الفضل كان على كل حال للمتقدم، وبعد ذلك مرَرْنَا من تحت جملةِ كَبَارٍ تسير فوقَها قُطُر السكك الحديدية الهائلة، وكنا في أثناء ذلك نرى في جهة بروكلن شيئًا كثيرًا من المصانع والمعامل لا يمكن وصْفه ولا حصْره إلا بعددِ مداخنه التي كانت تخترق الجو بكثرتها، وتملؤه بدخانها الكثيف، ويكفي أن تعرف أن في بروكلن من المعامل ما يشتغل بها مليونان أو ثلاثة من العمال.
كلما سِرْنا إلى الأمام تَجَلَّتْ لنا عظمة المدينة الصناعية والتجارية: هذه عن يسارنا، وتلك عن يميننا، هذه بما فيها من المحلات التجارية وما لها من المرافئ الصغيرة على طول النهر، وتلك بما يُخَيِّم على جَوِّهَا من دخان معاملها التي لا تحصى.
ولكن لِمَ كُلُّ هذه الدهشة ونيويورك هي مملكة في مدينة قد انحصرت فيها بِنَاسِها ومصانعها ومتاجرها ومساكنها؟
وكلما سِرْنا إلى جهة الشمال رأينا البنايات تَضْمُر، والمساكن تَصْغُر، وتَظْهَر من على يسارنا «جهة نيويورك» متراصَّةً بعضها بجوار بعض، كما يظهر من الجهة الأخرى فيلات كثيرة منتشرة على أرضٍ قد فُرِشَتْ ببساط الجازون الأخضر، وأظنها مساكن خلوية لسراة القوم، ومن هذا تَعْرف أن لا نسبة بين ما في جنوبها من عظمة البناء، وما في شمالها من بساطته.
وفي نهاية قنال هالم الذي يصل النهرَ الشرقي بنهر هيدسون بدأت المباني الجميلة تظهر من الجهتين، وكانت القُطُر الكهربائية بكثرة سيرها على الكباري المتعددة التي على نهر هيدسون دلالة على كثرة الحركة في هذه الجهة، وبعد قليل من سَيْرنا مَرَرْنا على جامعة كولومبيا، حتى إذا اتصلنا بنهر هيدسون من جهة الجنوب وجدناه قد عَظُمَ في اتساعه وظهرت على جانبه المباني الجميلة التي يسكنها سراة القوم، خصوصًا الجهة اليسرى (الشرقية)، وهي أهدأ وأنظف جهةٍ في المدينة، ويسمونها «ريفرسايد»، والنهر في هذه الجهة ضِعْف النيل مرتين، وهو في فيضانه أو أقل من ذلك قليلًا، وما زلنا سائرين بين فخامة هذه المعالم ومعالم هذه الفخامة، حتى ظهرت لنا هذه المراكب الجسيمة التي تقطع الأطلانطي أو الباسفيك إلى العالم القديم من جهته الشرقية أو الغربية، وهي في مرافئها على طول بضعة كيلومترات من جانِبَي الهيدسون، وأعظم المراكب التي تسير إلى أوروبا «لفياطان»، وحمولتها ٦٥ ألف طن، وكانت لألمانيا قبل الحرب، والآن للولايات المتحدة، ثم «ماجستك»، وهي لإنجلترا، وحمولتها ٥٥ ألف طن، ثم «باريس» لفرنسا، وحمولتها ٣٧ ألف طن.
وفي نهاية الساعة السادسة مساء وصَلْنا إلى الجهة التي أنْهَرْنَا منها، وعُدْنَا من طريق السابوي إلى فندقنا، شاكرين للغرفة التجارية كَرَمَها وحفاوتها.
وفي اليوم التالي دعتنا الغرفة إلى نزهة خارج المدينة، وأرسلت مركبات الأوتوباث الكبرى إلى منزلنا، فركبناها وسارت بنا تخترق شوارع المدينة حتى خرجنا إلى آخر شارع برودوي، وهنالك سرنا بين البساتين اللطيفة حتى وصلنا إلى المعمل الكيماوي الزراعي للمدينة، والذي أدهشني فيه آنسات يَعْمَلْن في التحاليل الكيماوية، ويدرسن طبيعة النباتات والزهور، وقد رجوت أن يكون لشبابنا مثل هذا الحال، والحق يقال: إني كنت أراني في هذا الوسط العلمي والفني خَجِلًا من وقوفي في نقطةٍ أَقْرَبَ إلى الجهل منها إلى العلم، إن لم تكن هي الجهل بعينه، مع أن بلادنا زراعية، ونحن محرومون فيها من كل شيء من هذا القبيل.
وقد زُرْنا بهذا المكان محلًّا درجةُ الحرارة فيه عشرة تحت الصفر، ثم آخر حرارته أربعون فوق الصفر، يدرس القوم فيهما طبائع نباتات مختلفة، وبعد زيارتنا عُدْنَا إلى منزلنا.
وفي صباح اليوم الثالث أَعَدَّتْ لنا الغرفة التجارية ما يلزم من الأوتوموبيلات الكبيرة لزيارتنا جامعة «نيوبرونسويك» التي شُيِّدَتْ في سنة ١٧٦٦م، وكذلك محطة التجارب الزراعية بها، وهي على نحو خمسين ميلًا من نيويورك، فوصلنا إليها قبيل الظهر، وهناك خُيِّرنا بين زيارة الجامعة أو زيارة معمل الأدوية، فرغبت في زيارة المعمل؛ خوفًا من أن أجد في الجامعة لغة لا أفهمها! كما هو الحال عندنا، خصوصًا وقد كانت في آخر أيام دراستها، وعلمت أنها في يومها التالي ستوزع ألقاب الدكتوراه على مائتين من طلبتِهَا بين شبان وشابات! فهل يأتي الزمن الذي نرى فيه هذه النتيجة عندنا؟ هل يأتي الزمن الذي نرى فيه أمهات المستقبل عندنا في مستوى هذه المرأة في قيمتها النفسية وتفوُّقها العلمي؟
دَخَلْتُ مصنع الجواهر الطبية «لإخوان جونسون» مع طائفة من رجال المؤتمر، فبدأنا بزيارة المطبعة التي تَطْبَع الإعلانات والعناوين التي يضعونها على زجاجات أو صناديق الأدوية، وهي تَقْرُب في كِبَرِها من مطبعة مصر، وفيها تُصْنع علب الكرتون على اختلاف أشكالها.
ثم صعدنا دورًا آخر، فوجدْنا آنسات، هذه تملأ العلب، وتلك تغلفها بورقة وتضعها على سكة حديدية صغيرة تتحرك بحركة أوتوماتيكية، فتنقلها إلى جهة أخرى فيأخذونها ويرتبونها في صناديقها للتصدير، ثم صعدْنَا إلى دور آخر فرأينا به القطن المحلوج الخاص بالصيدليات قد لُفَّ على أسطوانات كبيرة، تدور بسرعة، ومن دونها آنسات يقطعنه بمقادير مخصوصة بسرعة تساير سرعة الأسطوانة، ثم يَضَعْنَ ما يُقَطِّعْنَه على شريط من الحديد متحرك إلى جهة يأخذونها منه ويلفونه ويضعونه في صناديقه، وكل هذا بسرعة أوتوماتيكية، ثم تسير هذه الصناديق إلى أفرانٍ درجةُ حرارتها ٢١٥ فرنهارد، وتستمر فيها ساعة ونصف ساعة؛ لقتل ما عساه يكون بها من الميكروبات.
ثم زُرْنَا دورًا فيه أسطوانات كبيرة عليها القماش الخاص بالأربطة، وهي تدور، ومن دونها آنسات يُقَطِّعُونه بحساب مخصوص، ومن دُونهن غَيْرُهن يَضَعْنَه في علبه ثم يُذْهَبُ به إلى أفران التعقيم.
وجميع الأيدي التي تشتغل هنا كانت تتحرك بحركة أوتوماتيكية مع حركة الآلات حتى كأنها كلها مرتبطة بعضها ببعض مما يدهَش له الناظر، وعسى أن يرى بنك مصر ويفكر في إيجاد هذه الطريقة في عمل القطن الخاص بالصيدليات، فهو — مع سهولة عمله — من أحسن موارد الكسب.
وبعد زيارتنا للمعمل اجتمعنا بإخواننا الذين زاروا الجامعة وساروا بنا إلى حيث قدم لنا طعام الغداء من محل إخوان جونسون أصحاب معمل الأدوية.
كنت أود أن يباح لي الكلام بِلُغَتِي، حتى كنت أكون أقوى مني الآن على التعبير عما يخالجني من آيات الشكر لهذه الفرصة التي تشَرَّفْتُ فيها بالاندماج في مجموعتكم الموقرة، وإني رغمًا عما اقتصرَتْ عليه عبارة الدكتور ليتمان من ذِكْر الجنسيات الأوروبية المحترمة أرفع صوتي باسم مصر وطني المحبوب بإبداء آيات الشكران والامتنان لهيئة الجامعة الجليلة، ثم لِبَيْت جونسون الكريم، وللجنسية الأمريكية بصفة عامة على ما رأيناه من كرمهم وعنايتهم.
وبعد أن تُرْجِمَتْ عبارتي بالإنجليزية قام الدكتور ليتمان وشَكَرَنِي بكلمات رقيقة.
وبعد النداء ركبنا الأوتوموبيلات إلى الأرض التي يعملون بها التجارب، وهي أرض ملحية حمضية، فرأينا جميع التجارب التي عملوها فيها تدور حول تسبيخها بالأزوت أو الجير أو سلفات النشادر على نسب مختلفة، إما بمفردها وإما بإضافة بعضها إلى بعض، وكل هذه فيها نتائجها من ضعف أو قوة في الإنبات. فهل عندنا تجارب من هذا القبيل تقوم بها وزارة الزراعة؟ وهل إذا عملت ذلك تذيع النتيجة على الأمة؟ حتى لا تحرم من الفائدة التي تنتج عن أبحاثها؟
وبعد ذلك توجَّهْنا إلى عزبة يسمونها عزبة الأبقار، فوجدنا الأبقار في إسطبلاتها وهي ١٨٠٠ بقرة كلها حلوب، وكيفية وجودها هنا أن توضع رءوسها في مربعات مستطيلة من قضبان من الحديد عرضها نحو ثلاثين سنتيمتر بحيث يمكن فتحها من أعلاه، وهذه المربعات مصنوعة بحالة تُمَكِّن البقر من أن تتحرك برأسها أنى شاءت وهي تتحرك بحركتها، وفيما وراء الأبقار قناة مسقفة ينزل إليها روثها وبولها، وفي أول القناة حنفية إذا فُتِحَتْ تَفَجَّرَ منها الماء لغسيل هذه القناة، ويسير الماء الملوث إلى حفرة خارج الإسطبل، ولهذه الحالة تجد رأس البقرة سليمة، وآذانها لا شائبة فيها، لا كحالها عندنا! وكل بقرة من هاته الأبقار تعطي ٢١ ألف رطل من اللبن في كل عشرة أشهر! ولكل مائة منها إسطبل على حِدَتِهِ تربط فيه متقابلة، وغذاؤها عيدان الذرة الجافة المقطعة قِطَعًا صغيرة ومعطونة بحيث تراها كتفل خشب العرقسوس بعد نقعه في الماء، وقد ظهر فيه رائحة التخمير، ويضعون عليه البنجر المقطع قطعًا صغيرة، ولهذا وذاك آلات مخصوصة، أما البرسيم فإنهم يجففونه بآلات يضعونه فيها من جهة وهو أخضر، فيخرج من الأخرى وهو مطحون كدقيق الحنطة، فيَمْلَئون منه أكياسًا يحفظونها لتغذية المواشي في الشتاء، وتُحْلَب الأبقار ثلاث مرات كل يوم بواسطة رجال مخصوصين، وبعد ذلك يُنْقَل اللبن إلى معمل قريب من الإسطبلات فيُوضَع في زجاجات معقمة ويُرْسَل بها إلى نيويورك.
•••
وبعد أن زُرْنَا النقطة التي فيها المباحث على طبيعة الأرض زُرْنَا مكان التجارب على أشجار الفاكهة، وهم يرُشُّون النيوكوتين على الشجر المصاب بالميكروبات وعندهم مربعات من قضبان الحديد مترين في مترين ارتفاع ثلاثة أمتار مكسوة بالقماش، وهي أشبه شيء بالبارافانة (الدروة)، يحيطون بها أشجار الفاكهة وقْت إزهارها لحمايتها من الرياح من جهة، ومن جهة أخرى لحماية مادة التوليد التي يضعونها فيها؛ ذلك أنهم يأتون بزهرة من ذكور الأشجار الجيدة فيضعونها في وسط زهرة شجرة من الإناث فيتم التلقيح ويجود الثمر.
وبعد أن فرغنا من زيارة الأبقار ومكان الألبان سِيرَ بنا إلى محل الإدارة، وهو مكان جميل في وسط خضرة نضرة، وهناك وجدنا صاحب العزبة قد جهز لنا العشاء الخلوي في هذا الهواء الخالص على نظام الكافيتريا الذي شرحناه لك في مقدمة هذه الرسائل، فأكلنا أكلة لا أتذكر أني أكلْتُ أحسن منها، وكان موظفو الإدارة يدورون علينا من وقْت إلى آخر بكل ما لذ وطاب، وبناتها يدرن علينا بأصناف الفاكهة والمثلجات، ونحن بين يدي هذه الطبيعة الجميلة تحفُّ بنا الأشجار وتُظلِّلنا سماءٌ أَذْكَرَتْنَا بسماء بلادنا الزاهرة في وقت غربت شمسه، وكمل أُنْسُه، وبالجملة فقد كان جمال الطبيعة وجمال الوقت وجمال الصنيع، مما لا يُنسى لهذا العالَم الذي بلغَتْ أريحيته إلى ما لا يمكن أن تراه في عالم آخر.
وفي الساعة الثامنة ركِبْنَا أوتوموبيلاتنا الى نيويورك فوصلناها في الساعة العاشرة.
ونيويورك عاصمة ولاية باسمها في طول المحيط الأطلانطي، وهي أغنى ولايات أمريكا ومساحتها ١٢٧٣٥٠ كيلومترًا مربعًا، وقنال أريا يقسمها إلى قسمين، وفي شمالها جبال أديرونداك، وفيها غابات غنية بالأشجار الجميلة، وأرض هذه الولايات تشقها جملة أنهار منها: نهر هيدسون، وموهاوك، ودولاور، وسيسكهانا، والنهر الأسود، وفي شمالها بحيرة أونتاريو يحيط بها جملة بحيرات صغيرة.
وفي ولاية نيويورك جملة مدن عظيمة: منها مدينة بافالو وهي مدينة عظيمة سكانها أكثر من نصف مليون، وهي مشهورة بمصانع الحديد ومطاحن الدقيق، ومدينة روشتر، ومدينة سرقوسة، ويُزرع في هذه الولاية البطاطس والغلال والدخان والبنجر بكثرة، وفيها معامل كثيرة لكل أنواع الصناعات للنسيج والحديد والسكر وغير ذلك.
وقبل أن أترك هذه المدينة أو هذه المملكة في مدينة أقول: إني زُرْتُ قنصليتها فوجدت قنصلها عسل بك من أرقى مَن يُعهد إليهم بمثل منصبه، وجدْتُ فيه رجلًا عاملًا أديبًا لطيفًا، والعمال الذين معه بصفة عامة ممن تهنأ بهم وزارة خارجيتنا، وهنا أذكر شيئًا أعجبني من حضرة القنصل، ولا أريد أن أترك نيويورك من غير أن أذكر أهميته: عندما حضرت إلى القنصلية لتوديعه كان عنده رجل من كبار السوريين في نيويورك، فلما قابلناه بعد خروجه من عنده أخذ يحدثنا بما كان يتكلم معه فيه هذا الرجل، وهو أن يساعده في إيجاد معرض من الصناعات المصرية في نيويورك، ولا شك أن الصناعات عندنا محصورة في المنسوجات البلدية التي تُصْنَع في دمياط والمحلة الكبرى، ومصر على الخصوص، وفي عمل قطع المشربيات والأدوات النحاسية التي تُعْمَل في الخان الخليلي، فإذا راجت هذه الصناعات في الخارج فلا بد أن تَجُرَّ إليها بعض الصناعات الأخرى التي قد يتحرك أربابها بعامل الرغبة في المكسب، وربما جَرَّ ذلك إلى تعديلٍ وتحويرٍ ترقى به هذه الصناعات مما يكون فيه خير البلاد، وهنا أقول: إن مأمورية التمثيل لمصر في الخارج لا يصح أن تقتصر على وضع الإمضاءات على جوازات السفر فحسب، أو كتابة تقارير لا فائدة منها للجمهور، بل يجب أن يكون مركزه مركزًا عمليًّا بالمعنى الصحيح، يبحث فيه عن كل ما يرقى به بلده في تجارتها وصناعتها، بل في كل شأن من شئونها الحيوية.
(١٣) من نيويورك إلى واشنطون
في الحادي عشر من شهر يونيو سنة ١٩٢٧م ركبنا عرباتنا إلى محطة نيوجرسي على الضفة اليمنى من نهر هيدسون، ومنها ركبنا قطار السكة الحديدية إلى واشنطون، وكان الحر شديدًا بحيث يصل إلى ٣٦ درجة سنتجراد، وقد تحرك القطار في الساعة العاشرة صباحًا، وسار يقطع أرضًا ليست مستوية، وفيها من العشب الأخضر ما هو غذاء للماشية، كما فيها بعض مزارع القمح وكانت السنابل قد بدأت تتكون فيها، وقد ترى في هذه الأراضي بعض أشجار الفاكهة منتثرة على طول الطريق وغيرها من أشجار الغابات، ولكنها ليست بنضرتها الأوروبية؛ لأن الطقس هنا بين حرٍّ شديد أو برد قارس، وكنا نَمُرُّ في طول طريقنا على مدُنٍ عليها أثر الصناعة من كثرة ما عليها من دخان المصانع.
وأهم مدينة مررنا عليها في طريقنا هي مدينة فيلادلفيا عاصمة ولاية بنسلفانيا، وكانت عاصمة الاتحاد الأمريكي من سنة ١٧٩٠م إلى سنة ١٨٠٠م، وهي الآن من أكبر مدن الولايات المتحدة، وعدد سكانها ١٨٢٥٠٠٠ وهي مشهورة بتجارتها الواسعة مع الخارج، وفيها كثير من مغازل القطن التي تَسْتَوْرِد كمية كبيرة من القطن المصري، وأهم مصانعها الحديدية مصانع بلدوين، وهي أكبر مصانع للقاطرات البخارية للسكك الحديدية، وفي هذه المصانع نحو ١٤ ألف نفْسٍ يعملون ليلًا ونهارًا، ويشتغلون أكثر من ٢٠٠٠ قاطرة كل سنة! وهي من صنف القاطرات الجسيمة التي يبلغ ارتفاعها ٥ أمتار عن شريط السكة الحديدية، وزنتها ١٤٠ طنًّا، وفي هذا المعمل يحرقون نحو عشرة آلاف طن من الفحم الحجري كل شهر، وفي مكاتبه أكثر من عشرين مهندسًا ومائة رسام.
وفي هذه المدينة أكبر مطابع الولايات المتحدة، وهي مشهورة باسم «كارتس دوفيلادلفيا» ولا أدري كيف يكون مَبْلَغ دهشتك إذا زُرْتَ هذه الإدارة الهائلة ولم تَرَ فيها شيئًا من الكتب مُقَدَّمًا للطبع! في حين أنك تجد فيها شيئًا كثيرًا جدًّا من النشرات والمجلات.
وأهم ما يُطْبَع فيها من المجلات الأسبوعية «المجازين الثلاث»، ويُطْبع منها كل أسبوع مليونان ونصف مليون نسخة في اثنتين منها، ومليون ونصف في الثالثة!
ومن باب الفائدة نذكر لك كلمة عن هذه الإدارة لتعرف شيئًا عما يقال له مجلات هنا، كما عَرَفْتَ بعض الشيء عما يقال له جرائد يومية في كلامنا على نيويورك.
هذه المطبعة لها بناء مكوَّن من إحدى عشرة طبقة في أحسن ميادين فيلادلفيا، ومسطحه أكثر من ثمانية آلاف متر مربع، بحيث يكون مسطح جميع طبقاته نحو عشرين فدانًا، والطبقة التاسعة منه فيها مطعم العمال، ومحل استراحتهم ورياضتهم، ومكان للسينما، ومكان للمحاضرات، والعاشرة فيها المطابخ والمستشفى وغير ذلك مما يتعلق بلوازم العمال، وكل هذه المحالِّ على أحسن ما يكون من النظافة والنقش وجميل الأثاث.
وفي هذا البناء ١٤ مصعدًا للرجال، وعشرة للبضائع، وفيه ثلاثة آلاف عامل، ويُطْبَع فيه كل يوم خمسون ألف صفحة تستلزم نحو مائتي طن من الورق الجيد! وفيه من الموتورات الكهربائية ما تزيد قوتها عن أربع آلاف حصان بخارية، وذلك كله لإدارة المطابع والإنارة، وعند انتهاء طبع المجلات تُشْحَن في عربات توصلها بغاية السرعة إلى أماكن تصديرها.
وحيث إنا تكلمنا هنا بشيء عن القاطرات، فيَجْمُل بنا قبل أن نترك أرض بنسلفانيا أن نتكلم عن مصانع قضبان السكة الحديدية في «بتسبورج» التي هي من أهم مدن بنسلفانيا، والتي بها أكبر مصانع الحديد في العالم.
(١٤) بتسبورج
ويسمونها مدينة الحديد؛ لأن فيها أكبر مصانع الحديد، لا في الولايات المتحدة وحدها، بل في جميع العالم، بحيث لا تُذْكَر مصانع كروب «بألمانيا» بجوارها في شيء! وعدد سكانها ٦٠٠ ألف نفْس، وهي على ملتقى نهرَي اللجاني ومونتجاهيلا، وتتصل بما وراء النهرين بجملة كَبَارٍ، وينتهي إليها ١٥ طريقًا حديديًّا، ويقوم منها ويدخل إليها كلَّ يوم نحو أربعمائة قَطْر من قُطُر السكة الحديدية، وتبلغ صادراتها كل سنة برًّا ونهرًا ٧٥ مليون طن ما بين حديد وفحم حجري وبترول! وأرض هذه الجهة غنية جدًّا بهذه المعادن الثلاثة، لدرجة أنهم يزعمون أن معادنها هذه تكفيها على نسبة هذه الصادرات سبعمائة سنة أو تزيد، وخصوصًا في البترول الذي يَكْثُر فيها جدًّا، ويُصَدِّرون منه كل سنة أكثر من ٤٥ مليون برميل، ويُصْنَع في هذه المدينة ثلث ما يُصْنَع في الولايات المتحدة من قضبان السكك الحديدية، ومن صفائح الصلب، ويُصْنَع فيها غير الحديد الزجاج، وفيها معمل كبير للفواكه المجهزة تُصَدَّر في علبها إلى جميع جهات العالم، وبالجملة فالمدينة كلها مكونة من مصانع مختلفة، وتراها بالليل والنهار كتلة واحدة ملتهبة تتغلغل جذوتها في الجو وتتصل أعمدة دخانها إلى عنان السماء!
ومن أكبر مصانعها التي تعمل الصلب كتلًا وصفائح: مصانعُ «هومستيل» وبها من العمال سبعة آلاف وخمسمائة عامل، وتصنع كل سنة أكثر من مليوني طن من كتل الصلب، ومن ضِمْن آلاتها مطرقة زنتها ١٢٥ طنًّا!
•••
أما المصانع التي تعمل لقضبان السكك الحديدية فهي: مصانع «أدجارتومسون» وفيها من الآلات ما بها يمكن للعامل الواحد أن يصنع بمفرده في اليوم كيلومترًا من القضبان العريضة التي طولُ الواحد منها ٣٠ قدمًا، ويَصْنَع المعمل كل يوم ما طوله ستين كيلومترًا من هذه القضبان.
(١٥) مدينة واشنطون
هي عاصمة الولايات المتحدة، وواقعة على نهر بوثوماك، وتعدادها نحو ٨٠٠ ألف نفس، وشوارعها واسعة ونظيفة، وتُسَمَّى الشوارع الكبرى التي تتجه من الكابيتول (مجلس النواب) بالأحرف الهجائية، والشوارع التي تقطعها بالأعداد في الغالب، فيقولون: شارع حرف ب مع شارع ١٥ مثلًا. وهذه المدينة مركز سياسي وإداري أكثر منه صناعي وتجاري؛ لذلك تجد أهلها أرستقراطيين؛ لأن غالبهم يعمل في مصالح الحكومة.
وقد رسم كروكي هذه المدينة في سنة ١٧٩١م ووَضَعَ أساسها «جورج واشنطون» الذي كان رئيسًا للولايات المتحدة، وصارت مركزًا لحكومة البلاد المتحدة من سنة ١٨٠٠م، وتَسَمَّتْ باسم رئيسها الموقر، وقد أُحرق الكابيتول سنة ١٨١٤م زمن حربهم مع الإنجليز ثم شُيِّد بعدها على ما تراه من العظمة والجلال، وكان القوم يتبركون باسم واشنطون حتى أَطْلَقُوه على ولاية في الشمال الغربي من الولايات المتحدة، ثم على نحو عشرين مدينة من مدنهم المختلفة في دائرة الاتحاد!
(١٦) جورج واشنطون
هو ذلك الرجل العظيم الذي كَوَّنَ الولايات المتحدة وكان أول رئيس لها، هو ذلك الرجل العظيم الذي وُلِدَ في مزرعة أبيه بولاية فرجينيا سنة ١٧٣٢م. وفي سنة ١٧٥١م كان قومندانًا للفرقة العسكرية التي كانت بهذه الولاية، وكانت له مواقف معدودة مع الفرنساويين. وفي سنة ١٧٧٩م انْتُخِبَ عضوًا بالجمعية العمومية لهذه الولاية. وفي سنة ١٧٧٥م عيَّنَه مؤتمر فلادلفيا قائدًا عامًّا للجيوش الأمريكية، وحارَبَ الإنجليزَ وأجلاهم عن بوسطون، وعقب انتصاره عليهم أعْلَنَت الولايات المتحدة استقلالها في سنة ١٧٧٦م، وما زال في حرب معهم إلى سنة ١٧٨٣م، وكان يساعده الجنرال لافاييت بِجَيْش من الفرنساويين، وفي هذه السنة تم الصلح المشهور بصلح فرساي، وبه اعترفت إنجلترا باستقلال الولايات المتحدة، وبعد هذا كله عاد واشنطون إلى مزرعته يشتغل بالفلاحة، حتى إذا تكوَّن البرلمان في سنة ١٧٨٧م انْتُخِبَ واشنطون رئيسًا له، ثم عَرَضَ عليه قومه تاج البلاد الملكي فرفضه بكل إباء، ولما انتهت الانتخابات البرلمانية انتخب رئيسًا لحكومة الجمهورية المتحدة سنة ١٧٨٩م، وأُعِيدَ انتخابه سنة ١٧٩٥م، ولكنه رَفَضَها لمَّا عُرِضَتْ عليه في المرة الثالثة، وانسحب إلى مزرعته يعيش فيها بين أفراد عائلته كواحد من عامة الناس.
وفي سنة ١٧٩٨م أُعْلِنَت الحرب بين فرنسا والولايات المتحدة فقَبِلَ واشنطون أن يتعيَّن قومندانًا عامًّا للجيوش الأمريكية، وبدأ في تنظيم خط الدفاع، وبعد أن تقرر الصلح في سنة ١٧٩٩م مات واشنطون إلى رحمة الله فبَكَتْه البلاد بكاءً مرًّا، وهو إلى الآن وإلى الغد عنوان سعادتها وعظمتها.
وأول واجب رأيته علي في هذه المدينة بصِفَتِي مصريًّا هو زيارتي للمفوضية المصرية، فاستقْبَلَنَا سعادة الوزير المفوض محمود سامي باشا بما هو معهود فيه من سمو آدابه، وكريم محتده، بما جعل له في قلوبنا أثرًا لا تمحوه الأيام.
وهنا يجمل بنا ألا ننسى ما رأيناه من لُطْفِ وآداب موظفي المفوضية المحترمين، وهم حضرات رمسيس بك السكرتير الأول، والعيسى بك، ونور بك، وكانت دار المفوضية حين زرناها لا تليق بها، ولكنهم انتقلوا بعدها إلى دارٍ أنورَ وأشرح.
وهنا أستميحهم الإذن في أن أعْتُب عليهم لبُخْلهم في إجاباتهم على بعض ما كنت أريد الاستفسار عنه من المسائل العامة التي قد تفيد مصرنا العزيزة، حتى لكأنها سِرٌّ من الأسرار السياسية التي هي من شئونهم الخاصة ومن وظيفتهم المحافظةُ عليها، وكذلك لا أُخْلِي قنصلية نيويورك من هذا العَتْب بعينه، وإن كنت شخصيًّا لا أنسى كَرَم موظَّفِيها وأدبهم.
وهنا أرجو أن يسمح لي حضرة القارئ بكلمة في هذا الموضوع ليتعرف منها بعضَ ما عليه السفارات الأخرى بواشنطون:
في اللوكندات بيانات بالبنايات المهمة التي يوصون بزيارتها، ومن ذلك بعض السفارات الهامة، ومن أهم السفارات هنا سفارة الإنجليز، ويقال: إِنَّ مُرَتَّب وزيرها لا يقل عن سبعة عشر ألف جنيه في السنة، غير ما يأخذه من مصاريف التمثيل، وهو ما لا يقل عن نصف مرتبه، وقد بَلَغَنَا أن في هذه السفارة من الموظفين ما لا يقل عن خمسين موظفًا، هذا للسياسة، وذلك للجرائد، وذلك للزراعة، وغيره للتجارة … وهكذا؛ لكلِّ شأن من الشئون الحيوية موظف خاصٌّ به لا يشتغل بغيره، ولا بد أنه مُتْقِنُه وعارف بجميع مفرداته وتفصيلاته، ولا بد أن يستخلص منه ما يفيد دَوْلَتَه، أو بعبارة أخرى: أُمَّتَه، أما مفوضيتنا فليس فيها غير نفر ثلاثة! وحكومتنا تريد أن يكون ممثلها رئيسًا ومرءوسًا، وكاتبًا وحاسبًا، ومحرِّرًا ومترجمًا، أو بعبارة أخرى أن يستعمل نفسه في كل غرض من الأغراض وفي كل لون من الألوان حسب مقتضيات الأحوال، وهو تكليف من لا يريد أن تكون له نتيجة محمودة في عمله.
وهنا نذكر لك باختصار أهم بنايات المدينة.
البيت الأبيض
هو البيت الخاص بسكنى رئيس جمهورية الولايات المتحدة، وهو واقع على دوران ميدان صغير يجمع بين بساطته وعظمته وصغره وفخامته، وكأن واشنطون يلاحظ مع زوجته بنايته حتى تم في سنة ١٧٩٢م، وقد أَحْرَقَتْه الجنود الإنجليزية في حرب الاستقلال سنة ١٨١٤م، فرشُّوه بالجير ليُخفوا ما تأثر به من اللون الأسود، ومن هذا الوقت سَمَّوْه بالبيت الأبيض.
وفي جانب من جوانبه جناح فيه مكتب الرئيس، وهو على منتهى بساطته وصغره يعمل فيه ذلك الذي بين شفتيه إسعاد دولة من الدول أو إشقاؤها، ومعه ياوران وعدد من الكتبة والسكرتاريين، يقوم بتنفيذ أوامره إلى حيث أراد من داخليةِ بلاده أو خارجها، وليس فيه من الحرس إلا بوليس واحد على بابه، وفي الوقت الذي رأيناه فيه كانت به عمارة فالتزمت حكومة الولايات المتحدة أن تستأجر له منزلًا آخر قد لا يصل إلى أصغر منازل الخاصة في مظهره وفي سعته.
وبهذه المناسبة أقول لك: إن رئيس الولايات المتحدة مرتبه ١٥ ألف جنيه في السنة، وخمسة آلاف بصفة مصاريف يُقَدِّم عنها لحكومته حسابًا بالجهات التي صُرِفَتْ فيها.
•••
ومن أَشْهَر العمارات التي زُرْناها عمارة الصليب الأحمر وعمارة عصبة الأمم الأمريكية، وهذه الأخيرة من أحسن عمارات العالم، جمعتْ إلى عظمة مناظرها جلالَ داخلها، وكلها مبنية بالرخام الأبيض من الخارج والداخل، وقد دعانا إليها مع أعضاء المؤتمر وزير الزراعة دعوة رسمية، فأقمنا بين بهوها وغرفها إلى فترة من الليل، وانصرفنا شاكرين له كرمه ولطفه.
•••
أما بناء المكتبة العمومية فهو من أَجْمَل ما رأيته في جميع البلاد التي زرتها، وجميع مبانيها تشغل نحو ثلاثة أفدنة ونصفًا، ومع أنهم بدءوا فيها من سنة ١٨٠٢م فإنهم لم ينتهوا من بنائها إلا في سنة ١٨٩٧م، وقد تَكَلَّفَتْ مبانيها ستة ملايين من الريالات! ويحيط بالمكتبة بستان جميل، فإذا دَخَلْتَ من مَدْخَلِها العمومي وَجَدْت طرقًا بديعة جدًّا أرضيتها من الموزاييك، وحوائطها من الرخام الأبيض، وفي حوائطها بعض صور صُنِعَتْ من الفسيفساء المختلفة الألوان يدخلها شيء كثير من الذهب. وهذه الطرقة توصل إلى صالة في منتهى الفخامة كلها من الرخام، وفيها سلم من المرمر يصعد إلى الدور الأول الذي يُرَى به طرقة تدور حول مربع مستطيل يحيط به دربزون من المرمر، ويُشْرِف هذا المربع على الصالة التي في الدور الأرضي، وسَقْف هذا المكان الهائل مركَّب على حنايا ترتكز على نحو ستين عمودًا من المرمر أسطوانية الشكل، قُطْرها نحو ثلاثين مترًا في ارتفاع أربعين مترًا، تعلوها حنايا قامت عليها قبة عظيمة غاية في الإبداع، وفي وسط هذه الحنايا منافذ واسعة للنور، وفي أسفل الدائرة مكاتب المطالعين على شبه ثلاث دوائر بعضها أصغر من الآخر، وفي وسطها مكتب دائر في وسطه دولاب من الخشب فيه أدراج صغيره وحوله عمال، فإذا طلب أحد المطالعين كتابًا قَدَّمَ نِمْرَته إلى العامل فيضمها في أحد هذه الدواليب ويضغط على زر فتذهب الورقة بواسطة ضغط الهواء إلى الغرفة التي بها الكتاب، فيضعه العامل في أنبوبة موصلة إلى ذلك الدولاب فيصل إليه بواسطة ضغط الهواء فيسلمه العامل إلى الطالب!
ومسافة ما بين المكتبة والبرلمان نصف ميل، فيها نفق يصل البِنَائَيْن بعضهما بالآخر، فإذا أراد أحد أعضاء البرلمان كتابًا وصل إليه في ثلاث دقائق.
أما غُرَف الكتب فهي في أجنحة خاصة بها ليس في بنائها شيء من الخشب؛ خوْفَ الحريق، وفيها من الكتب مليونان وثمانمائة ألف كتاب! على أن تصميمها عُمِلَ على أن تَسَعَ أربعةَ ملايين من الكتب.
وبالجملة فهذه المكتبة من أفخم شيء في نوعها، وليست هي الوحيدة في واشنطون، بل هناك دور آخر للكتب لا تقل عنها في مقدار كتبها وإن قَلَّتْ عنها في روائها وبهجتها.
•••
ومن أهم أبنية المدينة وزاراتها جميعها، وخصوصًا وزارة الحربية ووزارة المالية، وفي الدور الأرضي من هذه الأخيرة خزائن الذهب المكدس بين جدرانها، والذي ربما زاد عن الذهب الموجود بين دفتي العالم القديم جميعه! ومن العجيب أنك لا ترى به حراسًا ولا بوليسًا، بل تراه محميًّا بقوة أوتوماتيكية لا يَعْرِفها غير من يَعْرِف سِرَّهَا! حتى إذا أتاها غريب ووصلتْ رِجْله أو يده إلى طرف من أطراف الخزائن دَقَّت الأجراس من جميع جهات المكان فيأتي الجيش ويحاصره بغاية السرعة، ويقبض على من أَوْقَعَه سوءُ حظه بين يديه في هذا المأزق الذي لا مخرج له منه.
•••
وأضخم أبنيه المدينة هو الكابيتول (البرلمان) الذي تراه قائمًا في وسط المدينة على هضبة عالية تتصل منحدراتها ببستان جميل جدًّا آية في روائه وبهائه، ويقطع هذا البستان جملة طرق، أَبْعَدُها عنه ما جُعل لمرور الأوتوموبيلات، حتى لا تُسْمَع لها حركة مطلقًا في محيطه، ويُصْعَد إلى بناء البرلمان من جهاته كلها بدرجات واسعة جدًّا من الرخام تراها في منحدرها العظيم قد اتصلت عَظَمَتُها بذلك الجلال الذي يحيط بالبناء الذي تعلوه قبة تكاد تناطح السماء، وعن يمين القبة وشمالها بناءان عظيمان فخمان، أحدهما لمجلس النواب، والآخر لمجلس الشيوخ، وفي اتجاه كل منهما — على اتصال بالحديقة من الجهة الأخرى — بناء فخم، فيه مكتب خاص لكل عضو من أعضاء المجلسين، وفيه سكرتير لتحضير المواضيع التي هو في حاجة إليها، ومصاريف هذا كله على الحكومة بطبيعة الحال، وقد كان البرلمان وقت زيارتنا للمدينة في عطلة من عمله؛ ولذلك لم أتمكن من زيارته.
وفي الجملة فالبرلمان هنا هو كل شيء، بل هو الحياة التي تَسْتَمِدُّ منها البلاد وُجُودَها، وكلُّ عُضْوٍ من أعضائه إنما هو قوة لبلاده تستعين بها في حل المشكلات، وإنارة المدلهمات، وفي تقنين القوانين، وفي تشريع الشرائع لكل فرع من فروعها الحيوية.
وبناء البرلمان مركز تتفرع منه أنصاف أقطار إلى نقط مختلفة من محيط دائرة المدينة، وهذه الأنصاف الأقطار التي هي الشوارع الكبرى تقطعها شوارع أخرى أقل منها اتساعًا، وإن كانت لا تنقص عنها جمالًا ورواءً. وجميع هذه الشوارع ليس فيها إلا حركة هادئة لا يقلقك شيء منها لا بالليل ولا بالنهار، وبالجملة فالحركة فيها طبيعية تنشط نهارًا وتسكن ليلًا، لا كما تراها في نيويورك تأخذ بين طرفي النهار وطرفي الليل.
ومن من أعجب ما تراه هنا آلاف الأوتوموبيلات على أفاريز الطرق من الجهتين؛ لأن كل واحد من أهل المدينة من موظفيها وعمالها وخدمتها يصح أن يكون له أوتوموبيل؛ لأن عددها بواشنطون بنسبة واحد إلى خمسة من عموم سكانها، فإذا حَضَرَ أحدهم إلى عمله أوقف أوتوموبيله مستظهرًا للطريق بجوار الرصيف، حتى إذا فَرَغَ من عمله ركبه وانصرف لحال سبيله.
ومساكن المدينة ليست بالجسامة التي تراها في مساكن نيويورك، بل هي بسيطة جميلة تتركب من طبقتين أو ثلاث في الغالب، ويَنْدُر منها ما يصل إلى أبعد من خمس أو ست طبقات، ودكاكينها عادية في سعتها، ومن المدهشات ما تراه في كل دكان من صورِ لنبرج المختلفة، معروضة للبيع على أشكال متعددة، فبينما تراه قائمًا، فإذا به طائرًا أو مصلحًا لطيارته، أو في بعض استقبالاته الرسمية بفرنسا، أو إنجلترا، أو بلجيكا، في هذه مع مَلِكِها ومَلِكَتها، وفي تلك مع وليِّ عَهْدها، وفي الأولى مع رئيس جمهوريتها، ثم في استقباله العظيم في واشنطون، وفي استقباله الفخم في نيويورك، ومن أعجب شيء أنك تراه مرسومًا على القماش الخاص بلباس السيدات، وعلى القماش الخاص بالمفروشات، وترى في فترينات الدكاكين كتبًا ضخمة كُتِبَ عليها هذا العنوان «سيرة لنبرج»، وترى بجوار هذا كله تلك المداليات التي فيها رَسْمه، ثم صورته على أبواب دور التمثيل مما لا يكاد ترى معه غير صورة لنبرج أو تَسْمَع أُذُنُك غير اسم لنبرج، ومن هو لنبرج؟
لنبرج
شاب عمره ٢٥ سنة، وهو ضابط في هيئة الطيران الأمريكية برتبة «يوزباشي» فلما رأى أن الأفكار متجهة إلى الطيران بين العالم القديم والعالم الجديد، خصوصًا وأن الطيار الفرنسي وننجسر لم ينجح فيما أراده من قَطْع المسافة بين فرنسا والولايات المتحدة، أخذ لنبرج أُهْبَته للسفر على طيارته وسَافَرَ من غير أن يُعْلِن من أَمْره شيئًا، ولم يُخْبِر والدته إلا في آخر وقت، فكانت إجابتها له: «لو كنت أعلم بسفرك قبل هذا الوقت لسافرت معك.»
طار لنبرج إلى شرق الولايات المتحدة قاصدًا باريس، فوصلها بعد ٣٢ ساعة لم يَذُقْ فيها نومًا، ولم يستسلم إلى راحة! وكيف ينام من كان الموت يهدده من كل جهة من جهاته الست، خصوصًا في اليوم الأخير الذي قامت فيه عاصفة جعلت الناس في باريس تذهب كل مذهب في حياة الطائر، وسوادهم على عقيدة ما لا يُحْمَد من أمره، ولكن القَدَر المحتوم خالَفَهم، ووصل لنبرج إلى باريس في نفس الوقت الذي أَعْلَنَ عنه، وهو منتصف الساعة الحادية عشرة مساءً، وكان في انتظاره عشرات الألوف من الفرنساويين الذين كانوا مع احتفالهم به يرجون أن لو كان هذا الانتصار لمُواطنهم وننجسر! ولا عيب عليهم في ذلك؛ لأن الوطنية رحم بين أهلها.
احتفلت الأمة الفرنساوية بالرجل من رئيسها لمرءوسيها، من كبيرها لصغيرها، كما احتفلت به بلجيكا، وإنجلترا، من ملوكها إلى سوقتها، وقُدِّمَتْ إليه نياشين الشرف من كل صوب، ثم أَرْسَلَتْ إليه حكومته تستدعيه إليها، وبُعِثَ له بطراد حربي ليُقِلَّه من مياه فرنسا إلى واشنطون، واستقبلته استقبالَ كبار الفاتحين استقبالًا رسميًّا بفِرَق من رجال الحرب والطيران والبحرية، وفي مقدمتهم رؤساء البلاد مع الرئيس كولدج الذي وَضَعَ على صَدْره أكبر أوسمة الدولة، وسَلَّمَه براءة إمارة آلاي من آلايات الطيران.
وكان في استقباله من الشعب ما قَدَّرُوه بنصف مليون نسمة! واليوم (١١ يونيو) ميعاد وصوله إلى نيويورك، وستحتفل به المدينة أيما احتفال! ففي كل جهة منها ترى الزينات وأقواس النصر ذات الأعمدة الذهبية، زينات تقام عندهم لكبار الرجال! تقام لكل مَظْهر من مظاهر الفتح الذي تستفيد منه الأمة! لا لمظاهر عظمة الأشخاص كما هو الحال في الشرق!
وهل هذه الاستقبالات والحفاوات إلا جزاءً وفاقًا للعمل الصالح الذي تَنْتَفِع به البلاد في خصوصها، والإنسانية في عمومها؟ لم يَصِل العلم والفن إلى ما وصلا إليه من مظاهر هذه المدنية السامية إلا بجزاء المحسن على إحسانه، والمتقن على إتقانه، بهذا سار الغرب وأمريكا بخطوات واسعة نحو حضارتهما الحالية التي تُدْهِش الأبصار وتستلب القلوب.
أما في الشرق! فليس للإحسان من جزاء؛ اللهم غير الاضطهاد، أو الانتقاد، أو حسد الحساد؛ ذلك لأن الحياة عندنا تكاد تكون شخصية صرفة! ولا يمكن أن تجتمع مصلحة الشخصيات والعموميات تحت سماء واحدة، وفي نفس واحدة؟ وما دمنا بهذا الخُلُق فإنا سنكون عالة على الأمم الأخرى في وجودنا، أشبه شيء بتلك المخلوقات الطفيلية التي تعيش على حساب غيرها.
مسلة واشنطون
حسبنا هنا أثر على مثال آثار بلادنا: مسلة مصرية في شكلها وقدها من بعد كالمسلة التي في ميدان الكونكورد وباريس، فقلت في نفسي: حتى في قلب أمريكا وصلتْ آثارنا الخالدة! إلا أنى لما زرتها ذات صباح هالني ما رأيته من ضخامة هذا الأثر ومن ارتفاعه! وظهر لي أنه إن لم يكن مصريًا في موضوعه فهو مصري في شكله، وكم لمدنية مصر القديمة على العالَمَين القديم والجديد من يدٍ ساعدَتْ في تكوين مدَنِيَّتَهما وحضارتهما.
ولكن ما أسرع معدة الأمم الحديثة القوية في هضمِ ما لِوَطَنِنا عليها من فَضْل لو أَنْكَروه فلا يمكن للتاريخ أن ينكره، أما هذا الأثر فقد شَيَّدُوه لذكرى الرئيس واشنطون، وابتدءوا في إشادته سنة ١٨٤٨م، وتم العمل فيه سنة ١٨٨٥م، ويُصعد إلى قِمَّتِه بواسطة فينو كيلير (مصعد كهربائي) من داخله، وبَلَغَتْ مصاريفه ٣٠٠ ألف ريال! وارتفاعه ٥٥٥ قدمًا، وعَرْض قاعدته ٥٥ قدمًا أو يزيد قليلًا — ومن أعلى هذا الأثر ترى المدينة وشوارعها كأنها مخطوطة، ولا يمكنك تمييز مصالح الحكومة الكبرى إلا بما يرفرف عليها من هذا العَلَم الذي يمثِّل قوةَ البلاد وعظمتها، وكأني بروح واشنطون يَنْظُر من قمة هذا الأثر بعد قرن ورُبْعٍ من مَوْته ليشاهِدَ هذه المدينة العظيمة التي وَضَعَ أساسها، ويتمتع برؤية هذه الأمة التي كان أوَّلَ المجاهدين في استقلالها، والعاملين لحياتها، تلك الحياة التي بَرْهَنَتْ على ما في هذا المخلوق الضعيف الذي يُسَمَّى إنسانًا من قوة إنْ أَحْسَنَ استعمالها — وصل بها إلى عظمة تستكين أمامها جميع الكائنات، ويستسلم لها سلطان الطبيعة بما فيه من صلابة واستعصاء.
وقد شُيِّدَ هذا الأثر على هضبة في وسط حديقة غناء تنتهي إلى نهر بوتوماك من الجنوب، وببناء البرلمان من الشمال الشرقي، وبأثر لنكولن من الجنوب الغربي، ويخرج من النهر خلجان تنساب في وسط هذه الحديقة بما يُحْدِث عنها جزر صغيرة متصلة بعضها ببعض، بواسطة كَبَارٍ جميلة، وعامةُ هذه الجزر داخلة في الحديقة بما يزيدها رواء وبهاء.
أثر لنكولن
هو بناء مربَّع قام على الشكل الروماني، وتراه على نجد مرتفع، تدور من حوله تلك الأعمدة الفخمة، ويُصعد إليه بجملة درجات واسعة في عرض البناء، حتى إذا دَخَلْتَ من بابه وجدْتَ بهوًا عظيمًا مربعًا تُرَفْرِفُ عليه روح الجلال، وفي وسطه تجاه الباب تمثال لنكولن، جالسًا في صندلية من الرخام، قامت على قاعدة مرتفعة، واتجاه وجْهِه إلى البرلمان، كأنه يشير بذلك إلى أنه هو القوة الوحيدة التي يضع كل إنسان فيها ثقته في وصول البلاد إلى سنام عظمتها ومجدها.
يجب أن نُشَمِّر عن ساعد الجد في تتميم العمل الذي بين أيدينا مبتعدِين عن الأحقاد، مرتبطِين بروابط الاتحاد، متَّصفِين بالإحسان، متمسكِين بالحق في حقيقة الحق، لا كما نراه نحن بعين الأهواء والأغراض، وحقيق بنا أن نضمِّد من جراحات هذه الأمة، ونخفِّف من آلام مَن حارَبَ من أجلها، مع توجيه عنايتنا إلى مَن تركوا مِن خَلَفٍ صالح، وتوحيد جهودنا في تعزيز دعائم السلام العام.
لقد نزل آباؤنا إلى أرض هذه القارة من سبعة وثمانين ربيعًا ليكوِّنوا أمة جديدة، رائدها الحرية، وشعارها المساواة، ولم يكن دخولنا في دائرة هذه الحرب الأهلية إلا لنعلم إلى أي حد تصل قوانا في احتمال الشدائد، ويجمل بنا ونحن في هذا الميدان أن نكرم تربته، وأن نخصص جزءًا من دائرته ليكون المثوى الأخير لهؤلاء الذين ضحوا بحياتهم في سبيل حياة هذه البلاد، أولئك الشجعان الذين نسير نحن على سننهم في كل ما من شأنه تقديس هذا الميدان، وإن كانت خطواتنا تقصر في ذلك عن خطواتهم، وجهادنا لا يصل إلى منتهى ما وصل إليه جهادهم! قد لا يَذْكُر التاريخ لنا هذه الأقوال، ولكن صفحاته لا بد وأن تتحلى بما كان لهؤلاء البواسل من عظيم الأفعال! وحقيق بنا أن نكرس أنفسنا لتتميم البناء العظيم الذي وَضَعوا أساسه، ولتكن غايتنا الوحيدة السير إلى الأمام، ويجب أن نستمد من تلكم الضحايا التي وصلت إلى مقام الشرف إخلاصَنا لقضيتنا المقدسة بقدر إخلاصهم لها وتفانيهم في إحيائها، وأن نُعْلِنَ للملأ بأن حياتهم إنما كانت كلها خيرًا وبركة، ولنعلم أن هذه الأمة التي ترعاها عناية الله ستتمتع بحرية تامة، وأن حكومة الشعب إنما تُسْتَمَدُّ من الشعب، وتعمل لخير الشعب، وما دامت كذلك فإنها لن تبيد أبدًا.
ولنكولن هذا هو إبراهيم لنكولن الذي انتُخب رئيسًا للولايات المتحدة سنة ١٨٥٩م، وفي سنة ١٨٦٠م أَعْلَنَ الحرب على ولايات الجنوب من أجل محو الرقيق، واستمرت هذه الحرب بين ولايات الشمال وولايات الجنوب خمس سنين انتهت بانتصار الشماليين، ومن وقتها انمحى الرقيق في الجمهورية المتحدة! وقد قال كلمتيه اللتين ذكرناهما لك في الميدان الذي انتصر فيه على أخصامه حتى يجمع بين عناصر الأمة من جديد! إلا أن رجلًا من الدعاة إلى استمرار الرقيق قتله غيلة في سنة ١٨٦٥م فقضي مأسوفًا عليه من الجميع!
وبمناسبة هذه الحرب التي كانت من أجل العبيد أرى أن أذكر لك هنا كلمة عن العبيد الذين يكوِّنون الآن عُشر سكان الولايات المتحدة!
(١٧) العبيد
نشط الجنس الأبيض أو الأوروبي إلى أمريكا، وجاهَدَ جهاده مع الحمر، وهم الهنود سكان البلاد الأصليين، جهادًا قضى به قانون الحياة، وكان الأوروبيون في هذه البلاد الجديدة في حاجة إلى من يعمل في تلك الأرض الواسعة التي منَّ الله عليهم بها، فنشطوا إلى مشترى العبيد من أفريقيا، وكانوا يستوردون منهم العدد الجم وخصوصًا في الجهة الجنوبية من الولايات المتحدة، ولما زاد عددهم إلى الحد الذي يُخْشَى منه أخذتْ رءوس البلاد المفكرة في ولايات الشمال تدرس النتيجة التي قد تئول إليها كثرة هذا النوع من الناس، وهو متأثر بنير العبودية، ذلك النير الذي قد تثور به حميته يومًا من الأيام فينفضه عن عاتقه، وربما انضم إليه في هذه الحالة من بقي في شمال البلاد من الحمر، فيكونون جميعًا يدًا واحدة على اللون الأبيض، وكان محل البرلمان الآن في واشنطون سوقًا للعبيد، يبيعونهم ويشترونهم فيه؛ لذلك طلبتْ ولايات الشمال، وكان رئيسها لنكولن، من ولايات الجنوب مَحْوَ الرقيق وتحرير مَن في دائرة بلادهم من العبيد، فرفضوا طلبهم وأُعْلِنَت الحرب فيما بينهم، وانتهت بانتصار الشماليين، ومن ثَمَّ أُعْلِنَ تحرير العبيد في الولايات المتحدة، وهم الذين يعبرون عنهم الآن بالسود.
إلا أن الحواجز كانت ولا تزال بين اللونين في مرافقهم الحيوية! حواجز لا تزال مع كثرة ما في أقوالهم من ذِكْر كلمات الحرية والمساواة ملموسة محسوسة، خصوصًا في ولايات الجنوب التي لا تزال تعتبر اللون الأسود أقل الدركات الإنسانية، وله فيها تشريع خاصٌّ، سواء في الزواج الذي يُحَرِّم اتصال اللونين بعضهما بالآخر، أو بعدم تسامي الأَسْود إلى حيث يكون الأبيض مهما كان الأول عظيمًا في نفسه، كبيرًا في علمه وأدبه! بل وصل بهم هذا التشريع إلى تقرير عدم المساواة بين الدماءين في الجنايات، وحرمانهم من حق الانتخاب، ومن التوظيف في وظائف الحكومة! وقد يَبْلُغ عدد السود اثنى عشر مليون نفس في الولايات المتحدة، وسواد هذا العدد في ولايات الجنوب التي كثيرًا ما يَبْلُغ عدد السود فيها نصف عدد البيض، وخصوصًا في ولايات ماريلاند، وفرجينيا، وكارولين، وجورجيا، وألاباما، وفلوريدا، ومسيسيبي، ولويزيانا، وتسكساس، وأركانساس، وأوكلاهوما، ومسورى، وكانتوكي، وبتسي، فهذه الولايات يتكافأ فيها عدد السود مع عدد البيض، أما غيرها من الولايات فالسود فيها أقل من البيض.
وإذا كلمت البيض في ذلك قالوا: إن السود جَرَّدَتْهم العبودية من الشرف الإنساني، ولا بد من وَضْعهم حيث وَضَعَهم الله في أحط درجة في سلم الحياة! وكأنهم يمشون هنا على رأي العربي الجلف في القرون الوسطى: «لا تُعْطِ العبد الكراع فيطمع في الذراع».
ولكن العربي كان يتحدث عن عبده بمعناه الصحيح. فهل هؤلاء السود لا يزالون عبيدًا، حتى بعد أن منحَتْهم حرب سنة ١٨٦٠م حريتهم كاملة؟ وقد يقول لك الأمريكاني الأبيض إذا حدَّثْته في ذلك: يجب حَصْر السود في دائرة هي الضعف بعينه من غير نظر إلى شيء اسمه عواطف، أو رحمة، أو شفقة، أو آداب، أو عدالة، وكأني بهم قد نَظَرُوا في صحيفة مصر في القرن الخامس الهجري، ورأوا العبيد الذين استكثرت منهم أم المستنصر الفاطمي، حتى إذا قوي ريشهم ثاروا ثورتهم التي كان من ورائها خراب القاهرة.
وبالجملة فالفوارق موجودة هنا محسوسة بين اللونين؛ ففي سكة الحديد لهم عربات خاصة بهم، ولا يركبون الترام إلا في نهاية عرباته، إنْ وُجِدَتْ لهم محلات بها، وقد حُرموا قانونًا من حق مشترى العقار في كثير من الولايات — وفي بعضها استبدادًا — وحتى في التياترات لا تعطى لهم الأمكنة الأولى لأنها بطبيعتها مخصصة للبيض، وحتى الكنائس لا يجتمعون فيها مع البيض، بل لهم بِيَع خاصة بهم، ولا يُنادى الأسْود بلفظ «السيد» مهما بَلَغَ من عِلْمه وفضله، وإذا وُجِدَ خادمان، أحدهما أبيض والثاني أسود في بيت واحد، فالأسود لا يَدْخُل إلا من باب الخدم، أما الأبيض فيدخل وسيده من باب واحد، وحتى أمام منصة القضاء (العدالة) إذا تقدم لها أبيض وأسود سُمِعَ كلام الأول، وضُرِبَ بكلام الثاني عرض الحائط؛ لأنه لا بد محروم من شاهِدٍ يعزِّز كلامه.
ولهم مدارس خاصة بهم ميزانيتها لا تزيد عن عشرة في المائة من ميزانية مدارس البيض، وترى البلديات تُعَامِل أحياءهم معاملة خاصة، ولا يعيرونها إلا جانبًا بسيطًا من عنايتهم، بدعوى أن الميزانية ليس فيها ما يسمح بالعناية بها «وهم مشتركون معنا في ذلك، فإن التنظيم بمصر لا يوجه كل عنايته إلا إلى أحياء هؤلاء البيض الإفرنج! مُهْمِلًا الأحياء الوطنية، أو بعبارة أخرى أحياء السمر بدعوى عدم محل لها بالميزانية!» وبالجملة إذا قامت بأمريكا أية شبهة على عفاف امرأة بيضاء (ولو بإرادتها) ضد أي أسود فلا يغسلها غير دمه، حتى إن كان بريئًا!
أما إذا كان اجتماع الأَسْوَد بالبيضاء بسبب العروة الزوجية، فما أسرع من وصول الإنذارات من جمعية ك. ك. ك. السِّرِّية إلى الأَسْود بالتفريق أو الموت!
والسود كانوا إلى وقت إعلان الحرب الأوروبية يشتغلون غالبًا في الزراعة، ولكن لما حصل التجنيد في الأمريكيين، كادت مصانع الشمال تقف عن العمل مع اشتغالها بأدوات الحرب، فانتقل إليها نحو مليون من سود الجنوب، وأخذوا من هذا الوقت يشتغلون في المصانع؛ لأن أُجْرَتها أكثر من الأجرة في المزارع، ومنهم الآن في نيويورك وحدها ما بين ٢٠٠ ألف إلى نصف مليون نفس، وفي شيكاجو نحو ١٥٠ ألف نفس!
وللأسود في ولايات الشمال حق الانتخاب والدخول في الكنائس والمدارس بحكم القانون، وأصبح منهم الأطباء، والعلماء، والكتاب، بل أصبح منهم غير واحد ممن يُعَدُّون من أصحاب الملايين بنيويورك! ولكن على كل حال لا تزال الفروق بين اللونين محسوسة، خصوصًا في مسألة الزواج؛ فإنه مع كونه مباحًا للأسود في الشمال، فإن الزوجة لا تكون متمتعة باحترام قومها مهما كانت منزلة زوجها الأسود من الثروة والعلم.
وقد وصل بعض السود في مدة الرئيس روزفلت إلى بعض مراكز الحكومة العالية، فبعضهم تَعَيَّن نائبًا عموميًا في مقاطعة دلاور، وبعضهم في وظائف مالية كبرى في مقاطعة شارلستون.
والفضل في نهضة السود لرجل منهم، هو الزعيم بوكر واشنطون، وهو من خيرة رجال أمريكا فضلًا وأدبًا وعلمًا، نشأ عبدًا في عائلة بفرجينيا، ثم تحرر بعد الحرب الداخلية وهو صغير، وكان لا يزال في خدمة صاحب المزرعة التي ولد فيها، وكان يذهب مع بنت سيده كل صباح إلى المدرسة يحمل لها كتبها، وكانت عيناه تغرورقان بالدمع لرغبته القوية في التعليم، وأبوابه مقفلة في وجهه، ولكن رَغْبَتَهُ لم تَقِفْ به عند حد! فقد كَسَرَ بها جميع الموانع حتى وصل إلى المدرسة التي فتحها الجنرال أرمسترنج للعبيد في مدينة ريشموند، وما زال يرقى فيها من بواب إلى فراش إلى سفرجي، يعمل نهاره في وظيفته، ويجدُّ ليله في دروسه حتى أتى يوم تعيَّن فيه بعد أن أتم دراسته بوظيفة مدرس بنفس المدرسة!
وكان لا يقتصر على التعليم بالمدرسة، بل كان في أوقات فراغه يذهب إلى البلاد المجاورة، ويعقد المجامع للخطابة فيهم، وإرشادهم إلى أبواب الفضيلة، وكانت خطبه في أول الأمر دينية، لا تتجاوز حدود الإرشاد، حتى وصل إلى درجة هي من أرقى درجات الخطابة، من سلامة عبارة، وفصاحة قول، وبلاغة تأثير، فاشْتَهَر أَمْره، وانتشر ذِكْره، ودعاه الجنرال أرمسترنج إلى عمل جامعة للعبيد في مدينة توسكاجي، فنشط إلى هذه المأمورية، ولم يَمْلِك من المصاريف التي تلزم لها كثيرًا ولا قليلًا، وما زال بهمته ودعوته ومتانة خطابته، حتى وصل إلى ما يرجو، فشيَّدَ جامعته من التبرعات التي وصلتْه من رجال المال، وها هي الآن من أكبر الجامعات، يتعلم فيها أربعة آلاف نفس من السود من الجنسين! ولكل جنس مدارس خاصة به، فقسم الذكور به ٢٥٠٠ تلميذ، وفيه قسم لعمل الطوب، وقسم للسمكرية، وقسم للجزمجية، وقسم للسروجية، وقسم للكوالنجية، وقسم للحدادة وأعمال الزهر، وقسم للنجارة الدقيقة، وقسم لعملية الألبان، وقسم للمطبعة، وقسم للحفر والنقش، وقسم للرسم، وقسم للخياطة، وقسم للأشغال الكهربائية، وقسم للطبيخ، وقسم للغسيل … وغير ذلك، أما التلميذات فيتعلمن الخياطة والغسل والكي والطبخ.
وفي هذه الجامعات تخرَّج كثيرون ممن تفتَّحَتْ أمامهم أبواب الرزق، وها هم الآن وفي يد مئات الألوف منهم أَزِمَّة البيوت والمطاعم وحركة المصانع، وقد انفتحت للسود أبواب معاهد أخرى كثيرة يقرءون فيها كثيرًا من العلوم، أهمها: جامعة هوارد بواشنطون، ويبلغ عدد طلبتها من الجنسين ألفان وخمسمائة طالب، وكثير منهم يصل إلى درجة أستاذ في العلوم، وبهذه الجامعة مدرسة للطب، ومدرسة للقانون، ومدرسة للتجارة، وأخرى للفنون الجميلة والموسيقى، ولهم بواشنطون مستشفى جميع أطبائه وممرضيه من السود الذين تعلَّموا في جامعة هوارد، وتَبْلغ مصاريف هذا المستشفى سنويًّا نحو ٢٥٠ ألف دولار، وبالجملة فالسود اليوم غيرهم بالأمس؛ فمنهم المتعلمون، ومنهم كثير ممن أَحْرَز لقب دكتور في الطب أو الحقوق، وقد كان فَرَّاش عربتنا في سكة الحديد وقت دورتنا بالولايات أَسْوَدَ، وكان يقول الشعر، وهم إن لم يكونوا متمتعين بمحبة البيض لهم، فقد أصبحوا في أمن من مظاهر حقدهم ونقمتهم، ولكن هل من المصلحة العامة أن تستمر هذه الفوارق؟ كلا؛ فإن معاملة عُشْر الأمة بغير قوانينها — وخصوصًا في الجنوب — ربما يؤدي يومًا إلى ما لا تُحْمَد عقباه، فقد تثور ثائرة السود دفاعًا عن كيانهم حتى يحققوا بيد القوة والحق تلك الحرية الزائفة التي مُنِحُوها سنة ١٨٦٥م.
(١٨) المتحف الجيولوجي
هو خليط من معروضات مختلفة، وفيه كثير من الأحجار والمعادن المتغايرة، من ذهب وفضة ونحاس، وغير ذلك على حالتها الطبيعية، وبجانبها هياكل كثيرة من تلك الحيوانات البائدة التي وَجَدُوها بين طبقات الصخور، وفيها هياكل لم تَرِدْ على نظري في متاحف أخرى من العالم القديم، فقد رأيت بها هيكل حيوان بحري طوله نحو عشرين مترًا! وبجواره رأس حيوان هائل عَدَدْتُ في فَكِّه العلوي خمسين سنًّا، وفي السفلي ثلاثين سنًّا! ومتوسط طولها نحو ١٥ سنتيمترًا، يتخللها أنياب قليلة متقابلة في وسط الفكَّيْن.
تركْتُ هذه الغرفة إلى غيرها بسرعة؛ لأني بعيد عن العلم بشيء منها، ودخلْتُ غرفةً فيها تماثيل الهنود «الحمر» سكان الولايات المتحدة، وهم في حياتهم المنزلية، هذه تغزل، وأخرى تنسج، وغيرها تطبخ، ورابعة تطحن الذرة بتمرير أسطوانة من الخشب على الحَبِّ الذي من تحته قاعدة حجرية مائلة، فينزل المهروس إلى أسفل الحجر، فلا تزال ترفعه بيدها حتى يتحول إلى دقيق، وبجوارها امرأة أخرى فتأخذه وتسويه على طبق من حديد موضوع على النار، وهي حياة أشبه شيء بحياة السودانيين ببلادنا «على رأي الدكتور محجوب».
ثم دَخَلْنا إلى قاعة رابعة وخامسة وسادسة، وفيها آثار بلاد مختلفة مع صور أهلها ممثَّلة تمثيلًا، فمن صينيين، وهنود، ويابانيين، وأعجام، وملاريين … وغيرهم وغيرهم، وبجوارهم ما تتعرف منه عقائدهم وأحوالهم الدينية والاجتماعية.
وقد تركْتُ ذلك إلى قاعة فيها الحيوانات الأهلية مصبرة على حالتها الطبيعية، وهي منفردة حينًا، ومجتمعة في دائرةِ حياتها العائلية أحيانًا، فمن غزلان وتياتل إذا رأيتَها في الوسط التي هي فيه بالمتحف عرفْتَ كيف هي تعيش في صحاريها، ومنها سباع قد تراها في اجتماعها العائلي في صعيد واحد، هذا يأكل من بقايا فريسة له، وذلك يشرب، وأشبال تلعب، وقد ترى غابة من البردي وقد بَرَزَتْ منها رأس حيوان هائل إذا تحقَّقْتَه رأيتَهُ ما يسمونه عندنا بذي القرن الوحيد (الخرتيت)، وهو هنا له قرنان يتلو أحدهما الآخر، أو ثلاثة قرون نتأت في زوايا مثلث من جبهته.
وأحسن شيء أعجبني تلكم الأمهات ومعهن أولادهن، وهن يُلْقِين عليهن دروسًا في علم الحيوان، دروسًا عميقة في حياة الحيوان، وفي شكله ومقره، والفائدة التي حصل العلم عليها منه، وما يدخل منه في الصناعات المختلفة؟! وهنا خطر ببالي السواد الأعظم من نسائنا وهن لا يدخلن المتحف إلا للحَبَل! ولتمثيل فصل من فصول الخبل! وبجوار هذا وذاك قاعات خاصة بالطيور المختلفة الأشكال والألوان، وكأني بك إذا أبصرتها وهي على أغصانها، يذهب بك جمال شكلها في نظرك بما تتأثر له أذنك، حتى لكأنك تسمع تغاريدها وتشنف أذنك بشجي ألحانها.
أما أبغال البحر، وهي الحيوانات التي تعيش في الماء وعلى ظهر الأرض، فهي كثيرة جدًّا بحيث لم أتمكَّنْ من التعرف منها إلا على جملة سحالف مختلفة الأشكال والأحجام، وقد رأيت طائفة من الدب الأبيض صادت بعض هذه الحيوانات ودارت حَوْل فريستها تتشممها ولا تقترب منها، ولا أدري إذا كان هذا الدب في منطقته الثلجية كمثله في منطقته المعتدلة؟ على مذهب المعري أيضًا «من النباتيين»، وانتهي بنا المطاف إلى قاعة فيها صور صغيرة من المراكب الحربية، وعليها مدافعها وآلاتها الجهنمية التي خُلِقَتْ لعذاب الإنسان في هذه الدنيا بيد أخيه الإنسان، فتركْتُها راجيًا من الله أن يُحَقِّق ما يدَّعُونه من هذه الأكاذيب التي تدور حول تقليل التسليح في ممالك الحرب! وهي كلمات إن خدرت أعصاب الشعوب التي أهْلَكَتْها الحرب فإنما هي تهيج أعضاء ورؤساء الأمم الذين لا يرتوون من الدماء.
(١٩) الشعب الأمريكي
نشطت هجرة الأوروبيين إلى الولايات المتحدة في فجر «القرن السابع عشر»، فكانت كل طائفة منهم إذا احتلت جِهَةً أخذتْ في تعميرها، ووضعت لها أعلامًا تربطهم ببلادهم، وتُذَكِّرهم بأوطانهم، وقد يُضِيفُون عليها لفظة نيو (جديد)، فالإنجليز وَضَعُوا للجهات التي شيدوها أسماء منها: نيويورك، وبرمنجهام، وهافر ولندن، ومالطة، والطليان وضعوا للبلاد التي أقاموها أسماء طليانية منها: رومية، وفلورنس، ونابلي، وغيرها، والفرنساويون وضعوا لبلادهم أسماء فرنساوية منها: ليون، وفرساي، وباريس، والألمان سَمَّوا بلادهم بأسماء مدن ألمانية منها: نيوونسبروك، وفرنكفور، وهامبرج، وفينا، وأطلق الأوروبيون هنا أسماء أفرنكية أو شرقية على مدن أمريكية مثل: قرطاجة، وأثينا، والجزائر، وفلسطين، والقاهرة، وإسكندرية، ومصر الجديدة، ومنفيس، وهذه الأخيرة من أكبر مدنهم، فأخذتني الغرابة من القوم الذين أحبوا مدينة نحن أَمَتْناها، وذكروها بين الأحياء، في حين ذكرنا لها بين الأموات!
ومن هنا نعرف أن الشعب الأمريكي خليط من أبناء دول مختلفة، وهم يختلفون في طباعهم وعوائدهم وصفاتهم: فالإنجليزي بعظمته، والألماني بكبريائه، والفرنساوي بوداعته، والروسي بغطرسته، والإسباني بخفته، والسويدي بتؤدته، والطلياني بدعوته، واليوناني باحتماله، والصيني بمكره، والياباني بخطره، كل هذه الصفات اجتمعت في الأمريكي بعد أن طُبِخَت كلها في إناء واحد، وعلى الخصوص في سكان الولايات المتحدة.
وقد ترى صفات الجنسية قائمة بذات الشخص إذا كان لا يزال دمه الأصلي في عروقه، وكانت نسبته إلى الأمريكية لم يعْتَرِها شيء من القدم، أَضِفْ إلى ذلك كله فضل الاتحاد، وقوة الثروة، ومَجْد تكوين أعظم دولة في العالم، ثروةً وزراعةً، وعلمًا وعملًا، واختراعًا وإبداعًا، في مدة يسيرة هي عمر فرد واحد من الناس!
نعم قام مَجْد هذه الدولة من قرن ونصف على الاتحاد، ووصلَتْ عظمتها إلى عنان السماء، بفضْلِ صادقِ الجهاد، وكانت قبل ذلك أشتاتًا في مجاهل الصحارى، تقذفهم مفازة إلى أخرى، ويلفظهم تيهٌ إلى آخر، وتتلقفهم يد بعد يد، حتى هداهم نشاطهم ومثابرتهم في طريق الحياة إلى قُوَّتِهم، دَفَعُوا بها المسيطرين عليهم في تلك الحرب التي يسمونها حرب الاستقلال، الذي نالوه بجهادهم في ٤ يوليو من سنة ١٧٧٦م، ذلك اليوم الذي أصبح عندهم يومَ تقديس وتمجيد، ذلك اليوم الذي هو عندهم يوم الدين والدنيا جميعًا، ذلك اليوم الذي كان له ما بعده من هذه المملكة الهائلة، وتلك الثروة الطائلة، ذلك اليوم الذي كان له ما بَعْدَه من مَجْد عظيم، وخير جسيم، أَحْيَتْ كلُّ قطرة من دمائهم فيه قُطْرًا، وتكوَّنَتْ من مادةِ كلِّ ضحية في سبيل استقلالهم أمةٌ، بيدها اليوم الترمومتر الحساس لسعادة العالم! رَفَعَتْه إن شاءت، أو خَفَضَتْه إن أرادت! قوم صدقوا الحملة فنالوا صداقها، وأحكموا الجملة فكان لها معنًى بين طرفيه ما أرادوه من حرية وحياة، ومجد وثراء، قوم لم يجعلوا الكلام سلاحهم، والقطيعة وحدتهم، بل كانوا كلهم يدًا واحدة على عدوهم، فنالوا بفضل الجهاد وفضيلة الاتحاد — الغلبة التي بنوا بها صرح فخارهم — وحِصْن وجودهم، اشتغلوا بها تحت الأرض، فوجدوا بين طبقاتها ما نسمعه في كتب الأقاصيص من كنوز الذهب والفضة والجواهر المختلفة، فكانت منها مطيتهم إلى جلائل الآمال، ثم وجدوا الحديد، والنحاس، والقصدير، والفحم والبترول، فأقاموا بها ومنها جسيم المصانع التي أصبحت أعجوبة الزمان، ودهشة بني الإنسان، وقد خرجوا من باطن الأرض إلى ظهرها، فاشتغلوا بالزراعة التي هي حياة جميع الناس من جميع الأجناس، ومع أن أسواق العالم مكتظة بها فإنهم على الأقل قد أمِنوا مدَّ يدهم إلى غيرهم من هذه الجهة، حتى لو تَكَاثَرَ نَسْلُهم وتضاعَفَ عَدَدُهم، وكيف وهم الآن أسبق الأمم في الزراعة أيضًا، ثم اشتغلوا بعد ذلك بجوها، فكانوا هم السابقون فيه، ولا يزال تمجيد العالم لطائريهم يملأ المسكونة من شرقيِّها إلى غربيِّها.
وقد وَهَبَ الله هذا الشعب، وهو في بَدْء أمْره، رؤساء كان هَمُّهم إسعاده وإرشاده إلى كل ما فيه خيره، نَسُوا أنفسهم في تكوينه، وتخطوا جميع الموانع والمخاطر في استقلاله وحريته، وإذا عرفت أن واشنطون بعد أن انتصر على الإنجليز في حرب الاستقلال وأجلاهم عن أرض الولايات المتحدة، عُرِضَ عليه تاجها فأبى ذلك بكل كبرياء! وأنه لما انتُخِب رئيسًا لجمهوريته تَرَكَ منصة الحكم لغيره بعد اكتمال مُدَّتِه، ثم لجأ إلى مزرعته يعمل فيها كأحد أفراد الناس حتى وافاه أجله — عَرَفْتَ أن لرؤساء البلاد وزعمائها كلُّ الفضل في تكوينها وسعادتها! وهل تنسى أن محمد علي هو صاحب الفضل فيما ترفَّل فيه مصر من حُلَل الرفاهة والثروة؟
والشعب الأمريكي من الأمم الحية التي كلها شبيبة، لا تعرف الكهولة، ولا الشيخوخة، لا من الجهة التي يقول عنها الفرنساويون: «إن القلب لا يشيخ لأنه يجب أن يكون على الدوام في فرح ونشاط الشباب»، ولكن لأن هؤلاء لا يعرفون غير العمل، وهو وحده حياتهم، شبانًا كانوا أو شيبًا! نعم إنهم لا يعرفون الشيخوخة ولا يفهمون لها معنًى؛ لذلك تراهم أصحاء أقوياء نشطاء لا تَقَوُّس في جسمهم، ولا لفتة ولا فتلة، ولا ينقم عليهم في الوسط الذي يعيشون فيه غير الميكروبات وما يتصل بها من بني الإنسان! والشيخوخة عندهم مرضٌ يجب محاربته، ولا يمكن أن يكون المحارِب مُتَّصفًا بغير صفات الشجاعة والنشاط واليقظة وعدم الاستنامة إلى حادثات الأيام، بهذه الصفات يحاربون الشيخوخة «وهم بها في غير حاجة إلى نصائح فورونوف»، وبهذه الصفات تراهم شبانًا وهم في لباس الشيخوخة، وإذا كان شيخنا يقول:
فهؤلاء يبلغون الثمانين وما فوق الثمانين، وهم حافظون لجميع قواهم، حتى لَتَرَى الابن والأب والجد في عملهم ولَهْوهم، وجِدِّهم وهزلهم، وراحتهم ونزهتهم كأنهم في حدود سنٍّ واحد، كله حياة في حياة.
والشعب الأمريكي مشهور بثروته وسراته، ولكن ليس معنَى الثروة بأمريكا أن كل الناس أغنياء، بل أفراد منهم — ولا أقول قليلون — وصَلوا إليها من زمن بعيد؛ فالأب قد وصل إلى بعض الثروة عن أبيه عن جده، وقد تَرَكَها مضاعفةً إلى ابنه الذي زاد فيها بدوره حتى أصبحت لها قيمتُها في دائرة الملايين، أو ملايين الملايين، وقوامها كلها على العمل، قوامها كلها على الجهاد في طريق الحياة. أما عندنا، فالوارثون هم المضيِّعون في الغالب! حتى أصبح لَفْظ وارث إذا أُطْلِقَ عندنا فإنه لا ينصرف إلا إلى هذا الذي لا يَعْرِف للمال قيمة؛ لأنه لم يتعب في تحصيله، وعلة هذا كله التربية غير الصحيحة، تلك التربية التي ترانا محرومين منها في مدرستنا الأولى المنزلية، ثم في مدارسنا الابتدائية التي ليس للتربية في بروجرامها نصيب، وإن وُجِدَ شيء من ذلك فهو تافِهٌ لا قيمة له.
والعصاميون الذين وَصَلُوا هنا إلى ثروة بعيدة الأطراف بعملهم وجهادهم كثيرون جدًّا، عصاميون وصلوا إليها بالعمل من طريق العمل، ومن وسط العمال؛ إذن فالثروة هنا ليست في معادن الذهب، كما نعتقده مما نراه عندنا أحيانًا على صفحات السينما، وليست في طَوْع كلِّ من يريد أن يكون سريًّا كما يخطر على بال أغلب المهاجرين إلى هنا، بل هي حياة في جد، في عمل، في جهاد، في نشاط، وفكرة الذهب قد أماتها الله من زمن بعيد، وأصبح أَمْر الذهب وقد انتهى من على سطح الأرض في كاليفورنيا، واختفى في باطنها، يستلزم في إخراجه عناية كبيرة، ونفقات كثيرة، لا تقوم بها غير الشركات الغنية، إذن فالثروة هنا هي الآن، كما هي في كل مكان، نتيجة عمل العاملين.
والشعب الأمريكي مشهور بكرمه، ولكن لا على الأفراد، بل على الجماعات، وكثير من سراته يساعدون الإنسانية، ولكنهم لا ينظرون إليها من جهة ضَعْفها، بل من جهة عظمتها وفخامتها؛ لذلك تكاد لا ترى في أمريكا شيئًا من جيوش هؤلاء المتسولين في جهات كبيرة، وخصوصًا في مصر!
لقد كان الشعب الأمريكي إلى زمن غير بعيد يضم إلى عقائده الدينية مذهبًا سياسيًّا، هو مذهب مونرو، الذي كان رئيسًا للولايات المتحدة من سنة ١٨١٦م إلى سنة ١٨٢٥م، وهو خامس رئيس لها، اشْتَهَرَ أَمْرُه في حرب الاستقلال بِهِمَّته في خدمة بلاده ضد أعدائها، كما كانت له شهرة عظيمة في سياسته وكياسته، وهو مشهور بمذهبه السياسي الذي أَعْلَنَه في الجمعية العمومية الوطنية في ٢ ديسمبر سنة ١٨٢٣م وهو: «أمريكا للأمريكيين»، ومعنى ذلك: أنه لا يمكن لأية دولة أخرى مهما كانت صِفَتُها، أن تتعدى على حرية أية جهة من جهاتها، كما لا يصح للأمريكان أن يتعدوا حدود بلادهم، حتى لا يشغلوا أنفسهم بحرب تُحَوِّلهم عن وجهتهم، أي عن تكوينهم المالي والصناعي والتجاري والزراعي، وبقيت هذه القاعدة دستورًا محترمًا يُعمل به في الممالك الأمريكية، وبه طَرَدَوا إسبانيا من كوبا سنة ١٨٩٧م، ومن ثَمَّ أصبحت أمريكا كلها خالية من الاستعمار الأجنبي، اللهم إلا ما كان من دخول كندا في الاتحاد الإنجليزي.
ولقد كان انتصارهم على إسبانيا مهيجًا لعاطفتهم الحربية، حتى إذا رأوا لهم مدخلًا في الحرب الأوروبية، رموا بأنفسهم في وسطها، وخرجوا منها بجميع المكاسب الأدبية والمادية، وهم الآن — مع رَفْع عقيرتهم بحبهم لتقليل السلاح حتى يعيش العالم في هدوء وسكينة — تراهم يزيدون في أساطيلهم، ويهيجون عواطف الناس بكثير من مناظر الحرب في جرائدهم، وخصوصًا في دور السينما! وفي نيويورك أحد هذه السينماوات لا يشخص فيه غير المناظر الحربية على الدوام! بحيث يخرج الشاب من تحت سماء هذا المكان وقد تَشُمُّ رائحة البارود من فيه! وتسمع صوت القنابل من بين فكيه! فما معنى ذلك؟ أَكِلُ الجوابَ إلى مستقبلٍ قد يكون قريبًا.
(٢٠) الرجل الأمريكي
والرجل الأمريكي عامل غريب في جميع أطواره عن رجل العالم القديم، فهو عالَم وحده في طبيعته وعقليته وأنظمته، عالَم راقٍ في صفاته، متين في أخلاقه، وللزمن عنده القيمة الكبرى، وهو لا يعرف للحياة معنًى غير العمل والكسب، ولا يعرف للعمل صفة غير النظام والدقة والإجادة التي أصبحت طبيعة فيه، لا يتكلف شيئًا ما في سبيل القيام بها، ولا تقف هِمَّتُه من عمله عند شيء يسمونه عندنا القناعة؛ لأن كل عمل في عقيدته سلم لغيره من عمل هو أكبر وأظهر، ولا دافع له ولا منشط في هذا السبيل غير نفسه، التي تقوده على الدوام إلى آمال بعيدة، تصل به أو يصل بها إلى حياة مجيدة، ومن صفته العناية بجميع الأعمال صغيرها وكبيرها، بحيث لا تنقص عناية الرجل بالشيء الذي قيمته قرشٌ واحد، عن الشيء الذي قيمته ألف قرش! وهو يُعْنَى بالقيام بمواعيده في نفس الدقيقة التي حددها، ويحافظ على زمنه إلى الدرجة التي لا يَقْطَع عليه طَرِيقَه في عَمَلِه عَمَلٌ آخر، وإذا تَكَلَّمَ في التليفون فإنما يكون ذلك بسرعة هائلة لا يفقد معها ثانيةً واحدة ليست ضرورية في العمل، ومن مُحَافَظَتِه على الزمن الإجابة على المحررات في وقتها، وإذا تَوَقَّفَتْ سيارةٌ بإنسانٍ في طريق عَمَلٍ تَرَكَها إلى غيرها، ومن محافظته على الوقت أنه يرى التجديد خيرًا من الترقيع، وجَرَّ ذلك إلى أن السيدة التي ترى ثقبًا في جوربها فتلقي به لتأخذ غيره جديدًا؛ لأن ثمن الجديد عندها أقل من قيمة الزمن الذي تَخْسَره في الترقيع! ومن قيمة الزمن عندهم أن يجعلوا لكل شيءٍ حدًّا، فإذا أردْتَ أن تقدمه عن موعده كان لذلك أجرُهُ.
والرجل الأمريكي رجل جد وعمل وكفاح في سبيل نجاحه في أيِّ أَمْر من ضروب الحياة، وهو في حرب مستديم إلى حاجته، حتى إذا ظفر بها تَعَدَّاها إلى غيرها بِنِيَّة فتية، وإرادة قوية، وعزيمة من حديد، فهو قوي النفس، قوي الجسم، قوي القلب، وليست للعاطفة من سبيلٍ إلى قلبه، وهو في طريق عمله لا يُشْفِق على نفسه، ولا يَرْحَم غيره، وإذا وُجد عنده شيء من العاطفة فهو في أَخَسِّ درجاتها، وهو في ذلك يخالف الرجل اللاطيني الذي للعاطفة عليه تأثير كبير، وبخاصة الرجل الشرقي، والفرق بين هذين الرجلين في تأثير العاطفة، أنها لا سلطان لها على الأول إلا إذا فَرَغَ من عمله، ولها كل التأثير على الثاني حتى وهو بين براثين الخطر، قال عنترة:
وقال الآخر:
وفي الجملة؛ فالأمريكي نهض إلى العالم الجديد في أوائل القرن السابع عشر، من العالم القديم بخلاصة مدنيات كثيرة، ووجد أمامه تربة صالحة لبذور حديثة، فأنتجت خير البذور وجَمَّ الغلات، وجَدَ أمامه أرضًا بكرًا لم تَمْسَسْها يدُ إنسٍ قَبْله ولا جان من يوم خلقها الله، فقد احتفظت الطبيعة بكنوزها وبما في جوف أرضها، من معادن مختلفة، وجواهر متغايرة، كما احْتَفَظَتْ بما على سطحها من التربة الغنية بعناصر الإنتاج الزراعي، هذه تربةٌ أصْبَحَتْ تَمُدُّ يَدَهَا بِكَرَم حاتمي إلى كل ما يُلْقَى فيها من بذور النباتات المختلفة في مناطقها الطبيعة، من ثلجية، ومعتدلة، وحارة، فتنمو فيها جميعها نموًّا مدهشًا، لا يُشْبِهُه إلا ذلك الولد الذي أتى من أبوين شابَّيْن قويين، قد أحاطاه بكل نوعٍ من أنواع التغذية السليمة، والعناية التامة.
ترك الأمريكي وَجْه الأرض وتغلغل في باطنها، بعد أن مَهَّدَها لحياته، فعثر على ما فيها من كنوزها الجمة، فما هو إلا أن بدأ في استخراجها حتى أفاضت عليه من خيراتها التي لا حد لها، فامتلأت خزائنه من ذهبها، فاستعمله في طريق الإنتاج الصناعي، فأقام المصانع، وشَيَّدَ المعامل، بفضل هذه المواد الأولية التي يكتظ بها باطن أرضه، من ذهب وفضة وحديد ونحاس وقصدير ورصاص وفحم وبترول، وأصبحت هذه المصانع تُنْتِج كل دقيقة الملايين من هذه الآلات التي تَغَلَّبَ بها على مصاعب الطبيعة، ووصل بها إلى ما فيها من خير وبركة.
ولم يكن الفضل لثروة الطبيعة وحدها في رقي هذه البلاد، بل لم يكن لجهاد الأفراد وحده الفضل في وصولها إلى سنام العظمة العملية، بل الفضل كل الفضل لأفراد وصل بهم حظهم بعملهم إلى دائرة واسعة من الثراء فلم يختصوا به أنفسهم، ولم يرصدوه على ذويهم وأهليهم، بل أفاضوا منه على بني جلدتهم تلك الهبات الهائلة التي يتقدمون بها إلى دوائر الرقي العام المتغايرة؛ فمن هبات بملايين الدولارات لتشييد المدارس، ومن مثلها لإقامة المستشفيات، ومن مثلها لتكوين المكتبات العمومية، ومن مثلها لتنشيط الاختراعات، ومن مثلها لترقية الصناعات، وليست هبات كارنجي، وروكفلر، ومورجان وأمثالهما، ببعيدة عن صفحات التاريخ. وهل تنسى الإنسانية كلمة روكفلر: «إني بدأت طريق ثروتي الهائلة فقيرًا، ولَعَلِّي أعود بخدمتي للإنسانية إلى النقطة التي بدأت منها ثروتي»، بخ بخ يا سيدي روكفلر! ليست من كلمة تَصِحُّ أن تكون واسطة للجواهر في جيد الإنسانية أثمن من كلمتك هذه! وحسبها أن تكون هي ثروتك الحقيقية من حياتك المملوءة بجلائل الأعمال، وعظيم الأقوال، وإن كان هذا لا يتفق مع حالِ الشرق الذي لا وجود فيه إلا لخيال الثروة، ولا فضل فيه إلا لِاسْمِها، حتى لو كانت محبوسة عن صاحبها، يحفل الناس في الشرق بالأغنياء وإن كان لا فَضْل من ثروتهم على أحد! وتحفل الحكومات الشرقية بهؤلاء الذين يسمونهم أغنياء وإن كانوا خَلَوْا من كل شيء إلا من نضرة الدينار وبريق الدراهم، وقد يتقدم الإنسان إلى الإنسان في مصر بأنه من أرباب الأطيان، فيحفل به السامع لمجرد مرور خيال ثروته على وهمه، وقد يتقدم الغني الجاهل، والعالم البائس، إلى الناس فيحفلون بالأول دون الثاني! حتى مع عقيدتهم بأن الأول لا خير فيه، وأن الثاني قد يكون فيه من الخير ما ينفع الناس في حياتهم الأدبية والأخلاقية، بل والمادية، وإذا كنا نحن نحترم ثروة الغني إلى هذا الحد مع عدم انتفاعنا منها بشيءٍ، فما مقدار احترامه هو لها واحتفاظه بها لنفسه من غير أن يكون فيها للمصلحة العامة حصة أو نصيب!
إذن فحياة الأمريكي ليست في ثروته ومَجْده، وحب العيش في جلوسه على تلك المنصة الذهبية التي إذا أزالته عنها الأيام لأي سبب من الأسباب، فإنه لا يفقد معها عبقريته، ولا يُعْدَم نشاطه، بل يستمر في جهاده، ويدخل في دائرة حياته الجديدة، كقادوس الساقية ينزل إلى معين الحياة خاويًا خاليًا، فيغترف منه ما يكون له حياة جديدة؛ ذلك لأن الرجل الأمريكي لا يُغَيِّره الفقر، بل يعتبره مرضًا يحاربه بكل وسائل الحرب، وهو بجده متغلب عليه لا محالة، أما عندنا فيكفي الغني أن يَعْثُر عثرة واحدة حتى لا يَجِدَ له مُخَلِّصًا منها! ولا يزال في كبوته هذه مريضَ النفس، ميت الروح، إلى أن يقضي عليه قنوطُه! ذلك لأن الثروة وحدها في نظره هي الحياة، هي المجد، هي العظمة، هي الوجود بكامل معانيه! فإذا هي ذهبت، ذهب كل هذا في عقيدته ونظره، ولا أدري إذا كان هذا من أمراض الشيخوخة في الشرق؟ تلك الشيخوخة التي تقف بالآمال عند بعض الناس إلى حدٍّ محدود، إذا تَجَاوَزَها الشخص دخل في دائرة اليأس والفناء! وهو ما يخالف الأثر الذهبي الإسلامي: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.»
لذلك لا نرى الأمل يقف بالرجل الأمريكي عند حد، بل يذهب به في مسالك الرقي كل مذهب، والعامل منهم إذا رأى أمامه صاحب المعمل العظيم وهو لم يكن من سنواتٍ إلا ذلك العامل البسيط المُجِد، كان هذا مثالًا حيًّا له، فيجدُّ في عمله هو الآخر مقودًا بفكرة الوصول إلى ما وصل إليه رَبُّ معمله، هذه الفكرة النبيلة لا تقف به عند حدٍّ في طريق العمل، وهو إن لم يصل بها إلى غايته كلها، فلا بد من وصوله إلى شيءٍ منها قليلًا أو كثيرًا على حسب حظه في عمله؛ لذلك ترى التقدم في الصناعات مستمرًّا بين الكبار والصغار على السواء، وإذا كان المستحيل لم يَجِدْ له محلًّا من قاموس نابليون، فالكسل واليأس لم يَجِدَا لهما محلًّا من نفسية الرجل الأمريكي.
وبالجملة فالرجل الأمريكي قد أدهش العالم كله بأخلاقه العملية، ومثابرته على عمله، ووصوله إلى غايته بكل سرعة، وقد بَحَثَ علماء الاجتماع والأخلاق في عبقريته، وكيف أنه امتاز عن العالم الغربي في طفرته إلى غاياته في بلادٍ هو جديد فيها؟ ولم يدروا أنه هو الذي في دمه مدنيات العالم القديم جميعها، حتى إذا وَجَدَتْ لها مجالًا للعمل أيقظها الأمل، ونهض بها هذا النهوض الذي أدهش العالم من أقصاه إلى أقصاه.
والرجل الأمريكي مهما بَلَغَ في ثروته، لا يتقيد في زواجه بامرأة من وسطٍ عالٍ، فلا يهمه إلا تلك التي أعجبته، كما أن المرأة الأمريكية لا يهمها إلا ذلك الذي أعجبها، من غير نظر إلى شيءٍ اسمه كفاءة عائلية، كما هو الشأن في أوروبا وفي الشرق، وقد رأينا هنا ضمن التمثيل السينماتوغرافي زفافَ شابٍّ من أصحاب الملايين بفتاة فقيرة من كندا! ولم نسمع من النظارة أيَّ انتقاد على ذلك.
والرجل الأمريكي لا يتقيد بشيءٍ اسمه «النظام الاجتماعي»، فلا يُقَيِّد نفسه بلباس السهرة في الاجتماعات الليلية، وقد ترى القوم في التياترو وقد جلس صاحب الاسموكن بجوار الذي يلبس الأزرق أو الأحمر أو الرمادي مما يكون في نظرك مجموعة من ألوان الطيف؛ خصوصًا في كرافتاتهم (أربطة رقبتهم).
وقد ترى كثيرًا ممن تظنه من الجنتلمانات يعبث بمارون ما فوق شفته العليا، وترى في أفواه الكثيرين من طبقة العمل ذلك الخلال الخشبي، حتى في أوان الأكل، وكلهم يشرب السيجار، وقد يمضغون طرفه الأعلى فيتفكهون بعصارته طوال ما كانت السيجار في فمهم! وكثيرًا جدًّا ما ترى الشخص — وخصوصًا الشباب منهم — لا يلبس فوق البنطلون غير القميص على جِلْده مباشرةً من غير ياقة، وأكمامه مشمرة إلى ما فوق الساعد، وقد يكون أصل هذا شدة الحر، ولكنه أصبح مثالًا للقوة (اسبور) وكمال الحرية حتى في غير طبقة العمال.
(٢١) المرأة الأمريكية
والمرأة هنا لها حرية مطْلقة وغير محدودة؛ فهي لا ترى نفسها أقل من الرجل في حقوقه المدنية، وقد تتشبه به في كلامها، وفي هندامها، حتى إذا تكلمَتْ من وراء ستار ظننْتَها في الغالب من هذا الجنس الذي خُلِقَ للأعمال الشاقة، وكثيرًا ما تراها هنا تعمل مع الرجل في المصانع والمعامل، وقد تراها أكثر منه عملًا في المحال التجارية ومكاتب الإدارات المختلفة، وتمشي معه كَتِفًا لكتف في الألعاب الرياضية، ولا تقل عنه حركةً في الطريق، وتسير بمفردها حيث شاءت ليلًا ونهارًا، وتدخل المطاعم والتياترات، وتركب التراموايات والتكسات وحدها إلى جميع أغراضها، وما أكثر ما رأيت المرأة تسوق الأوتوموبيل بسرعة هائلة في الولايات المتحدة وخصوصًا في نيويورك، وكثيرًا ما تراها تلبس اللبس الرياضي (اسبور) وهو بنطلون إلى الركبة، وجاكيتة فتْحتها إلى الرقبة، ولا أدري إذا كان ذلك فاتحة إلى لبس البنطلون الطويل تشبهًا بالرجل في ذلك؟ ولكن هل من الممكن أن تترك المرأة ذلك الفستان القصير الواسع الذي قد لا تلبس من دونه شيئًا؟ وهو لباس الرقة والزينة النسائية، لولا ما فيه مما يكون فوق الركبة، حتى إذا غازَلَتْه الرياح هاج بهياجها، واضطرب باضطرابها، وقد يَضْطَرُّ صاحبَته إلى الاشتغال بتهذيبه بكلتا يديها، مما يَظْهر معه أنها ترى في قِصَره عيبًا لا يتفق مع الآداب العامة التي تَرى هي المحافظةَ عليها من أكبر الفضائل، وهي كما ذكرناه في رسالة نيويورك — مع ما مُنِحَتْه من الحرية اللا نهائية — تُحَافِظ على الآداب العامة محافَظة كلية، مما لا يمكن أن تلاحِظَ عليه ملاحظة واحدة، والمرأة الأمريكية مع جمالها في الغالب ورقتها لا عاطفة لها؛ فتراها وسط المعارك والمهالك، والمؤثرات النفسانية، من غير أن تأخذها هزة في قلبها، وقد رأيت جملة سيدات في مجازر شيكاجو التي تسيل فيها دماء الماشية أنهارًا، وتُقْطع فيها أشلاؤها جهارًا، وهُنَّ باشَّات هاشَّات متسابقات إلى رؤية هذه المناظر التي تهيج الأعصاب، وتأخذ بالقلوب، مما قد تنهزم أمامها قوة المتشجع! ولكن شجاعة المرأة هنا شجاعة بمعنى الكلمة، وقد تراها إذا انعقدت حرب في المستقبل القريب بين الولايات المتحدة ودولة أخرى في مقدمة من يسير بالجيوش إلى معمعة القتال، كما تراها اليوم أمام منصة القضاء، وعلى كرسي النيابة عن الأمة تترافع وتخطب، وكما تراها في المستشفيات تداوي الأمراض، وتبتر الأعضاء، وكما تراها في المصانع تشتغل بالنار والحديد، وبالجملة فالمرأة الأمريكية عامِل حي يبحث في جميع الأغراض التي يبحث فيها الرجل من عِلمية، وتجارية، وصناعية، ولم تقفْ هِمَّتُها عند حدٍّ ترى فيه شيئًا من المشقة، والتي تعمل في أي عمل من الأمريكيات إذا قَصَدَتْ منزلها بعد عَمَلِها تجدها عاملة في كل شئونه الداخلية، من تنظيف، وغسيل، وطبخ، وترتيب، ونظام، وكل هذا في سرعة متناهية، ومن غير مشقة؛ لأن كل هذه الأعمال أو جلها تُعمل في بلاد الاتحاد بواسطة الأجهزة الكهربائية، فإذا فرغت من واجبها المنزلي خرجت بمفردها، أو مع رفيقة لها، أو مع زوجها — إن كانت متزوجة — لنزهتها، وهي تقضي في الغالب بعض وقتها في دور التمثيل السينمائي.
والمرأة الأمريكية قَلَّمَا تفكر في الزواج لمَيْلها إلى الحرية المطْلقة، وعدم ارتياحها للدخول في حدود الزوجية الضيقة!
وفي الغالب يكون زواجها من غير تفكير، ولا سابقة معرفة بمن تتزوج به، ويكفي في ذلك اجتماعها به اجتماعًا بسيطًا، فإن راقَ كلٌّ في نظر الآخر كانت ساعةٌ واحدة كافيةً لإتمام العقد، وإرادة الآباء تأتي عادةً هناك بعد إرادة الأبناء؛ لذلك لا تجِدُ الزوجةَ هناك مكلَّفة بتقديم ما يسمونه مهرًا، كما هو الشأن في أوروبا، بل الزواج مبني غالبًا ببلاد الاتحاد على إيجابِ وقبولِ الطرفين من غير ما شرط، وكثيرًا ما تُجْبِر هذه السرعةُ في الزواج إلى السرعة في طَلَبِ الطلاق! وهو شائع في أمريكا شيوعًا فاحشًا، ويتم بها بالسهولة التي لا توجد في بلادٍ أخرى، ونسبة الطلاق في الولايات المتحدة في كل سنة نحو عُشر ما يتم بها من الزواج!
(٢٢) العامل الأمريكي
العمال هنا هم أحسن عمال الدنيا أجورًا وحياة، وكانت حركة أجور العمال قبل الحرب واقفةً عند حدها الطبيعي، أما من سنة ١٩١٤م فقد تغيَّرَتْ تغيرًا محسوسًا جدًّا، فإذا فَرَضْنا لها قبل الحرب رقم ١٠٠؛ فقد نراها وصلتْ في سنة ١٩٢٠ إلى ٢٦٠ متتبعة في ذلك علو أسعار المحاصيل، وهذا أمرٌ طبيعي لضرورة وجود التناسب بين أثمان المنتجات وأجرة اليد العاملة، هذا من جهة وطبيعة العمل، ومن جهةٍ أخرى فإن الأثمان بصفة عامة كانت قد ارتفعت ارتفاعًا فظيعًا في كل شيء؛ في المأكولات، في الملابس، وفي المساكن، فكان ارتفاع الأسعار في هذا كله موجِبًا لزيادة أجر العاملين في جميع الأوساط الصناعية، والزراعية، والتجارية، ولو نَظَرْت إلى نسبة هذه الزيادة في العالم كله لوجدتها واحدة، فالعامل في مصر — مثلًا — الذي كان يشتغل قبل الحرب بقرشين، أصبحَتْ أقلُّ أجرة له من سنة ١٤ خمسة قروش، والذي كان يشتغل في فرنسا بفرنكين، أصبح يشتغل بستة فرنكات على الأقل، وهنا نعود إلى العامل الأمريكي الذي كان يشتغل قبل الحرب بنصف ريال، فقد وصلتْ يوميته مدة الحرب إلى ريال ونصف في المصانع، وإلى أقل من ذلك في المزارع، وهو ضعف أجرة العامل في فرنسا، وضعفاه عندنا.
وإنا إذا تساءلنا عن السبب في ذلك، ومن أن أجرة العامل لا بد وأن تتناسب مع أثمان المنتجات، ونسبتها كلها تكاد أن تكون واحدة في جميع الأسواق، خصوصًا لعوامل التزاحم والتنافس التي تحيط بجميع البضائع المعروضة، عَرَفْنا أن المسألة ليست بطلسم من الطلسمات، ولا بمعادلة جبرية يستدعى حَلُّها فكرًا وتدقيقًا، بل هي بديهة ظاهرة؛ ذلك أن أجرة العامل الأمريكي إنما هي بنسبة ما يعمله، وهو يعمل بقدر ثلاثة عمال من الآخرين، هو عامل لا تراه مسوقًا بعصَا غَيْرِه، عامل لا يعمل بتهديد ولا وعيد، ولا يعمل بوعد ولا رجاء، عامل ليس له من منشط غير رغبته في العمل، وإرادته في قيامه بواجبه، وأمله في وصوله إلى منزلة أكبر، لها أجر أكثر، وكثيرًا ما يصل به اجتهاده في دائرة عمله إلى الاختراع؛ إلى اختراع شيء يُسَهِّل به العمل عما كان عليه من قبل، وهنا تنفتح له أبواب الحظ ويصبح من أصحاب الأموال.
إذن فالعامل هنا إنما يعمل والأمل رائده، والاجتهاد قائده، لا كما نراه في جهةٍ أخرى إذا خرج من دائرة القنوط دخل في دائرة اليأس، وإذا غَفَلَتْ عنه عين السائق نام على فراش عمله نومًا عميقًا! لذلك نرى الاختراع كله هنا في دائرة العمال، كما نراه في أوروبا في دائرة العلماء الذي أَفْنَوْا أعمارهم بين خطوط النظريات وأرقام المعادلات.
إلا أن العامل الآسيوي أخذ منذ زمن يَفِدُ إلى أرض الولايات المتحدة ويعمل لحياته مع العاملين، أخذ الألوف من اليابانيين والصينيين وغيرهم يَفِدُون إلى هذه البلاد بحكم الهجرة، ولا يجدون بها عيشهم إلا من طريق التزاحم على العمل، فإذا وَجَدُوا العامل الأمريكي يعمل بريال في اليوم بالولايات الغربية، قَبِلُوا العمل بنصف أجره، وأصبح أرباب المعامل والمصانع والمزارع — وخصوصًا في كاليفورنيا — تنتفع بهذه الأيدي الرخيصة، فحرك هذا من حفيظة اللون الأبيض في هذه الولايات، حفيظة أخذتْ تذكيها نيران الغيرة، بل نيران الانتقام من هؤلاء الذين جاءوا يقاسمونهم عيشهم، ويحاربونهم في دائرة حياتهم وهم في بلادهم آمنون من عبث الأيام، فشكلت منهم جمعيات اسمها «كلو كلوكس كلان» اتفقت سرًّا على حرب الأغراب، والاحتفاظ بخيرات البلاد لأهلها بكل وسيلة ممكنة، وذهب بعض مَنْ تَطَرَّفَ من هذه الجمعيات إلى حصر هذه المنافع لا في الجنس الأبيض في عمومه، بل في النوع السكسوني منه، فأعلنوا نقمتهم على الكاثوليك وعلى اليهود جميعًا، ولهذه الجمعيات مجتمعات سرية أشبه شيء بالمجتمعات الماسونية، ولا يعرف أحد من أَمْرهم شيئًا حتى ممن كان على غير شاكلتها من أهل البلاد.
وقد وقفت الحكومة بالولايات المتحدة أمام هذه الهيئة السرية التي قد يصل عددها إلى ما لا يُسْتهان به، مَوْقِف المضطرب في رأيه، لا تدري إذا كان من الخير أن تتركها وشأنها تعمل في دائرة حُرِّيَّتها، ما دامت في دائرة القانون؛ لذلك تراها من جهةٍ أخرى بقدرٍ ما تسهِّل على الجنس السكسوني هجرته، بقدر ما تُصَعِّبها على جميع المهاجرين حتى من الأوروبيين من غير هذا الجنس، وقد يأتي يومٌ تتحرش فيه هذه الجمعية باللون الأصفر فتطرده من بلادها.
ومن تشديد ولايات الاتحاد للهجرة إلى بلادهم تلك الاستمارة التي تقدمها شركات الملاحة إلى المسافرين عليها لأمريكا، ومن ضمنها: هل أنت متزوج؟ هل أنت متزوج بأكثر من زوجة؟ هل تقصد الولايات للعمل؟ وما هو صفة هذا العمل؟ وهي أسئلة لا نراها في غير السفر إلى الولايات المتحدة.
ومن الجرافيك «الميزانية» الذي عملته وزارة العمل ترى أن الأسعار كانت في سنة ١٩١٣م في حدها الطبيعي، سواء في بيعها بالجملة والقطاعي، وكانت أجرة العمال واقفة معها عند هذا الحد، ولكن في سنة ١٩١٥م ابتدأت الأسعار تصعد حتى وصلت في سنة ١٩٢٠م إلى حدها الأقصى، والذي وصلتْ فيه إلى ما يقرب من ثلاثة أضعاف منها! وكانت أُجَرُ العمال تتبعها في سيرها شبرًا بشبر، وقدمًا بقدم، ولكن الأسعار في سنة ١٩٢١م انهزمت انهزامًا هائلًا بحيث نزلت إلى نصف ما كانت عليه في السنة التي قبلها! مع ذلك فأجرة العمال بقيت مرتفعة، بل استمرت في ارتفاعها إلى سنة ١٩٢٥م وهي وإن كانت نقصت قليلًا في سنة ٢٦-٢٧ إلا أنها لا تزال أكثر من نسبتها الطبيعية مع أثمان المنتجات.
ويظهر أن هذه النسبة عامة في كل جهة من جهات العالم، وهي أثر طبيعي لتلك الحرب المشئومة التي أكلت الرطبة واليابسة، ولا يزال دخان نيرانها يتصاعد من بين أطلال البلاد التي خَرَّبَتْها وأتت على عمرانها!
•••
وللعمال قانون خاص للعمل اسمه «قانون تيلر»، وروح هذا القانون هو أنَّ العامل يعمل كثيرًا من غير أن يُتْعِب عقله وجسمه، وذلك بواسطة تنظيم العضلات التي لا شأن لها في عمله، فتبقى غيرَ مُتْعَبة قويةً تخفف بقوتها عن العضلات المجهودة كثيرًا مما ينالها من التعب، والعمل على هذه النظرية مبني على دراسة علم الأعضاء (الفسيولوجيا)، وحتى في هذه لا يخرجون عن قواعد العلم! ومن شأن هذا القانون أن يحكم العلاقة بين المنتج والعامل، ذلك بأن يُجْعَل لكل منهما واجبات نحو الآخر لا يهملها أحدٌ منهما؛ لهذا ترى الأعمال سائرة على الدوام إلى الأمام من غير محرِّك ولا منشِّط، وحال العمال في غدهم خير منه في أمسهم من غير مُطَالَبة بحق أو لفت نظر إلى مكافأة.
وأرباب الأعمال من الأمريكان لهم سياسة غريبة مع عمالهم، يضعونهم بها في دائرة لا يخرجون منها، وإن خرجوا منها كانوا كالذي يخرج من الضوء الناصع، إلى الظلام الحالك، لا يزال يتخبط فيه يمينًا وشمالًا من غير أن يجد له مخرجًا؛ ذلك لأن معرفته لصناعته محصورة في قطعة واحدة لا يعرف لها منفعة، ولا يقف لها على قيمة! وهي في نظره شيء تافه في ذاته إن لم يكن سرًّا من الأسرار لم يصل إليه علمه، وطلسمًا لم يَفْهَم ما فيه من دخيلة غامضة؛ لذلك تراه أقل العمال إضرابًا، وأبعدهم عن الثورة.
خذ مثلًا فورد: فإن عنده مائة وخمسون ألف عامل، كل قبيل منهم يعمل في قطعة واحدة، فهذا يعمل الحديد كتلًا، وذاك ينشر الكتل ألواحًا، وغيره يقَطِّعها قطعًا كبيرة متشابهة؛ وذلك يقطعها قطعًا صغيرة متماثلة، وآخر يعمل مسمارًا صغيرًا، وغيره يعمله على قياسٍ آخر وثالث يعمل في عمود من الحديد، ورابع يعمل في خلافه، وخامس يضم القطع إلى بعضها فيُكَوِّن منه آلة من آلات فورد، وهكذا الحال في القطع الخشبية، وما إلى ذلك من الكاوتشوك، والجلد، ثم يأتي بعد هذا كله من يكوِّن هيكل الأوتوموبيل، ثم يكسوه تنجيدًا وتجليدًا، ثم يأتي بعد ذلك من يعمل في التلوين والتمكين.
من هذا تعرف أن الأوتوموبيل الواحد عند فورد قد يعمل في قِطَعِهِ ألف عامل، كل منهم لا يعرف غير القطعة التي يعمل فيها، وحياته محصورة في عملها، ولا يمكن أن يجدها عند غير فورد! وبذلك تكون حياة عامل فورد وقفًا على فورد بلا قيد ولا شرط، وهذا وأبيك هو الاسترقاق بعينه، والاستعباد بذاته في ظلال الحرية المطلقة، تلك الحرية التي إنما هي أكذوبة من الأكاذيب السياسية، يكتبها الأقوياء بحروف من نور على صحيفة ظلام حالك تضيع بين طياته حقيقة التاريخ! ومتى كان التاريخ صادقًا في جميع مجرياته؟ وهل التاريخ إلا مرآة لميول المؤرخين وأغراضهم؟ وإن أحسنَّا بهم الظن قلنا: لعقائدهم التي قد تخالف الحقيقة في كثير أو قليل من الأمور.
تلك هي حالة العامل الأمريكي بصفة عامة في الولايات المتحدة، وهذا لا يمنع من وجود عمال قد تَخَرَّجوا في المدارس الصناعية، وعلى الخصوص مما يسمونه «مدارس الأعمال» ويوجد هذا النوع من المدارس في نيويورك، وشيكاجو، وبوستن، وأهم مدرسة فيه توجد في جامعة هارفارد في بوستن، وهي أقدم جامعة في الولايات المتحدة، وإن شئت في أمريكا كلها، هذا الصنف من العمال لهم اعتبار خاص، ومنهم ينجب الكثيرون، وقد يصلون إلى سنام الثروة بجهادهم واجتهادهم، ولا نضرب لك مثلًا هنا بغير فورد الذي خرج من وسط العمال في أول هذا القرن، وما زال بعمله وجده واجتهاده حتى أصبح أغنى إنسان في العالم جميعه.
(٢٣) التربية النفسية عند الأمريكان
أول قاعدة من قواعد التربية النفسية عند الأمريكان قولهم: «هلب يور سلف» (ساعد نفسك بنفسك) ويريدون بذلك أن الإنسان لا بد وألا يرتكن على غيره في أي عمل من أعمال الحياة، أو بعبارة أخرى أن الاعتماد على النفس هو أول سلم من سلالم الحياة، قِفْ لحظة واحدة في أية محطة من محطات السكة الحديدية ترى الرجل والمرأة والشاب والشابة بل والطفل — مهما كانت درجاتهم في الثروة والجاه — ترى كلًّا منهم حاملًا حقيبةَ مَلابسه في يده، ويخرج من باب المحطة إلى عربته أو إلى الترامواي، وهذا كله محافَظةً على وقته الذي ربما ضاع بين البحث عمن يحمل متاعه، إلا إذا كان هذا المتاع مما لا يُحْمَل، أو مما يضِيع وقتُه في حمله، والوقت عندهم ثمين.
يقع الطفل الرضيع على الأرض وهو في مبدأ حركته للمشي فتدعه أمه لنفسه قائلة له: «هلب يور سلف»، فلا يزال المسكين يجاهد بحركاته المختلفة حتى يقوم على رجليه بدون مساعدة أحد، وقد يقع في أثناء ذلك جملةَ مرات ثم ينتهي أَمْره بالنهوض، ومن هذا الوقت تتولد عنده فكرة القيام بالنفس، حتى إذا ما وصل إلى سن الشبيبة كان رجلًا يعتمد على نفسه في كل شيءٍ! وهذا ما يُمَكِّنه من كسب حياته بغير معين ولا مساعد، تخرج الخادمة من منزل مخدومتها يوم الأحد، فتطهي السيدة طعام البيت، ثم تخرج إلى نزهتها، وتعود وقت العشاء لتجهيز الطعام على المائدة، وقد يهتم كل شخصٍ من العائلة كبيرًا أو صغيرًا بما يهمه من أداة الطعام، فيقصد مكانها ويأخذ ما يلزمه منها.
يقعد التاجر الكبير في مكانه من محل إدارته وبجواره الآلة الكاتبة، فإذ عنَّ له أن يكتب قام إليها وحرر ما شاء من غير انتظار واحد من عماله.
ترى الفلاح في عزبته الخاصة به يقوم بكل عملٍ من أعمالها ولا يستدعي غيره لمساعدته إلا إذا كان في حاجة ماسة إليه، وهنا أرجو حضرات القراء أن يسمحوا لي بالوقوف عند هذه النقطة ويذهبوا معي إلى قرية من قرى الريف عندنا، فماذا نرى؟ نرى أفرادًا من الفلاحين ممن تجاوزوا الثلاثين من عمرهم قد اجتمعوا على مصطبة أحدهم وأمامه أداة القهوة، وفي أيديهم أداة التدخين، وهم يتحدثون في سخافات وأقاصيص يقتلون بها وقتهم، فإذا جاء الظهر أكلوا غزيرًا، وناموا كثيرًا، ثم إذا عَنَّ لأحدهم الذهاب إلى غيطه الذي يعمل فيه بعض العمال رَكِبَ حمارته بحال تمثل الكسل والخبل، وهناك يُجَرِّد لسانًا كلسان الحية فيلسعهم تأنيبًا وتجريحًا بدعوى إهمالهم في عملهم، وهو لو أنصف لَوَجَّه هذا السباب إلى نفسه لإهماله هو عمله الذي يستمد منه حياته، مما لا يعتبره هو فضيلة؛ لأنه من العيب في عقيدته أن يعمل وفي قدرته دَفْع أجرة العامل؟! كما أنه من العيب أن يحمل الإنسان متاعه، ومن العيب أن يسير الإنسان على رجليه بعض خطوات في الريف أو في العاصمة لمسافة يسيرة، ومن العيب أن يَرْكَبَ الثَّرِيُّ الترامواي، ومن العيب ألا يَرْكَبَ متوسط الحال في الدرجة الأولى من السكة الحديد على فداحة أُجْرَتها عندنا، ومن العيب ألا يُقَلِّدَ الإنسان بمصر مَنْ هو أغنى منه في كل شيءٍ، ولو يُلْقِي به ذلك في جب الاستدانة التي تنغص حياته، وتقضي على كل سعادته في هذه الحياة.
وبالجملة فكل شيءٍ عندنا عيبٌ إلا العيب نفسه فإنه ليس بعيب!
يعتمد الإنسان عندنا على غيره في كل شيء: لذلك نرى آلافًا من الشبيبة (من الذين أكملوا دراستهم طبعًا) وقوفًا على أبواب الوزراء، وفي أيديهم كتب الرجاء، وماذا يعمله الوزير في آلاف ما يقدم إليه من الطلبات لوظيفة واحدة صغيرة خالية في وزارته؟ اللهم رحمةً بأولئك المساكين الذين لم يعرفوا من طرق الحياة إلا التوظف في خدمة الحكومة، والوقوف ببابها، وهو لو قفل في وجوههم لكانوا عالة على ذويهم حتى يقضي الله أمرًا.
وهذا كله ولا شك من نقْص في تربيتنا العملية، وعلى الخصوص فيما كان يتعلق منها بالاعتماد على النفس!
(٢٤) كو كلوكس كلان
في سنة ١٨٥٥م تكوَّنتْ بالولايات المتحدة جمعية لمحاربة سيل المهاجرين الذين كانوا يهاجمونهم في حقوقهم المدنية، ويشاركونهم في مواردهم الحيوية، وكان رمزها «ن. ن» ومعناها: لا أعرف شيئًا. وفي سنة ١٨٨٧م ظهرتْ فرقة أخرى رمزها «أ. ب. أ» أعني: جماعة البروتستان الأمريكان، وهذه الجمعية أذاعت في عرض البلاد أن البابا يريد أن يضع يده على القارة الأمريكية بحجة أن الذي اكتشفها هو كرستوف كولومب الكاثوليكي، وهذا ما يهدد البروتستان في حياتهم، وسرعان ما سَرَتْ هذه الفكرة الخبيثة في ولايات الوسط والغرب، ومن ثَمَّ وقعتْ كراهة الكاثوليك في قلوبهم.
وهاتان الفرقتان كانتا أصلًا لتكوين فرقة ثالثة سِرِّية رمزها «كو كلاكس كلان»، التي شعارها محاربة اليهود والكاثوليك والأجانب بصفة عامة، والعبيد بصفة خاصة، تكوَّنَتْ هذه الجمعية في ولاية تناسي سنة ١٨٦٦م باسم الدفاع عن الجنس الأبيض — البروتستانتي طبعًا — وذلك بعد تحرير العبيد مباشرةً.
وقد وَضَعَتْ هذه الجمعية لنفسها قوانين خاصة وضعوها بين جدران مجتمعاتهم السرية، وكلها تدور حول إزعاج القلوب، وإرهاب النفوس، بما كانوا يشخصونه بالليل من أيدٍ ممدودة بسلاحها، أو هيكل إنسان يشخص الموت بصورته، أو ما كانوا يكتبونه في نشراتٍ من غير إمضاء، يُلْقُون بها في الطرق، كلُّها خوفٌ وفزع تَجْمُد منها الدماءُ في شرايينها، وتَشِيبُ من هولها الأجنة في بطونها! وقد يلاحِظ بعض الناس على بعض السود هفوة بالنهار، فيجدونه غارقًا في دمه بالليل في أحد شوارع المدينة، من غير ما علم بهذا الذي جنى عليه هذه الجناية، بهذا وذاك أصبحت القلوب في فزع مستديم من هذه الفئة السرية التي لا تُعرف كينونتها، ولا تُعلم حقيقتها، وكأن الحكومة تساعدها من طرْف خفي على تلك الجرائم؛ لاعتقادها أنها هي التي بها نجاة البيض من براثن السود.
وفي زمن الحرب العالمية هدأت فظائع هذه الجمعية؛ لاشتغال الناس كلهم بالحرب، خصوصًا وقد تجنَّد عدد عظيم من السود، كانوا في مقدمة البيض أمام فتكات العدو، وكانت تَجْمَعُهم وإياهم سماء كانت تمطرهم بوابل القنابل من غير ما فارِق بينهم، حتى إذا عادوا شمخوا بأنوفهم، ورفعوا من رءوسهم، فخافهم الأمريكان، وخشوا من جهةٍ أخرى فلولَ تلك الحرب التي أخذت تهجم على بلادهم من كل صوبٍ، فأخذوا في إيقاظ جمعية «كو كلوكس كلان» من جديد تحت رئاسة الكولونيل سيمون، ولكنها في هذه المرة لم تستعمل الشدة في أول أَمْرها كما كانت، بل تبدأ بالنصح تارة، والإنذار أخرى، في نشرات عمومية، أو بواسطة مكاتبات خصوصية لمن يريدون منه غرضًا من الأغراض التي يحافظون بها على مبدئهم، خصوصًا في الدفاع عن الجنس الأبيض في عمومه، والمرأة البيضاء في خصوصها، والبروتستانتينية بحالة أعم.
ولهم لباس يغطي الجسم كله لا يظهر منه غير أعينهم، يلتحفون به في مظاهراتهم ليُوقِعوا الرعب في قلوب من يراهم، وبالجملة فالكان (مختصر اسم الجمعية) هي جمعية سرية أشبه شيء بالماسونية، غير أن أعضاءها غير معروفين ويقال: إنهم يبلغون ٧ مليون نفس في الولايات المتحدة، وعددهم يزيد بنسبة ألف كل أسبوع، وشعارها أمريكا للأمريكيين، ويعنون بذلك للبروتستان البيض، وهم حكومة داخلة في حكومة مهما صرَّح رؤساء البلاد بعدم الاعتراف بهم والتبرؤ منهم، وعلى كل حالٍ فهم قومٌ إذا أُهمل أمرهم فلا بد من أن يأتي يوم يبثون فيه روح الفوضى فيما بين الأقيانوسيين.
(٢٥) الماسون
وعلى ذِكْر الماسون هنا أقول: إن هذه البلاد تعني بالماسونية كثيرًا، ولهم ألواج (أندية) مشيدة مكتوب عليها الاسم الخاص بها بالأحرف الكبيرة البارزة بالذهب، وشعارهم في الخارج الطربوش الأحمر ذو الزر الطويل، عليه اسم المحفل الذي ينتسبون إليه بالمخيش المقصب! وقد رأيتُ منهم نسوة يلبسن الطربوش الأبيض وعليه اسم محفلهم والشرق الذي ينتسبون إليه بالقصب! وجمعياتهم بالطبع جمعيات قوية راقية كغيرها من الجمعيات الأخرى التي تستمد سلطتها من قوة البلاد وعزتها.
وللماسونية بالولايات المتحدة مكانتها السامية؛ لسمو الغرض المقصود من عشيرتها بهذه البلاد، وهو خدمة الإنسانية، ومساعدة المنتسبين لها في حياتهم العملية؛ لذلك ترى أعاظم الرجال في كل ولايات الاتحاد يفخرون بنسبتهم إليها، ولأعضائها النفوذ العظيم، والرأي المسموع في كل عمل من الأعمال الإصلاحية والسياسية؛ وذلك لأن أغلب أعضاء البرلمان من نوابٍ وشيوخ ينتسبون لهذه العشيرة، وفي الجملة فنسبة عدد الماسون إلى غيرهم من سواد الاتحاد نحو ٣٠ في الألف من عدد السكان، وهم في نيويورك أكثر منهم في غيرها، وجملة ما لهم من المحافل في الولايات المتحدة نحو ستة عشر ألفًا وخمسمائة، وفي نيويورك وحدها ما يقرب من ألف محفل فيها من الأعضاء ٣٥٠ ألف عضو تقريبًا.
(٢٦) الثقافة في أمريكا
قامت ثقافة الولايات المتحدة على أساس ما فيها من عشرات الألوف من كُلِّياتها ومئات الجامعات المنتشرة في مدنها، وما لا حصر له من مدارسها الابتدائية، ومن هذه المعاهد ما هو خاصٌّ بالذكور، وما هو خاصٌّ بالإناث، ومنها المختلطة من الجنسين حسب أنظمة الولايات وترتيبها في عقليتها، ومبلغ ما تصل إليه حُرِّيَّتها، وهذه وتلك إنما قامت بأموال المتبرعين من الأفراد، أو الجمعيات الخيرية، أو من هبات هؤلاء الرجال الذين ذهبت بهم هِمَمُهم إلى إحراز مجدهم من طريق خدمتهم للمصلحة العامة، وهم بين اثنين؛ الأول اندفع إلى خدمة بلاده بتغذية الثقافة العامة بهباته التي لا يكاد يحصيها العد أمثال روكفلر، وكارنيجي، ومورجن، وفورد، والثاني ما كان يهديه بعض القوم تذكارًا لحادث تاريخي يتعلق بأشخاصهم.
ولقد كانت هذه الهبات الجليلة تتناول كل ما له علاقة بالثقافة الأهلية؛ فمنها ما كان لترقية الدراسة في ذاتها، أو لترقية حال الطلبة والمدرسين، ومنها ما كان لمساعدة فقراء الطلبة على الاستمرار في دراستهم، ومنها ما كان لإعانة الطلبة الأغراب على ما تتسهل به أسباب حياتهم في سبيل التحصيل في مثل هذه البلاد التي تغلو فيها أسعار المعيشة، ومنها ما كان لإشادة المكتبات الفخمة التي تساعد الطلبة والمدرسين على البحث والتنقيب، ومنها ما هو لإشادة دور الرياضة الجسمانية على اختلاف أنواعها، ومنها ما هو لإقامة النوادي التي يلجأ إليها الطلبة أثناء فراغهم من عملهم، ومنها ما هو لإقامة المعامل الكيماوية، أو الطبيعية، وغيرها مما يفتح أبوابه لمباحث الطلبة، ومنها ما هو لإشادة المتاحف المختلفة التي تساعد على ثقافة المعلمين والمتعلمين بحيث تجد من ذلك في كل كلية، أو جامعة ما يجعلها في غنًى عن طَرْق باب آخر للبحث والتنقيب، ومنها ما كان لترقية المسائل الطبية تخفيفا لآلام الإنسانية أينما وُجِدَت، وحيثما كانت، ومنها ما كان لتثقيف العمال في دائرة أعمالهم.
ولكل ولاية من ولايات الاتحاد من المعاهد العلمية المختلفة ما يسد عوزها في كل مرافقها الحيوية، من زراعية، وصناعية، وتجارية، وعلمية، وسياسية.
فأينما سِرتَ وجدتَ مدرسة، أو كلية، أو جامعة، لكل مادة من مواد العلوم، أو الفنون، وكثيرًا ما تجد الجامعة الواحدة فيها عشرات الأبنية المختلفة يبعد بعضها عن بعض بفاصل من بساط الجازون البديع، أو الأشجار التي تلطف ظلالها من حرارة الصيف، وكل بناء من هذه لمادةٍ مخصوصة: فمنها ما هو للهندسة، ومنها ما هو للجيولوجيا، ومنها ما هو للطبيعة، ومنها ما هو للكيمياء، ومنها ما هو للفلك، ومنها ما هو للزراعة، ومنها ما هو للطب … وهكذا وهكذا … بحيث تجد لكل مادة ما هي في حاجة إليه من آلات ومعامل مختلفة على نسبة ما لها من الأهمية في حضارة الولاية التابعة هي لها.
وحسبك من هذا كله أن أَذْكُرَ لك جامعة واحدة حتى تَكُون عندك فكرة عامة عن دور التعليم بهذه البلاد. نعم أذكر لك جامعة «هارفارد» التي هي أقدم جامعة بالولايات المتحدة، والتي توجد في «كامبردج» إحدى مدن ولاية «ساشوسيت» والتي سُمِّيَتْ باسم ذلك الرجل الكريم «جون هارفارد» الذي شَيَّدَها في سنة ١٦٣٨م، على مثال جامعة أكسفورد، وكامبردج في إنجلترا.
وهذه الجامعة توجد في متسع عظيم من الأرض، قامت على أبعاد مختلفة في بنايات كثيرة تفصلها عن بعضها الأشجار الزاهرة، والأزهار العاطرة، وكل بناءٍ منها لنوعٍ خاص من العلوم والفنون، أو المتاحف المختلفة، والمكتبات القيمة، ومن هذه البنايات ما هو لسكن الطلبة، بحيث أن كل مسكن منها هو دائمًا على غاية من النظافة، ويحتوي على كل ما يلزم الطالب من وسائل الراحة، وهو لسكنى اثنين من الطلبة، وبه قاعة للنوم وأخرى للمطالعة.
ومن هذه البنايات نادٍ كبير يُمضي فيه الطلبة أوقات سمرهم، وقد يتخلل ذلك شيء من أغانيهم وموسيقاهم، مما يخفف عنهم ما عانوه في عملهم اليومي من تعب ونصب، وللجامعة كنيسة بديعة لتأدية واجبات الطلبة الدينية، ومن ضمن أبنية الجامعة بناءٌ خاص لتحرير جريدة الجامعة تجد به جميع أنواع الجرائد والمجلات المختلفة، ويحرر هذه الجريدةَ بعضُ الطلبة في كل ما يمكن أن يسمح للطلبة التحرير فيه!
وهذا يؤهلهم بعد تركهم الجامعة إلى تعيينهم في تحرير الجرائد في ولايات الاتحاد، وتجد الآن محرري الجرائد الكبرى من طلبة هذه الجامعة، وقد وصلوا إلى مراكزهم المهمة فيها بما مارَسوه من الثقافة الصحفية في تحرير مجلة الجامعة.
ولهذه الجامعة شهرة كبيرة في ألعابها الرياضية وخصوصًا في «الفوت بول»، ولطلبتها مواقف كثيرة في هذه اللعبة مع طلبة جامعة بال «بمدينة نيوهافن الأمريكية» والتي لا تقل عنها في شهرتها، ولكلٍّ من الجامعتين ملعب هائل ربما اجتمع فيه ٢٠٠ ألف نفس في مباراتهما، وربما بَلَغَ دَخْل الجامعة منه نصف مليون ريال في كل سنة!
وأملاك هذه الجامعة تبلغ قيمتها ٢٥٠ مليون ريال! ومع هذا فإن إدارتها تُذِيع من حينٍ إلى آخر منشورات تستندي بها أَكُفَّ المتبرعين، وكثيرًا ما يتبرع لها طلبتها بأموال طائلة، ومما يجدر بنا ذِكْره أن بعض الطلبة الذين لا تَسْمَح لهم مواردهم بمصاريف الدراسة يُعْلِنون عن استعدادهم لتمضية وقت خلوهم في خدمة من يطلبهم، وكثيرًا ما تراهم في مخازن التجارة، أو دور الصناعة، من أصيل يومهم إلى نحو نصف الليل، وهم يعملون في خدمات أو مهن مختلفة — حتى في نفس الجامعة — وهم بلباس الخدمة! فإذا طَلَعَ كوكب النهار كانوا أول الجالسين في مقاعدهم ضِمْن طلبة الجامعة، ومن أحسن ما نشير إليه في هذا المقام أنهم يكُونون على الدوام ملحوظين باحترام إخوانهم الذين يُكْبِرون فيهم تلك الهمةَ العالية، ويُعْظِمون منهم هذه النفس الأبية، التي يصغر أمامها كل تعبٍ ونصب في سبيل الثقافة والتعليم.
ومما يُذكَرُ مع الإجلال والإكبار، أن المستر ويدنار، ومدام ويدنار، أنشآ في سنة ١٩٠٠م لجامعة هارفارد مكتبةً من أحسن وأكبر مكتبات العالم تذكارًا لولدهما الذي مات في سن العشرين من حادثة غرق الباخرة «تيتانيك»، وأبواب هذه المكتبة مفتوحةٌ لمباحث الطلبة والمدرسين على الدوام.
•••
وحيث إنا ضَرَبْنَا لك هذا المثل بدور التعليم بالولايات المتحدة: فيجدر بنا أن نذكر — على سبيل المثال — همةَ رَجُل من رجال الاتحاد الذين غَمَرُوا بكرمهم وهباتهم معاهد الثقافة والتعليم، وخدموا الإنسانية بما لهم من تلك الأيادي البيضاء التي تُذْكر فتُشْكر.
(٢٧) روكفلر
في سنة ١٨٩٠م تبرع هذا الرجل الكريم بمبلغ ٢٥ مليون ريال لجامعة شيكاجو، وخصص قسمًا من هذا المبلغ لتعليم الفقراء!
وفي سنة ١٩١٠م وضعَ مبلغَ مائة ألف دولار تحت تصرُّف مؤتمر الولايات المتحدة في واشنطون؛ بقصد مساعدة الإنسانية في عمومها، وبلاد الاتحاد في خصوصها!
وفي سنة ١٩٢٠م زاد هذه المنحة إلى ١٧٠ ألف دولار.
وفي سنة ١٩٢١م تبرع بخمسة ملايين دولار لإنهاض التعليم في كندا، وفيها تبرع بخمسة ملايين دولار لإنهاض الطب في لوندرة.
وَلِروكفلر غير هذه التبرعات مدرسة الطب التي أقامها في سنة ١٩٠١م بالولايات المتحدة خاصةً للمباحث الطبية، وأقام بجوارها مستشفًى بما يلزمه من المعامل والآلات من كل نوعٍ مما يحتاجه الطب في كل فروعه، وعلى الأخص في الأمراض الباطنية، والبكتريولوجية، والفسيولوجية، والكيماوية التي لها علاقة بالداء والدواء، ومن أنظمة هذه المدرسة أن طلبتها لا يُسمح لهم بمزاولة مِهَنهم في الخارج، بل يقصرون أنفسهم على البحث الطبي فحسب.
ولم تقتصر هبات هذا الرجل الكريم على ذلك، بل له في كل يومٍ مأثرة جديدة لبلاده، ومنها ذلك البيت الهائل الذي أهداه إلى جامعة كولومبيا في نيويورك — وقد مر بك ذِكْره — وأظن أن مصر لا تنسى ما عَرَضَه عليها من منحة «٢ مليون جنيه» منذ سنتين لإقامة معهد للعاديات المصرية بالقاهرة، فأبت عليه إلا أن ينزل في منحته على شرطها، فلم يُجبها إلى طلبها، وبذلك فَقَدَتْ مصر بمنحة هذا الرجل الكريم أثرًا ربما كان له في البلاد نَفْع لا يستهان به.
وكل يوم لروكفلر خارج بلاده من الهبات الجليلة ما تشكره عليه الإنسانية.
أما كارنيجي، ومورجان، وفورد، فلهم هبات كثيرة ولكنها كلها لتثقيف العمال في دائرة أعمالهم الخاصة، ويوجد غير هؤلاء الكرماء من الأمريكان كثيرون جدًّا أقاموا دُورًا للتعليم، والمستشفيات، وغيرها من الأعمال الجليلة.
وليس هنا محل حَصْرِ ما للأمريكان من أعمال الخير في بلادهم، ولكن غرضنا الإشارة إلى ما قام به بعضهم عسى أن يكون تفكهةً، أو تسليةً، أو «تذكرة لأعياننا» تلفتهم بها أريحتهم إلى وطنهم، لا سيما في زمن يراد به تعميم التعليم بين الأهلِين.
•••
وبمناسبة هذه الهبات الجليلة التي قام ويقوم بها الأمريكان لبلادهم، مما لم نسمع به في جهةٍ أخرى في عالمنا القديم، وخصوصًا في الشرق! نذكر تلك الهبة العظيمة المباركة التي تُقَدَّر «بعشرة ملايين من الجنيهات الإنجليزية» والتي وهبتها صاحبة السمو البيجوم ملكة باهوبال الهندية إلى ترقية الجامعة الإسلامية في سنة ١٩٢٣م جزاها الله خير الجزاء.
(٢٨) التعليم بالولايات المتحدة
والتعليم عندهم إنما ينظرون فيه إلى الغاية المقصودة منه؛ وهذه الغاية تدور حول حياة الأمريكي العملية، التي تفتح أمامه أبواب الكسب بكل سهولة وبكل سرعة، وهو على هذه القاعدة أبعد التعاليم عن النظريات الرياضية، أو التحليلات الكيماوية التي يُفني الإنسان حياته بين أجهزتها للبحث عن جوهرٍ ربما لا يصل إليه في طريق بحثه الطويل، وهم إذا كانوا نجحوا في أعمالهم الصناعية التي تتوقف على الرياضيات — وخصوصًا علم الكيمياء — فإنما كان ذلك باستخدامهم المهندسين والكيماويين من الألمان والسويسريين وغيرهم، وحاجاتهم الكيماوية تَرِدُهم في الغالب من أوروبا وخصوصًا من ألمانيا، واحتفالهم بالنظريات العلمية أقل من احتفالهم بتكوين الشخص من جهةِ أخلاقه وحسن سلوكه؛ بحيث يخرج من مدرسته وهو عضو عامل في جسم البلاد، أما تعليم الآداب والفلسفة والقانون والتاريخ فهي عندهم تكاد تكون في المرتبة الثانية، أو الثالثة، وهي عندهم كماليات للتحلية أو التسلية.
وبالجملة فالتعليم عندهم يدور على أمور ثلاثة: الصناعة، والزراعة، والتجارة. والصناعة والزراعة هما عندهم آلتان موصلتان إلى التجارة التي عليها حياة بلادهم؛ ولذلك ترى اهتمامهم بالصناعة اهتمامًا يفوق الوصف، وهم الآن يهتمون بالزراعة بما لا ينقص عن اهتمامهم بالصناعة.
والتعليم الصناعي من ضرورياته شيءٌ اسمه مصنع، فهم يحتاجون فيه إلى تصميم البناء، ثم إلى رسمه، ثم إلى إقامته، وذلك كله مع ما يلزمه من الاقتصاد في المصاريف.
نهضت بهم هذه الفكرة إلى اختراع الآلات التي تُسَهِّل العمل، وتوفر من الزمن، وأحكموا معها فروع الأعمال بحيث أصبحت عندهم شركات خاصة بهندسة البناء، وشركات لإقامته على الرسم المطلوب، وشركات لنقل المواد الأولية إلى مكان العمل، وشركات لتشغيل الآلات الميكانيكية، وشركات للمسائل الصحية، وترى الكل يعمل في آنٍ واحد؛ بحيث يتم العمل في أقرب وقت وعلى أحسن نظام!
وعليه فاللازم لذلك هي العلوم الهندسية العملية من ميكانيكية وصحية وغيرها، ومما يدور حول ذلك من علوم طبيعية، واقتصادية، وما إلى ذلك من علومِ استخراج المعادن وتنقيتها من الغريب، وعلوم النقل، كذلك السكك الحديدية، فهذه العلوم كلها تُعلَّم عندهم بتوسُّع ولكن بصفة تكاد أن تكون عملية صرفة، ليس للنظريات فيها مجال واسع، وترى لكل علمٍ من هذه معامل خاصة به، غنية بالآلات التي لا تجدها في معامل أخرى بالممالك الأوروبية، فيخرج الطالب من المدرسة وقد أمضى زمنًا في مزاولة العلم من طريق العمل، عارفًا بها من هذه الجهة، ثم إذا هو تخصص بعد ذلك في شيءٍ منها أتقنه عمليًّا، حتى إذا تجاوَزَ دائرة التعليم إلى دائرة العمل لم يَقِفْ في طريقه شيءٌ من العوائق، ودُور التعليم العملي كثيرةٌ جدًّا، فمنها ما هو للميكانيكي، والكهربائي، والصحي، والمعادن، ورسم التصميمات الآلية، والبنائية، وحتى الأشياء التي نراها نحن تافهةً، لها عندهم مدارس خاصة؛ كعمل الساعات، وعمل الجبن واللبن والزبدة، وسواقة الأوتوموبيل، والمطابع، والبناء، والبياض والنقش، وعندهم مدارس للعرفاء (رؤساء العمل)، وليس من قيد في سن الطلبة (كما هو عندنا)، خصوصًا في مدارس الأرياف، بل ربما وصل سن الطالب إلى أربعين سنة!
والأمريكان يفتخرون بأنه إذا كانت القرون الوسطى أنتجت كثيرًا من الكنائس الفاخرة، فإنهم في هذا الزمن أَوْجَدُوا كثيرًا من دور التعليم.
وعلى كل حالٍ فالصناعة هنا — وإن كانت عملية في عمومها — فإنها مبنية على العلم؛ لذلك تراها راقية من يومٍ إلى آخر برقي العلم، وإنك لو رأيت مصنعًا، أو معملًا هنا من عشرين سنة، وَزُرتَهُ اليوم، لرأيته غيره في الزمن السابق، لِمَا دخل عليه من الإصلاح والتعديل، لا كحالته عندنا موروث عن الجدود الغابرين، لا في ذات المصنع وحسب، بل وفي الصناعة نفسها! انظر مثلًا إلى هذا المحراث الذي في يد فلاحنا، تراه هو بعينه ذلك الذي بين جدران المتحف المصري، رغمًا عما عندنا من وزارة الزراعة التي لم تُعْنَ بدراسةِ وإصلاح حالته بحيث يكون أصلح مما هو عليه الآن، وَلِمَ لا تهتم الوزارة بدراسة حالة المحراث الإفرنكي الذي نراه غير وافٍ بالغرض في بلادنا لأنه لم يصنع بنسبة تتمشى مع صلابة أراضينا، وتطلب من مصانع الآلات الزراعية تكييفه بما يصلح به حاله عندنا.
ومن أهم ضروب التعليم عندهم التعليم الرياضي الجسماني، فإن لهم به عناية خاصة، حتى بلغ من أمْر الألعاب الرياضية بنيويورك أنهم طلبوا لإدارتها محافظ نيويورك، وما أدراك ما محافظ نيويورك؟ بمرتب مائة ألف دولار في السنة! أما التعليم الزراعي فمداره على المحاضرات العلمية، والتحاليل الكيماوية، والدروس العملية.
أما التعليم التجاري فقوامه على الاقتصاد المالي والتجاري، بما في ذلك معرفة حركة الأسواق في العالم، ومداره على المرونة التجارية، ودوام الحركة، وكثرة الإعلان المُرَوِّج للصنف لما فيه من المزايا الكبرى، والأمريكان مشهورون بمبالغتهم في الإعلان عن بضائعهم، حتى لقد تَبْلُغ مصاريف الإعلانات التجارية في الولايات المتحدة — سواء كانت في الجرائد أو متفرقة في نشرات خاصة بها، أو بما تراه من الأنوار التي تجذب الأنظار إليها — أكثر من ثمانمائة مليون دولار في السنة!
وعليه فالتجارة هي النتيجة الوحيدة لهذه الحركة الهائلة الصناعية والزراعية مما تجده في هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها، تلك هي النعمة التي تحف بها كل أنواع السعادات، تلك هي النعمة التي يدرسون أساليبها والأسباب التي يصلون بها إلى الغاية منها، تلك هي النعمة التي إنما هي حياة البلاد المتمدينة، والتي إنما هي الأساس الذي ترتكز عليه الآن جميع المسائل الاقتصادية في الأمم، المقياس الذي يقيسون به مبلغ الثروة والسلام في العالم كله. وهل كانت الحرب الكبرى في حقيقتها إلا إحدى النتائج الاقتصادية في الدول الكبرى؟ وهل حروب الصين الآن إلا إحدى هذه النتائج؟! ذلك أن الأمم الكبرى إنما تعمل لحياتها من طريق التجارة. وهل كان الاستعمار إلا إحدى آلاتها المروجة لها؟ إذن فالتجارة هي محل اهتمام الدول الكبرى خاصة، والعالم كله بصفة عامة.
أما نحن — والحمد لله — فنحن بعيدون عن ذلك؛ لأنا رُبِّينا على احتقار التجارة وعدم العناية بها، وكان همنا وهَمُّ آبائنا هو شرف الخدمة في مصالح الحكومة. وهل تنسى أبدًا ذلك الأثر الخالد الذي ورثناه عن الآباء والأجداد: «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه!» ورؤساء الحكومة أنفسهم لم يأبهوا بهذه الناحية من حياة الأمة! انظر إلى بعثات محمد علي محيي مصر، هذه البعثات التي قامت عليها حيوية البلاد في مرافقها الهندسية، والزراعية، والصحية، والحربية، والبحرية، وما يتبع ذلك من الصناعات المختلفة، كعمل الأسلحة، ومد المراكب، وصناعة البناء، والنسيج. فهل كان منها شيءٌ يختص بالتجارة.
والجواب بسيط جدًّا: هو لا، ثم لا! والسبب في ذلك أن موارد البلاد الزراعية كلها كانت تُحفظ في أشوان للحكومة، وهي تصرفها إلى تجار يأتون لمشتراها من الخارج، ليست لهم علاقة البتة بأحد من الأهالي، وعليه فاشتغال الحكومة في ذلك الوقت بالتجارة أماتها في وسطها القومي! فلما أتى عباس الأول محاميًا أقامه محمد علي من دور الصناعات، فأصبحت البلاد ميتة في صناعتها وتجارتها! وجاء سعيد فلم يهتم إلا بجنديته التي كان يقطع معها طول البلاد من شمالها إلى جنوبها! حتى إذا جاء إسماعيل وأخذ في إصلاح البلاد في كل مرافقها، كانت التجارة بين أيدي الأجانب، وعلى الخصوص الأروام ومَن سار على نهجهم من السوريين، وبذلك صار المصري أبعد الناس عن شيءٍ اسمه تجارة، بل كان يحتقرها لجهله بما فيها من مزاياها الحيوية.
وكان لفظ تاجر إذا أُطْلِق فإنه لا ينصرف إلا على هؤلاء الذين كانوا يعملون في دكاكينهم الحقيرة فيما بين جامع المؤيد وباب الفتوح وما إليه من الجمالية! وهو المركز التجاري للبلاد من يوم بَنى جوهرٌ القاهرةَ في منتصف القرن الرابع الهجري، وتجارتهم كانت محصورة في الخامات وما يتصل بها من مصنوعات الآستانة، ومن تجارة الهند والشام، كالبُنِّ والعقاقير، والأدهان والفواكه الجافة، ولا تزال هذه الأصناف في أماكنها بين أيدي المصريين، أما ما عدا ذلك مما يستنزف مالية البلاد فهو في يد الأجانب وفي حُكْمهم، وإذا وُجد منهم غير ذلك قليل، على أنهم لم ينجوا من كارثة الأزمات الأخيرة التي كانت من نتائج الحرب العالمية، مما قعد بغير واحدٍ من هذه البيوتات الكبيرة التي لا يمكن أن تسعد البلاد بمثلها في زمن قريب!
ومصانع الولايات المتحدة توجد في ولايات الشمال — في الغالب — لكثرة ما في أرضها من المعادن الأولية، وبناء المعامل يتم بسرعة هائلة؛ لأنه يُعطى مرة واحدة إلى الفَنِّيِّين العاملين فيه؛ فمن عامل في البناء، ومن عامل في الآلات، ومن عامل في الأبواب والشبابيك، بحيث يتم العمل في وقت واحد، وبسرعة هائلة، والبناء كله عادة هنا من البناء المسلح، وهم يراعون قبل كل شيء أن يكون البناء قريبًا من الطرق الحديدية أو النهرية؛ حتى يسهل نقل ما يلزم من المواد التي تقوم بكيانه، وكل هذا إنما يقوم بالآلات الميكانيكية المختلفة؛ فمن رافعة، ومن واضعة، ومن مثبتة، بحيث لا ترى من الأيدي العاملة غير القليل الذي لا يتناسب في نظرك مع عظمة البناء؛ لذلك ترى الصانع البسيط يتقن حركة الآلة الميكانيكية التي يشتغل عليها ولا يتطلب منه العمل بها إلا ملاحظة دقيقة في تحريكها، وعلى هذا ترى الأيدي تعمل بسرعة تتكافأ مع سرعة الحركة الميكانيكية، حتى لكأنك ترى العمال أنفسهم مندمجين في نفس آلات الحركة الميكانيكية العامة.
وجميع الآلات تعمل بسرعة هائلة، حتى ولو جر ذلك إلى كسرها ليغيروها بسواها أحسن وأمتن.
والبنوك تساعِد على رواج الأعمال الصناعية مساعدة كبيرة، بحيث لها الفضل في نمو الصناعات بالولايات المتحدة، كما لها الفضل في تنمية جميع المشاريع الاقتصادية والمالية؛ ذلك لأنها تقدِّم الأموال إلى أصحاب المصانع لإقامتها ما دامت على ثقة من نجاح مشروعاتهم، وحتى شركات السكك الحديدية تعرض على أصحاب المصانع أن تمد سككها إلى مصانعهم مجانًا في نظير تمتعها بنقل مصنوعاتهم فيما بعد إلى الجهات المصدرة إليها.
وحول المصنع ترى منازل العمال على أحسن نظام وعلى ترتيب صحي، وترى بها ما يلزم لهم من الأندية التي يجتمعون إليها في أوقات فراغهم، ومن المستشفيات، والمصحات، والملاعب، والمنتزهات، والدكاكين، التي بها جميع لوازمهم الحيوية، والحمامات، والمطاعم، والمدارس، والكنائس، وكل هذا بتصميم جميل يعمل مع تصميم المعمل، بهذا وذاك كثرت المصانع وتوفرت الصناعات في أمريكا لمتانة الثقة في نجاحها!
أما عندنا، فالمشاريع التي من هذا القبيل — وإن شئت فقل جميع المشاريع المالية — لا ثقة لأحد بها، حتى ولو أخذتْ نصيبها من العمل! ذلك لأن فلسفة غالب الناس لا تُخَيِّل إليهم غير الفشل! نعم قد يكون الفشل نصيب بعض الأعمال التي ذهبت في نشاطها إلى ما وراء طبيعة العمل بحيث لم يكن للروية ولا للتؤدة ولا للإخلاص فيها أي نصيب، أما إذا كانت مشاريعنا الصناعية والتجارية مبنية على العقل والحكمة ونزاهة العاملين فيها، فليس أمامها غير النجاح، وليس من برهان أمامنا غير بنك مصر وشركاته الصناعية والتجارية.
لقد فرغ الناس في أمريكا من التكالب على استخراج الذهب من أرض كاليفورنيا وكولورادو؛ لاشتغالهم باستخراج المعادن التي تقوم بها الصناعات المختلفة التي فتحت لهم أبواب الثروة على مصاريعها، وها هي مصنوعاتهم تنهال على أسواق العالم كله من جديد وقديم، فمن أدوات زراعية، إلى أوتوموبيلات، إلى آلات ميكانيكية … وغيرها وغيرها، وقد تسمع بعض الناس يقول: إن الصناعات الألمانية أتقن وأحسن مما يماثلها من الصنائع الأمريكية، فإذا سلَّمْنا له بذلك قلنا: إن كثرة ما يُعْمَل من الصناعات في أمريكا يملأ الأسواق — وخصوصًا في الشرق الأدنى — وهلا ترى سياسة الولايات المتحدة في الصين مبنية على مظاهر الرحمة والإشفاق حتى تستميلها إليها وتفتح أبوابها لتجاراتها وصناعاتها! كما قفلته في وجه الصناعات والتجارات الإنجليزية! وبالجملة فقد كانت الصناعة الأمريكية قبل الحرب في الدرجة الرابعة؛ أعني بعد إنجلترا وألمانيا، أما الآن فهي في مقدمة الجميع!
ولقد نَهَضَتْ مصر في هذه الآونة الأخيرة في بعض الأعمال الصناعية، وقد قام بنك مصر أخيرًا بعملٍ جليلٍ هو مشروع «مصنع الغزل والنسيج». فهل لحكومتنا أن تساعده تلك المساعدة التي تضمن نجاحه الذي يكون نواةً لمجدها الصناعي، بل والزراعي؛ لأنه يخفف ضغْط الأسواق الأجنبية على القطن الذي هو ثروة البلاد؟ ذلك ما نرجوه منها إن شاء الله.
وفي الولايات المتحدة شركات للسوكرتاه على المباني ضد الحريق، وخصوصًا على المصانع، ومن أكبر هذه الشركات شركة اسمها «آركرابت»، والغرض من شركات السوكرتاه هنا ليس فقط ضمانة قيمة الأشياء المحروقة، بل الغرض منها عمل كل ما يلزم لِمَنْع الحريق، أو للوقوف في طريقه بمجرد شبوب النيران، وذلك في نظير أجر بسيط يتراوح بين أربعة إلى أربعين من الريال في كل مائة ريال سنويًّا، والشركة المذكورة معمل كبير فيه مكتب بولاية بروفنس به عدد عظيم من المهندسين والكيماويين والطبيعيين الذين يعملون ليل نهار في دراسة كلِّ ما من شأنه محاربة النيران! وقد وضعوا رسومًا مخصوصة للمصانع بحيث يمكن معها وضْع تلك الأجهزة التي تتخلل جوها لِتَقِيَهَا من النيران بمجرد شبوبها بطبقة أوتوماتيكية (عملية)؛ ذلك أنهم يضعون في أعلى المصنع صهريجًا كبيرًا مملوءًا بالماء على الدوام، وتنزل منه مواسير إلى كل جهة من سماء المصنع، وهي تتصل من جهةٍ أخرى بجهاز كهربائي يُسَمُّونه «أسبر نكار»، وهو عبارة عن زجاجة عظيمة مملوءة بمادة كيماوية إذا أحسَّتْ بحرارة نار بسيطة انفجرت، هنالك تنفتح أفواه ميازيب الماء من كل جهة فينزل على شِبْه مطر شديد يطرد الهواء من جو المصنع، فتخمد النيران في الحال، وفي الوقت نفسه تنفتح أبواب كثيرة من جدر المصنع بحال أوتوماتيكية فيخرج العمال، كُلٌّ من الباب الخاص به من غير هرج ولا مرج، حتى إذا أُطفئت النيران وقف نزول المطر، وابتلعت الأرض ماءها، ورجعت الأبواب إلى أماكنها، وعادت العمال إلى عملها، وكأنه لم يكن شيءٌ غير عادي ذهلت له النفوس، وارتاعت من هوله القلوب!
وقد تتغلب النيران لوقوف شيء من هذه الأجهزة عن عمله لأي سبب من الأسباب غير المنتظرة، وما هي إلا أسابيع بعدد أصابع اليد حتى يرجع المصنع إلى أحسن مما كان عليه، بواسطة أحد المقاولين الذي يتعهد بإقامته على نظام جديد في مدة لا تزيد عن شهر ونصف أو شهرين على الأكثر! يستأنف بعدها المصنعُ عَمَلَه، حتى لكأنه كان في إجازة يرتاح فيها بضعة أيام من عمله!
(٢٩) النقابات في الولايات المتحدة
الشركات التجارية التي من نوع واحد، تجمعها نقابة عامة لتنظيم مسألة البيع والشراء من غير أن يكون هناك احتكار يؤدي إلى التنافس الذي لا تُحمد نتائجه.
ولهذه النقابات قوانين تمنع الشركات من التصرف في تحديد الأسعار بما يكون من ورائه الإضرار بالأفراد، اللهم إلا في البضائع المصدَّرة إلى الخارج.
أما النقابات الزراعية، فلكلِّ طائفةٍ من المزارعين نقابةٌ تشتري لهم كل ما يلزمهم من الآلات والسماد والبذور، وهذه النقابات تبيع لهم محاصيلهم مع عدم الدخول في منافسات مع نقاباتٍ أخرى قد تكون سببًا في نزول الأسعار، وهناك نقابة للغلال في شيكاجو تكاد يكون لها فرعٌ في كل مدينة من مدن الولايات المتحدة، ومن شأنها إبداء النصائح للمزارعين بما يزيد في غلاتهم ويحفظها من عبث الرطوبة وغيرها من الحشرات الفتاكة وما في معنى ذلك، حتى إذا تسلَّمَتْها النقابة من الزُّراع عَمِلَتْ كل مجهودها في الوقوف على السعر الحالي في جميع بلاد العالم بالتلغراف، وتصرف ما عندها من البضائع بحالٍ تضمن مصلحة المشتركين فيها، ولكل صنف من الأصناف الزراعية نقابة خاصة به لبيعه لحساب أربابه، ويوجد بالولايات المتحدة أكثر من ١٢ ألف نقابة زراعية!
أما ما يتعلق بالفلاح من الوجهة المالية، فوزارة الزراعة قد قامت بإيجاد بنوك كثيرة في جميع المناطق الزراعية لتسليف الفلاحين ما يلزمهم بما لا يزيد عن ٥ في المائة، حتى تمنعهم من بيع محاصيلهم في أوقات لا يكون فيها السعر في مصلحتهم.
ولو كانت حكومتنا حين قررَتْ وقْتَ الأزمة القطنية في الربيع الماضي مبلغ الأربعة ملايين من الجنيهات لتسليفها للفلاح حتى يحتفظ بقطنه ولا يبيعه بذلك الثمن البخس، فتحت به لصغار الفلاحين بنكًا زراعيًّا له فرع بسيط في كل مديرية يكون مدار التسليف فيه بمقتضى استمارة من صراف القرية، بحيث لا تزيد فائدة سلفياته عن خمسة في المائة في السنة، لكان هذا البنك من أكبر النعم على الفلاحين، وكان بطبيعته في زمن قريب نواةً لبنك أكبر يغذي النقابات الزراعية التي نجد بلادنا في حاجة كبيرة إليها، وهي مما تهمله حكومتنا إهمالًا جديًّا.
ومن أهم ما قامت به وزارة الزراعة في الولايات المتحدة، شيء اسمه الاقتصاد المنزلي للفلاحين، وهو ما يَضْمن راحتهم ورفاهتهم ويحفظهم من عبث صغار التجار، ويدخل في هذا القسم تدبير كل ما يلزم للفلاح: من رسم لداره، وأثاث لمنزله، وآلات لزراعته، وملابس له ولعائلته.
وهذه الوزارة تهتم بصفة عامة بحالة الفلاح حتى في حياته المنزلية؛ فهي تذيع فيهم نشرات سهلة بِلُغَةٍ يفهمونها تشرح لهم فيها كل جديد نافع من الأساليب، وترشد أمهات العائلات إلى تدبيرها المنزلي، ثم إلى التربية العائلية الريفية وما يزيد في رابطتها وسعادتها، وما يَتْبع ذلك من ثقافة الأطفال بما يتناسب مع الوسط الذي يعيشون ويعملون فيه، وذلك بواسطة المحاضرات الشيقة التي تُرَبِّي فيهم روح الفضائل، مع الابتعاد عن الرذائل، وكثيرًا ما يكون ذلك كله بواسطة الصور المتحركة التي تشرح لهم مختلف العمليات الزراعية وما إليها من انتقاء البذور، ومعالجة أمراض النباتات والعناية بالأسبخة، وتربية الماشية والنحل والطيور الداجنة، مع ما وصل إليه الاختراع من الآلات الزراعية الجديدة، وعند الوزارة من هذه الأشرطة المختلفة أكثر من ألفي شريط قد تصل لغتها الصامتة إلى غور بعيد من قلوب النظارة بما لم تصل إليه بلاغة الخطباء والمحاضرين.
ومن أعمال الوزارة المهمة إذاعتها كل يوم بالراديو أثمان المحاصيل، والمخزون منها، وحالة الجو في جميع جهات العالم؛ لذلك تجد سواد الفلاحين عند كل منهم آلة راديو في بيته؛ ليكون على الدوام على علم من أخبار العالم الزراعية، وغير الزراعية، مع ما يزيد في سروره وغبطة عائلته بما يسمعونه من نغمات الموسيقى والأغنية، والمحاضرات، والخطب، سواء في أمريكا أو في غيرها، وتنشر الوزارة في أول كل سنة ما يهم الزراع من أنواع الزراعة الجديدة ليعمل كلٌّ حسابه، كما أن شركات التعاون تعمل حسابها هي الأخرى من جهة تصريف المحاصيل التي تدخل إلى عهدتها، وتنصح هذه الشركات أيضًا زبائنها — في حينه — بحاجة السوق إلى الإقلال أو الإكثار من كل صنف من الأصناف.
لا كما هو الحال عندنا من تردد الوزارة كل سنة في أمْر واحد هو إطلاق زراعة القطن أو تحديدها بالثلث! ولا تزال في ترددها هذا، والزراع أيضًا في اضطرابهم؛ لعدم معرفتهم بالترتيب الذي يجب أن يكون عليه زراعتهم الشتوية والصيفية، وقد يصدر أمر الوزارة بضرورة زراعة الثلث، بعد أن يكون المزارع رَتَّبَ زراعته الشتوية على فكرة الإطلاق، وهنالك يضطر إلى تبوير الأرض التي زادت من ترتيب القطن عن الثلث، وهناك تكون الطامة الكبرى، خصوصًا إذا أضفت ذلك إلى رخص الأسعار، وفداحة أجر العمال في هذه السنين.
والوزارة بالولايات المتحدة تسهر على تنفيذ جميع القوانين التي يسنها البرلمان لحماية الزراع.
وفي واشنطون أكثر من مائة وخمسين ممثلًا لنقابات وشركات مختلفة، ولهم اجتماعات يقررون فيها سياستهم الزراعية، أو الصناعية، لها أثرها في البرلمان وفي الجرائد والبنوك، بل لها أثرها على نفس الحكومة في كلِّ ما كان له علاقة بهؤلاء الذين يمثلونهم.
أما العمال فحسبهم قانون تلر حافظًا لحقوقهم، ولهم أيضًا نقابات تعمل لمصلحتهم وخصوصًا فيما يختص بلوازمهم المنزلية، وأما التجار فلهم غرفهم التي لا حصر لها، ولهذه الغرف أعضاء في كل جهات المسكونة، ولهذه الغرف إرشاداتها المستمرة للشركات التي لها ارتباط بها يساعدها على تعرُّف حالة الأسواق في أنحاء العالم، وهذا وحده السر في نهوضها بسرعةٍ تكاد تتجاوز حد المعقول، وقد تسقط في أمريكا شركات، وتقوم على أنقاضها شركات أخرى بسبب المخاطرة التي تدخل في حدود المقامرة، ولكن هذا أصبح شيئًا عاديًّا في أمريكا بحيث لا تنزعج منه أعصاب الأسواق، ولا يكاد يلتفت إليها نظر الأفراد.
وليست كارثة وول ستريت في هذه السنة، والتي نشأ عنها خراب مئات من البيوت المالية الكبرى بأمريكا وغيرها، بل شملت أزمتها المالية العالم من أقصاه إلى أقصاه، إلا حالة فذة لم تَقْوَ على وَقْف تيارها عقليةُ البلاد الاقتصادية، خسرت فيها أمريكا وحدها أكثر من عشرين ألف مليون من الجنيهات! ولولا حزم رئيس الاتحاد وتدخُّله في الأمر بنصائحه وبنفوذه لكانت الخسائر أضعاف ذلك.
(٣٠) التربة الزراعية
يظهر أن أقدم الدول اشتغالًا بالتربة الزراعية هي إنجلترا؛ لأن بها أقدم مصلحة تشتغل بالتربة، ورئيسها الآن هو السير جون رسل منذ أكثر من ثلاثين سنة.
أما في الولايات المتحدة فمصلحة التربة تعمل من خمس وعشرين سنة متتبعة روح الجملة التاريخية التي أرسل بها الرئيس الأول جورج واشنطون إلى المؤتمر الأول الذي أقيم سنة ١٧٩٦م وهي: «بقدر الزيادة التي تحصل في الأمم بقدر ما تكون العناية بالتربة الزراعية في الأمة جميعها.»
وقد ساعد على تقرير هذه الفكرة تشكيل وزارة زراعية في إنجلترا سنة ١٧٩٣م، ولم يكن واشنطون يهتم برفعة بلاده سياسيًّا واقتصاديًّا وحربيًّا، بل كان اهتمامه موجهًا مع ذلك إلى ترقية الأراضي الضعيفة لتساعد بخصوبتها يومًا من الأيام على سعادة الفلاح، إلا أن القوم لم يبدءوا بعمل تجاريب علمية زراعية إلا في سنة ١٨٣٩م.
وفي سنة ١٨٤٩م تكوَّنَت مصلحة الزراعة بالولايات. وفي سنة ١٨٥٢م تشكَّلَت الجمعية الزراعية بها، وغرضها الوحيد ترقية المسائل الزراعية بأراضي الجمهورية المتحدة.
وكانت هذه الجمعية نواةً لتكوين وزارة للزراعة، صدر أمْر الرئيس لنكولن بإنشائها سنة ١٨٦٠م، وفي هذه السنة أنشئت أول مدرسة زراعية. وفي سنة ١٨٩١م أَنْشَئوا قسمًا للتغييرات الزمنية وألحقوه بوزارة الزراعة، ثم أَنْشَئوا بها إدارة للتربية، وهذه الإدارة صارت مستقلة بنفسها في سنة ١٩٠١م.
ومن هذا الوقت أخذوا يبحثون عن التربة الصالحة لزراعة الدخان، والصالحة للقطن، وللذرة، وللقمح، ولغير ذلك، وكانت النتيجة تقدم الشئون الزراعية في عمومها، وذلك بتقسيمها الأراضي الزراعية إلى جملة مناطق في دائرة تبلغ مساحتها ١٢٨٠٠٠٠ ميل مربع، وهو يساوي ٤٣ من ١٠٠ من أراضي الولايات المتحدة.
ومن جهة أخرى فإن مصلحة التربة حلَّلَت الأراضي الملحية وعَرَفَتْ كيف تستفيد منها، وبالجملة فقد توصَّلَتْ إلى تحليل الأراضي وترتيبها بحسب درجة طبقاتها المتداخلة بعضها في بعض «سداة الأرض ولحمتها»، وتوصَّلَتْ من ذلك إلى تعيين كل نوع من أنواع الأرض وصلاحيته لإنتاج أي نوع من الزراعات المختلفة، وقد توصَّلَتْ إلى استخراج البوتاسا من الهباب الذي يتطاير من مداخن المصانع بحيث تحصلت منه على مائة ألف طن استفادت منه في زراعتها، وقد توصلت إلى عمل حمض الفوسفوريك من الحجر والصخور، واستعملَتْه ضمن الأسبخة الزراعية، وهي الآن تدرس طبيعة التربة وترسم لها خريطات مختلفة، وتدرس المسائل الأزوتية بصفة عامة، والتجارب التي تهتم بها الآن هي البحث عن الأزوت الموجود في الجو على هيئة نوشادر لاستعماله في تسبيخ أراضيها.
•••
وهنا نقول: إن الزيادة في القطر المصري في كل عَشْر سنوات تبلغ ثلاثة وثلاثين في المائة من عدد السكان، وإذا كانت محاصيل البلاد الآن غير كافية لتموين أهالي القطر، مع أنه قطر زراعي، فكيف تكون حالته بعد خمسين سنة؟ نحن يأتينا سنويًّا مقدار جسيم من القمح والدقيق والذرة من روسيا ورومانيا والشيلي والأرجنتين وأستراليا. فهل لو قُفِلَ في وجهنا باب تصدير ما فَضَلَ من حاجة هذه البلاد يُمْكِنُنا أن نعيش في قُطْرنا الزراعي؟! عندنا ملايين من الأفدنة التي لا تُزْرَع الآن في مديريات الوجه البحري، وعلى الخصوص في مديرية الشرقية والغربية والبحيرة، مع أنها كانت هي التي تُمَوِّن مصر في زمنها القديم، فقد كان المصريون قبل المسيح بعشرين قرن يزرعون وادي غسان، فما باله الآن في أغلب جهاته صحراء جرداء؟ وكان العرب بعد الفتح يزرعون المنطقة التي من مدينة القرنة «أطلالها قرب القنطرة شرقي القنال» إلى دمياط، وكانت هذه المنطقة عامرة بالقرى والمدن الصناعية، وكانوا يسمونها بستان مصر؛ لكثرة خيراتها، وغزارة فواكهها، فما بالها الآن كرأس الأصلع في نباتها وسكانها؟! وكان الرومان يزرعون المنطقة التي في جهة مريوط، وكان فيها من الكروم ما كانوا يدفعون خراج مصر من نبيذها إلى رومه، فما بالها اتصلت بالصحراء الغربية لا ترى فيها غير بحر ياما «بحر بلا ماء وهو من فروع النيل القديمة الذي كان يصبُّ جهة الإسكندرية في البحر الأبيض المتوسط»؟ نحن ولا شك نسير القهقرى في محاصيلنا لجملة أسباب؛ أولها ضَعْف التربة لتوالي زراعة القطن فيها، ثم إصابتها جميعها بهذه الأمراض المختلفة التي أخذت تفتك بها من ربع قرن تقريبًا! وليس من اهتمام جدي من وزارة الزراعة.
ابتدأنا في أعمالنا الزراعية بالجمعية الزراعية، فكان لها نِعْم الأثر مدة ربع قرن وخصوصًا في زمن المرحوم المبرور الأمير «السلطان» حسين، ثم أتت مصلحة الزراعة، ثم وزارة الزراعة، فما الذي اكتسبناه من المعلومات الزراعية في مدتهما؟ هل أمكننا أن نجد دواء لشيءٍ من أمراض النباتات وأشجار الفاكهة؟ ما الذي عمله القسم الذي يسمونه بكتريولوجي؟ إنه يُسَمِّي لنا أمراضًا، ويرسم لنا أشكال ميكروبات، ولكن من غير أن يصف لنا الدواء! وما الفائدة من ذلك؟ إن المسائل الكيمياوية ليست عندنا إلا قشور لا تسمن ولا تغني من جوع! نرسل الطلبة للتخصيص في العلوم العالية إلى أوروبا فيمضون بها سنة أو سنتين، وبعد عودتهم نرى فيهم الكفاية. فهل هذا صحيح؟ أنا أفتكر أن التخصيص إنما هو لمن نضج من الأشخاص الذين زاولوا مهنتهم في البلاد زمنًا ما، حتى إذا ذهبوا إلى أوروبا أو إلى أمريكا شعروا قبل كل شيءٍ بالمسئولية التي عليهم فيشمرون عن ساعد الجد، ويعملون لبلادهم ولأنفسهم.
لقد كان محمد علي حين عزم على إرسال إرساليات علمية، إنما أرسل مَنْ نضج في عمله وثبت في أخلاقه، وهؤلاء هم الذين خدموا البلاد بعد عودتهم بعلمهم وبمؤلفاتهم، ونقلوها من حالة ظلامٍ حالك إلى النور الذي أرشَدَنَا إلى طريق حضارتنا ومدنيتنا الحاليتين، وحيث إنَّا نتكلم في المسألة الزراعية والكيماوية، فعندنا كتاب الزراعة لندا، ومادة الرشيدي في الكيمياء، مَنْهَلَيْن عذبَيْن نستمد منهما إلى الآن كلَّ ما نحن في حاجة إليه من هذين العِلْمين الجليلين، أليس كذلك؟
(٣١) مؤتمر التربة الزراعية
تُنْسَب فكرة إقامة مؤتمر للتربة الزراعية إلى عالِم روسي هو الدكتور جلنكا، وقد كان لاجتماعه بعلماء التربة في أوروبا قبل الحرب، أن تقرر اجتماع أول مؤتمر لها في بطرسبورج سنة ١٩١٣م، ولكن استعداد الدول للحرب العالمية وَقَفَ في وجه هذا المؤتمر. وفي سنة ١٩٢٤م اجتمع الدكتور جلنكا مع بعض علماء التربة في المعهد الزراعي الدولي بإيطاليا وجدد الكلام معهم في أمر المؤتمر، فقرروا اجتماع المؤتمر في سنة ١٩٢٧م بمدينة واشنطون، وانْتُخِبَ الدكتور ليبمان مديرُ جامعة نيوبرونسويك، ورئيس محطة التجارب بها رئيسًا له، وقد قَرَّرَ مجلس النواب الأمريكي دعوة دول العالم إليه، فلبَّى الدعوة جميع الدول ما عدا تركيا والصين.
وحضر إليه بصفة رسمية في أوائل يونيو الماضي ٧٦ مندوبًا عن هذه الدول، كما حضر لهذا الخصوص على مصاريفهم مئات من علماء أوروبا وغيرها.
(٣٢) افتتاح المؤتمر الدولي الأول لعلم التربة
في صباح يوم ١٣ من شهر يونيو سنة ١٩٢٧م ذَهَبْنا إلى مَقَرِّ الغرفة التجارية بواشنطون، ولا أدري كيف نُسَمِّيها غرفة وهي بناء ضخم، فيه عشرات من الغرف الواسعة الجامعة بين فاخر الأثاث، وكثرة العاملين؟ فقيدنا اسمنا وبلادنا ومحل إقامتنا هنا، ودفعنا لذلك رسمًا قَدْره ريالان لمن يريد قيد اسمه، وحسب، وخمسة ريالات لمن يريد أن ترسل إليه الغرفة بجميع مذكراتها وقراراتها من أعمال المؤتمر إلى محل إقامته، وقد أعطونا كراسة صغيرة فيها جملة شيكات، منها ما هو للعشاء، ومنها ما هو للشاي، ومنها ما هو للفسحة، وهذا كله بثمن أسمى أخذوه منا.
ومع هذه الكراسة دعوة رسمية من وزير الزراعة يدعونا فيها إلى العشاء في يوم ١٥ من شهر يونيو، كما سلموا لكل عضو ميدالية المؤتمر.
وفي الساعة الثانية بعد الظهر من هذا اليوم قَصَدْنا الغرفة التجارية، وصَفَفْنا جملة صفوف على شبه نصف دائرة في حوش قصر الغرفة لِأَخْذ صورتنا، وبعد انتظامنا — كلٌّ في مكانه — حضر جناب المستر كولدج رئيس الولايات المتحدة في أبهة وداعته، وعظمة ديموقراطيته، ووقف في منتصف القوس الأول، ومن ورائه ضابطان هما ياورانه، وبجواره الدكتور ليبمان رئيس المؤتمر.
وبعد أخذ الصورة سِرْنا إلى قاعة الاجتماعات، وهي قاعة واسعة بها جملة مئاتٍ من الكراسي الثابتة، وبعد أن أخذ كلٌّ مكانه دخل الرئيس كولدج إلى منصة الخطابة، ومن دونه ياوراه وجناب الدكتور ليبمان الذي رأس الجلسة، وقدم الخطيب إلى الحاضرين. وهل تخفى الشمس؟
وهنا أخذ رئيس البلاد يتلو خطابته في عظمة، ودعة، وتؤدة، وبلاغة، وفصاحة، فلا لعثمة، ولا تمتمة، بل كانت خطابته أشبه شيءٍ بمحاضرة لفطاحل هؤلاء الطلبة الذين أتوا من شرق المعمورة وغربها، وكانت طبعًا دائرة حول التربة وتاريخها في الولايات المتحدة، وشكر الأعضاءَ على قبولهم دعوة بلاده إلى هذا المؤتمر، وبعد الخطابة قام الدكتور ليبمان وشَكَرَهُ بكلمات بسيطة، انصرف بعدها الرئيس مع ياورَيْه، فودعه الدكتور ليبمان «وحده» إلى باب غرفة الاجتماع!
عاد الدكتور ليبمان إلى كرسي الرئاسة وقال إنه لا يذكر أسماء الذين حضروا للمؤتمر بصفة رسمية وطلب من كلٍّ كلمة، وهنا أخذ يذكر اسم مندوب كل دولة فيقوم ويقول كلمته، ولما أتى دور مندوبنا قام حضرة المرحوم الأستاذ محمود بك أباظة، وقال كلمات طيبات كانت كلها رجاء وآمال في نفع بلاده من نتائج هذا المؤتمر، وانتهينا من هذه الجلسة في الساعة الرابعة، فدُعينا إلى قاعة الشاي ثم انصرفنا وكلنا في غبطة بما رأينا من عظمةٍ وآدابٍ وكرمٍ، وكانت في دائرة حوش الغرفة صناديق مستطيلة من الزجاج طولها متران في عرض نصف متر فيها أنواع التربة الموجودة في الولايات وهي التي عملوا عليها أبحاثهم، وبجوارها بعض التربة لبلاد أخرى، ثم رسوم لتربات مختلفة من جهات كثيرة.
وفي اليوم التالي ابتدأت جلسات المؤتمر للمباحث العلمية.
ولما كانت هذه المباحث فنية صرفة، وكان جلها بلغات لا أفهمها؛ لأن الروسي يتكلم بلغته، والألماني بلغته، والإسباني بلغته، والإنجليزي بلغته، كان هذا مثبطًا لي في استمراري على حضور أغلب الجلسات، وعلى كل حالٍ فقد قسَّموا الأعضاء إلى ستة أقسام وفقًا للتقسيم العلمي لتربة الأرض، وعلى حسب استعداد كل عضو وتخصصه في العلم الذي يميل إليه، وقد أَخَذْتُ هذا التقسيم من صديقي المرحوم الأستاذ أباظة بك، الذي كان يواظب كلَّ المواظَبة على حضور جلسات المؤتمر جميعها، وهو:
- القسم الأول: الأبحاث المتعلقة بالتحليل الطبيعي والميكانيكي للتربة، والأبحاث التي نوقشت فيه هي؛ أولًا: تحضير النبات للفحص الميكانيكي، ثانيًا: تقسيم التربة للتحليل الميكانيكي، ثالثًا: أَوْفق الآلات للتحليل الميكانيكي، رابعًا: الخواص الطبيعية للتربة.
- القسم الثاني: الأبحاث المتعلقة بكيماوية التربة، والأبحاث التي نوقشت فيه هي؛ أولًا: المواد العضوية والنتروجينية في التربة، ثانيًا: التحويلات الكيماوية في العناصر المتركبة منها التربة.
- القسم الثالث: الأبحاث المتعلقة بعمل البكتريا في التربة، والأبحاث التي نوقشت فيه هي؛ أولًا: بكتريا التأزت، ثانيًا: أعمال الفطر، ثالثًا: تثبيت الأزوت في التربة، رابعًا: المواد العضوية والتربة، خامسًا: المواد المعدنية والتربة.
- القسم الرابع: الأبحاث المتعلقة بتغذية التربة، والأبحاث التي نوقشت فيه هي؛ أولًا: تجارب التغذية في الحقل، ثانيًا: تجارب التغذية في القصارى، ثالثًا: تجارب الإنبات، رابعًا: تأثير مواد التغذية بالنبات، خامسًا: تأثير زراعة التربة على محصول الفدان، وعلى مقدار انتفاع النبات بالماء والهواء.
- القسم الخامس: تقسيم التربة إلى فصائل، والأبحاث التي نوقشت فيه هي؛ أولًا: أَوْفَق الطرق للتقسيم، ثانيًا: الطرق المستعملة في أمريكا وروسيا.
- القسم السادس: تطبيع علم التربة على الزراعة، والأبحاث التي نوقشت فيه هي؛ أولًا: علاقة الري بعلم التربة، ثانيًا: الري في بعض جهات أمريكا، ثالثًا: الصرف في الأراضي المعدنية.
وكانت جلسات هذه اللجان تنعقد قبل الظهر وبعده من يوم ١٤ إلى يوم ٢٢ يونيو، وقد حضرتُ فيها جملة خطب، وإني، وإن كنتُ لم أَفْهَمْ منها شيئًا له قيمة؛ لأنها كانت بلغات أجنبية تُتَرْجَم بعدها إلى اللغة الإنجليزية، وبلغة غير عادية؛ لأنها لغة عامية صرفة، ولكني عرفت على الأقل شيئًا من آداب الخطابة والخطباء «والمخطوبين»؛ فقد كنْتَ لا تسمع غير صوت الخطيب، ولا تنظر غير حركات الآذان والعيون في اتجاهها إلى مصعد كلماته. نعم، إنهم يشربون الدخان في هذه القاعة، وربما كان ذلك من كمال الحرية التي يريد الأمريكي ألا يَحْرِمَ نفسه منها، ما دامت لا تضر بالآخرين — في نظره — وعلى كل حالٍ؛ فقد كنت أرى السحنة الألمانية أكثر الناس اهتمامًا لهذه الخطابات، ويكادون لا تفوتهم منها فائتة؛ ذلك لأنهم من العلم بمكان يريد كل منهم أن يتعرفه، ومن بعدهم الروسيون، وإن كانوا هم الذين يُرْجَع إليهم في كثير من الأمور الخاصة بعلم التربة.
وصلت لنا دعوةٌ رسميةٌ من وزير الزراعة في الساعة التاسعة من مساء الثلاثاء ١٤ يونيو بمكان عصبة الأمم الأمريكية، فقصدنا هذا المكان بملابس السهرة فوجدناه على منتهى ما يكون من الفخامة، وبناؤه جميعه من كتل الرخام الأبيض الكبيرة، ولما صعدنا سُلَّمَهُ وجدنا على باب بهوه الكبير الدكتور ليبمان ووزير الزراعة وزوجته يستقبلون المدعوين، فقدَّمَنا إليهم الدكتور ليبمان، وبعد السلام دخلْنا إلى هذا البهو وفيه من المدعوين أعضاء المؤتمر، وجميع الهيئات السياسية، وغيرهم من الوزراء وأعاظم البلاد، وكانت الموسيقى تشنف الآذان بنغماتها الشجية ثم دار الرقص حينًا ما، وقد قابلْنا هناك حضرة صاحب السعادة الوزير المصري المفوض، وكان في أوائل المدعوين إلى المقصف فدعانا معه، وبعد أخْذ ما تيسر من المرطبات دار معنا يرينا ما في بعض صالات هذا البناء الفخم من صناعات الدول الأمريكية الدقيقة، وطيورها المصبرة، ومعادنها، وبعد برهة تركنا المكان شاكرين لأصحاب الدعوة كرمهم وأدبهم.
ومن فخامة هذا المكان، بل ومن مجرد اسمه تعلم مقدار الرابطة بين دول أمريكا المستقلة عن الولايات المتحدة «ما عدا كندا التي هي ضمن الاتحاد البريطاني» وأنها داخلة ضمنًا في شبه اتحاد يعزز مركزها بما يجعله كعرين الأسد في نَظَرِ عدوهم، ومن جهةٍ أخرى فإنه يسهل بينهم جميع الروابط التجارية والصناعية.
ولو كنا في الشرق من أربعمائة سنة مَضَتْ عَرَفْنا معنًى لهذا الاتحاد أيام كانت الدولة العلية ومصر والعجم في عزتها وقوتها لما كان تيسر للسلطان سليم العثماني «بغشمه» القضاء على قوة العجم، وعلى استقلال مصر، بما أصبح به الشرق كله من هذا التاريخ ضعيفًا تتنازعه أيدي دول الغرب إلى الآن، ولكن مَن لنا بشيءٍ اسمه اتحاد وهو يكاد لا يوجد حتى بين جدران بيت واحد عندنا!
(٣٣) احترام الثروة في الولايات المتحدة
إذا كان للثروة من احترام في أمريكا فللغاية التي تبحث عنها، فالرجل الأمريكي إذا وصل بجده ونشاطه وسهره وهمَّتِه إلى ثروة واسعة، فالناس لا يستشعرون بهذه الثروة إلا إذا كان لهم من عمله نصيب، انظر مثلًا إلى فورد وهو أغنى رجل اليوم في أمريكا، وإن شئت فقل في العالم، وصل هذا الرجل إلى هذه الثروة الضخمة بجده، فكان خزينة مال طويلة عريضة لا ينضب معينها، ولا تفنى كميتها! ولكنه لم يصل إلى مجده من عمله إلا بتلك النتائج الهائلة التي نشأت عنه، فإنه بسهولة اختراعه، وتفاهة ثمن عرباته، قد خَفَّفَ على الناس الانتفاع بها حتى تكاد لا ترى بيتًا واحدًا في الولايات المتحدة ليست فيه عربة من عربات فورد، تنقل أصحابها إلى عملهم صباحًا، وتأتي بهم إلى مقرهم ليلًا! وكم كان لإذاعة اختراعه ونشره في جميع الآفاق من فَضْل على عماله الذين لا يقلون عن مائة وخمسين ألف عامل، بقطع النظر عما يلزمه من الآلات الأولية، من حديد، ونحاس، وزهر، ونيكل، وجلد، وكاوتشوك، وخشب، وبويات، تلك الأدوات التي يشتغل في استخراجها مئات الألوف من العمال، فالرجل إذن رب نعمةِ ما لا يقل عن مليوني نفس! يشتغلون فيما يلزم لأعماله الواسعة، وهذه منفعة لا يمكن لإنسان إنكارها، وخدمة للإنسانية لا يستطيع أحد كفرانها، على أن أعمال الرجل لم تقف عند حد مزية الإنتاج، بل ترى اهتمامه بعماله وصل به إلى أن بنى لهم بجوار فبريقاته قرًى جمعتْ كلَّ مظاهر الحضارة، فإذا وصلت إلى مدينة «ديترويت»، وهي التي فيها مصانع فورد، ترى مدينة العمال وقد بدت لك مساكنها متمتعة بجميع أسباب الراحة والصحة، فمن صالون قد حوى أدوات الزينة والراحة حتى البيانو، إلى قاعة للسفرة، إلى قاعة للرياضة البدنية، وإلى حمام وإلى مطبخ! وهل يريد العامل نعمة أكثر من هذا؟ وهو إذا رجع من عمله تعِبًا يجد ما يَذْهَبُ بهذا التعب من أسباب الراحة المختلفة.
ترى بجوار هذه الخصوصيات كنيسة للصلاة، ومكتبة للمطالعة، وبستانًا كبيرًا لنزهة العمال وذويهم، وأمكنة للمسابقة الرياضية لأولادهم، ومدارس، ومستشفيات، وتياترات، وسينماتوغرافات، لا تسمع فيها ولا ترى إلا كل ما يرقي العامل في أخلاقه وعبقريته! وقد تطهرت من تلك الأقوال التي تنزل بالنفوس إلى الحضيض الأخلاقي، وخلصت من تلك المناظر التي تعلم السذج جميع أساليب الفحش والسرقة والغش والخداع و… و… و… إلخ، مما يجعله من شر خلق الله على الإنسانية، وقد اشتهر فورد بهذه الأعمال التي يرقى بها بحالة عامة مجموعة لا يستهان بها من بني الإنسان، وإن لم يشتهر كغيره بشيء من تلك الهبات الجسيمة التي يخصصونها لعمل من الأعمال العامة التي تعود على الإنسان بالخير والبركة.
أما روكفلر مع أنه لم يُعلم عنه أنه مَدَّ يده بقرش واحد لفقير أو بائس، فقد اشْتُهِرَ بهباته وتبرعاته الهائلة التي يَذْكُرها له التاريخ بعبارات التمجيد والتخليد، وله في كل يومٍ آية ناصعة من البر والإحسان تُذْكَر فتُشْكَر.
انظر إلى ذلك القصر الفخم الذي وهبه أخيرًا ليكون موئلًا للطلبة الأجانب الذين يقصدون نيويورك للتعلم في جامعتها! أقول: القصر الفخم، وهو ذلك البناء العظيم الهائل الذي فيه مئات الغرف التي خُصِّصَتْ لسكنى الطلبة بأجرٍ زهيد جدًّا لا يزيد عن ريال ونصف شهريًّا، وقد جَعَلَ فيه من الحمامات وأمكنة الرياضات ما يَكْفُل لهم راحتهم وصحتهم وكل أسباب سعادتهم، وجَعَلَ لهم فيه مطعمًا يأكلون به أكلتهم بدُرَيْهمات معدودة في هذا البلد الذي ترى الريال فيه بمثابة قرش أو قرشين بمصرنا العزيزة بدون مبالغة! انظر إلى مورجان وإلى المكتبات التي وهبها للمدارس، بل وللعمال هنا وهناك في كل جهة، وفي كل ولاية لتثقيف أذهانهم وليزيد بها في معلوماتهم ومعارفهم.
انظر إلى تلك الهبات التي وهبها أصحاب الأموال للمدارس والجامعات في كل جهة من جهات الاتحاد الأمريكي، بحيث أصبحت لا يعادلها شيءٌ في نوعها في كل بلاد الدنيا! انظر إلى الهبات التي وهبها أرباب الأموال للبحث في المسائل الطبية، وغيرها من المسائل الطبيعية والكيماوية، انظر إلى هاته المَعامل الهائلة التي ضُربتْ قبابها تحت سماء كل ولاية من ولايات الاتحاد للبحث في المسائل الزراعية وغيرها! كل هذا وإن كان على مظهره مسحة من أنانيات أصحابها الذين ربما أرادوا بها أن يظهروا في أفق التاريخ، ولكن البلاد انتفعت بها انتفاعًا — وإن كان جسيمًا — فهو لا يزال في رُقِيِّه واكتماله.
لهذا وذاك كان للثروة في بلاد الاتحاد ما يجب لها من الاحترام، وإذن فالاحترام لم يكن موجَّهًا للثروة في ذاتها كحاله في الشرق، بل للثروة في الفائدة التي تعود منها على المجموع.
لذلك ترى كثيرًا من أصحاب الملايين في أمريكا ممن ليس في أعمالهم ما ساعد على الرقي العام، ليست لهم أدنى ذكرى في بلادهم ويكادون يكونون مقبورين في دائرة أموالهم وأملاكهم، لا يهتم بهم أحد، ولا يشعر بوجودهم إنسان!
(٣٤) الولايات المتحدة من الجهة الاقتصادية
لقد كانت الحرب العالمية سببًا لتغيير التوازن المالي والتجاري للولايات المتحدة؛ فقد كانت صادراتها ووارداتها في ربع القرن الماضي كما ترى:
صادرات بالمليون ريال | واردات بالمليون ريال | لسنة |
---|---|---|
١٤٣٠ | ٩٢٠ | ١٩٠٤م |
٢٢٠٠ | ١٧٠٠ | ١٩١٤م |
٦٣٠٠ | ٣٣٠٠ | ١٩٢٠م |
٤٣٠٠ | ٤٣٠٠ | ١٩٢٥م |
من هذا الجدول ترى أن الصادرات والواردات تضاعفَتْ ثلاث مرات في مدة الحرب، بحيث كانت تشغل أسواق العالم جميعها في حين كانت أوروبا تداوي جراحها من أثر تلك الحرب المشئومة؛ جراحًا في جسمها، في نفسيتها، في صحتها، في مساكنها، في ماليتها، في صناعتها، في مصانعها، جراحًا في علمائها، في فتيانها، في شبيبتها، جراحًا في كل شيءٍ حيوي كانت تتمتع به قبل الحرب، ولسان حالها يقول:
ولقد كانت أوروبا في هذه الحرب في حاجة إلى كل شيءٍ: في حاجة إلى الغذاء، إلى السلاح، إلى القطن، إلى الذخائر، إلى الفحم، إلى البترول، إلى الملابس، وكل هذه كانت تشتريه من وراء الأقيانوس بالعملة الذهبية التي كانت أمريكا تشترطها في مبيعاتها، حتى استنفدت جميع ما في خزائنها من مسكوك ومسبوك! بما أصبحت به خزائن الولايات المتحدة مكتظة بأكثر من نصف ذهب العالم شرقيِّه وغربيِّه! وشماليِّه وجنوبيِّه! وأصبح الحلفاء مدينين لها بنحو ٢٤ مليار دولار! وهو ما لا يمكنهم دفعه عينًا بأي وسيلة من الوسائل، بل يدفعونه بضاعة وما هم بقادرين؛ لأنهم إن أمكنهم أن يدفعوا الفائدة فالأصل باقٍ إلى ما شاء الله «وإذن فهم يشتركون معنا في هذا الحال.»
ومع ما كسبته الأهالي الأمريكان في مدة الحرب، فإنك ترى أن عشرين ولاية من ولايات الشمال والوسط أغلب أراضيها مرهونة! أما ولايات الجنوب فقد تمتَّعَتْ بعلو أثمان القطن؛ ولذلك فأرضها خالية من الرهن غالبًا، ومع ذلك فنسبة زراع الاتحاد بصفة عامة في سلم الثروة بالنسبة لأرباب الصنائع بها، نسبة منحطة جدًّا، ولولا أن الأفراد — بل والجماعات — ترتكز على حُسْن سياسة النقابات والشركات وصدقها في عملها، وعلى يقظة الحكومة الاتحادية وإخلاصها في خدمة شعوبها، لكانت الحالة الزراعية بولايات الاتحاد مما لا يبشر بمستقبل سعيد يتناسب مع النهوض الذي تندفع في تياره مَرَافِقُ البلاد بصفة عامة.
ليس أمام حكومة الاتحاد غير المصلحة العامة، فخريطة البلاد أمامها كرقعة الشطرنج، لا تضع الحجر في مكانه إلا إذا اعتقدْتَ أن فيه المصلحة التي تُوصِلُها إلى نجاح البلاد وفلاحها؛ فلا نسمع أن وزيرًا ساعد أميرًا بما يُؤَثِّر على مصلحة كثير من الناس، أو أن مرءوسًا وجَّه نفوذه إلى خدمة شخصية رئيسه بما يُهْمِل به عموميات الجماعات في سبيل خدمة الأفراد، وهي علة الحكم في الشرق! تلك العلة التي لا تقوم معها دولة، ولا ينهض بها شعب، تلك العلة التي هي من أمراض الشيخوخة التي نتيجتها التلاشي والفناء إن عاجلًا وإن آجلًا.
وكثرة السكك الحديدية في بلاد الاتحاد قد ساعد مساعدة كبيرة في نمو حالتها الاقتصادية، وهي الآن تخترق جميع ولاياتها كما يخترق المجموع العصبي الأجسام الحية، بما أصبحت معه العاملَ الوحيدَ الذي يحس منه الإنسان عظمة الحالة الاقتصادية في الجمهورية الاتحادية، وهذه السكك تدخل في المصانع والمعامل بما تَسْهُل معه حركتها في شحن مصنوعاتها وتفريغ ما يَرِدُ إليها من الموارد الأولية، ومقدار أطوالها في ولايات الاتحاد يزيد عن ٢٦٥ ألف ميل! (مع العلم بأن السكك الحديدية في مصر هي ٢٥٧٤ كيلومترًا للحكومة، وعلى ما أذكر نحو ٦٥٠ كيلو لشركات الفيوم والمنصورة والبحيرة) ويشتغل في معامل سكك الاتحاد وقطاراتها ودريستها نحو عشرة ملايين نفس أو أكثر! وتُقَدَّر إيراداتها بِثُمن إيرادات الدولة الأمريكية، وإذا عَرَفْتَ أن أحد خطوطها في بنسلفانيا يمر عليه في اليوم الواحد ألف وخمسمائة قطار، عرفت ما هي حركة القطارات فيها!
وهذه السكك كلها لعشرين شركة، تَدْفَع إلى ولايات الاتحاد ضرائب فادحة على مرورها من أرضها، لا تقل عن ١٦٠ مليون دولار كل سنة، وتملك هذه الشركات لحركة سككها اليومية ٧٠ ألف قاطرة «قوتها أكثر من ٦٠ مليون حصان»، ومليونين ونصف مليون عربة للبضائع، و٦٠ ألف عربة للركاب، وبلغ مقدار ما نقلته في سنة ٢٤ من المحاصيل ما يقرب من بليونين وربع طن! ومن الركاب نحو مائة مليون راكب!
وعدد عربات البريد في الولايات أكثر من خمسة آلاف عربة، وقد دفعت الحكومة للشركات أجرة نقل بريدها سنة ١٩٢٥م، ١٢٠ مليون دولار.
•••
وكانت القوى الكهربائية المستعملة في بلادها للإنارة وغيرها في سنة ١٩٢٥م، ٢٣ مليون كيلوات، ومن البخار للمصانع نحو ٣٥ مليون حصان.
•••
وفي الولايات المتحدة أكثر من ١٦ مليون خط تليفوني، منها في مدينة نيويورك وحدها نحو مليون ومائتي ألف خط.
•••
ويوجد بولايات الاتحاد نحو مليون ميل ونصف من الأسلاك التلغرافية، ويُقَدِّرون ما أُرْسِلَ في سنة ٢٥ من الإشارات التلغرافية داخل الولايات بما يقرب من ٢٠٠ مليون تلغراف.
•••
ويوجد في الولايات المتحدة غير مصلحة البريد البري التي مَرَّ ذِكْرها مصلحة للبريد الجوي بين نيويورك وسان فرنسسكو، ومسافة ما بينهما في الخط الجوي ٢٦٦٥ ميلًا، يقطعها الطيار في ٣٠ ساعة، وينزل في أثناء سفره إلى ١٥ محطة لتسليم واستلام بريدها، والذين يشتركون في هذا البريد أكثر من ٤٠ مليون نفس، والموزعون لهذا البريد نحو خمسين ألف نفس في القرى التي يجب أن تكون أرضها مرصوفة، وموضوع على كل بيت نمرته، أما العِزَب فلها على الطريق العمومي الموصل إليها صناديق مستطيلة «طولها ٤٠ سنتي في عرض وارتفاع ٢٥ سنتي» ومكتوب على الصناديق اسم أصحابها.
•••
وأهم شيء عاد بعد السكك الحديدية بالنفع على بلاد الاتحاد هو الأوتوموبيل، وهو في هذه البلاد الواسعة الأطراف في منفعته كالجَمَل في صحاري بلاد العرب، ولقد كان فيها إلى أوائل سنة ٢٦ أكثر من عشرين مليون أوتوموبيل، في حين أن أوروبا كلها لم يكن بها أكثر من ٢٧٠٠٠٠٠ «أوتوموبيل»، ومن هذا نعلم أن الولايات المتحدة فيها ٨١ في المائة من الأوتوموبيلات، والموجود منها في باقي المعمورة ١٩ في المائة فقط! وعلى هذه النسبة يكون كل ستة من سكانها لهم أوتوموبيل، وفي كاليفورنيا أوتوموبيل لكل ثلاثة أشخاص وثلث من سكانها. في حين أن فرنسا وإنجلترا لكل خمسين من السكان فيهما أوتوموبيل واحد.
ولهذا نرى أن الولايات المتحدة تستنفد ثلاثة أرباع محصول البنزين والكاوتشوك في العالم كله، وتستنفد نحو ألف كيلو من البترول في السنة عن كل رأس من سكانها، في حين أن فرنسا لا تستنفد منه عن كل رأس إلا ٣٧ كيلوجرامًا.
وكذلك تستنفد حكومة الاتحاد ثلثي محصول الحرير، وربع محصول السكر في العالم.
والولايات المتحدة تُصَدِّر مصنوعاتها إلى العالم كله، فيصيب أوروبا من الحبوب والقطن ٧٠ في المائة، وباقي المعمورة ٣٠ في المائة، أما الآلات البخارية فإن أوروبا لا تأخذ منها سوى ٤٠ في المائة، وباقي العالم ٦٠ في المائة، وأغلب صادراتها منها إلى كندا، وأمريكا الجنوبية، والوسطى، وأستراليا، ومع غَناء أمريكا في المواد الأولية، فإنها لا تزال تحتاج إلى الكاوتشوك والحرير من الشام والصين واليابان وأمريكا الوسطى، على أنها ابتدأت في تربية دودة القز في بلادها.
ومع أنها تستنفد في بلادها كثير من الملابس الحريرية التي كانت تستوردها من أوروبا، فإن صناعة الحرير لم تدخل عندها إلا من نصف قرن فقط، وكانت في أول أَمْرها تشتغله على أنوال باليد، أما الآن فعندها لنسجه فابريقات هائلة، تُخرج إلى أسواق العالم أكثر مما يخرجه العالم القديم جميعه، ويُقَدِّرون الحرير الخام الذي يدخل إليها من أوروبا وآسيا سنويًّا بأكثر من عشرين مليون جنيه! وهذا غير الحرير الصناعي الذي تُقَدَّر قيمته بمليون جنيه.
وقد يضطرنا سياق الحديث عن الحرير أنْ نَصِفَ لك أكبر وأعظم فابريقة للحرير في الولايات المتحدة وهي «دوبلان سلك قومباني»، وهي موجودة في مدينة هازلتون بولاية بانسلفانيا، وتَبْعُد عن نيويورك بمائتي كيلومتر، هذه الفابريقة على أجمل طراز جديد، ويعمل فيها نحو خمسة عشر ألف من الجنس اللطيف، غير ما فيها من الرجال، ومع أن بناءها الخارجي كله من الطوب الأحمر ولا منافذ فيه للتهوية، فإنك تندهش عندما تدخل إليها إذا لاحظْتَ أن التهوية في داخلها تُنَظَّم بآلات عجيبة من شأنها أن تنزل درجة الحرارة في داخلها ١٥ درجة عن درجة الحرارة التي في خارجها! وترى في الفابريقة كثيرًا من معدات الراحة، كالحمامات، وأمكنة الاستراحة، والمراقص وقت الفسحة، وغير ذلك من كماليات الحياة، ما يجعلك تندهش من أن العامل في هذه الجهات يتمتع بجميع أسباب الراحة، إن لم نقل أسباب السعادة.
أما الكاوتشوك فهم يستنفدون منه كميات كبيرة جدًّا، يشترونها من أوروبا وخصوصًا أسواق إنجلترا، ولكنهم ابتدءوا في زراعته بالولايات المتحدة، وغير ذلك، فإن شركات كبيرة من ولايات الاتحاد اشترت في إفريقيا الشرقية أراضي واسعة جدًّا وبدءوا فعلًا في زراعته بها، وقريبًا ستستغني عمَّا تصرفه سنويًّا من مئات الملايين من الدولارات في مشترى هذا الصنف الذي أصبح من ضرورياتها في عمل الأوتوموبيلات، التي لا يقف عند حدٍّ، خصوصًا وأنها توصَّلَتْ إلى عمله صناعيًّا!
وقد استخرجت الولايات المتحدة من الفحم في سنة ١٩٢٤م أكثر من ٥٠٠ مليون طن، وهو ضعف ما استخرجته إنجلترا، أما الآن فنسبة ما يُستخرج منه أكثر من بلاد الإنجليز بكثير، ومصانعها صَنَعَتْ من الحديد المشغول «سنة ٢٥» ٤٠ مليون طن، أي أكثر مما صنعته أوروبا كلها في هذه السنة.
والولايات المتحدة تهتم الآن كثيرًا بالزراعة، وهي أكبر مملكة في العالم تزرع البطاطس، وقد بلغ محصوله في هذه السنة ٢٥ مليون طن، وهي تزرع الحبوب وخصوصًا القمح والذرة، وتُصدِّر من الدقيق كميات هائلة، وأرض كاليفورنيا أعظم بلاد زراعية في العالم، يزرعون فيها السهل والوعر، ويزرعون الجبال ووديانها ومعارجها وميولها وسطوحها، وذلك بواسطة ما ابتدعوه من الخزانات التي يحفظون بها الماء لمدة الصيف الشديد الحرارة، وفيها من أشجار الفاكهة شيءٌ كثير لا يمكن أن تراه مجموعًا في غيرها، وقد تُصَدِّر في سنة ٢٦ من حوض الباسفيك (أعني من ولايات كاليفورنيا، واشنطون، وأريغون) من الفواكه فقط ما قيمته ٧٥ مليون دولار، منها ٤٠ مليونًا من التفاح وحده.
والولايات المتحدة تهتم بزراعة القطن في ولاياتها الجنوبية اهتمامًا كبيرًا، وولاية التكساس وحدها تجني من القطن أكثر من ثلاثة أرباع محصول العالم كله!
وبولايات الاتحاد مغازل ومناسج للقطن، وقد كان عندهم من المغازل في سنة ١٩٢٥م، ٤ ملايين مغزل إلا ربعًا، ولا بد أن تكون الآن أكثر من ذلك؛ لرقيهم المستمر في الصناعة، بل وفي الزراعة، وعلى كل حالٍ فهي ثاني مملكة في صناعة القطن في العالم.
وقد بلغت صادراتها في سنة ١٩٢٤م أربعة بليون ونصف من الدولارات وبلغت وارداتها ما يزيد عن ثلاثة بليون ونصف، إلا أن صادراتها أخذت تَقِلُّ بعد روعة الحرب، وبعد أن أخذت الأعمال مجراها في أوروبا، ومن هذا أخذ بعض الأوروبيين يبني قصور الكارثة الاقتصادية المستقبلة في أمريكا إذا استمر نقص الصادرات فيها سنة عن سنة، خصوصًا مع زيادة أجرة اليد العاملة فيها، والله أعلم بالمستقبل.
•••
ولقد كانت إنجلترا في وقت من الأوقات تحسب حياة الولايات المتحدة التجارية في يدها؛ حيث كانت تحمل أغلب صادراتها ووارداتها على مراكبها، أما وقد نشطت الولايات في عمل أسطولها التجاري بما أصبحت معه تنقل أغلب بضائعها على مراكبها، بل ولم تقف عند حد تكوين أسطولها التجاري، بل أخذت تزيد بكثرة في أساطيلهم الحربية، فقد بدأت إنجلترا توجس منها خيفة؛ لأن أسطولها، وإن كان لم يصل بعد إلى قوة الأسطول الإنجليزي، ولكنه بصفته جديدًا لا ينقص عنه كثيرًا في مجموع قوَّته.
•••
ولا شك أن المهاجرين من اليهود ساعدوا كثيرًا في الولايات المتحدة على حالتها الاقتصادية من الجهة التجارية؛ لأنهم وعددهم فيها أكثر من ثلاثة ملايين — منهم نصفهم في مدينة نيويورك — يشتغل بالتجارة، وقد أمكنهم بما في دمهم من السياسة الاقتصادية أن يتلاطفوا حتى دخلوا في سواد الأمريكان! فتسمَّوا بأسمائهم واحتفلوا بأعيادهم، وصاروا في كل ما يتعلق بالأمريكان أمريكيين أكثر من الأمريكان! بل واندمج أغلبهم في الأمريكيين بحيث لا يظهر عليهم أي فارق ديني أو جنسي فيما بينهم، وأغلب اليهود من المهاجرين الروسيين، والآسيويون منهم قليلون، وأبناء هؤلاء الآن وقد جاهدوا في التحصيل في مدارسهم أكثر من أبناء الأمريكان، فقد أصبحوا من العاملين في التجارات المختلفة، يَرودُون بلاد الشرق والغرب في ترويج تجاراتهم، وكان لهم من نشاطهم خيْر معين للحصول على الثروة الواسعة التي إن حرمتهم من محبة الأمريكان، فقد جعلتهم جديرين باحترامهم وتقديرهم.
ولقد كان استمرار الزيادة في حالة الولايات المتحدة الاقتصادية من سنة ١٩١٤م إلى سنة ١٩٢٤م بحالة تفوق الوصف، حتى إنك لو عثرْتَ على ميزانياتها في سنة واحدة تجدها مختلفة اختلافًا كبيرًا في أعدادها؛ لاختلاف الأوقات التي حُرِّرَتْ فيها.
هذا من جهة الحالة الاقتصادية العامة، أما من جهة مالية الدولة فهي في يد أشخاص ماليين بالمعنى الصحيح، يقضون كل زمنهم في الاشتغال بما يزيد في الدائرة المالية من طريقٍ لا يُؤَثِّر على مصلحة الأهالي، ويكفي أن أقول لك: إن وزير المالية الحالي هو مستر أندربو ميلن وهو ثالث مالي في الولايات المتحدة وتُقَدَّر ثروته بمائة مليون جنيه! ولما انْتُخِبَ لإدارة مالية الدولة، عَيَّن لإدارة أملاكه سبعة من كبار الماليين! حتى يتفرغ هو عن عمله الخاص تمامًا، إلى عمله العام، وبمثل هذه المواهب، وبمثل هذه التضحية، تسير الأمم في طريق رُقِيِّها، أما إذا وُضع الشيء في يد غير أهله فهذا مما ينذر بسوء العاقبة.
وبالجملة فالولايات المتحدة قد أصبحتْ أكبرَ دول العالم من الوجهة الاقتصادية، وقد وصل تفوُّقُها الاقتصادي حتى إلى العمال الذين وُجِدَ لهم في صناديق التوفير سنة ١٩٢٥م أكثر من ٢٢ مليون دولار!
وهنا لا يفوتنا أن نقول: إن وحدة النقود في إنجلترا هي الشلن، وفي فرنسا هي الفرنك، وفي مصر هي القرش، وفي الولايات المتحدة الريال، وتراه هنا إما من الفضة وهو قليل، والغالب منه بنك نوت عليه رسم واشنطون، وعندهم ورق من ذات الخمسة ريالات عليه رسم لنكولن، وورق من ذات العشرة أو أكثر عليه صورة أحد رؤساء الاتحاد الذين نَهَضَتْ بهم البلاد، وينقسم الريال عندهم إلى مائة جزء، أصغرها يقال له سنس، وهو من البرونز، أما نصف الريال ورُبْعه فمن الفضة، وما كان أقل من ذلك فمن النيكل؛ لذلك ترى تعبيراتهم المالية والتجارية كلها بالريال، وليس للجنيه ذِكْر في معاملاتهم وإن كان للذهب منه وجود قليل فيها، ولارتفاع وحدة النقود في أمريكا نرى ارتفاع أثمان الأشياء فيها بنسبةٍ تفوق أثمانها كثيرًا في الممالك الأخرى، والمعيشة فيها غالية بصفة عامة في كل مرافق الحياة.
•••
بعد أن انتهت جلسات المؤتمر، دعت الحكومة الأمريكية أعضاء المؤتمر إلى دورة في ولاياتها الوسطى والشمالية، وقد كنا اشتركنا في مصاريف هذه السياحة الرسمية من قَبل بواسطة مستر هوبسن، ومقدار هذه الدورة في السكة الحديدية فقط ١٦ ألف كيلومتر تقريبًا، قَطَعْناها في ثلاثين يومًا، كنا فيها نبيت في عربات القطار الذي كان يسير بنا ليلًا، وفي النهار كنا نركب الأوتوموبيلات التي كانت تجهزها لنا الغرفات التجارية بمساعدة حكومتها طبعًا، وهي في الغالب لبعض التجار أو الأعيان يسوقونها بأنفسهم إلى الجهات التي كانت تريد إطلاعنا عليها، سواء كان فيما يتعلق بدراسة التربة في عموم الولايات التي مررْنا بها، أو في مشاهدة المزارع، أو العزب لرؤية حيواناتها وأنظمتها، أو لزيارة بعض ما فيها من المعامل والمصانع المهمة، وإذا فرضنا أن متوسط ركوبنا في الأوتوموبيلات كان ٤ ساعات في اليوم، وأننا كنا نسير بسرعة ٥٠ كيلومترًا في الساعة، كان ما قطعناه بها في هذه المدة ستة آلاف كيلومتر.
وهنا أذكر لك يومياتي التي كنت أحررها بفراشي بعربة السكة الحديد، كنت أحررها في وقت كنت به في أقصى ما يكون من التعب، في الوقت الذي كان ضروريًّا لراحتي بعد ما كَابَدنَاه من مشقة النهار، ومع حركات العربات المضطربة، وما إليها من انزعاجات تكاد لا تنقطع، حتى لا يضيع مني شيءٌ مما شاهدْتُه في يومي، وقد كنت في ذلك كله مدفوعًا بحُبِّ إشراك قومي معي فيما رأيت وما شاهدت، مما أرجو أن يكون فيه بعض الفائدة.
(٣٥) يوم ٢٢ يونيو سنة ١٩٢٧م
ركبنا قطار السكة الحديدية من محطة واشنطون العمومية وهي من أكبر محطات العالم، وماذا عساي أن أَصِفَ إليك، بناءٌ من أوسع البناءات وأعلاها ارتفاعًا وأبدعها جمالًا، وأجمعها للنظام والنظافة وحسن الرواء، يدخل الإنسان من بهوها العظيم إلى ممشاة هائلة، في نهايتها حاجز يفصلها عن أرصفة القطارات التي تكاد تتصل بها، وقدرها اثنان وثلاثون رصيفًا، كل واحد لِسِكَّتين؟! ومن هذا تعرف أن هذه المحطة يمكن أن يكون بها في آنٍ واحد أربعة وستون قطارًا لوجهات مختلفة، وفي المحطة محلات للزينة وللأكل وللاستحمام مما تدعوا إليه راحة المسافر.
وكانت جميع عربات قطارنا من صنف بولمن، وقد استحالت مقاعدها إلى أَسِرَّةٍ واسعةٍ ربما كانت تَسُرُّ نظرنا لأول وهلة، لولا أن شدة حركات العربات تكاد تنتزع النفوس من مكامنها، استولى كلٌّ على سريره الذي خُصِّص له، وحركة الأيدي بالمناشف لا تنقطع عن الوجوه؛ لكثرة ما كان يتصبب منها من العرق، ولما سار القطار ابتدأت التيارات الهوائية تُلَطِّف من لهيب العربات، وسار بنا في أرض فرجينيا طول ليله، وفي الصباح الأول أخذنا ننظر من منافذ القطار إلى تلك المناظر الباهرة الناضرة التي كانت تلوح هنا وهناك على أرض غير مستوية، وقد قامت عليها تلك الغابات الصنوبرية التي تتخللها مزارع القمح الذي لا زال على أرضه مضمومًا محزومًا.
وقبل أن نصل إلى محطة «دام فيل» مررنا على ترعة لون مياهها أحمر قاتم قد ذَكَّرَني بنيلنا المبارك في فيضانه، ذَكَّرَنا بهذا الذي هو حياة وطننا العزيز، فكان صباحنا به خيرٌ من أَمْسِنا، وكانت مساكن المدينة كلها من الخشب ومن ذات الطبقتين؛ مساكن صغيرة ولكن يلوح لنا أنها نظيفة؛ لأن الطرق ونحن في الساعة الخامسة صباحًا كانت على غاية النظافة، ولا أقول لك إن الطرق العمومية هنا معبدة، ولكنها مرصوفة ومطلية بالقار، بل مصقولة كالمرآة، ومما يلاحَظ أن المساكن هنا منافذها كثيرة مما يدل على أن الحر شديد في وقته.
(٣٦) يوم ٢٣ يونيو
وفي صباح يوم ٢٣ يونيو وصَلْنا إلى محطة جرينسبورد بعد أن قطعنا إليها ٢٣٧ ميلًا ونصفًا، فوجدنا في انتظارنا الأوتوموبيلات التي أقلَّتْنا إلى دورة في هذه المنطقة لنشاهد تُرْبتها المختلفة وما فيها من النباتات المتغايرة، سرنا في أرض صفراء تكثر فيها الصوب لتربية النباتات في غير أوانها، أو في غير منطقتها، وقد تكثر هنا أشجار من الفصيلة البقسية، وأشجار البلوط، كما تكثر مزارع الدخان والذرة، وقد ترى بعض أشجار الفاكهة بجوار البيوت الخلوية خصوصًا في الأرض الحمراء، ومنها الخوخ والكراز والكمثرى والتفاح، ويقولون: إن أصل هذه التربة صخرية بركانية.
وبعد أربعين دقيقة وصلْنا إلى أرض حمراء في لون المغرة، والماء الذي يجري فيها أحمر قانٍ! وتنمو الأشجار في هذه التربة نموًّا عظيمًا، وخصوصًا أشجار الغابات، وبعد قليل وصلْنا إلى تربة صفراء هي الطفلية بعينها، والماء الذي يجري فيها أصفر كأنه ملوَّن بمادة هذا اللون! ولقد كان كلٌّ من المؤتمرين يبحث في النباتات التي تنمو فيها، وهذا شيءٌ جميل في ذاته، ولكن الأجمل منه أن السيدات اللواتي كُنَّ في عداد المؤتمر كُنَّ يبحثن في النباتات تارة، وفي معدن الأرض أخرى، ويأخذن منها إلى حقائب في أيديهن، وغالب تلكم السيدات من الألمانيات اللواتي يمتزن عن غيرهن من الجنس اللطيف بالبحث، والتنقيب، بالعلم، بالفن، بالإقدام، بالشجاعة، باحتمال كل شيء في سبيل المصلحة الخاصة أو العامة.
إن عندنا الآن شيئًا كثيرًا من تعليم البنات ولكن كله نظري ليس فيه من كبير فائدة، اللهم إلا تلك المدارس التي يُسَمُّونها مدارس تدبير، وبروجرامها ناقص من الجهة العلمية، وعسى أن تعنى وزارة المعارف الجليلة بإدخال بعض العمليات الكيماوية أو الطبيعية على بروجرامهن لتكمل به الفائدة.
وليست هذه الأرض بالصالحة للزراعة في عمومها؛ فإنك تجد هنا وهناك أرضًا ليست بمزروعة، وإن كان بعضها منزرعًا فزراعتها غير جيدة، إذن فلأيِّ شيء كل هذا التعب؟ لأي شيءٍ تلك المصاريف التي تنفقها هذه البلاد في نقل المؤتَمِرين وعنايتها بهم في زيارتهم لتلك الأصقاع؟ ذلك بطبيعة الحال لأمر واحد؛ هو دراستها لمعدن أرضها، وبحثها عمَّا يجب له من الدواء، فإن لم تَعْثُر عليه هي برجالها فقد تصل إليه على يد أحد المؤتمرين.
وبالجملة فالشيء الذي يهمني لا وجود له هنا وهو القطن، لذلك أرى أن الفائدة من دورتَي هذا اليوم إنما من جهتها الاجتماعية، وأرجو أن يسمح لي حضرات القراء بأن أَقُصَّ عليهم ما رأيته هنا. رأيت مدرسة في وسط الحقول من المدارس الأولية، وقد بلغني أن رجلًا من أهل هذه الجهة قدَّمَ أربعين مليون ريال إلى المدرسة على شرط أن تُسَمَّى باسمه! فلم يَقْبَل القائمون بأمر المدرسة هذا الشرط لأول وهلة! وهم الآن «وقت ما كنا هناك» يتشاورون فيما بينهم في قبول الشرط أو عدم قبول الهبة! ذكَّرَتْني هذه الحادثة بهبة روكفلر لمصر على شرطه، ويظهر أن حكومتنا هي الأخرى ما زالت تفكر في قبول الشرط أو رفْض الهبة «وانتهى أَمْرُها بأن رفَضَتْها تمامًا.»
ومدينة جرينسبورو تعدادها ٤٣٥٢٥ نفسًا، وهي من ولاية كارولينا الشمالية التي مساحتها ١٣٥٥٦٠ كيلومترًا مربعًا، وفيها أنهار كبيرة أعظمها نهر روانوك ونهر نوز، ومن محاصيلها الدخان والقطن والأرز، ومن معادنها الزنك والرصاص.
وفي المساء عُدْنا إلى قطارنا فسار بنا في أرض هذه الولاية، فوصلنا في الصباح إلى مدينة كنوكسفيل.
(٣٧) يوم ٢٤ يونيو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى مدينة كنوكسفيل عاصمة ولاية «تنسي» بعد أن قَطَعْنا إليها ٣٢٠ ميلًا، وقُبَيْل وصولنا إلى هذه المدينة كنا نسير في وادٍ جميل يخترقه فرع من نهر المسيسيبي قامت على جانبَيْه غابات جميلة ذكَّرَتْنا بمناظر سويسرا، لولا ما كنا فيه من حرٍّ يكاد لا يُطَاق، وكانت مزارع الذرة تتناثر هنا وهناك في بعض الأراضي المستوية من هذا الوادي، ولم نعثر فيه على مزرعة للقطن، ولكنهم يقولون: إنهم بدءوا هنا في تجربته (يا حفيظ!).
وبالجملة فقوة الإنبات قوية في هذا الوادي، وإن كانت تتخلله بعض قطع ضعيفة ليست في الجودة مثل التي في جوارها، ولكن الحكومة والشركات والنقابات الزراعية يهتمون جميعًا بكل ضعيف، ويتقدمون إلى أصحابه بكل جديد من التجارب لإصلاحه، ولا بد للجاهل من مرشد، ولا بد للضعيف من طبيب يداوي عِلَلَه، وإلا فالضعيف إن أُهْمِل لا بد وأن ينشأ عنه ضعيف آخر، والعلة ينشأ عنها علة أو علل أخرى بما لا يكون في الإمكان مداواته بتلك السهولة كما لو كان في أول أَمْره، خصوصًا لو اتسعت دائرته بحكم العدوى.
تلك كلمة نقولها بكل إخلاص لوزارة زراعتنا، نقولها لعمالها الفنيين الذين يَقْصُرون مهمتهم في الأرياف على المسائل الإدارية من غير ما عَمَلٍ فيما تنهض به الزراعة في نفسها، أو المزارع في شخصه، ومن دواعي الأسف أن نجد الموظف الفني عندنا، سواء كان مهندسًا، أو طبيبًا، أو زراعيًّا، لا يريد إلا أن يكون حاكمًا! لا يريد إلا أن تكون العلاقةُ بينه وبين الأهالي علاقةَ الحاكم بالمحكوم، لا علاقة المرشد بمن هو في حاجة إلى إرشاده: وهي أسمى العلاقات وأكبرها نفعًا.
زُرْنا مدرسة الزراعة هنا فبدأنا بزيارة معملها الكيماوي، وقد أخبرني المرحوم أباظة بك بأنه أقل من نظيره عندنا بكثير، إلا أنا رأينا أن أنواع الأراضي عندهم وضعوها للتجربة في آنية كبيرة، وزرعوها بشيءٍ من النبات، ووضعوا في أسفلها أنبوبة سَلَّطُوها على أوانٍ أخرى في قاعة من تحتها ليتعرفوا قوة صَرْف المياه في كل نوع من أنواع التربة، وبجوار هذا المكان مكان آخر زُرِعَتْ في آنيته نباتات من فصائل متعددة، وقد سُمِدَتْ بسمادٍ مختلف، وقد سلُطِّتَ الأنابيب التي وضعوها في أسفلها على أوانٍ أخرى أقل منها ارتفاعًا حتى يتعرفوا مقدار ما تتغذى به النباتات منها ومقدار ما ينصرف إلى المصارف.
•••
وبعد تناوُلنا الطعام بالجامعة بدعوة منها، ركبنا أوتوموبيلاتنا إلى دورة في مزارع المدينة، وهذه الولاية بصفة عامة ليس مدار حياتها على الزراعة، بل على المعادن — وأخصها الزنك والحديد والرصاص والفحم — وقد زرنا مصنعًا للجبس الجيري الذي يأتون به من منجم الزنك إلى المصنع بواسطة عربات تسير من معدنها في الجبل معلقة في الهواء على حبل من الحديد ممدود إلى المصنع! وبعد هرسه يضعونه في مغاسل ويصبون عليه جانبًا من الزيت، فيعلو الزنك عليه لأنه أخف منه فيأخذونه إلى تجهيزه في جانب آخر من المصنع، ثم يأخذون الجير فيُمِرُّونه على أسطوانات محمية حتى يجف، ثم يطحن ثم يعبى في غرارات يرسلون بها إلى الأسواق ليباع سمادًا لنباتات مختلفة.
وكان معنا سوَّاق لأوتوموبيلنا كلما سألْنا عن المسافات التي بيننا وبين جهاتٍ مختلفة أخبرنا بأميالها تمامًا، وهي عندهم قاعدة لا يجهلها أحد من الناس حتى النساء والأطفال، وهنا تذكرت «فركة الكعب» عندنا وما تجره على المسافر من الويلات لبُعْد ما كان يظنه من طريقه قريبًا على قاب قوسين أو أدنى.
وفي دورتنا هذه مررنا في هذه الولاية على بناءٍ عظيم مقسَّم إلى جملة أقسام هو مستشفى للمجاذيب، وفيه ألفا نفس من هؤلاء الذين حُكِمَ عليهم بسلب أَنْفَس شيء في الإنسان وهو العقل! وكانت نفوسنا عندما سَمِعْنا اسم المجاذيب كادت تفيض رحمة وخشية! كادت تفيض رحمة بهؤلاء البؤساء، وخشيةً مما عساه ينالنا إذا عثرنا بواحدٍ منهم يكون قد تسرب من الدائرة التي حجزوه فيها، ولكن كم كانت دهشتنا عظيمة عندما دخلنا إلى فناء متسع تظلله الأشجار، وتحف به الأزهار وقد جلس من تحت ظلاله الوارفة بضع مئات من هؤلاء التعساء في ملابسهم الزرقاء النظيفة، هذا ساكن في قراره، وذلك يتكلم مع جاره، وآخر يلعب بكرته، وغيره متمدد على العشب الأخضر، ومن حول الجميع آنسات يُدْخِلن في السرور بمرآهن اللطيف على كل من وَقَعَ بصره عليهن، تلكم هن خادمات ذلكم النفر من بني الإنسان الذي أتى بهم الحظ القاسي إلى هذا المكان!
ولقد زرنا معدن الرخام في دورتنا هذه، ورأينا كيف يقطعونه من محجره بواسطة آلات تدور بضغط الهواء، وكلما قطعوا جملة من الكتل الكبيرة (على حسب المقاسات التي يرغبونها) نقلوها إلى جهة يقطعونها فيها ألواحًا بطول الكتلة بواسطة مناشير تعمل بالكهرباء، وقد رأيت ١٦ منشارًا تعمل مرة واحدة في كتلة واحدة! ومن المناشير ما يعمل بالماء، ومن ضمن آلات القطع آلة على شكل صينية رُكِّبَ في دائرتها شرار من الماس لقطع الكتل الصلبة، ومن الآلات ما هو على شكل صينية قُطْرها نحو ثلاثة أمتار تدور بسرعة، فإذا وُضِع عليها الحجر صقلته من الوجه الذي يتصل بها، وهناك آلات يرسمون بها على الرخام ما شاءوا، ويكتبون عليه ما أرادوا، أو يضعونه في أي شكل أَحَبُّوا، ويحرِّك هذه الآلات جميعها آلة قوتها ٢٠٠٠ حصان، وبالجملة فكلها آلات بسيطة، وحركات غير عنيفة، وعمل كثير، وعمال قليلون يعملون في حُسْن نظام وكمال ترتيب! وبجوار هذا المكان مصنع لحرق كِسارة الرخام، فيحولها إلى جير هو أنقى شيء من نوعه، وأما الصرفان فيُطْحَن ويرسلون به إلى الأسواق الزراعية سمادًا للأراضي التي بها حموضة.
وهنا خطر ببالي مصانع الجرانيت التي نقرأ عنها في التاريخ القديم ببلادنا، ثم محاجر الرخام الأصفر (ألاباستر) التي يتصل تاريخها بتاريخ مسجد الرفاعي، وكانت أبواب محاجرها مفتحة ما دام خليل أغا كان يعمل فيها لتشييد هذا المسجد بأمر والدة الخديو إسماعيل؛ لتُفَاضِل به مسجد السلطان حسن الذي في قبالته.
وقد بلغنا أخيرًا أن البابا أرسل إلى مصر بعض الطليان لدراسة هذه المحاجر رغمًا مما عنده من محاجر كراره «في ليفورنو في جنوب جنوه» المشهورة بجودتها في العالم كله! فهل حكومتنا فاتحة أبوابها للأجانب من هذه الجهة بقدر ما تسدها في وجه الوطنيين!
•••
زرنا سوق الخضار بهذه المدينة فوجدنا ما فيه من النظافة طبيعيًّا في قومه لا صناعيًّا ليس له من وجود إلا مع مراقبة البوليس، والذي أعجبني في هذا المكان مراوح للتهوية في كل جهة من جهاته، وخصوصًا في دكاكين الجزارين.
وبعد دورتنا رجعنا إلى الجامعة للعشاء فيها بدعوة من الجامعة مشتركة فيها مع الغرفة التجارية، وكنا أكثر من ثلاثمائة نفس كلهم من جلة العلماء من جميع أقطار الدنيا، ومع أن العشاء كان بسيطًا في نوعه فقد كان لخدمة طالبات الجامعة على الموائد المختلفة ما كان يفيض عليها جمالًا ويجعل كل شيء من أيديهن حلوًا، فيا لله ما أجملهن في صورهن! وما أجملهن في بساطتهن! وما أجملهن في ملبسهن! وما أجملهن في خِفَّتهن! وما أجملهن في عملهن! وما أجملهن في كمالهن! وما أجملهن في جميع حركاتهن! حتى لكأن كل واحدة منهن تعمل بحركات ميكانيكية لا عيب فيها غير ما فيها من نظام وأحكام، في هياكل جمعتْ بين وداعةٍ وجمالٍ، وأدبٍ وكمالٍ، وعند انصرافنا من هذا المكان وقَفْنَ ببابه على هيئة نصف دائرة خلناها نزلت من منطقة البروج، ووقفت على محيطها ملائكة لله يحيين ضيوفًا للبلاد جمعوا بين العلم والعمل، ورجالًا هم زهرة العالم ونضرته وفخره وشرفه.
وبعد العشاء قصدنا قطارنا الذي وصل بنا صباحًا إلى مدينة أطلانطا.
وصلنا إلى مدينة أطلانطا يوم ٢٥ يونيو بعد أن قطعنا إليها ٢٢٣ ميلًا، وهي عاصمة ولاية جورجيا، وعدد أهلها ٢٠١ ألف نفس، فنزلنا إلى محطتها للإفطار، وكم كانت دهشتي عظيمة عندما رأيت على باب استراحة فخمة بها «استراحة البِيض»، ثم على استراحة بسيطة في مقابلتها «استراحة للألوان» (يريدون السود والصفر والحمر)، وبعد ذلك رأيت قطارًا به عربتان واحدة خاصة بالسود والأخرى فيها بضعة أشخاص من البيض.
وكان يَقْرُب منا إلى الشرق على الأقيانوس مدينة «شارلستون» التي ذاع اسمها في كل جهات العالم من سنواتٍ قليلة؛ لا من حيث علاقتها بالمدنية الصحيحة، ولكن لذلك الأثر الذي أحدثته في العالم المتمدن، وهو الرقص الذي يتصل فيه الراقص بالراقصة وتتحد فيه حركاتهما لفًّا ونشرًا، وذهابًا وجيئة! وهزًّا ولزًّا وارتعاشًا واضطرابًا، وابتعادًا واقترابًا (وهو غير الرقص الإفرنكي الذي تتضام فيه الصدور، وتتعاشق الخصور، وتتداخل الأرجل فيما بينها من ذلك الفراغ الذي جعلته الطبيعة حرمًا محترمًا غير مباح إلا لمن يملكه!) وقد أطرب الجميعَ تلك الموسيقى الجديدة التي بنغماتها المزعجة، ونبراتها المهيجة، تستهوي العقول وتستلب الألباب وتؤثِّر على نفوس الراقصين والراقصات بما تؤثِّر به «الكودية» بطبولها على أعصاب المصروعين والمصروعات، هذا الرقص وهذه الموسيقى هما مأخوذان عن عبيد شارلستون ومع ما لهما في المدنية الأوروبية والأمريكية من ذلك الأثر الكبير، لم يَجنِ منهما السود أية فائدة تُصلح من حبْوتهم في الوسط الأمريكي.
وطبيعة الأرض في هاته الجهة بوجْه عام رملية ذات لون أحمر داكن أو فاتح أو أصفر أو أبيض فاتح، وذلك على حسب ما فيها من العناصر المختلفة التي يغلب عليها الحديد، وبعد دورة في المدينة ركبنا القطار إلى مدينة أثينا (من ولاية جورجيا)، فوجدنا على محطتها عميد كليتها ومُدَرِّسيها، فركب كلُّ واحدٍ منهم مع جماعة من المؤتمِرين في أوتوموبيل وقَصَدْنا الجامعة، ودخلنا قاعة بها بضعة صناديق للتربة المختلفة، ووجدنا على الأرض خريطةً من الجبس للمقاطعةِ فيها بروزات وانخفاضات تُبَيِّن حالة البلاد الطبيعية، مبين فيها بالألوان المتغايرة أنواع التربة المختلفة، وعلى كل قسم منها يافطة بنوع النبات الذي ينمو فيها، وفي هذه القاعة لوحة لبعض النباتات، وفيها لوحة مرسوم بها شجرتان من القطن بحالتيهما الطبيعية، واحدة فيها عشرون لوزة منها تسع عشرة مفتحة، وواحدة غير مفتحة، وواحدة فيها عشر لوزات خمس مفتحة وخمس غير مفتحة، ولوزاتها أصغر من لوزات الأولى؛ وسبب ذلك اختلاف قوة الأرض التي زُرِعَتْ فيهما الشجرتان.
وضمن هذه المزارع وَجَدْنا مزرعة للبامية ويسمونها «أوكرة» (كما يسميها العوام عندنا مبرومة)، وزرنا أيضًا عدة مزارع منها مزرعة قطن، وهو في هذا الوقت ارتفاعه نحو أربعين سنتي، وقد أخذ في التزهير، بل في انعقاد بعض لوزاته، وقد يصاب القطن هنا في هذا الوقت في لوزاته من دودة خاصة غير الدودة التي تصيبه عندنا، وهم يستعملون لها آلات رشاشة فيها كاربونات الكاليسيوم، ويقولون إن الفدان في تجاربهم يأتي بثلث بالة من القطن، والبالة خمسمائة رطل شعر، ومن هنا تَعْرف أن الفدان يأتي في تجاربهم بقنطارين إلا ثلث شعرًا، وهو ما يقرب من أربعة قناطير وثلث ببذره، وهذا الاعتبار لا يتمشى على عموم الأراضي، خصوصًا إذا كانت واسعة، فقد لا يبلغ القطن فيها نصف هذا القدر.
ويسبخون القطن في تجاربهم بمخلوط من نترات الصودا، ونترات البوتاسا وسبر فوسفات، وليست عندهم دودة للورق، وقد تنضج اللوزات في آنٍ واحد كلها أو جلها، فإذا جَنَوْها بأيديهم — كما هو الحال عندنا — بدءوا في قَطْع الخشب من غير أية صعوبة؛ لأنه هش ليس فيه صلابةُ ما عندنا منه حتى في الأشموني.
وقد رأيت في معرضهم شجرة قطن فيها أكثر من ثلاثين لوزة كلها مفتحة، فاستأذنْتُ وأخذت منها لوزة لمعرفة حال تِيلَتها وطولها، فوجدتها خشنة ونوعها أقل من الصعيدي عندنا، وتيلتها لا تزيد عن سنتي ونصف.
وبجوار بناء الجامعة وجدنا بناءً فخمًا هو نادي مُدَرِّسي الجامعة، أقيم تذكارًا لمن قضى نحبه من مدرسيها في ساحة الحروب الأوروبية.
•••
ولقد شاهدنا شيئًا جديرًا بالذكر، وهو أن أبواب الجامعة في الصيف كانت مفتوحة، وقد لجأ إلى أبنيتها المختلفة المتباعدة عن بعضها البعض معلماتُ ومعلمو المدارس الأولية؛ ليقيموا بها مدة الصيف في حضور الدروس الصيفية، ولهم معلمون خصوصيون يدرِّسون لهم ما يزيد في معارفهم في نظير مصاريف تافهة لا تتجاوز بضعة ريالات في الشهر، والجنسان منفصلان عن بعضهما البعض في النوم، لكلٍّ دارٌ خاصة به، وقد يجتمعان في حضور الدروس كلها أو بعضها.
وهنا لا أدري إذا كنت ألفت نظر وزارة معارفنا في فتح أبواب مدارس المديريات في الصيف لِمُدرِّسي المدارس الأولية حتى يزيدوا في معارفهم بدروس هم في حاجة شديدة إليها؟
تركنا مدينة أثينا وسار القطار عائدًا إلى أطلانطا فوصلها في السابعة مساءً، وهناك رأينا الأوتوموبيلات تنتظرنا مع بعض أعضاء النادي التجاري، فساروا بنا إلى النادي مباشرة، وكان معنا بعض مندوبي وزارة الزراعة، وقد رتبوا أمْرنا على الاستحمام به؛ حيث كان لنا بضعة أيام ونحن في دورتنا من غير استحمام، وبمجرد دخولنا الحمام قرأت في جوه شيئًا من دروس الفلسفة العالية؟ رجعنا بها إلى فلسفات كثيرة؛ منها ما هو خاص بأصل الإنسان حين كان يسكن الكهوف والأدغال! ومنها ما يدور حول الحلقة المفقودة التي تصل الإنسان بالحيوان؟ وقد كنا في هذا الوسط إلى التمثيل العملي بحيث إذا عَفَّ البصر عن النظر إلى جاره وقد تجرد عن كل شيء إلا عن جلده وقَعَ على عشراتٍ غيره تحت سماء هذا المكان بحالتهم الطبيعية! وكانت أقل الفلسفات بحثًا في هذا الوسط أن الغاية تبرر الواسطة، ومن أعلاها تلك التي فيما وراء الديمقراطية، في أن الإنسان لا يمتاز عن الحيوان في بلاد فَصَلَت الأوتوقراطيةُ فيها بين الإنسان وأخيه الإنسان!
وبعد ذلك قصدنا محطة السكة الحديدية وركبنا قطارنا الذي سار بنا إلى منفيس وقد قطع ولاية ألاباما، وولاية مسيسيبي من الشرق إلى الغرب، ومررنا في أثناء سيرنا في منتصف الليل على مدينة برمنجهام وهي في ولاية ألاباما.
(٣٨) يوم ٢٦ يونيو
وصلنا في ضحى هذا اليوم إلى مدينة منفيس، وهي مدينة عظيمة في الجنوب الغربي لولاية تنسي، وعدد سكان هذه المدينة ١٦٣ ألف نفس، والمسافة إليها ١٩٦ ميلًا، ونهر المسيسيبي يمر بهذه المدينة، وهناك شاهدنا ما بلغ من أمر فيضانه بما تَخَلَّف عنه من الجزاير على جانبي النهر التي تراها هنا كالنيل تجاه بني سويف بما فيه من الجزر.
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر ركبنا قطارنا فسار في أرض مسطحة والزراعة فيها منتظمة، تراها وقد غرقت قد أعادوا زراعتها والقطن فيها على ارتفاع ١٥ سنتي مما لا يبشر بمحصول له قيمة، وكما تكثر المزارع في هذا الإقليم تكثر فيه الغابات، وبهذه المناسبة أرى أن الغابات مزرعة الضعيف قليل الأمل القريب، مزرعة من لم يكن عنده كثير من الأيدي العاملة، وفي الساعة الخامسة بعد الظهر كان القطار يسير في أرض ولاية أركنساس، وكانت مياه المسيسيبي تعلو جميع الأراضي من على يميننا وشمالنا على مسافات بعيدة لا يصل البصر إلى مداها، وعليه فجميع الغابات والأراضي الزراعية هنا يعلوها الماء بمقادير مختلفة، وقد تَلِفَتْ مزروعات كثيرة في هذه المنطقة ولا يدري إلا الله متى ينصرف الماء الذي عليها.
والذي يهم البلاد التي تزرع الجَيِّدَ من القطن أنه قليل هنا في هذا العالم، وكنا في سيرنا كلما وجدنا أرضًا قد انحسر عنها الماء، لم نعتم أن نجد أرضًا يعلوها الماء إلى حد لا نعلمه، وعلى كل حالٍ فهذه الأراضي قد اكتسبت كلها من الطمي ما يعوضها ما فاتها في هذه السنة من وفرة الزرع في قابل. فليعمل على حسابه العاملون.
ونهر المسيسيبي أكبر أنهار الدنيا بعد الأمازون وطوله ٧٣٠٠ كيلومتر، ويقطع الولايات المتحدةَ في وسطها من شمالها إلى جنوبها حتى يَصُبَّ في خليج المكسيك، ومتوسط تصريفه ١٨ ألف متر مكعب في الثانية الواحدة، وله فروع كثيرة تخرج منه وتتجه إلى الشرق والغرب، كما له فروع كبيرة تصب فيه، أعظمها نهر مسوري.
وما زلنا حتى وصلنا في الصباح إلى محطة هوبرج، بعد أن قطعنا إليها ٣٦١ ميلًا.
(٣٩) يوم ٢٧ يونيو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى مدينة هوبرج، ومنها إلى مدينة قرطاجة، والمسافة بينهما ٢٩ ميلًا، وعدد سكان الأخيرة ٩ آلاف نفس، وفي الساعة ٨ صباحًا ركبنا الأوتوموبيلات لزيارة بعض المزارع على بعد ٣٠ كيلومترًا كلها في ولاية ميسوري، وهذه الولاية لا يزرعون فيها القطن؛ لأنها تَشْرَبُ على المطر وهو قليل فيها صيفًا، وزراعتها بصفة عامةٍ الغلالُ وبعض الخضر والفاكهة، والأراضي فيها يساوي فدانها من عشرة جنيهات إلى عشرين، واليد العاملة فيها قليلة؛ لذلك لم يعنوا بنظام الطرق بها إلا من خمس سنوات فقط، وهي معبدة وليست بمرصوفة ولا مقيرة، وفي هذه الولاية معادن الرصاص والزنك والبترول، والزراعة فيها ليست على ما يجب، مع أن أرضها أكثر جودة من بعض ما شاهدناه في غيرها، وقد كان معنا شاب هو أكبر سراة هذه الجهة، أخبرنا أن عندهم ٧٠٠ فدان و٥٠ بقرة فيها ثلاث عائلات، فسألته عما يلزم للمائة فدان من الرجال لزرعها؟ فقال: «ثلاثة رجال» لأن عملية الزراعة كلها الآلات، والأراضي واسعة وضامنة لمكسب غير قليل، ومن الأمور الحيوية في هذه الجهة الشركةُ بكل معناها بين الزراع وصاحب الأرض، فأثمان الآلات مناصفة، والمواشي مناصفة، وغذاء المواشي مناصفة، والسباخ والبذور مناصفة، والمحصول مناصفة، ومع هذا فالأرض تعطي لصاحبها ستة في المائة من ثمنها سنويًّا.
وقد سألناه عن كيفية الحكم في هذه الجهات فقال: «إن لكل ٢٥ ألف نفس قاضٍ للحكم في شئونهم، ومُرَتَّبه ٥ آلاف دولار في السنة»، ومن أحسن ما شاهدناه في هذه الجهة.
(٤٠) آلة الحليب
وهي آلة بقوة حصان واحد تدور بالغاز، وتخرج منها ماسورتان قطر الواحدة نصف بوصة، تسيران في طول مداود البقر على ارتفاعِ نحوِ متر ونصف، وفيها على يسار كل بقرة حنفيتان، وهاتان الماسورتان واحدة للمص والأخرى للكبس، وهناك جهاز هو عبارة عن خزان صغير من الكاوتشوك فيه من أعلاه خرطومان يُرَكَّبان في الحنفيتين المذكورتين، وأربعة في محيطه تُرَكَّب في ضروع البقرة الأربعة، وواحد في أسفلها مُسَلَّط على الآنية المخصصة للحليب، فإذا دارت الآلة وفُتِحَت الحنفيتان حصل المص في الضروع، فيخرج اللبن إلى الخزان، وفي آنٍ واحد يحصل الكبس إلى الآنية حتى إذا امتلأت أُتِيَ بغيرها.
وبعد دورتنا في بعض المزارع كنا نرى بعضها جيدًا والبعض رديئًا، لا من جهة تربة الأرض، ولكن من جهة العناية بالأُولى وإهمال الثانية؛ وعلة ذلك هو أن العامل مع قلته هنا يفضِّل أن يعمل في المناجم وهي هنا كثيرة جدًّا، وخصوصًا مناجم الزنك التي قد ترى العشرات منها في منطقة واحدة، كلها لمالكٍ واحد أو عدة مُلَّاك.
وقد تَغَدَّينا عند أحد أصحاب هذه العزب على النظام الذي مر بك شيءٌ منه، وبعد الغداء قام الخطباء من الفلاحين يخطبون في المنفعة المتبادلة بين الإنسان والإنسان، وبين الأمم وبعضها بعضًا، وبعد ذلك عُدْنا إلى قطارنا الذي قام بنا في الساعة السادسة إلى مدينة كانزاس سيتي وهي في حدود ولايتي ميسوري وكانزاس.
(٤١) يوم ٢٨ يونيو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى مدينة كانزاس سيتي، والمسافة إليها ٣٢٥ ميلًا، وأول ما رأينا منها محطتها، وهي في ترتيبها ونظامها وفخامتها شيء قد بلغ حده، بحيث كنت أتردد في المقابلة بينها وبين محطة واشنطون التي قلنا: إنها من أحسن محطات الدنيا، وما من كمالٍ هنا إلا إذا سرنا نرى أكمل منه! تركنا المحطة إلى الأوتوموبيلات التي خَصَّصَتْها لنا الغرفة التجارية، وسرنا قاصدين عزبة «أسنى بار»، وهي من أكبر المزارع هنا، وكان البوليس الراكب يحافظ على النظام كشأنه في كل سياحتنا، وهذه المدينة منقسمة إلى قسمين يفصلهما نهر ميسوري، الأُولى ولاية في ميسوري، والثانية في ولاية كانزاس، وعدد الأولى ٤٠٠ ألف نفس، وعدد الثانية ٣٥٠ ألف نفس، ومحصول ولاية ميسوري من الغلال ويقدر بمليونين ونصف من الدولارات، وأغلبه من الذرة وإيرادها من الألبان والجبن والزبدة ثلاثة ملايين دولار.
مررنا في شوارع المدينة الأولى وكانت أبنيتها على غاية من اللطف في نظامها ونظافتها، ولما خرجنا إلى المزارع وجدنا الأرض بين نجود وخيوف، وهضبات ومنحدرات، كلها خضراء، فالعالي منها قامت عليه الأشجار، والمنحدرات زُرِعَتْ بالغلال، والأخياف فيها زراعة الذرة نامية نموًّا عظيمًا، ويظهر أن تربة الأرض هنا أشبه شيءٍ بالطمي، وهذه المنطقة في زرعها وتربتها خير من كثير مما شاهدناه في الولايات التي قبلها، وخصوصًا من جهة العناية فيها بالزراعة وأرضها غنية بالصودا والنتروجين والبوتاسا.
ومن أغرب الأمور هنا: أننا كلما مررنا على جهة سواء في التي زرناها أو في التي بين أيدينا، يعطوننا بيانات وافية عن تحليل الأرض في طبقاتها الأربع الأولى، مع مقدار ما فيها من الخصوبة، كما كانوا يعطوننا في الجهات التي كنا نُدْعَى فيها للطعام عصير التفاح المتخمر، وقد أَحَلُّوا هذا الشيء من الشراب بعد تحريم الخمر عندهم على شريطة ألا يكون له أثر في الأسواق، وقد ذَكَّرَني ذلك بما كنت أقرؤه في كتب الأدب العربي كالأغاني وألف ليلة من أن بعض الخلفاء كان يشرب نبيذ التمر أو غيره بما أَحَلُّوه لأنفسهم بعد تحريم الخمر ولو أَسْكَرَتْ كثرته.
زرنا عزبة أسنى بار، وكلها إسطبلات من الخشب تُرَبَّى فيها أبقار من عترة جيدة لها عندهم شهرة كبيرة، ثم تُرْسَل إلى الأسواق فتباع بثمنٍ عالٍ جدًّا، وقد أذكر لك بعض ما شاهدته بها لِأُقَرِّب إلى ذهنك شيئًا منها: رأينا عجلًا من البقر زنته ١٠٥٠ رطلًا على أن عمره ١٥ شهرًا! وليس هو الوحيد في نوعه وفي جسمانه وعمره، وقد رأينا ثورًا تخاله في جسمانه فيلًا لا ينقصه غير الخرطوم، وقالوا لنا: إن عمره ثلاث سنوات! وهنا يمكنك أن تحكم على مقدار عناية القوم بتربية الماشية.
ثم توجهنا إلى عزبة ثانية لصاحب الأولى، وتغدينا فيها غداء خلويًّا جمع بين البساطة وجمال الطبيعة، وإني أذكره لك باختصار؛ لتعرف كيف يمكن لرجل أن يُعِدَّ غداء لثلاثمائة شخص في بضعة ساعات من غير ما هرج ولا مرج، وبدون كُلْفة ظاهرة: يسير مجموعنا صفًّا واحدًا، وأول ما يجده الشخص سيدة من وراء مائدة عليها خزان للماء، وبجواره كوبات من الورق المضغوط، وإلى جانب منها إناء كبير للشراب المخمر، فيأخذ كلٌّ كوبتَه ويعرج على ما يشربه، ثم يسير إلى مائدة واسعة عليها صناديق من الورق (عشرون سنتي في نصفها في نصفها)، فيُعْطَى إليه صندوق منها، ويسير إلى حيث يريد أن يجلس على العشب في ظلال الأشجار المحيطة بالمكان، وهناك مكان للقهوة يذهب إليه الواحد فيملأ كوبته قهوة أو لبنًا أو خليطًا منهما، أما الصندوق ففيه «سندوتش» باللحم أو بالجبن، وفيه كوبة بها شيء من الخضار المطبوخ وورقة فيها بعض قطع من السكر لتحلية قهوته، وأخرى فيها قليل من الملح، وإلى هذا شوكة وسكينة من الورق، وفي بعض الأحيان ترى به شيئًا من الفاكهة.
وكثيرًا ما تدور علينا بعد الأكل سيدات بشيء من الجلاطة؛ قل لي بربك ما في ذلك من الكلفة؟ إنه كرمٌ لا كلفةَ فيه! كرم جمع بين حاجة الضيف وما لا يثقل على المضيف؟! كرم لا ندري له شكلًا في بلادنا المشهورة بالكرم وسعة الصدر! لأننا في كثير من الأحيان نتجاوز حدود الكرم؛ فإذا أتانا الضيف في الظُّهر مثلًا على غير انتظار بمجيئه، فعوضًا عن كوننا نقدم إليه ما يسعه وقته من الغذاء الذي هو في حاجة إليه بدون أدنى كلفة، فإنا نرى صاحب البيت يغدو ويروح بين يدي ضيفه بعبارات التأهيل «لا التسهيل»، ومع تكرار طلب ضيفه لما تيسر من الغداء فإن الغداء لا يُقَدَّم إليه إلا في الساعة الخامسة أو الرابعة! يقدم إليه واللهب يكاد يتصاعد من أطباقه، وهو في الغالب قليل الشواء في جميع أصنافه التي نراها فوق الحاجة في كثرتها، وأقل مما يجب في جودة صناعتها! ذلك لأن صاحب المكان اعتاد أن يكلف نفسه في طريق كرمه لما لا يلزمه، ويكلف أهل بيته بما ليس في طاقتهم، احتفاءً بهذا المسكين الذي كان يفضل أن يأكل في ميعاد أكله كما لو كان يأكل في بيته بدون كلفة وبدون أدنى مشقة.
تركنا القرية إلى الأوتوموبيلات، وذهبتْ بنا تضرب في الأرض كل مذهب، حتى وصَلْنا إلى مزرعة مستر لونج — وهو أحد أصحاب الملايين في واشنطون — مزرعة هي روضة من أحسن ما رأيت من الرياض، تكتنفها غابة من الأشجار الباسقة، من ورائها جملة صوبات لتربية النباتات، والطريق في وسط الروضة طريق عامٌّ مرصوف محفوف، وأرض الروضة قد فُرِشَتْ ببساط سندسي مقصوص بيد العناية والرعاية. وهل هناك نعيم أكثر من هذا؟! خصوصًا إذا عرفنا أن هنا وهناك أمكنة للعمال المتزوجين فيها بيوت لسكنهم مع عائلاتهم، وللعزاب أمكنة وحدها لكل منهم فيها غرفة، وبجوار ذلك مدرسة وملعب رياضي للعمال، وبين هذا وذاك المنزل الخاص لصاحب المزرعة وهو بطبيعة الحال منزل يليق بمثله، ومن وراء هذا كله الإسطبلات الخصوصية لصاحب المزرعة، وليس هناك من داعٍ لِوصْف عظمتها إلا بأن أقول لك: إن قريبًا منها مكان للسباق الخاص بخيله.
وهذه الولاية لا تُفَرِّق بين السود والبيض؛ لأنها من ولايات الشمال التي ليس للألوان فيها من فوارق؛ لذلك ترى السود فيها رافلين في نعمتهم، وأسعد حظًّا من إخوانهم في ولايات الجنوب، وهنا نتساءل عما إذا استمرت هذه الفوارق بين الأبيض والأسود في ولايات الجنوب «والسود هم القائمون فيها بالزراعة والخدمة العامة» وهاجر الأسْود إلى ولايات الشمال فماذا يكون من أَمْر ولايات الجنوب؟
عدنا في الساعة السادسة مساءً إلى المدينة، وقصدوا بنا نادي الغرفة التجارية وهو بناء فخم أكثر من عشر طبقات، فصعدنا إلى الطبقة الثامنة وفيها الحمامات الباردة والسخنة، وإلى جوارها مكان فيه بِركة عُمْقها أكثر من مترين وسعتها نحو عشرين مترًا في عشرة، وكل بنائها من الرخام الجميل، وهنا كانوا يطلبون منا أن نداري سوأتنا باللباس الخاص بالحمامات البحرية؛ لأن البركة في أعلاها إيوان قد تُشْرف منه السيدات على المستحمين، وبعد ما أَخَذْنا حَظَّنا من الاستحمام صعدنا إلى الدور العاشر وفيه مطعم النادي، ويطل من جهاته على المدينة التي تراها في أنوارها كأنها في زينة من أجمل الزينات، وبعد أن تناوَلْنا عشاءنا توجَّهْا إلى المحطة حيث ركبنا القطار فسار بنا في الساعة العاشرة إلى محطة لاكروس، التي وصلناها في الساعة الثامنة صباحًا، وكان سيرنا كله في أراضي ولاية كانزاس.
(٤٢) يوم ٢٩ يونيو
وصَلْنا في صباح هذا اليوم مدينة لاكروس وعدد سكانها ٨٠٨ آلاف نفس، وهي في ولاية كانساس، والمسافة إليها ٣١٦ ميلًا، والأرض في هذه الجهة منبسطة بحالة عامة، وترى فيها أثر الغلال مزروعة بكثرة، ويه تشغل ثلاثة أرباع الأرض، والزراعة فيها على المطر، وهو أقل منه في ولاية ميسوري، واعتمادهم هنا على تربية الماشية، والزراعة على نسبة ثلاثين فدانًا لكل شخص، وهذا ما يَدُلُّك على كثرة الأراضي في هذه المنطقة؛ لذلك ترى ثَمَنَ الفدان من أربعين إلى خمسين ريالًا، وارتفاع القمح في هذه الأرض لا يزيد عن أربعين سنتيمترًا، وعملية الزراعة على الآلات، والذي يظهر لي أن هذه الأرض في غاية الخصوبة؛ لأن القمح يُزْرَع فيها محل القمح بدون تسميد على الدوام، وهو ما يدعو إلى الحكم بأن الأرض غنية جدًّا بالنترات ومتوسط محصول الفدان من القمح ١٣ بشل، والبشل ثمنه ريال.
وعلى هذا يكون دَخْل الفدان تقريبًا من أربعة إلى خمسة في المائة، والحكومة تضع الضريبة هنا على الأراضي بنسبة ما يخترقها من السكك الزراعية، وبنسبة العناية بهذه السكك؛ فإذا كان الطريق ممهَّدًا معبَّدًا على حالته أخذوا نحو ربع ريال عن الفدان، وإذا كان مرصوفًا أخذوا ريالًا، وإذا كانت المنطقة فيها مدرسة أخذوا على الشخص ريالًا، وهذا غير الضريبة العامة على الأشخاص، وهي ريال عن كل نفس.
والتسميد في هذه الجهة هو بما يسمونه بالسماد الأخضر، وهو أن يزرعوا فيها برسيمًا أو ما في معناه، ثم إذا نما يحرثونه وهو أخضر في أرضه، ويكثر عندهم البرسيم الحجازي الذي يمكث في الأرض جملة سنوات.
وقد وصلنا في هذه الجهات إلى عزبة شاهدنا بها منظرًا جميلًا؛ شاهدنا في دائرة من الأرض مسوَّرة بالأسلاك الشائكة بضعةَ مئات من الأبقار بين كبير وصغير، ذكر وأنثى، والكل في صعيدٍ واحد، ومن دونها راعيها على فرسه وفي يده فرقلته يفرقع بها يمينًا فتجري جملة الأبقار إلى اليمين، ثم يفرقع بها يسارًا فتجري بجملتها إلى الشِّمال.
ومن أغرب شيء أن المطر لا ينزل هنا إلا في مدة الصيف، وحيث إن طبقة الأرض صخرية على بُعْد قريب فيخزن فيها الماء، وخصوصًا في الأرض المتروكة من الزراعة، حتى إذا جاء شهر سبتمبر وزرعوا الغلال بها أَمْكَنَها أن تتغذى بالامتصاص من الماء المخزون في الطبقة السفلى للنبات حتى تنتهي أشهر الشتاء التي لا مَطَرَ فيها، فإذا جاء شهر مارس وابتدأ المطر تغذت منه في آخر أيامها إلى وقت حصادها، وعندها يأتون بآلة الضم والدرس فتسير في الأرض فتضم ما فيها من النباتات وترفعه إلى جهة منها، فينزل الحب إلى مخزن فيها، وينزل الهشيم على الأرض من جهة أخرى، فيأخذونه غذاءً للمواشي، وهذه الآلات إما أنها تسير بواسطة الخيل أو البترول، وقد سألنا عن الآبار الأرتوازية فعَلِمْنا أن الماء بعيد عن سطح الأرض التي طبقتها حجرية صخرية، على أنها تحتاج إلى مصاريف باهظة لا تتناسب مع منتجات الأرض.
تركنا العزبة في الساعة الخامسة، وبعد أن تعشينا في القطار قام بنا في الساعة السابعة ينهب الأرض وهي بصفة عامة ليس فيها شيء من الغابات، وحتى أشجار الفاكهة قليلة فيها، ولكن يظهر أن للقوم هنا عناية بتربية الماشية والخيل وهي عندهم كبيرة الحجم، وما زلنا حتى وصلْنا إلى محطة «أوردوى».
(٤٣) ٣٠ يونيو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى مدينة أوردوى وهي في ولاية كولورادو، والمسافة التي قطعناها إليها ١٠٧ أميال، والأراضي في طول هذه الولاية مسطحة، والزراعة فيها قليلة أو هي لا تزرع إلا القمح في بعض جهاتها وبعض الحشائش التي تغذي الماشية، ولا يلوح على هذه الولاية شيء من مظاهر الثروة؛ لأن زراعتها قليلة وليس فيها من المعادن لغاية الآن ما يفتح أبواب الكسب من طريقٍ آخر؛ وذلك لأنها داخلة في المنطقة الصخرية التي في غرب الولايات المتحدة.
ويحسن بنا ألا نترك هذه الولاية من غير أن نشير إلى الولايتين في جنوبها، وهي ولاية «أوكلاهوما» ثم ولاية «التكساس»، والأولى مشهورة بمعادن الفحم، وزراعة الحبوب والقطن، وتربية الماشية، والثانية مشهورة بوفرة قطنها وجودته، وهو ما يهدد البلاد التي تحصر كل حياتها في زراعة القطن، كالقطر المصري.
تركنا هذه الأرض المنبسطة التي يهددنا مستقبلها لزراعتها للقطن، وإذا عدم القوم كل أو بعض الوسائل التي تسمح لهم بزراعته اليوم فإنهم والعمل ملازمهم والجهاد دأبهم لا يعدمون وسيلة في المستقبل القريب لزراعته في أرضهم التي هي من الجودة بمكانٍ عظيم، تركنا هذه البلاد المنبسطة التي تقرأ في صفحتها كل عبارات التهديد والوعيد لبلادنا بزراعتها القطن الذي حَصَرْنا فيه حياتنا وقوتنا ومجدنا، أو بعبارة أخرى حصرنا فيه ثروتنا ما دامت الثروة هي ذلك كله! ودخلنا في ولاية كولورادو التي تبتدئ بعد قليل من حدودها الشرقية بالمنطقة الصخرية للولايات المتحدة، وهي تتناول الولايات التي في شمال وجنوب وغرب كولورادو، وهي: ولاية مكسيكا الجديدة، وأريزونا — في الجنوب — وولاية ويومنج، ومونتانا وداهو، وأريجون، وواشنطون — في الشمال — وولاية أوتا، ونوفادا، وكاليفورنيا — في الغرب — ومع صخرية أرض هذه الولايات فإنها مشهورة بغاباتها الكثيرة، وبغزارة ماشيتها، كما أن كاليفورنيا مشهورة ببساتينها ووفرة ما فيها من الفاكهة المختلفة الأنواع والألوان.
وقبل أن نترك ولايات الوسط المشهورة مع ولايات الشمال بمعادنها وحبوبها وماشيتها، لا بد أن نشير إلى ولايات الجنوب «التي حُرِمْنا من زيارتها» وهي كارولينا، وجورجيا، وألاباما، ومسيسيبي، ولويزيانا، وأوكلاهوما، وكلها تزرع القطن بكميات وافرة، وخصوصًا الأربعة الأخيرة التي تزرع كثيرًا من قطن «سي أيلاند» الذي هو كالقطن السكلاريدي المصري في جودته إن لم يكن أحسن منه.
وهنا نذكر لك مساحة هذه الولايات التي تزرع القطن في الولايات المتحدة لكي تعرف شيئًا بسيطًا مما يهدد بلادك في هذه المملكة وحدها.
ميل مربع | |
---|---|
٢٦٢٢٩٠ | التكساس |
٦٩٨٣٠ | أوكلاهوما |
٥٣٠٤٥ | أركنساس |
٤٥٤٢٠ | لويزيانا |
٤١٧٥٠ | تنسي |
٥١٥٤٠ | ألاباما |
٤٨٥٨٠ | كارولينا الشمالية |
٣٠١٧٠ | كارولينا الجنوبية |
٥٨٩٨٠ | جورجيا |
٤٦١٤٠ | مسيسيبي |
٧٠٧٧٤٥ | المجموع |
وإذا قلنا: إن مجموع الولايات القطنية لا تقل في مساحتها عن ربع الولايات المتحدة، وإذا فرضْنا أن المنزرع من الولايات القطنية ربعها فقط، كان المنزرع كل سنة أكثر من مائة وثلاثين ألف ميل مربع من القطن، وهو أكثر من خمسين مليون فدان مصري! «وقد تجاوزنا عن الكسور ليكون عندنا عدد بارز.»
وإذا اعتبرنا أن الفدان يأتي في متوسط السنين بقنطار ونصف شعر، كان متوسط محصول الولايات المتحدة (في غير هذه السنة) هو من ١٥ إلى ١٦ مليون بالة! وهي نسبة القلة للمحصول الأمريكي، ثم إذا اعتبرنا أن اهتمام القوم بزراعة القطن سائرة إلى الأمام سواء في زيادة المساحة، أو في العناية بالزراعة مع قلة الأمراض في شجيرات هذا الصنف عندهم، واعتبرنا أن المزروع هو ثلث الأرض لا ربعها؛ عرفنا أننا مهدَّدون من الولايات المتحدة على الدوام بكثرة محصولها، والقطن يُجْنَى فيها إلى الآن باليد، وكانوا اخترعوا آلة لِجَنْيه، فكانت تأخذ معها كثيرًا من الورق واللوز بحاله، ثم اخترعوا آلة أخرى لها خراطيم ستة تُسَلَّط على الشجرة فتشفط القطن من لويزاته، ولكنهم وجدوها ليست وافيةً بالغرض فتركوها حتى يحسن حالها.
على أن الذي كان مزروعًا من القطن في سنة ١٩٢٦م بالولايات المتحدة وهو ٤٨ مليون فدان، بَلَغَ محصولها ١٨ مليون بالة تقريبًا، وحوض المسيسيبي إلى الجنوب هو الذي يزرع القطن والذي يتكافأ مع القطن الكلاريدي في جودته «المسمى أيلاند» إن لم يزد عنه، وقد غمرت المياه في هذه السنة من حوض المسيسيبي ثلاثة ملايين فدان ونصف، منها مليونان ومائة وثلاثون ألف فدان قطن، و٧٢٧ ألف فدان ذرة، و٢٥١ ألف فدان دريس، و١٨٠ ألف فدان خضارات، وغرق مع هذا كله ١٧٧ ألف بالة قطن محلوج.
ومن الغريب أن وزارة الزراعة في واشنطون لا تريد أن تعطي بيانات عن زراعة القطن الحالية، ولا عن التي في العام القابل.
وهنا لا بد أن نشير إلى أن حكومة التكساس استقدمت المستر «طود» الإنجليزي الذي يشتغل الآن في المباحث القطنية في بلاده، وخصوصًا من الوجهة الاقتصادية، هذا الرجل الذي لا يجهله المصريون؛ حيث كان مدرسًا لعلم الاقتصاد بمدرسة الحقوق الملكية، استقدمته حكومة التكساس لإلقاء بعض محاضرات في القطن في بلادها، تريد بذلك ألا تقف عند حد في كلِّ ما يتعلق بالقطن، سواء من الوجهة الزراعية أو الاقتصادية. فهل لحكومتنا أن تستقدمه بعد ذلك للانتفاع بآرائه، خصوصًا بعد زيارته لهذه الجهة التي تهددنا في حياتنا؟
أظن أن الحكومة لا تضن بمثل هذا العمل، في حين أنها لا تضن على بلادها باستقدام هؤلاء الذين يحاضروننا في التاريخ القديم — لإيطاليا مثلًا — مما نحن في غنًى عنه؛ لأنه لا يزيد في حياتنا المادية ولا ينقص منها.
وهل لوزارة الزراعة أن تدرس هذا الموضوع بحالة جدية فيما يختص منه بدودتَي الورق واللوز؟ خصوصًا بعد أن شاهدْتُ ما عملتْه دودة الورق بقطن مصر في هذه السنة، وتعمل لذلك طيارات تضيفها إلى ما عندها من أدوات التبخير الذي تراه، وإن كان لم يأت بكل الفائدة فقد وصل منها إلى شيءٍ كثير.
•••
وكلما تقدمْنَا في هذه الجهات إلى الغرب كلما دخلنا في أرض الصحراء التي لا حدود لها، وهنا نرجع بالقارئ إلى القرن الثاني والثالث للهجرة لنرى معه أن العرب سيَّرت الماء إلى صحاري إسبانيا ولم يكن عندهم من الوسائل الهندسية، ولا من هذه الآلات الجهنمية ما عند القوم الآن منها، إذن فلا يبعد على القوم يومًا من الأيام أن يُسَيِّروا الماء من نهر كولورادو إلى هذه المناطق التي تنتج كل شيء إذا وجدت إلى الماء سبيلًا. وهل ما نراه فيها الآن يمينًا وشمالًا من ذلك السراب الذي يرينا على حدود الأفق ماء ولا ماء، يتحقق بعناية القوم يومًا ما مع مساعدة الأقدار التي نراها على الدوام سائرة خطوة بخطوة مع العاملين المُجِدِّين.
هذا إذا حصرنا خوفنا في الولايات المتحدة وفي محاصيلها، ولكنا إذا نزلنا إلى الجنوب وتعدَّيْنا المنطقة الاستوائية إلى البرازيل، تلك المملكة الواسعة الشاسعة التي تتيه في مجاهلها الولايات المتحدة بقطنها ومحاصيلها، هذه المملكة الجديدة في كل شيء، والفتيَّة في كل شيء، والغنيَّة في كل شيء، إلا في ناسها؛ غنية في أرضها، في غاباتها، في معادنها، في مائها، ببركة كثرة ما فيها من الأنهُر، وخصوصًا نهر الأمازون الذي هو أكبر نهر في الدنيا، فلو تيسرت لها اليد العاملة هي الأخرى ووصلت فيها زراعة القطن إلى كل أو بعض ما وصلت إليه في الولايات المتحدة فماذا يكون من أَمْرِنا؟ نعم، إن هذا لا يتيسر في زمنٍ قريب، ولكنا إنما نبحث عن حياة الأمة، نبحث عن حياة أمتنا العزيزة، وعمر الأمم لا يحسب بالأيام.
وهنا نرجو وزارة زراعتنا الاهتمام بهذا الموضوع، نرجوها أن تضع من اليوم أساس تجاريبها في كل ما ينفع في بلادنا، نرجوها ألا تجعل تجاريبها على ما فيه رُقِيُّ زراعة القطن بصفة خاصة، بل زراعات القطر بصفة عامة، خصوصًا إذا راعت زيادة السكان عندنا بهذه الكثرة التي إن استمرت على نسبتها الحالية، لا بد أن تصل بنا إلى ضِعْف عددنا في عشرات من السنين، نرجوها أن تفكر في وَضْع أساس لتجاريب جديدة في زراعات جديدة، وعندها من خيرة رجالها المجدِّين المفكرين ما يكفل قبول الرجاء، ويصل بنا إلى ما يتحقق به الأمل.
في ظُهْر يوم ٣٠ يونيو وصل قطارنا إلى محطة بيوا بلو، وتعدادها ٤٣ ألف نفس، ومسافة ما بينها وبين أوردوى خمسون ميلًا، وبعد أن تغدَّيْنا بالقطار ركبنا الأوتوموبيلات التي سارت بنا في وسط أرض منبسطة من على الجانبين، وممهدة تمهيدًا تامًّا، وهذه الأرض تُسْقَى بالري المنظَّم من نهر كولورادو، رأينا من الجانبين أرضًا تميل إلى بعض الاصفرار، والزراعة عليها نامية نموًّا عظيمًا، والأشجار فيها هنا وهناك نضرة، والعزَب تتخلل المزارع من قرب، فتخيلنا أننا بمصرنا العزيزة، لولا ما نراه في مزارعنا من كثرة الأيدي العاملة، وإن كان العامل عندنا لا يعمل بهمة العامل الأمريكي ولا بنشاطه، اللهم إلا القليل ممن يعمل لخاصة نفسه.
وهذه الأراضي تَزْرع في الغالب البنجر، وثمن الطن منه سبعة ريالات، والفدان ينتج هنا عشرة أطنان، فيكُون إيراد الفدان نحو ١٤ جنيهًا في الأربعة أو الخمسة أشهر التي تشغل فيها الأرض بهذا الصنف! سألنا عما يعملونه في الأرض بعد ذلك، فقالوا: سلبًا، ثم أردفوا ذلك بأنهم مجدُّون في عمل دورة زراعية حتى لا يُحرمون من الانتفاع بالأرض طول السنة، والزراعة هنا واسعة تسقيها تُرَع صغيرة عرضها نحو مترين، وماؤها فيما رأيناه أعلى من الأرض الزراعية بأكثر من نصف متر، وبهذا تَعْرِف أن الري بالراحة، ومع ذلك لم أَرَ في الأرض تطبيلًا مطلقًا، كما لم أَرَ بها أملاحًا، والشيء الوحيد الذي رأيت عدم العناية به! هو جسور الترع ووفرة الحشائش التي تنمو عليها، وهذا ولا شك سببه قلة الأيدي العاملة.
ولقد شاهدت هنا القمح ينمو نموًّا عظيمًا، وإنَّ ما شاهدت منه هنا يمتاز في جودته عن كل جهة رأيتها، ولا بد أن غلة الفدان تأتي بضعفها في الجهات الأخرى؛ لأن زراعته صيفية وصفوفًا صفوفًا، وبين كل صف والذي يليه عشرة سنتيمترات أو تزيد قليلًا، في حين أنها في غير هذه الجهة لا تقل عن أربعين سنتيمترًا، وقد شاهدت أن البنجر هنا قوي جدًّا، ومساكن هذه الجهة من الخشب، وبعضها بالطوب الأحمر، وفي أبنيتها ما هو من الطوب الأخضر، وطول الطوبة نحو ٤٠ سنتيمترًا فيما يتناسب معها عرضًا وسُمكًا.
وكانت أشجار البقس وغيره مما لا أعرف له اسمًا تظلل الطرق، ومجاري المياه الحمراء تخترق الأرض في كل جهة، ذَكَّرَنا هذا في مجموعه بمصرنا العزيزة، ذكَّرَنا بوطننا المحبوب الذي وإن بعُدَت عنه جسومنا فقلوبنا كانت — حيثما كنا وأينما وُجِدْنا — لا تبرح عالقةً به تؤدي له على الدوام تحية الولاء والإخلاص، ومما شاهدناه هنا مزرعة تَكْثُر في أرضها نترات الصودا، والغريب هنا أن تجاريبهم دائرة حول تخفيف ما فيها من هذا الجوهر الذي نحن محرومون منه ونشتريه بثمنٍ غالٍ! وذلك بإضافة أملاح أخرى على الأرض تقلل بتفاعلها الكيماوي من شدة تأثير النترات على النبات، ويبقى الخط الوسط بينهما جافًّا.
وبعد ذلك توجَّهْنا إلى حيث أخذنا عشاءنا في محل لأصحاب هذه الأرض يسع نحو أربعمائة شخص، وكانت الموسيقى به تنعشنا بنغماتها وقت الأكل، وعند الانتهاء قام الخطباء شاكرين كَرَمَ القوم، ذاكرين ما في البلاد من نعيم وخيرات لا تفنى، ثم عُدْنا إلى قطارنا الذي قام بنا صاعدًا نحو الشمال إلى «كولورادو اسبرنج».
(٤٤) يوم أول يوليو
وصلنا إلى هذه المدينة في أول يوليو بعد أن قطعنا إليها ١١٩ ميلًا، وعدد أهلها ٣٠ ألف نفس، وهي في آخر الخط الحديدي الذي يسير إليها من نيوا بلو.
وفي الساعة السابعة صباحًا تركْنا القطار وأفطرنا في لوكندة المحطة، ثم ركبنا الأوتوموبيلات إلى محطة الفنوكيلير، للصعود إلى قمة جبل كولورادو، وكنا أخذنا لها تذاكرنا من قبل، ركبنا هذا المصعد الكهربائي في الساعة التاسعة صباحًا فسار بنا مارًّا في طريق محفور في الجرانيت بيد الطبيعة وهذبته يد الإنسان، وقد قامت على حافتيه أشجار الصنوبر والبلوط، وعلى ارتفاع ١١٥٠٠ قدم انبسط الوادي نوعًا، ورأينا فيه بحيرة ممتلئة بالماء الذي ينزل إليها من المثالج التي في أعلى الجبل! وبعد أن صعدنا نحو مائة قدم رأينا السحاب يتكون في منطقة أسفل منا.
ولما صعدنا إلى ١٣٠٠٠ قدم وجدنا البرد قد اشتد كثيرًا، والأشجار قد انقطع نموها وأصبحت رأس الجبل جرداء، وقد ابتدأت مثالج الجليد تظهر لنا هنا وهناك في أخاديد الجبل مما ذكَّرَنا بجبال سويسرا، لولا أن منظرها هنا جافٌّ، وليس فيه من مظاهر الحياة إلا ذلك الطحلب الذي نراه عادة على قبور الموتى.
وصلنا إلى قمة الجبل، وكانت درجة الحرارة نحو عشرة تحت الصفر، ودخلنا لوكندة هناك أخذنا بها شيئًا من الشاي، وبعد أن استرحنا حول المناقد التي بوسطها، عُدْنا أدراجنا إلى قطارنا الكهربائي الذي سار بنا في منتصف الساعة الحادية عشرة إلى مدينة كولورادو، فوصلناها الساعة ١٢ ونصف، ولا يفوتنا هنا أن نقول: إن كثيرين من الركاب أخذه دوار الجبل، وهو ما يشبه دوار البحر تمامًا في تأثيره على أعصاب المعدة، ثم ركبنا قطارنا فسار بنا إلى مدينة «كامون سيتي» والمسافة التي قطعناها إليها ١٦٠ ميلًا.
(٤٥) يوم ٢ يوليو
وصل القطار إلى محطة كامون سيتي في صباح هذا اليوم، وهي مدينة صغيرة عدد سكانها أقل من خمسة آلاف نفس، وبعد أن أفطرنا ركبنا المركبات لمشاهدة مزارع هذه الجهة التي تكتنفها الجبال من كل جهة حتى يصح أن نسميها واحة جبلية، فيها بعض أشجار الفاكهة، ومزارع الخضر والحبوب، وتتخللها بعض مجاري المياه، ومنها مجاري جافة لا يسير فيها الماء إلا في آخر فصل الشتاء، وهناك جبل على شكل حائط بين الصحراء والواحة يبلغ ارتفاعه مائة متر، وعرضه من أعلاه على عرض الطريق الذي لا يزيد على أربعة أمتار، فلما وصلنا إلى أعلاه تَمَثَّل لنا الخطر في صعوده ونزوله، خصوصًا ونحن راكبون «الأوتوموبيل»، ولما نزلنا إلى الوادي حمدنا الله على سلامتنا، وسرنا إلى المحطة حيث ركبنا قطارنا الذي قام وقت الظهر وسار في طريق بين جبلين عاليين أحمرين يسمونه «ويل جورج»، ومن دون الطريق الحديدي نهر كولورادو الذي لا تزيد سعته هنا على ثمانية أمتار.
وقد امتدت في حضن الجبل على جانبه الأيسر أنبوبة قطرها نحو ثلاثين سنتيمترًا يأتي فيها الماء من ارتفاع بعيد لشرب المدينة، وعلى جانبه الآخر طريق عرضه نحو ثلاثة أمتار يرتفع عن الماء بمتر ونصف أو مترين على الأكثر يسير فيه الطريق الحديدي، فوقف القطار بين لابتَي الجبلين الصخريين، ونزل بعضنا منه لمشاهدة هذا الوادي الذي خَطَّتْه يد الماء لمجرى الماء، ذلك الوادي الصخري الذي اخترقتْه تلك اليد اللينة الرقيقة التي ما زالت — والصبر قرينها والجهاد ملازمها — تطالِب — على ضعفها — بحقها في الحياة، تلك القوة الهائلة التي وقفت في طريق حريتها، حتى زحزحتها عن مكانها بيد الحق لا بيد القوة، وها هو هذا المخلوق الرقيق يسير بين هذه الصخور الشامخات بكل عظمة وكبرياء هما نتيجةٌ صالحةٌ لصدقِهِ في جهاده، وإخلاصه في عزيمته.
وهل يصح أن يكون هذا الوادي مدرسة يتعلم الإنسان في صفحتها درسًا من دروس الدفاع الوطني؟! من هذه الطبيعة التي كثيرًا ما تقف منا عن قرب موقف تعريفٍ وإرشاد ونحن في عمًى عنها، وصممٍ عن نصحها وإرشادها؟!
استأنف القطار سيره في هذا الوادي الضيق نحو ساعتين، ثم انفرج نوعًا، وظهرت أمامنا رءوس الجبال وقد ظهر على نواصيها جلال المشيب، وظهرت على قممها المثالج، وأخذت تظهر على صفحة الوادي هنا وهناك بعض المزارع، حتى إذا كانت الساعة الرابعة تَغيَّرَ شَكْل وجه الطبيعة بما هو فوق الجفاف، حتى لكأنك ترى الأشجار التي تمر عليها في حالة النزع، وقد سار قسمٌ من النهر إلى جهة المغرب بعد أن كان سيره كله إلى المشرق.
وما زال القطار يسير وسط هذه الجبال الجافة، وكلما سِرْنا أخذ منظرها يزداد جفافًا حتى خِلْنا أنفسنا بين يدي تلك الطبيعة المتوحشة التي يُذكِّرُنا ما فيها من وحدة ورهبة بالنقطة التي تنتهي إليها الكائنات الحية، خصوصًا إذا لاحت منك الْتفاتة ورأيتَ جميع السُّفار وكلٌّ جاثم على نافذته وأبصارهم حائرة، وقلوبهم طائرة من خشية ما ينظرون، ووحشة ما يحيط بهم من تلك المناظر التي إذا تركوا شيئًا منها وقعوا في دائرة مناظر أخرى أشد وحشة ورهبة! وكان بجواري رجل من أهل المكسيك حقق لي أنه مع كثرة أسفاره لم يَرَ مشاهد أعجب ولا أغرب ولا أوحش مما وصفناه لك بكل اختصار.
وفي الساعة السابعة مساءً وصلنا إلى محطة «جلنوود إسبرنجس» وفيها تغير منظر طبيعة الوادي الذي ظهر لنا لابسًا حُلَّتَهُ السُّندسية، ولم يزل القطار سائرًا في هذا الوادي يضيق أحيانًا، ويتسع أحيانًا، ويخشن آونة، ويجمل أخرى، حتى وصلْنا في الساعة الثامنة صباحًا إلى محطة «سيلت ليك ستي».
(٤٦) في يوم ٣ يوليو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى مدينة سيلت ليك (مدينة البحيرات الملحة)، وهي في وسط ولاية إيتاه بميل إلى شمال بعد أن قطعنا إليها ٥٨٥ ميلًا، وعدد سكانها ١١١ ألف نفس كلهم من طائفة المورمون، وكان في انتظارنا جماعة منهم، فأخذونا إلى محطة القطار الكهربائي فركبناه إلى البحيرات، فَسِرنَا في وادٍ اتسع أمامنا اتساعًا عظيمًا، وظهرت على أرضه من الجانبين تلك الأملاح التي أفسدت تربتَها بحيث أصبحت غير صالحة للزراعة، وتكثر البرك الملحة على طول الطريق، وكان يظهر فيها شيءٌ من البط، وكان يتخلل هذه الأراضي بعض الجداول الصغيرة، ولكنها لا تفيدها لأنها محرومة من المصارف، نعم كانت هناك بعض مزارع من البرسيم والقمح في بعض الجهات العالية، ولكن القوم أحاطوها بمصارف واسعة تَجذب إليها بواسطة الرشح بعض الأملاح الموجودة فيها، وكنا نبصر من بُعد أكوامًا كبيرة من الملح، وقريبًا منها وابورات لتنقيته، ومركبات للسكة الحديدية لشحنه.
وانتهى بنا المسير بعد ساعة إلى بحيرة كبيرة بُنِيَ في وسطها رصيف تسير عليه القطر الكهربائية نحو كيلومتر، وفي نهاية الرصيف كازينو كبير جدًّا جمع كثيرًا من موجبات التسلية والسرور؛ ففيه قسم للألعاب المختلفة، وآخر للحمامات، وثالث للمطعم، ويلي ذلك قاعة للجلوس تَسَعُ أكثر من اثنى عشر ألف نفس، وهذه القاعة تُطِلُّ على البحيرة من الجهتين، وبجوارها الحمامات البحيرية وهي بنظام جميل جدًّا أحسن منه في كل جهة، رأينا فيها نحو ألف غرفة للمستحمين، وماء البحيرة فيه ٢٥ / ١٠٠ من الملح مع أن البحار الملحة ليس فيها منه أكثر من ٤ / ١٠٠! وقصارى القول إن هذا المكان به ما يشوق الإنسان ويروقه بنظامه البديع وسعته العظيمة. وبعد أن أخذنا حماماتنا «بأجرة نصف ريال لكل شخص»، تغدينا هناك بدعوة من الغرفة التجارية للمدينة على النظام الخلوي، ثم قامت الخطباء بعد الغداء حسب المعتاد تتكلم في شتى الموضوعات، وكنت أرجو أن يكون لنا نصيب من ذلك، ولكن ما دامت الخطابة في مدارسنا ممنوعة، وفي غيرها غير مشروعة، فنحن على قديمنا فيما هو محفوظ عن ظهر قلب! وهل يمكننا أن ننسى أنه يوجد بين أظهرنا إلى الآن قوم لا يزالون يقولون في دعائهم يوم الجمعة: «اللهم اجعلهم هم و… و…» نعم إنا نشطنا من عِقَالنا يومًا ما، وأخذنا نكتب ونقول ونخطب ولكن في موضوع واحد.
أما القوم هنا فمن ضمن مسابقاتهم المدرسية تربية البديهة عندهم، سواء من طريق الكلام أو من طريق الكتابة؛ لأن في جامعاتهم ومدارسهم مسابقات بين الطلبة في أوقات يقترحون عليهم فيها الكلام في موضوعات مختلفة يرتجلها المتكلمون، أما إذا اجتمعوا للمسابقة في الكتابة فتُوَزَّع عليهم ظروف مختومة لا يعلم أحد بما فيها، ويحدَّد لهم ميعاد ضيق للجواب عنها، هنالك تنشط الأقلام بما توحيه الأفكار، وتعطى للمبرزين فيها الجوائزُ، وبهذا تربَّت عندهم قوة البديهة في الكلام وفي التحرير.
دخلنا روضة جميلة جدًّا فيها بناءان؛ واحد على شكل الكنائس المعتاد بأوروبا في جمال منظرها الخارجي وحُسْن روائه بما فيه من النقوش البارزة أو المحفورة، وهذه تُسَمَّى عندهم قدس الأقداس، ولا يدخلها أحدٌ إلا من كان متقدمًا في مذهبهم، والثانية بناء هائل بسيط في منظره الخارجي وهو الذي دخلناه.
وهذا البناء على شكلٍ بيضاوي، قُطْره الكبير نحو مائة متر، والصغير نحو خمسين مترًا، قامت عليه قبة واحدة وإن كانت بسيطة في بابها ولكن بساطة المكان في عمومه ترفرف عليه آيات الجلال والفخامة، وبعد أن أخذنا مقاعدنا وقف رجل في جانب من الهيكل وتكلم بعباراتِ التأهيل والترحيب بصوتٍ عاديٍّ كان يرن في أرجاء المكان، ثم دعا رجلًا منهم فقعد إلى آلة موسيقية (أورج) كانت تشغل صدر المكان، وهي كبيرة جدًّا في نوعها، فأدار يده عليها فصدرت عنها نغمات تُطْرب الآذان مع ما كنا فيه من سكوت عميق، وكانت هذه النغمات تبدو تارة قريبة بحيث تكاد تكون على ملمس منا، وآونة تبدو بعيدة بما كنا نخالها معه على بضعة أميال، وبالجملة فقد أسمعنا هذا الرجلُ المعجبَ والمطربَ بما كادت نبراته تطيش لها الألباب، لولا ما كان يكتنفها من جلالٍ وجمال، وهيبة ووقار، وهنا نقول لك كلمة عن طائفة المورمون الغريبة التي أصبح لها في عالم النصرانية شأنٌ كبير لطقوسهم الخاصة بهم، لا سيما فيما يتعلق بتعدد الزوجات.
(٤٧) المورمون
في سنة ١٨٢٠م ظهر رجل اسمه يوسف سميث في قرية شارتون من ولاية نيويورك، ادعى أنه رأى الله جهرة. وفي سنة ١٨٢١م ادعى أن ملاك الرب أتى إليه وأخبره بأن الله بعث إليه برسالة الإنجيل الحقيقي مكتوبة على ألواح من الذهب، وفي هذه الألواح قصة المورمون الذين كانوا يوجدون بهذه البلاد قبل المسيح بستمائة سنة وكانوا من المؤمنين الذين يعبدون الله على الطريقة الحقة.
ومن عقائدهم أن الإنسان ما دام قادرًا على الزواج فله أن يتزوج. وفي سنة ١٨٤٣م قررت كنيستهم تعدد الزوجات وأخذوا به فعلًا، وهنا قامت قيامة الناس على هذا المتنبئ الجديد، ورفعوا أمره إلى القضاء جملة مرات، ولكنه كان يخرج من أمامه بريئًا، وكان هذا يزيد في نار الحقد التي كانت تضطرم في قلوبهم، حتى إذا انتهزوا فرصة وجوده هو وأخوه وستة عشر من شيعته في مدينة قرطاجة رموهم بالرصاص وقتلوهم جميعًا، فانتَخَبَ المورمون خليفة له رجلًا من حوارييه اسمه «بريهام يانج»، ولكنهم ما زالوا في اضطهادهم حتى قرَّ قرارهم على الهجرة، فباعوا أملاكهم وساروا إلى جهة الغرب في فبراير سنة ١٨٤٦م، وما زالوا سائرين حتى وصلوا إلى البحيرات الملحة في ٢٤ يوليو سنة ١٨٤٧م بعد أن قطعوا على أرجلهم ٢٤٠٠ كيلو مترًا كانت كلها مشقات وألوانًا من العذاب.
وهنا أخذوا يحرثون الأرض ويشقون مصارفها ويُصْلِحون من أَمْرها بهمة لا تَعْرف الملل، ثم زرعوها فأنتجت لهم غلة وافرة، أقاموا منها هيكلهم، وما زالوا باجتهادهم في الزراعة حتى قلبوا هذه الصحراء إلى روضة غناء، وهي الآن من أحسن أراضي أمريكا إن لم تكن أحسنها جودة وإنتاجًا ومعادن مختلفة، إلا أن أهل الجهات المجاورة ما زالوا يحسدونهم على نعمتهم، فاتهموهم بأن لهم ضلعًا مع الحمر (الهنود) وأنهم يُخْشَى منهم على الأمن العام، فأرسلت حكومة الولايات محققين لتحقيق هذه الإشاعات فوجدوها لا صحة لها، وأنْ ليس عليهم من شائبة إلا ما يخالف الدين المسيحي في كثرة الزواج.
وحقيقةً فقد كانوا يتزوجون مثنى وثلاث ورباع، بل أكثر من ذلك، وكان رئيس كنيستهم يباح له زواج إحدى وعشرين امرأة، وهم يقولون: إن الله أباح إلى نبيه سميث كثرة الزواج لمصلحة النوع الإنساني؛ لأن فيه عصمة وفضيلة، وإن الأنبياء إبراهيم ويعقوب وغيرهم كانوا يتزوجون بأكثر من واحدة، ويرتكنون في كثرة الزواج على قول المسيح لحواريه: «تكاثروا تناسلوا وعمروا الأرض»، ومن جهة أخرى فإنهم يقولون: إن مذهب لوثير يرى أن زواج الإنسان بامرأتين في آنٍ واحد ليس فيه من جريمة ضد القانون الإلهي، وهم يزعمون أنه يأتي يوم تنقص الحروب من الرجال فيضطرون إلى كثرة الزواج لأجْل حِفْظ النوع الإنساني.
إلا أن حكومة الولايات المتحدة أصدرت في ٢ يوليو سنة ١٨٦٢م مرسومًا بإمضاء الرئيس لنكولن يمنع تعدُّد الزوجات في الولايات المتحدة، وجعلوا لذلك عقابًا يتراوح بين ٥٠٠ ريال غرامة إلى خمس سنوات سجن، ثم غيَّروه بقانون آخر في ٢٢ مارس سنة ١٨٨٢م وجعلوا عقابَهُ السجن ستة أشهر، والحرمان من الحقوق المدنية.
وفي التعداد الأخير وجدوا منهم ثلاثة آلاف رجل في عصمتهم تسعة آلاف امرأة، فقررت الحكومة التفريق بينهم، إلا أن القوم لم يُعدَموا وسيلةً لإنكار الزوجية في حال عدم الجمع بين الزوجات بحيث أصبح لكل واحدة مسكن بمفردها «مسكن شرعي».
وفي سنة ١٨٨٧م صدر قانون يقضي بأن قسائم الزوجية لا بد أن تُقَيَّد عند كاتب العقود، ومَنْ يخالِف ذلك تصادَر جميع أملاكه، وهنا ابتدأت الحكومة في الضغط عليهم وصرَّح لهم القاضي بأنه يكتفي منهم بالوعد باحترام قانون البلاد، ولكن الكثير منهم لم يَقْبَل هذا الوعد وفَضَّلَ السجن على وعْد يقوم على قاعدة الكذب.
غير أن رئيس الكنيسة المورمونية (البابا) أظهر لهم النصيحة بعدم كثرة الزواج حتى يهدءوا من نقمة الحكومة وضغطها، ولكنها العقيدة تتظاهر بغير ما تخفي الصدور، خصوصًا في حالة ضعفها.
ولقد كان مجلس السناتو في السنين الأخيرة ينظر في صحة انتخاب أحد الرؤساء الذين عندهم عضوًا بالمجلس، ولكن المجلس قرر عدم صحة انتخابه؛ لأنه يتبع مذهبًا يقول بتعدد الزوجات الذي يحرِّمه القانون، وقد قال هذا الرجل في أثناء تحقيق المجلس معه «إنه متزوج بخمس زوجات، وكلهن يقدسن تعدد الزوجات»، ولما سئلت إحداهن في ذلك (وهي السيدة أدنا لامسون)، قالت: «إني أفتخر بأني زوجة لرجل تعددت زوجاته، وإني أعتقد بصحة تعدد الزوجات اعتقادًا تامًّا، ونحن سعداء بهذه العقيدة، وليس للسناتو شأن بالاهتمام بأمورنا الداخلية»، وكانت هذه الزوجات الخمس يسكنَّ في بيتٍ واحد.
وأخيرًا صدر أمر من رئيس الكنيسة المرمونية (البابا سميث) بتحريم تعدد الزوجات بشرط ألا يسري هذا القانون على الذين تزوجوا قبل صدوره، والبابا سميث هذا له من الزوجات ثمان، ومن الأولاد ٤٥، ومن الأحفاد ١٥٠!
وللمورمون إنجيل خاص يسمونه الإنجيل الغربي، للفصل بينه وبين الإنجيل الشرقي، وهو إنجيل المسيح، وفي ديانتهم من الأسرار ما لا يطلع عليه غيرهم، ولا يدخل هيكل الرب مَنْ كان على غير شيعتهم مطلقًا.
ويصل عدد المورمون إلى أكثر من ثلاثمائة ألف نفس، ولكنهم ربما زادوا على ذلك كثيرًا، وهم قوم أغنياء جدًّا بما أصبحت عليه أرضهم من الجودة بعد إصلاحهم لها، ولِما وجدوه فيها من المعادن المختلفة من ذهب وحديد ونحاس وبترول.
وعندهم أكثر من أربعين شركة لاستخراج البترول فقط في ولاية إيتاه وحدها.
وهم يدفعون عُشْر إيرادهم للكنيسة، وهم على أحسن ما يرام سيرة وفضيلة وهمة ونشاطًا، ويُصَدِّرون كل سنة أكثر من ٢٠٠ مليون طن من الملح إلى الولايات الأخرى غير ما يصدرونه من السكر والحديد المشغول وخامات المعادن المختلفة.
•••
وعلى ذِكْر المورمون ومذهبهم الذي يمتون به إلى النصرانية، أقول: إنه قام في شيكاجو في العقد الأخير من القرن العشرين رجل وفد إليها من أوستراليا اسمه «دوي»، وادعى أنه نبي تَقَمَّصَتْ فيه روح إلياس النبي، وبعث للتجديد الواجب لإصلاح الدين المسيحي، ذلك التجديد الذي به يمهد الطريق لنزول المسيح إلى هذه الأرض لنشر راية السلام بها، وكان يدعو في خطاباته إلى تحريم التياترات والبارات والأجزاخانات والدخان والأطباء وأمكنة الدعارة والتمثيل؛ لأنها مما يكرهه الخالق، وكذلك كان ينهى عن تربية الخنزير وبيعه وأكله؛ لأنه يُوَلِّد السرطان ويُسَبِّب السل، ووصل به تأثيره على سامعيه بأن كان يشفي مرضاهم، واستأجر مكانًا بشيكاجو أقام فيه كنيسة للعبادة على مذهبه، وانتشر خبره بين الناس فتبعه خلقٌ كثير، وكان يأمرهم بالعمل في التجارة أو الصناعة مع الجد والاجتهاد في المكسب، شرطًا أن يكون للكنيسة عُشْر ما يكسبون.
وما زال هذا شأنه حتى أصبحت له ثروة واسعة فاشترى نحو ثمانية آلاف فدان على بحيرة مشيجان وعلى بُعد ٦٧ كيلومترًا من شيكاجو، وهنالك خطَّط مدينته، وبعد أن رسم شوارعها على أحسن ما يكون نظامًا وصحة، بحيث بلغت سعة الشوارع العادية إلى أربعين مترًا والرئيسية إلى ٩٠ مترًا، سمى الشوارع بِاسمِ ما ورد في الكتاب المقدس من الأنبياء؛ فترى بها شارع إبراهيم، وشارع إسماعيل، وشارع موسى، وهكذا …
ثم قسم ما بينها من الفضاء إلى نِمَر باعها من تابعيه بثمن باهظ، وابتنى في وسط المدينة كنيسته التي سماها «سيون»، وفي يوليو سنة ١٩٠١م فُتِحَتْ أبواب هذه الكنيسة لمريديه، وقد بلغت ثروة هذا الرجل عشرات الملايين من الدولارات، وحتَّى الدِّين يتخذونه آلةً في الولايات المتحدة للوصول إلى الثروة!
ولهذه المناسبة أقول: إن التيار الديني يجد له بها أذنًا صاغية ككل جديد؛ لذلك ترى فيها عددًا كبيرًا من الفرق الدينية، وفيها مذهب واسع للصوفية، بل وصل إليها مذهب البهائية، ولقد سافر إليها السيد عباس البهائي قبل وفاته لزيارة شيعته بها، بل يقولون: إن بها كثيرين قد اعتنقوا الدين الإسلامي؟ وبالجملة فكل شيء في هذه البلاد غريب في بابه.
•••
وفي الساعة الثانية بعد الظهر ركبنا القطار الكهربائي إلى المدينة، وهناك امتطينا الأوتوموبيلات لزيارتها، فوجدناها من ألطف وأنظف ما رأيناه في كل الولايات المتحدة، وأبنيتها لا تزيد في الغالب عن طبقتين، يحيط بها حديقة صغيرة من الجازون، وقد زرنا المتحف وهو في بنائه من أفخر شيء في بابه، والدور الأرضي منه فيه بعض المعروضات من معادن البلاد، ومن ضمنها الذهب والفضة والزنك والفحم الحجري، يتلو ذلك بعض الفاكهة المحفوظة في أوانٍ زجاجية، وهي من أحسن إن لم تكن أحسن شيء في نوعه، وبجانب هذا وذاك بعض حيوانات البلاد المصبرة، أما الدور الثاني فحوائطه وسلالمه ودرابزيناته من الرخام المرمر مما لا يُمْكِن وَصْف جماله، خصوصًا ما فيها من النقوش الطبيعية، ثم تركنا هذا المكان لزيارة الكنيسة التي مَرَّ بك ذِكْرها.
(٤٨) يوم ٤ يوليو
قمنا من مدينة سيلت ليك متجهين إلى الجنوب الغربي، فقطعنا ولاية «إيتاه» ثم دخلنا في ولاية «نوفادا»، ومررنا فيها على مدينة لافيجا (المرج)، ودخلنا في ولاية كاليفورنيا حتى وصلنا إلى مدينة ريفرسايد، والمسافة التي قطعناها إليها ٧٢٦ ميلًا، وبينها وبين الأقيانوس الهادي نحو ٦٠ ميلًا.
ومدينة ريفرسايد سكانها عشرون ألفًا، وهي محطة للتجارب على أشجار الفاكهة وخصوصًا على البرتقال، وربما كانت أهم محطة للتجارب في جميع المعمورة؛ لأنها تُصَدِّر من البرتقال وحده سنويًّا بمبلغ مليوني جنيه، وهي مختصة بنوع برتقالٍ اسمه «واشنطون»، وهو الذي نجح بمصر واسمه «أبو صرة»، وأهم تجارتها — عدا البرتقال — التفاح والعنب والبرقوق.
وأشجار البرتقال هي التي عليها التجارب هنا، وهي مزروعة صفوفًا مستقيمة جدًّا على بُعْد أربعة أمتار، وأرضها معزوقة كلها سواء في مجرى الأشجار أو المسافات التي فيما بينها، وعلى بُعْد نصف متر من ساق الشجرة يمينًا وشمالًا قناة للري، وبعد سقي الشجرة يكسرونها قبل جفافها حتى تحتفظ الأرض برطوبتها؛ وذلك لقلة المياه في هذه المنطقة، وتربة الأرض هنا بين الحمراء والصفراء، ويظهر من خدمتها العناية الشديدة هنا بالزراعة في الأشجار على الخصوص، وفي وسط هذه المزارع بناء عظيم فخم هو إدارة التجارب التي تبلغ أرضها ٧٥٠ فدانًا، ومنها جزء مخصوص لتمرين طلبة جامعة كاليفورنيا ببروكلي، وعندهم معامل متصلة بهذه المحطة للمباحث المتعلقة بالنباتات الخاصة بالمنطقة المعتدلة، وهي أقسام: منها قسم للفحص النباتي، وقسم للفحص الفطري، وآخر للحشرات، وآخر للتحاليل الكيماوية.
وأحسن ما شاهدْتُه مزرعة للمشمش أشجارها محملة بالفاكهة من مبدأ الفروع إلى نهايتها، بحيث تكاد لا ترى ورقة إلا وبجوارها ثمرة! والتجارب في البرتقال كلها سائرة على التطعيم بالنارنج، وهم يجربونه الآن على شيء من غيره من الموالح الأخرى! كما أنهم يجربون كل أنواع السماد ليتبينوا الأصح منها للموالح.
ومما رأيناه في تجاربهم أن الشجر يُزْرَع على طريقة الثالوث المعروفة عندنا، ولكن ثمره أقل منه في الصفوف المستقيمة المزروعة على التربيع، ومن وقت ما تُزْرَع الشجرة تطعم بعد سنة، أو سنتين، وتثمر بعد أربع سنوات، يعني بعد ست سنوات من مبدأ زراعتها، ومتوسط محصول الفدان في المقاطعة كلها (كاليفورنيا) من ٢٥٠ إلى ٥٠٠ ريال في الأراضي الجيدة، وربما بلغت مصاريف الفدان إلى نصف ذلك.
ومزارع الفاكهة عندهم كل على حدته؛ فالبرتقال وحده، والليمون وحده، والمشمش وحده، والتفاح وحده … وهكذا، وذلك كله لأجل تقدير الماء اللازم لكل صنف وسقيه في أوان شربه، ويَقْرُب من هذه الجهة مزرعة من العنب كبيرة جدًّا مشهورة بكرومها، وهي لأخوين إيطاليين، وعنبها يباع إما فاكهة أو مجففًا (زبيب) أو على هيئة شراب كهذا الذي يسمونه في الآستانة «بكمز»، وقد يزرعون البقول بين أشجار الفاكهة، حتى إذا كبرت حرثوها بحالها لتكون سمادًا.
ويقال إنهم زرعوا القطن في هذه الجهة ولكنهم رأوا مصاريفه أكثر من محصوله، ومياه الشرب تأتي إلى المزارع في أنابيب من الحديد، فترى على كل قناة حنفية إذا أطلقوها تَفَجَّرَ منها الماء، ولهذه المياه شركة مخصوصة لها آبار أرتوازية تعمل ليل نهار لسقي المزارع في تلك المنطقة؛ لأن الأنهار فيها تجف مدة الصيف، وقد يشرب الشجر بِرَشِّه رشًّا كثيرًا بواسطة خراطيم يثبتونها في الحنفيات التي نراها هنا وهناك وسط المزارع، والماء يسير في المواسير في كل مزرعة كل أربعة أسابيع خمسة أيام فقط، وماء الآبار الأرتوازية على مائتي قدم من سطح الأرض، وهو يسقي المزروعات والمدينة، ومصاريف الفدان من الماء ١٢٠ ريالًا في السنة.
ومن أغرب الأمور أنهم يُمَرِّرون الماء الساخن في مواسير تتخلل بعض مزروعاتهم مدة الشتاء!
والأمطار تقل جدًّا هنا مدة الصيف، ولا تبتدئ إلا من نوفمبر، وليس هنا من تُرَع إلا مدة الصيف، وأكبر أنهار هذه المنطقة هما «ساكلامنتو، وسان فاكين» وهما بعيدان من هنا، ويتحدان قريبًا من سان فرنسسكو، وتنعدم مياههما في الأقيانوس، وقد فَكَّرَ القوم هنا في مياههما لعمل أحواض للري، ولكن هذا المشروع يحتاج إلى مصاريف باهظة، خصوصًا في اختراق بعض المناطق الجبلية، وهم يفكرون الآن في تسيير مياه نهر كولورادو إلى هذه الجهة، وهذا المشروع يحتاج أيضًا إلى عمل خزانات واسعة تكلف مائة مليون ريال!
والتسميد تجربته دائرة حول خلط بعض الأسمدة بعضها ببعض على نسب مختلفة، نترات صودا، سلفات نوشادر، نترات بوتاسا، سناميد، بلدي، ونتيجة هذ التجارب لا تظهر إلا بعد عشر سنوات على الأقل، أما مدار السباخ عند الأهالي فعلى السباخ البلدي (سباخ الإسطبلات).
إلا أنهم يعنون بهذا السماد الأخير (البلدي) عناية تناسب ما يلزم لكل زراعة منه، حتى يكون وافٍ بالغرض من تغذية كل صنف من الأصناف المنزرعة، ويحفظونه من التأثرات الجوية؛ فلا يعرضونه إلى الشمس، ولا إلى التيارات الهوائية كثيرًا حتى لا يفقد بالتبخر العناصرَ المغذية للنبات (كما هو الحال عندنا!)
أما أمراض النباتات فالطرق المستعملة فيها هنا هي الطرق المستعملة في مصر من تبخير وَرَشٍّ، ومن حُسْن حظهم لا توجد عندهم تلك الآفة الثقيلة التي لا توجد إلا في حوض البحر الأبيض المتوسط، وهي ذبابة الفاكهة، وقد أخبرني المرحوم أباظة بك أن قسم الحشرات بمصر وصل في سنة ١٩٢٦م إلى نتائج مُرْضية في مقاومة هذه الذبابة.
•••
وأول زراعة البرتقال هنا تبتدئ من سنة ١٨٧٥م على يد سيدة اسمها «مسز تبت»، أخذتْ هذه السيدة شجرةً من ولاية واشنطون وزرعَتْها في هذه الجهة، وكانت هذه المنطقة صحراء لا يسكنها غير الرمل والهواء، فقَدِمَ إليها جماعة المبشرين، وفتحوا فيها أبواب الاستعمار بواسطة الدعوة العامة للناس، فوصل إليها جماعات اشتروا مساحات واسعة من الأرض بثمن بخس دراهم معدودة، وأخذ هؤلاء من جهتهم يدعون الناس بكل وسائل الإعلان متساهلين لهم في بيع ما ليسوا في حاجة إليه من أملاكهم الواسعة، فلم يَمضِ زمنٌ كبيرٌ حتى استعمر الناسُ هذه الجهة، وأخذوا يزرعون في تربتها الجيدة مختلف الشجر حتى أصبحتْ كما ترى.
•••
زرنا المدينة فرأيناها جميلة ونظيفة، ومساكنها بعيدة عن بعضها رغمًا عن شوارعها الكثيرة، والتي إنما خُطِّطَت للمستقبل، وفي تقاطُع بعض الطرق مثلث في رأسه دائرة مسورة بالحديد فيها شجرة برتقال قد شاخت، وعملوا لها دعائم تحمل أغصانها، وهذه هي الشجرة الأولى التي زَرَعَتْها مسز تبت، هي الشجرة التاريخية التي شاهدت من أولادها ما غَيَّر منظر الصحراء إلى هذه الرياض اليانعة، التي تُدرُّ الذهب على أصحابها، وفي جوار الشجرة قِطعةٌ من الرخام منقوشٌ عليها تاريخها، ويقرب من هذه الجهة جبل ارتفاعه ١٣٥٦ قدمًا، يسمى جبل روبيدو، صعدنا إلى قمته بالأوتوموبيل في طريقٍ متعرجة، فظهرت لنا المدينة مستطيلة من الشمال إلى الجنوب، تكتنفها الأشجار من كل ناحية، ويحيط بها من جهةٍ غاباتٌ من الكافور والسرو ومن غيرها غاباتٌ من البرتقال مما لا ترى له مثيلًا في مدن أخرى، وفي غربها نهر سارنابا، وفيه قليلٌ من الماء الراكد، وهو يجف مدة الصيف ويكثر ماؤه مدة الشتاء، ولما وصلنا إلى قمة الجبل ظهرت لنا مساكن المدينة وكلُّ ما فيها كأنها روضة من الرياض، أو غيضة من الغياض.
وفي هذه المدينة كلية للحمر (الهنود) الذين يَكْثرون في هذه الجهة، ويظهر أن أول من استعمر هذه الجهة الإسبان؛ لأن فيها كثير من الأعلام الإسبانية؛ فلفظ روبيدو مُحَرَّف عن «توبيدو»، وهو ذلك الجبل الموجود في برشلونة، ومقاطعة نوفادا الصحراوية إنما سُمِّيَتْ باسم نوفادا الجبلية التي تقطع بلاد إسبانيا من شمالها إلى جنوبها تقريبًا بميل إلى الغرب، وقد تعشينا في أهم لوكندة من هذه المدينة وهي على النظام الإسباني، وإن شئت فعلى النظام العربي الأندلسي، وبعد العشاء قصدنا قطارنا الذي قام بنا إلى مدينة لوس أنجلوس، وقد تركنا في هذه المدينة حضرة العالم الفاضل «المرحوم محمود بك أباظة لزيارة ولاية كاليفورنيا»، والتفتيش على الطلبة المصريين الموجودين بها، ففقدت في سياحتي به أنيسًا وقاموسًا! فَقَدتُ به أنيسًا كان يعاملني بلطفه وأدبه وعطفه وكرمه، ولا غرابة في ذلك؛ لأنه ورث هذه المكارم عن محتده، وفقدت به قاموسًا زراعيًّا كنت ألجأ إليه في كل ما يُشْكِل عليَّ أَمْرُه، فكان يفيض علمًا وفنًّا بما أفادني كثيرًا رحمه الله تعالى.
(٤٩) ولاية كاليفورنيا
هذه هي البلاد الغنية بثروتها المعدنية والزراعة، وهي واقعة في غرب ولايات الاتحاد على المحيط الهادي، هذه هي البلاد التي وهبها الله من طبيعة أرضها، واعتدال جوها، ما جعل الزراعة فيها تنمو نموًّا لا تراه بأرضٍ غيرها من أي جهة من جهات المسكونة؛ فبينا ترى حدودها على المحيط جبالًا صغيرة، قد اتخذت فيها الطبيعة خزانات للمياه التي تتكون من مناطق الثلوج الواسعة، والتي تنحل شيئًا فشيئًا على طول أيام السنة فتتفجر منها العيون، وتتكون منها البحيرات التي تتغذى الأنهار الطبيعية التي تتخلل تلك الغابات الشاسعة التي تغطي مسافح هذه الجبال على مسافات بعيدة الأطراف، مما تبلع مساحته مئات الكيلومترات، وترتفع أشجارها في الجو إلى أكثر من خمسين مترًا، ويصل قُطْرها إلى ستة أمتار في الغالب، حتى إذا اتجهت مياه هذه الأنهار إلى ما وراء المنطقة الجبلية، وتغلغلت في وسط تلكم السهول الواسعة بما هذبته يد الإنسان من مجاريها وجداولها وآبارها الأرتوازية، وبما أقامته من هذه الخزانات الصناعية التي تدبر المياه إلى مزارع هذه المنطقة في الوقت المناسب، أحالت تلك الصحاري إلى جنات ذوات أفنان فيها من كل فاكهة زوجان، مما اشتهرت به هذه البلاد من حيث وفرة المحصول وجودته، مما لا يوجد له مثيل في العالَمَيْن القديم والجديد، وعلى الخصوص في التفاح والكمثرى والبرقوق والمشمش والخوخ.
ونجد إلى جانب هذه الجنات تلك المراعي الواسعة التي ترعى فيها مئات الآلاف من الأبقار والخيل والغنم، حتى إذا جاء الخريف، وجَفَّت المراعي، انتقلت الماشية مع رُعاتها إلى مسافح الجبال لترعى في المناطق التي يستأجرها أصحابها من الحكومة، وإلى جانب هذه المراعي ترى بعض مزارع للقمح والأرز، خصوصًا في جهات «سكرمانتو»، ولم يُزرع الأرز بها إلا في سنة ١٩٠٠م، وهو ينمو فيها نموًّا عظيمًا، حتى إنهم يُقَدِّرون محصوله الآن في هذه الولاية بأكثر من ٣٠ مليون دولار! وهم يُصَدِّرونه على الخصوص إلى بلاد اليابان.
ويزرعون في كاليفورنيا الخضروات المختلفة والبطيخ والشمام، وهو من أحسن ما أكلنا من نوعه، وهو في شكل القاوون الأزميرلي، وربما كان أحلى منه، وأكثر اصفرارًا.
أما الكرْم وما أدراك ما الكرْم! فقد كان من أكثر ما يُزْرَع في أرض كاليفورنيا إلى سنة ١٩٢٠م التي حَرَّمَتْ حكومة الاتحاد فيها الخمر في كل ولاياتها، غير أن هذا التحريم لم يمنع القوم من الانتفاع بفاكهة الكرم على المائدة، فينقلونه في عربات خاصة إلى أطراف ولايات الاتحاد — خصوصًا ووفرتها إنما تأتي بعد وفرة غيرها من الفواكه الأخرى — وقد يعلمون منه الزبيب، ويصنعون منه شرابًا «بكمز» يستعملونه في فصل الصيف.
وفي جنوب كاليفورنيا يزرعون من الفاكهة: البرتقال، والليمون، والزيتون، والجوز، واللوز، والنخيل.
وينسبون وفرة محاصيل كاليفورنيا وَجَودَتها إلى نظام الري بها، حتى إن وزير مصر المفوض طلب من حكومته إرسال بعثة من رجال الري لدراسة أنظمته في كاليفورنيا.
ومن جهة أخرى فإن جودة الفاكهة في هذه الولاية يرجع إلى اهتمام القوم بتربية الأشجار، فإذا جاء الشتاء يرشون سيقان الأشجار بالجير، وفي الربيع يرشون فروعها وأوراقها بمحلول من سلفات النحاس بواسطة طلمبة متحركة على عجل.
وذلك لحمايتها من الطفيليات التي قد تفتك بها، وقد يغطونها في الشتاء ويدخنون تحتها بمادة معدنية ملتهبة «كالغاز»، ولا شك فهم يأخذون ثمن هذه العناية مضاعفًا من جودة محصول الفاكهة التي ينقلونها إلى ولايات الاتحاد وغيرها من أنحاء المسكونة، وهي في نضارتها، أو مجففة، أو مجهزة في علب.
والفواكه التي تُخَصَّص للتجفيف تُنقل إلى الحقول التي يفرشونها بالقش فتُنْثَر عليه، أو تُنْقَل إلى بيادر خاصة بها مقسمة إلى مربعات صُنِعَتْ أراضيها بالأسمنت، فتُفْرَش عليها معرَّضة للشمس جملةَ أيام.
ولا بد من استخراج نوى المشمش والخوخ قبل تجفيفهما، ولا بد من تعهُّد الفواكه المجففة من وقت إلى آخر؛ حتى لا تفقد رائحتها ومرونتها بمكثها زيادة عما يلزم تحت أشعة الشمس.
وهنا يحسن بنا أن نشير إلى عملية تجفيف البلح العامري بشرقية مصر على الخصوص، وما يسمونه بالعجوة على العموم؛ فإنهم يفرشونه على الرمل ويتركونه من غير عناية بتقليبه وهو على كتلته السميكة فيفسد نوعه، وكثيرًا ما تتولد البكتريا على قشرته، بل وتخترقها إلى الداخل، أو تراه يجف أكثر من اللازم فيكون أشبه شيء بقطع من الخشب المسكر.
أما الفواكه التي تُخَصَّص للحفظ فتُنْقَل إلى مكان فيه موائد طويلة فتتناوله البنات اللواتي يلبسن لهذه العملية لباسًا أبيضَ نظيفًا، وَبِسِكِّين مخصوص يُقطِّعنه إلى نصفين ويستخرجن ما فيه من النوى، ثم يُنقل إلى خزانات فيها الماء في درجة الغليان، حيث يتحرك فيها بآلة حتى تتقلص منها قشرته وتسقط عنه، وهنالك يوضع على شريط عريض متحرك بحركة أوتوماتيكية إلى قاعة بها عاملات يأخذنه ويَضَعْنه في علبة، وأمام كل منهن حنفية فيها عصارة مسكرة تصل إليها من خزان في الدور الثاني، فتضع العاملة منها ما تيسر في العلبة، وبعد وزنها إلى المقدار اللازم توضع العلبة على الشريط المتحرك فينقلها إلى قاعة بها عمال يضعون عليها غطاءها، ثم تُنْقَل إلى غيرهم فيلحمونها، وبعد ذلك يضعوها في خزانات فيها ماء مغلي بضعةَ دقائق لتعقيمها، ثم تُنْقَل إلى حيث يوضَع عليها الغلاف الذي عليه اسم المعمل، وترسل إلى حيث أرادوا.
وهذه المعامل لا تشتغل إلا مدة المحصول — أعني مدة شهرين من السنة — وتعمل فيها طالبات المدارس زمن العطلة التي توافق زمن محصول الفاكهة، فيستفدن من ذلك في عطلتهن أجرًا لعملهن، وصناعةً تفيدهن في تدبير حياتهن المستقبلة.
(٥٠) يوم ٥ يوليو
وصلنا في الليل إلى مدينة «لوس أنجلوس»، والمسافة إليها ٥٨ ميلًا، وهي مدينة على بضعة كيلومترات من الأقيانوس الهادي، وكان تعدادها في أول هذا القرن مائة ألف نفس، وهي الآن إذا أضيفَ إليها ما يحيط بها من الضاحيات التي وُجِدَتْ بوجودها يصل عددها إلى مليون نفس؛ والسبب الأول في عمرانها السريع هو جودة مناخها الذي أصبحت معه مصيفًا لأهل كاليفورنيا، وللكثيرين من أهل مكسيكا، خصوصًا بعد فتح قنال باناما الذي أعطى أهمية كبرى إلى مدينة سان بدرو التي صارت مرفأً لأنجلوس، وتبعد عنها نحو ساعة بالترام إلى البحر ضاحيةٌ اسمها بسارينا وهي مشتى الأغنياء، ومركزها هنا كمركز نيس من فرنسا.
والسبب الثاني: هو أنها أصبحت عاصمة للألعاب السينماتوغرافية في العالم كله، فكانت لذلك موردًا لجميع المشتغلين بهذا الفن من جميع جهات المسكونة، ولا غرو إذا أصبحت بهذا كله يومًا من الأيام نيويورك الغربية.
وتتصل أنجلوس بالأقيانوس بجهة اسمها هولي هود، وهي قطعة من أجمل ما يمكن أن تراه العين نظامًا في مساكنها التي جمعت إلى لطافة الشكل جميل المنظر، وهي، وما أدراك ما هي! مقر النابغات والنابغين في هذا الفن، ومن ضمن مباني هذه الجهة واجهة تياترو مصرية قديمة آية في الجمال، بحيث لم يكن عندنا بمصر ما يماثلها أو يقرب منها، ويبعد عنها قليلًا على الأقيانوس جهة اسمها بيفرلي هلز، وقد ترى بها لشركات مختلفة ميادين جمعت أمثلة كثيرة من أشكال البناء المتغايرة في صور كثيرة؛ فمنها ما هو وجهات، أو دخلات، أو صالات، أو غرف، أو أبهاء، وما هو مدخل كنيسة، أو داخلها، وما إلى ذلك من أشكال كثيرة رومانية أو مصرية، وما إلى ذلك من أعمدة وإيوانات وغيرها، وكل هذا إما من الورق المضغوط، أو من البغدادلي الذي لا يكون فيه كثير مصروف في إقامته أو إزالته، وإلى جوار هذا كله كثير من القطع التي يمكن أن تتكون عنها أشكال متعددة مختلفة؛ فإذا أرادوا تشخيص رواية وضعوا لها الأشكال التي تناسب أدوارها من هذه المناظر والقطع، كلٌّ على حدته، وفي كل شكل يأتي ممثلو الرواية فيمثل كلٌّ قِطْعَتَه على الوضع الخاص بها، وفي أثناء تمثيله تؤخذ صورته الفوتوغرافية في مناظر متعددة بحسب الأوضاع التي له فيها، قليلة كان أو كثيرة.
وفي هذه الجهة تؤخذ ٨٥ في المائة من الصور السينماتوغرافية في العالم كله؛ ذلك لأن الجهة وافية بجميع الأغراض اللازمة لها، ففيها البحر، والنهر، والرياض، والغابات، والمغارات، والصحاري، والجبال، والصخور، وغيرها من المناظر الطبيعية المختلفة، مما لا يمنكن أن تراه مجتمعًا في صعيد واحد، وعدا ذلك فهواؤها وسماؤها وشمسها مما يوافق عملية الفوتوغرافية كثيرًا.
بهذا كله كانت لوس أنجلوس مقرًّا للعمليات السينماتوغرافية ومسكنًا لمن يسمونهم بنجوم السينما.
•••
نعم قد ظهرت في سماء أنجلوس شموس الجمال من كل إقليم، في العالَمَيْن الجديد والقديم، وهم خلاصة الخليقة في الحقيقة، والذين جمعوا جمال الخلقة، إلى لطافة الروح، إلى رشاقة الجسم، إلى حلو الحديث، إلى خفة الحركات، بحيث أصبحوا وفي وسطهم من الجنسين مَن كَمُلَ في خَلقه وخُلقه، حتى كأن الله تعالى أنشأه على ما يهوى، وأوجده على ما رسم لنفسه من حسن إبداع، وجمال اصطناع! لذلك لم يجد لسان المدنية الراقية بأوروبا تسميةً لهم إلا لفظ «نجوم السينما»، ذلك اللفظ الذي يطلقونه على المشخصين والمشخصات إذا طلعوا في سمائه وظهروا بين أرجائه؛ ذلك لأنهم يفيضون على الناس من أنوارهم ما يكون حياة للنفوس، وغذاء للأرواح، فكم فيها من مشترٍ (نجم)، يبتاع النفوس بكمال إحسانه! ويستهوي العروس بسحر بيانه! وكم فيهم من زهرة (نجم) تخجل من جمالها الأقمار! وتعنو لمثالها وتمثيلها الأخيار والأبرار!
وبالجملة فهم أفراد جادَ بهم الزمان على بني الإنسان، فيهم محاسن الحور العين، ومتاع الدنيا والدين! فيهم من كل بحر قطرة، ومختصرات التاريخ والعبرة! تدرس في تشخيصهم من آداب الاجتماع، ما لم يَخُطُّه يراع. وهل ترى فيهم إلا ناديًا للأخلاق عليلها وسليمها؟ ومسبارًا لقرارة النفوس صحيحها وسقيمها؟ ترى فيهم كل ذلك في قصة شهية، تتقبلها النفوس بحسب ما ترى فيها من لذة للأشباح والأرواح، لا يهم الأُولى منها إلا رواء المنظر، وسناء المظهر، أما الثانية فحَسْبها نصيبها من الخبرة والعبرة.
•••
ولو عرفت أنْ ليس في الناس الآن كثير من أمثال «دلورس كوستللو» و«ديل ريو» و«لليان جيس» و«ونكان سسترز» و«بروسكلادين» خفة روح، وجمال خلق، وكمال تكوين، ودقة عمل، ومقدرة على تمثيل العواطف، وترسيم ما تكنُّه الحشاشات من دقيق الإحساسات، ولو عرفت أن هناك أشخاصًا مثل «شارلي شابلن» و«جاكي كوجان» و«أميل جنج» وهم أفذاذ في مهنتهم، وأفراد في دائرة صناعتهم، وكأني بهم وقد تعلَّموا السحر من هاروت فأصبحوا فتنة للناس، يتلاعبون منهم بكل عاطفة وإحساس، إن شاءوا أبكوهم! ثم إن أرادوا أضحكوهم! حتى لكأن قلوب النظارة بين أيديهم يلعبون بها كيف أحبوا! وكأني بك وأنت تشاهد شارلي شابلن على مسرحه، ذلك التعس البائس فتعطفك عليه رحمة تكاد ترتفع بيدك إليه بدريهمات تسد من حاجته! وما هو وأبيك إلا صاحب الملايين، والذي في قصره من الخدم والحشم من هم في غبطةٍ بخدمته، ولو عرفت أن ليس أحد من الناس من يصل أجره في عمله إلى ٥٠٠ جنيه في الأسبوع غير أمثال هؤلاء من ممثلي السينما، لو عرفت هذا كله عرفت أن السينما قد أصبحت الآن من أكبر العوامل على رقي المدنية، إن لم يكن أكبرها.
•••
ولقد توجهنا إلى الاستحمام في البحر في جهة تبعد ٣٢ كيلومترًا عن أنجلوس، وعندما اقتربنا من هناك فإذا بنا نرى غابة من الأشجار العالية على تلٍّ كان يقطع علينا طريقنا، فلمَّا دنونا منها وجدنا تلك الأشجار إنما هي تخاشيب من حديد هرمية عالية، وعرفنا أن كل تخشيبة من تحتها بئر من البترول! وطول هذه الغابة عشرون ميلًا، وقد اكتُشف البترول فيها في سنة ١٩٢٠م، وهي لمُلَّاكٍ كثيرين، وقد رُكِّبَتْ على هذه التخاشيب طلمبات ماصة كابسة (لومبيدج)، تدور بآلات رافعة بالغاز، وبين الطلمبة والأخرى عشرة أمتار أو أقل، وعدد هذه الآبار الآن ١٥٠٠ بئر! وقد صَدَّرُوا منها في السنة الماضية ٢٠ مليون برميل! وإذن أسألك الآن بعد أن عرفْتَ مقدار ما استُخْرِج في سنة واحدة من آبار البترول التي بينك وبينها عشرات الآلاف من الكيلومترات، أسألك عن مقدار البترول الذي يخرج من بلادك (مصر) فهل يمكنك أن تجيبني؟ اللهم إني أشترك معك في الجواب وهو: كلا ثم كلا!
وصلنا إلى الجهة التي بها الحمامات وهي من ضواحي أنجلوس، ويسمونها بشاطئ الباسيفيك، وفيها أبنية جميلة، وعلى الأقيانوس مباشرة ترى فيها اللوكندات الفخمة، ومن دونها رصيف طويل في جانب منه متسع رملي (بلاج) تحيط به أبنية الحمامات، دخلنا بناء منها ولبسنا لباس الحمام ونزلنا إلى الماء في وسط جمع من الرجال والنساء والأطفال، وحرية القوم في البحر لا يحيط بها شرح، وإذا كان الله تعالى يقول: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ، فالمدنية الحديثة تقول: «وليس على البصير حرج» إذا كان البصير يتحرك في دائرته بكل ما يملك من حريته، أما إذا اشتركَتْ معه حاسة أخرى يظهر معها أثر قد تُحَرِّمه الآداب العامة، فهنالك يكون الخطر كل الخطر، وليس العيب هنا عيبًا لذاته كما تراه الشرائع على اختلاف أصولها، ولكن العيب لا يكون عيبًا إلا إذا ظهر أثره لِعين القانون.
وماء الأقيانوس هنا بارد جدًّا، وفيه شيءٌ من رائحة البترول، وقد يعلق بجسم الإنسان شيءٌ متجمد منه لا يزول إلا بمادة الجازولين التي تجدها لهذا الخصوص في بناء الحمام تحت طلبك، وبعد الحمام ركبنا عرباتنا إلى أنجلوس، ومنها إلى القطار الذي قام بنا ليلًا متجهًا إلى الشمال حتى وصلنا إلى مدينة «فريسنو».
(٥١) يوم ٧ يوليو
وصلنا إلى فريسنو في الساعة التاسعة من صباح ٧ يوليو بعد أن قطعنا إليها مسافة ٢٧٨ ميلًا، وهي واقعة تقريبًا في منتصف المسافة بين لوس أنجلوس، وسان فرنسسكو، وعدد أهلها ٤٦ ألف نفس، وتبعد عن الأقيانوس شرقًا بأكثر من عشرة أميال، وقد رأينا سوقها النقالي في ميدان بجوار حديقة جميلة، يقيم التاجر فيه تحت خيمة صغيرة مثبَّتة على عصا مركوزة في الأرض كالتي عندنا في مثل هذه الأسواق إن كان لا يزال لها أثر، ولم تقضِ عليها الشركة حتى تختص بكل شيء لِذاتها! وأرض هذه الجهة من أحسن الأراضي الصفراء التي تنمو فيها على الخصوص بساتين التين، ولم أَرَهُ هنا في غيرها بهذه الكثرة، وهو ينضج في شهر أغسطس، وماؤها كثير صيفًا وشتاءً، وقد زرعوا القطن في أراضيهم، ولكنهم يقولون: إنه لا ينضج إلا إذا كانت الحرارة في سبتمبر عالية.
وتكثر هنا مزارع الخوخ الجيد العظيم، والمشمش الذي لا نظير له، والعنب والزيتون، وهم يرشون سوق أشجار الفاكهة الحلوة بماء الجير لاتقاء المرض، ومع كثرة المياه هنا تجد سواقي الهواء الحديدية بكثرة حول المساكن لرفع الماء من بُعْد ٢٠٠ قدم للشرب.
وقد أمضينا هذا النهار في امتحان تربة الأرض في أماكن كثيرة، وهي تربة من أحسن ما رأينا في كل أراضي الولايات المتحدة، وفي المساء عُدْنا إلى قطارنا فقام بنا إلى مدينة «أوكلاند».
(٥٢) يوم ٨ يوليو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى مدينة أوكلاند بعد أن قطعنا إليها مسافة ٢٠٢ ميل، وهي مدينة كبيرة عدد سكانها ٢١٧ ألف نفس، وواقعة على خليج سان فرنسيسكو، وهذا الخليج يمتد من الشمال إلى الجنوب على شكل بحيرة لها فتحة على الأقيانوس من غربها وفي وسطها، وعلى طرف الفتحة من جنوبها مدينة سان فرنسسكو وتجاهها على حافة الخليج الشرقية مدينة أوكلاند، وفي شمال هذه مدينة «بروكلي».
(٥٣) سان فرنسسكو
كانت هذه المدينة إلى منتصف القرن الماضي صغيرة جدًّا، وعدد سكانها ٨٠٠ نفس، فلما اكْتُشِفَتْ معادن الذهب قريبًا منها في سنة ١٨٤٨م أخذ الناس يَثِبُون إلى هذه الجهة، وآوى إلى هذه المدينة كثير منهم، وكانوا يقيمون لهم مساكن من الخشب، فلما امتلأت جيوبهم أخذوا يشيدون بها القصور والعمارات، ويمهدون بها الطرقات، حتى إذا ضاق بهم رحبها ردموا منطقة كبيرة من الخليج مما كان يكتنفه من التلول، وبنَوْا فيها كثيرًا من المحال التجارية التي اتصلت مع الشرق الأقصى بعوامل التجارة المختلفة، خصوصًا مع الصين، واليابان، وشرق سيبيريا، والفلبين، وجاوه، وأستراليا، بما ترى معه المدينة بعد سبعين سنة من عمرها وقد أصبحت من أكبر مدن الولايات المتحدة، ولولا ما صادفها من ذلك الزلزال الشديد في سنة ١٩٠٦م. ذلك الزلزال الذي هدم أغلب مبانيها وأتى بعاليها وسافلها لكنت تراها أكبر وأضخم مما هي عليه، وبالجملة فهي أكبر ثغر تجاري في غرب ولايات الاتحاد، وتجارتها على الخصوص في الحرير والأرز والسكر والبن، وتُصدِّر كثيرًا من الحبوب والفاكهة والآلات الزراعية، وعدد أهلها يبلغ ٧٠٠ ألف نفس، وهم خليط من فرنساويين وألمان وصينيين ويابان، وعلى هذا الجنس الأصفر الأول مدار الحركة في الخدمة العامة، وعلى الثاني الحركة في الزراعة على الخصوص.
وكان اليابانيون يملكون في سنة ١٩١٩م «٥٨٠٠٠» فدان من أراضي كاليفورنيا التي يبلغ مجموعها ٣٨٩٣٠٠٠ فدان، أعني أنهم كانوا يملكون ثُمن أراضيها تقريبًا.
وكانوا يشتغلون في الزراعة بنشاط كبير، حتى أصبحت مواردهم منها واسعة، وصادراتهم لبلادهم كبيرة جدًّا، مما حرك سخيمة الأمريكان على الجنس الأصفر في عمومه، على أن الصيني بوداعته ومرونته أمكنه أن ينال عطف الرجل الأمريكي بعد أن وقف هجومه الاقتصادي على هذه البلاد، وها هو الآن يتمتع بتجارته التي ترى لها شارعًا مخصوصًا في سان فرنسسكو من غير ما حنق من مواطنه الأمريكي؛ ذلك لأن خوف الأمريكان اتجه إلى اليابانيين الذين كان عددهم بالولايات المتحدة كلها في سنة ١٩٠٠م لا يزيد على ٢٤ ألف نفس، فأصبح في سنة ١٩٢٠م ١١١ ألف نفس، منهم ٧٢ ألف في كاليفورنيا وحدها! وكان الرجل منهم يبدأ عمله صغيرًا فلا يعتم أن يصير كبيرًا، حتى أصبح منهم أرباب المصانع والتجارات والأراضي الواسعة؛ لأنهم لم يجدوا أمامهم في أول أمرهم قانونًا يقفهم عن الحد الذي وقف عنده الصينيون؛ ذلك أن الياباني كان يعيش في ظل دولته التي ظهرت بقوتها الحربية بانتصارها على الروس في سنة ١٩٠٥م، أضف إلى ذلك جهاده في طريق الحياة جهادًا يفوق جهاد الأمريكي بكثير، فالياباني يعمل في مزرعته ١٦ ساعة، في حين أن الأمريكي لا يعمل إلا بمقتضى قانون العمل (٨ ساعات)، والياباني تعمل زوجته كل الأعمال المنزلية ثم تساعد زوجها في مزرعته! والمرأة البيضاء لا تعمل إلا بإرادتها، والياباني مقتصد بطبيعته — بل أكثر من مقتصد — يرضيه القليل، ويشبعه التافه من الغذاء واللباس، أما الأمريكي فيعيش في سعة بنظام لا يمكنه أن يتخلى عنه، ولو استمر الحال على هذا المنوال أصبح الجنس الأصفر وفي يده مرافق البلاد المالية كلها!
نَظَرَ الأبيض إلى هذا الخطر فنسي كل عاطفة إلا عاطفة الاستبداد بهذا الأجنبي الفظيع، فاستصدر قانونًا في سنة ١٩١٣م ثم في سنة ١٩٢٠م يُحَرِّم على اليابانيين امتلاك الأراضي، ثم أعلن قانونًا بتحريم الزواج بالجنس الأصفر لعدم الكفاءة بينه وبين الجنس الأبيض، وبعدم قبول تغيير جنسيتهم إلى الجنسية الأمريكية. وفي سنة ١٩١٧م أمرت حكومة الاتحاد ممثليها في اليابان بعدم إعطاء جوازات سفر إلى اليابان. وفي سنة ١٩٢٠م استصدرت قانونًا يبيح لها طرد كل آسيوي من بلادها لسبب أو لغير سبب! ولا يدري إلا الله ما هي فاعلة في غدها؟
•••
وفي سان فرنسسكو قِسْم للصينيين يسمونه المدينة الصينية، فمهدت لنا الغرفة التجارية زيارته مساءً، وهو الوقت الذي يزورونه فيه عادةً، وهو الوقت الذي تتجلى فيه الطبيعة على سان فرنسسكو في عمومها، خصوصًا إذا كان الجو صحوًا، فركبنا من أوكلاند المعدية البخارية وهناك رأينا الخليج غاضًّا بالفلك التي تغدو وتروح بين المدينتين، ولما اقتربنا من سان فرنسكو ظهرت لنا بعض المباني العالية بما ذَكَّرَنا بعض الشيء بمنظر نيويورك من جهة البحر.
نزلنا إلى مرفأ المدينة، ذلك المرفأ العظيم الواسع، وركبنا الأوتوباثات الكبيرة التي أُعِدَّت لنا لعمل دورة في المدينة، وكانت الساعة ٨ مساءً، وكانت مصابيح الإعلانات المختلفة الأشكال والألوان تُظْهِر المدينة أمامنا كأنها في زينة هي حلتها الليلية العادية، سرنا في شارع «مارك» وأظنه أكبر شارع في المدينة، فكانت المباني من جهتنا على أحسن ما تكون نظامًا ورواءً، وهي في جملتها لا تريد أن تصعد إلى السماء كحالها في نيويورك، ولكنها في طبقاتها المعتدلة — خمس أو ست طبقات على الأكثر — قد لبست بديع النظام، وجمال الهندام، وفي أرضية هذا الشارع سكك حديدية للترامواي بجوار بعضها البعض، وتقطعه جملة شوارع لا تقل عنه جمالًا، وأنوار الإعلانات في جميعها على ما يأخذ بالأبصار، ومع ما وصفتُه لك من جملة هذه الأنوار فالحركة في الشوارع معتدلة، حركة عظيمة ولكنها هادئة مطمئنة كالمدينة التي تعيش في أكنافها، حركة تميل أن تكون شرقية! وهل قامت سان فرنسسكو إلا على أيدي مهاجري الشرق الأقصى؟ هل ارتفعت مبانيها وتخططت شوارعها وزُرِعَت مجاهلها ودارت معاملها إلا على أيدي اليابانيين والصينيين والفلبينيين؟
تركنا المدينة التجارية ووصلنا إلى حي المساكن؛ حي هادئ تقل فيه الحركة، وتنعدم فيه الأنوار لولا ما نراه من مصابيح الأوتوموبيلات التي تغدو وتروح في طول الطريق أبنية صغيرة جميلة من ذات الطبقتين مما يسمونه بالفلات، والمدينة مبنية على منحدرات جملة جبال، فترى المباني على هذه المنحدرات إلى الوادي هنا وهناك في منتهى الجمال وخصوصًا بالليل، وهذه الجبال يتصل بعضها ببعض على شبه نصف دائرة أقواسها متعرجة، صعدنا على الجبل من طريق حلزوني في وسط المدينة! فكنَّا حيثما دُرْنَا نجد المدينة من تحتنا في زينتها البديعة بما تَخَيَّلْنا معه أن السماء انقلبت من تحتنا بما فيها من نجوم زواهر وكواكب بواهر! وقد ظهر فيها شارع برودوي بأنواره الجمة كأنه المجرة تشق كبد السماء بأضوائها المتألقة!
ما زلنا سائرين من منبسط إلى منخفض، ومن قمة إلى قمة، حتى وصلنا إلى ما يسمونه المدينة الصينية! وهي حي في الشمال الشرقي من سان فرنسسكو، طَرَقْناه ليلًا وهو هادئ في نومه وإن لم يكن هادئًا في ضميره، رأينا هذه المساكن على نظامها الصيني في شكلها الخارجي، مساكنٌ كل منها على حِدَته، ومدخلها من أحد جانبيها يُصْعَد إليه بسلالم من الخارج درجاتها في اعوجاج بين ضِيق وانفراج!
تركنا هذه الجهة إلى جهة أخرى مساكنها أكبر وأظهر، ونظامها خليط من الشرقي والغربي، نظام ترى فيه صورة من البناء الياباني والصيني والأوروبي (إلا في المباني الكبيرة فهي على النظام الجديد الأمريكي)، وكأن الأذواق اختلط بعضها ببعض فتكوَّن منها هنا ذوق واحد سَرَى في نظام البناء العام، وبعد أن انتهينا من هذه الزيارة البديعة عدنا إلى أوكلاند حيث قضينا ليلنا في قطارنا الذي كان ينتظرنا في محطتها.
وفي سان فرنسسكو كثير من المدارس والمتاحف والميادين والمكتبات وكله عادي في بابه، وقد أعجبني فيها «نادي الأطفال»، وهو نادٍ قام بتنظيمه أحد رجال هذه المدينة العاملين وهو مستر بكسوتو، ترك عمله واشتغل بنظام جديد لتربية النشء على قواعد متينة؛ فأقام ناديًا للأطفال، ودعا إلى الاشتراك فيه بواسطة الإعلان في الجرائد على أنَّ سِنَّ المشتركين من ١٢ إلى ١٦ سنة! وكان يدور على آباء الأولاد ويُفَهِّمهم الفائدة التي تعود من هذا العمل الجليل، فامتلأ المكان بالمشتركين ففتح مكانًا ثانيًا، ثم ثالثًا، ورابعًا.
وفي النادي جملة قاعات، واحدة للألعاب من دومينو إلى شطرنج إلى ورق كوتشينا إلى بلياردو صغير، وأخرى للمحاضرات يحاضرهم الرجل فيها بما يزيد في معلوماتهم العملية، لا على نظام الدروس ولكن على نظام الحكايات التي تشوق الصبية ويتوجهون بكليتهم لسماع قصصها، لا كما هو عندنا بالبيوت من حكايات الشاطر محمد، وست الحسن والجمال، وأبونا الغول وأمنا الغولة، التي كلها سخافات يفسد معها فِكْر النشء من حيث لا يشعرون ولا يشعر بهم أحد!
وقد يحاضر الأولادُ أنفسهم في مواضيع يجهزونها بإرشاد رئيس النادي مستر بكسوتو، وللنادي مجلة يكتب فيها الأطفال كل ما ورد بخاطرهم من فكاهات أو مواضيع علمية على حسب مقدورهم، وقد تَرَقَّتْ هذه الصحيفة بحيث أصبحت يقرؤها كثير من الناس للتفكه بعباراتها الشيقة.
وفي حوش النادي العمومي ميدان للألعاب الرياضية يأتي إليه مشتركو النوادي الأخرى كلٌّ في وقت خاصٍّ به.
وللمشتركين في هذه الأندية رحلات خلوية في كل صيف مع هذا المربي الكبير، فيأخذون ما يلزمهم من الخيم والغذاء إلى الصحراء، ويعيشون فيها أسابيع في زيارة الغابات والمزارع مما يزيد في معارفهم وينفعهم في صحتهم، وقد أصبحوا به رجالًا في ثوب طفولتهم، والفضل في ذلك كله لهذا الرجل العظيم!
(٥٤) مدهشات الطبيعة
وعلى بُعْد أربعين مترًا من سان فرنسسكو وادٍ اسمه «أنوزوميث» ينتهي إلى جبال سيرانوفادا، فيه غابة كبيرة جدًّا، فيها نحو ٣٠٠ شجرة عتيقة، وفيها شجرة اسمها «سيكوايا جيجانتيا» يعني السيكوايا الهائلة! ومحيط هذه الشجرة ٢٩ مترًا وقطرها تسعة أمتار وأربعون سنتيًا! وارتفاعها ٨٢ مترًا! وأكبر فرع فيها قطره متران! ويبعد عن الأرض بستين مترًا! ويقولون: إن عمرها ٤٠٠٠ سنة! وقريبًا منها شجرة اسمها النفق؛ ذلك أن القوم نقبوا في ساقها نفقًا ارتفاعه ٣ أمتار وعرضه ٣ أمتار، وتَمُرُّ من وسطه العربات الكبرى بكل سهولة، ومع هذا فإنه لم يؤثر على حيوية الشجرة التي فقدت بهذا النفق كثيرًا من كتلتها الغذائية! وإذا كان الأقدمون حصروا عجائب الدنيا في سبعة أشياء، فلا بد أن نضيف عليها بمثل هذه الشجرة عجيبةً ثامنة، ويقال: إنه كانت في هذه المنطقة أشجار كثيرة من هذا النوع، فسقطت عليها عاصفة أحرقتها ولم تَبْقَ منها إلا هذه الشجرة، وبها تَذَكَّرْت تلك الشجرة التي بمطرية القاهرة (شجرة الجميز)، والتي يزعمون أنها أَظَلَّت السيدة العذراء وولدها عندما حضرت إلى مصر؟
•••
وحيث إنَّا نَوَّهنا في الكلام على سان فرنسسكو عن معادن الذهب في كاليفورنيا، فَيَجمُلُ أن أذكر لك شيئًا عنها.
كاليفورنيا والذَّهب
كان عدد سكان ولاية كاليفورنيا في سنة ١٨٤٨م ١٣ ألف نفس، حتى ساعد الحظ رجلًا من المورمون اسمه مارشال وصل إلى هنا هربًا من الضغط والفظائع التي كانت تنصب عليهم من البلاد المجاورة لمدينة البحيرات المالحة التي وضعوا رحالهم بها، اكتشف هذا الرجل بِطَريقِ الصدفة في مجرى ماءٍ جافٍّ شيئًا يلمع، فوجده تبر الذهب.
ولما ذاع أَمْر هذا الاستكشاف العظيم، هب الناس مرة واحدة من كل جهة يحفرون على طول النهر إلى قرية كولورنا، وحتى الجنود تركت ثكناتها، وحتى البحَّارة تركوا مراكبهم وأتوا ببُلَطهم وسيوفهم يحفرون بها مع الحافرين، حتى بلغ عدد أهالي كاليفورنيا في سنة ٤٩ مائة ألف أو يزيدون.
وفي سنة ١٨٥٠م كان الخبر وصل إلى أوروبا؛ فأخذ الناس يهاجرون منها بالآلاف إلى كاليفورنيا، وأخذ الصينيون واليابانيون يهجرون بلادهم إلى ساحل أمريكا الغربي للبحث عن هذا النضار الذي عَمَّ أَمْرُه جميع الأقطار، فكانت كاليفورنيا بابل جديدة اختلفت فيها الألسن، وتغايرت الناس إلى شعوب كثيرة؛ فمن أمريكان، ومن فرنساويين، ومن ألمان، ومن إنجليز، ومن هنود، ومن يابانيين، ومن صينيين، ومن عبيد! والكل قد أخذهم دوار البحث عن الذهب بحيث أصبح مرضًا فسدت معه الأخلاق، ولَؤُمَت النفوس بعوامل الحسد لكل من كان في جانبه شيء من الحظ، بما أصبح معه الأمن العام في اضطراب شديد لكثرة اللصوص وقطاع الطريق الذين كانوا يهاجمون كل من آنسوا عنده شيئًا من هذا المعدن الثمين! وكانت حكومة الولايات ترسل الجند لحفظ النظام والضرب على يد المفسدين، فكانوا هم ضغثًا على إبالة؛ لبحثهم هم أيضًا عما يملأ منهم الجيوب بمادة الحياة والسعادة، بل بمادة المجد والشرف (في نظر الكثير من الناس).
ولما كثر التبر في أيدي الناس مع قلة النقود، علت أسعار الحاجيات حتى بلغت أثمانُها جملة أضعاف ثمنها في أمريكا نفسها، فكانت البيضة بريال، والبصلة بريال، وقدح العدس بعشرة ريالات، ورغيف العيش بخمسة ريالات، والزجاجة الفاضية بخمسة ريالات؛ «لأنهم كانوا يضعون فيها الذهب!»
وقد طمع كل إنسان فيما في يد الآخر ففشا فيهم لعب الميسر، فكانوا يجتمعون جماعات جماعات، ويلعبون بزجاجات الذهب، فمنهم من أفلس ومنهم من أثرى، وانتهى الحال بأن تألفت شركات لمشترى هذه الأراضي بعد أن انعدم ما على سطحها من هذا المعدن الثمين، ومن ثَمَّ أخذ البحث عن هذه المادة مجراه الطبيعي والذي يرتكز على القانون في دائرته، وعلى العلم في استخراجه، وأصبح في يد بعض الشركات.
وبالجملة فقد انتهى هذا المنام الذهبي باتصاله بمنام آخر، هو توجُّه عناية الذين أُثْرُوا من الذهب إلى مشترى الأراضي الواسعة في كاليفورنيا، وبعد أن مهدوها، أخذوا يزرعونها ويغرسون بها الملايين من الأشجار المثمرة، حتى أصبحت بهم جنة أشجارها عالية، قطوفها دانية، وبذلك انتهى الحلم الثاني، واستيقظ الناس وهم يقرءون في صفحة أفق هذه البلاد أن الحياة فيها للعاملين المُجِدِّين ومدارها على الزراعة والتجارة اللتين هما المطية الوحيدة الموصلة للثروة في هذا الزمان.
(٥٥) جامعة بروكلي
في هذه المدينة جامعتان؛ واحدة تَبَرَّعَتْ لبنايتها سيدةٌ أمريكية تُسَمَّى مسز هارست بمبلغ ١٠٠ ألف دولار! والثانية أقامتها سيدة ثانية اسمها مسز إشبانفورد بأن وَهَبَتْها مبلغ ثلاثين مليون دولار! والأرض التي تَخُصُّ هذه الجامعة هي ٣٣٦٠ فدانًا! وقد أقامتها هذه السيدة تذكارًا لولدها الذي مات وهو على أبواب دراسته.
زرنا هذه الجامعة الأخيرة القائمة في متسع من الأرض بُنِيَتْ فيه جملة مبانٍ بعضها للجامعة الزراعية، وبعضها للطب، وبعضها لغير ذلك من العلوم المختلفة، والذي عُنينا به هو الجامعة الزراعية، فوجدناها تُعْنَى بتربية النباتات ودراستها في صوبات كثيرة حارة وباردة.
تُزْرَع النباتات عادة في الرمل الصافي في أصص من الفخار — ولكنها هنا من البلور — ويوصلون إلى جذورها بعض المواد المغذية الذائبة في الماء بواسطة أنابيب زجاجية مغروسة في إحدى حوافي الإناء، وهذه المواد يختلف بعضها عن بعض في النوع والكمية، وبهذه التجربة يمكنهم أن يصلوا إلى أحسن مغذٍّ للنبات، وبجوار كل آنية ترمومتر؛ ليتعرفوا به درجة الحرارة التي ينمو فيها أحسن من غيرها، هذه هي الطريقة العملية التي يعمل القوم بها هنا للعثور على أحسن ما ينهض بنباتاتهم، ولا شك أنهم واصلون بها إلى الكمال الزراعي الذي ينشدونه، أقول الكمال الزراعي ولا أقول ما في ورائه! لأن العلم هنا أصبح من المدهشات، بحيث ما نراه منه اليوم كما لا نراه غدًا مبدأ لكمال آخر، ولا يبعد أن يكون هذا مبدأ لغيره، وهكذا مما لا يخفى عليك من مدهشات العلم الذي لم يقف عندهم عند حد!
•••
قبل ستة وثلاثين قرنًا علمنا الله درسًا في زراعة القمح بمصر؛ إذ أوحى إلى نبيه يوسف بأن يحتاط من القحط الذي سينزل بالبلاد، فأكثرَ من زراعة القمح الذي أبقاه في سنبله، وكان يأخذ منه مدة السنين السبع العجاف ما يدفع به غائلة القحط وكفى الناسَ شر بلائه، وكانت هذه السياسة الإلهية الاقتصادية فاتحةً لما رأيناه في سِني الحرب الأخيرة من إيجاد مصلحة للتموين، كان عملها محصورًا في تخزين الأقوات وتوزيعها على الناس كافة بحسب احتياج كلٍّ منهم، وضرب الله لنا مثلًا بسنبلة فيها مائة حبة، ولم يَضْرِبْه لنا عبثًا، ولا شك أننا نستنتج منه درسًا زراعيًّا جليلًا نصل منه بجهادنا إلى مثل هذه السنبلة القيمة التي لم يصل الاهتمام الزراعي في أيامنا إلى أكثر من نصفها. فهل يأتي يوم نصل منه إلى ما أشار إليه الخالق في مَثَلِهِ.
•••
وبعد زيارة أقسام الجامعة المتعددة ومكتبتها التي رأينا فيها سربًا من الآنسات مشغولات بالقراءة والبحث، ركبنا مركباتنا التي أَعَدَّتْها لنا الغرفة التجارية، وسرنا في أهم شوارع المدينة نخترقها من شرقيها إلى غربيها، فما أنظف شوارعها، وما أحلى منازلها، وما أجمل مناظرها التي جمعت من كل شيء أَحْسَنَه!
وفي الساعة الواحدة بعد الظهر عُدْنَا إلى قطارنا فقام بنا ونحن نتغدى به إلى حيث المعدية التي نقلتنا به إلى الجهة الغربية من الخليج، وهنالك قسموا القطار إلى ثلاثة أقسام، حتى يتسع المكان له عرضًا بالمعدية إن لم يتسع المكان له طولًا، وبعد أن عدينا إلى الشاطئ الآخر واتصلت أجزاء القطار بعضها ببعض، سار بنا إلى جهة الشمال يقطع مزارع واسعة جدًّا من القمح الذي تراه مضمومًا عن قرب، وأرضه فيها من أثر السيقان ما ينبئ بجودتها، وكانت تتخلل هذه المزارع من آن إلى آخر بعض غابات الزيتون والفاكهة، وأكثرها من البرقوق وفصيلته.
وما زال القطار سائرًا حتى وصل في صباح اليوم الثاني إلى «ولاية أريجون»، وكلها غابات جميلة جدًّا من الصنوبر ذَكَّرَتْنا بمناظر سويسرا، خصوصًا مع ما في جبالها من المثالج التي برد منها الجوُّ بحال انتقلنا معها من حر شديد إلى بردٍ شديد! وكان القطار يسير في هذه الجهة من نفق إلى نفق، ومن منحدر إلى مرتفع، حتى وصل بنا إلى قمة الجبل، ثم أخذ يسير نازلًا في الجهة الأخرى في طريقٍ كَثُرت تعاريجه وزواياه حتى وصل إلى أسفل الوادي بما ذكَّرَنا طريق السمرنج بين تريستا وفينا.
ويظهر أن هذه المنطقة كلها منطقة غابات إلى حدود كندا، إلا أنهم هنا يقطعون أشجار الغابات من غير أن يغرسوا بدلها؛ لذلك يُخْشَى أنه بعد بضع سنوات تنعدم الغابات من هذه الجهة، ولكن يبعد على حكومة الولايات إذا أهملت الغابات في هذه المنطقة فيما مضى أن تهملها في مستقبل أيامها، وهي مما يدر الخير الجزيل خصوصًا في المناطق الجبلية التي لا ينمو فيها ضرع، ولا يصح زرْع، وما زلنا في سيرنا حتى وصلنا إلى «مدينة كورفاليس» بعد أن قطعنا إليها ٦٩٤ ميلًا.
(٥٦) يوم ٩ يوليو
وصلنا إلى هذه المدينة في الساعة الأولى بعد الظهر، وعدد أهلها ٦ آلاف نفس، وهي مشهورة بجامعتها الزراعية التي قصدناها بدعوة منها سابقة، وتغدينا بها في ظلال أشجارها، وبعد ذلك زرنا غرفها ومعملها الكيماوي، ولا يمكن أن أُحَدِّثَك عنه بشيءٍ إلا بما فيه من نظام، والذي لاحظْتُه في الجامعة أنَّ فيها خرائط لأرض هذه الولايات مرسومًا عليها جميع الأراضي الزراعية بأنواعها، يمكنك أن تتعرف منها العامر والغامر، والطالح والصالح، ولعل عندنا من أثر مصلحة المساحة ما لا يقل عن ذلك أو ما يقرب منه!
بعد ذلك ركبنا السيارات إلى مزارع المدينة فوجدنا أرضًا كالمتخلفة من الطمي عندنا، ووجدنا القمح فيها يعلو إلى متر ونصف، وهو أحسن ما شاهدناه فيها.
والأراضي التي من هذا القبيل تدفع من دولار إلى اثنين كل سنة للحكومة بصفة ضريبة، وكذلك يدفعون هنا عن الإيراد فيما يزيد عن خمسة آلاف دولار شيئًا قليلًا جدًّا، وسقية الأراضي هنا من نهر ولامب الذي يتغذى من مثالج الجبال التي لا تبعد عن المدينة إلا بِنَحو ثلاثين ميلًا، وفي الساعة الرابعة بعد الظهر قام بنا القطار حتى وصل إلى مدينة «بورتلاند» بعد أن قطعنا إليها ٩٢ ميلًا.
(٥٧) يوم ١٠ يوليو
وصلنا إلى هذه المدينة التي عدد أهلها ٢٦٠ ألف نفس تقريبًا، وهي مدينة جميلة تَبْعُد عن المحيط الهادي ببضعة كيلومترات، بُنِيَتْ على جبل قد شقَّتْه الشوارع الأفقية مستقيمة في منظرها، وقطعتها الشوارع الرأسية مائلة نازلة بانحدار كبير إلى الوادي، وقد يصل انحدارها إلى ٣٠ / ١٠٠، ومع هذا فإنك ترى الأوتوموبيلات فيها صاعدة نازلة بسرعة عجيبة، أما التراموايات فإنها تسير فيها على قضبان مسننة.
والذي أعجبني في الولايات المتحدة أن عربات التراموايات لكل منها كمساري ولكنه لا يحمل دفتر تذاكر منمرة كما هو الحال في مصر يأخذها الراكب في نظير الأجرة، بل يجلس الكمساري هنا على كرسي عند باب العربة «وهي مقفلة في الغالب» وبجواره صندوق مرتفع إلى متر ونصف وفيه ثقب في أعلاه يضع فيه الراكب القطعة المكونة للأجرة، فإذا كانت أكثر من اللازم غيرها له الكمساري بنقود صغيرة.
وبعد أن درنا دورتنا بالمدينة عدنا إلى القطار الذي قام بنا متجهًا إلى الشمال، وفي الليل أخبرونا بأنَّا دخلنا حدود كندا، فوقف القطار حتى عُمِلَتْ عملية التفتيش الجمركية المعتادة — ولكن بسهولة كبيرة — لأننا ضيوف كندا كما كنا ضيوف ولايات الاتحاد.
ثم استأنف القطار سيره مارًّا بمدينة ستيل، وما زال حتى وصل إلى مدينة وانكوفر بعد أن قطع إليها ٣٦٣ ميلًا، وقبل أن نترك ولايات الاتحاد التي على الأقيانوس الهادي نقول لك: إن الولايات المتحدة صدَّرت من هذه الولايات الثلاث — كاليفورنيا، وواشنطون، وأراغون — من الفاكهة وحدها في العام الماضي بخمسة وسبعين مليون دولار! منها أربعون مليونًا من التفاح وحده.
(٥٨) كندا
كندا هي قسم من أمريكا الشمالية، واقعة في شمال الولايات المتحدة، استعمرها الفرنسيون من سنة ١٥٣٤م إلى سنة ١٧٦٣م، وفيها استولى عليها الإنجليز، وعلى مقتضى معاهدة باريس سنة ١٧٦٣م تركت فرنسا كندا بما فيها من الفرنسيين الذين كان يبلغ عددهم ٣٠ ألف نفس، وحوَّلَتْ عليهم ما كان عليها من الدَّين الذي كان يبلغ ٣٠ مليون فرنك، والعنصر الفرنساوي إلى الآن يحافظ على لغته في الغالب، وقد ساعدت كندا الإنجليز في حرب الترنسفال، واشتركت معها في الحرب الأوروبية، ومن ثَمَّ استقلت في جميع أمورها الداخلية، وإن كانت داخلة في الاتحاد الإمبراطوري الإنجليزي.
ومساحة كندا ٩٦٠٠٠٠٠ تسعة مليون وستمائة ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها لا يزيد عن عشرة ملايين نفس، وتنقسم إلى جملة ولايات عاصمتها العمومية مدينة أوتاو، وفيها مركز الحكومة الاتحادية، وفي كندا غابات كثيرة، وتكثر في شمالها حيوانات المنطقة الثلجية، وفيها معادن كثيرة أهمها النحاس والقصدير والحديد، وهي التي تقوم بحياة أهلها في الغالب.
ومما يلاحظه السائح لأول وهلة إذا دخل أراضي كندا، أن العملة هنا بالدولار، حتى كأن لا فرق بينها وبين الولايات المتحدة التي تتصل حدودها بحدودها على طول نحو سبعة آلاف كيلومتر، وأغرب من ذلك أن لِكَنَدا عملة فضية مقسمة على النظام المئوي (القاعدة المتربة) كما هو في الولايات المتحدة مما لا يجده في إنجلترا؛ فالريال في كندا ينقسم إلى مائة جزء، ونصفه خمسون جزءا، ورُبْعُه خمسة وعشرون جزءا، وهناك عدا هذا قطع فضية بعشرة أجزاء، وقطع نيكل بخمسة أجزاء، والجزء الواحد من المائة (سنت) من البرونز، وكلها عليها رسم إمبراطور الإنجليز جورج الخامس، وإذا عَرَفْتَ أن أموال الأمريكان تزداد يوما عن يوم في كندا، والأمريكان يشترون كل يوم كثيرًا من الأراضي الواسعة بها، عَرَفْتَ أنه لا بد وأن يأتي يوم يكون للولايات المتحدة شأن معها، خصوصًا والعنصر الفرنساوي فيها يميل إلى الأمريكان.
(٥٩) يوم ١١ يوليو
وصلنا فيه إلى هذه المدينة وانكوفر وتعدادها ٢٥٠ ألف نفس تقريبًا، وهي عاصمة ولاية برتش كولومبيا، وهي الثغر الكندي على المحيط الهادي، وتصل كندا بالشرق الأقصى، وتغلب فيها السحنة الصينية واليابانية، وكل الخدمة فيها على هذا اللون من بني الإنسان.
زرنا هذه المدينة وهي تنقسم إلى قسمين، أحسنهما القسم الجنوبي، وتغلب في تجارتها الأنواع الشرقية من صينية ويابانية على الخصوص. ومن أحسن ما شاهدناه في المدينة بستانها النباتي، وفيه كثير من حيوانات المنطقة الباردة مما لا تراه كثيرًا في جهات أخرى، وقد رأينا بها أنواعًا كثيرة من الورود المختلفة في ألوانها وارتفاعاتها، ولكن الذي أدهشنا هي تلك الغابة الهائلة التي تتصل بهذا البستان، أشجار عالية جدًّا يبلغ قطر ساقها نحو مترين، وارتفاعها أكثر من خمسين مترًا، وهي من فصيلة الأرز، وفيها سبع شجرات هائلة قريبة من بعضها البعض يسمونها بالسبع الأخوات، وقد رأيت بها شجرة ساقها على شكل مثلث طول كل ضلع فيه نحو مترين ونصف متر وارتفاعها نحو ستين مترًا، ويظهر أن هذه الجهة مشهورة بغاباتها الكثيفة العتيقة، ولكن بلغني أن القوم يَجْتَثُّونها، وقد يتركون لها أصولها فتنبت من جديد، وبهذا يعوزها الزمن الطويل لوصولها إلى حالة صالحة للصناعة.
ومما يلاحظ هنا اختلاف الجو اختلافًا كثيرًا عما كان عليه في الولايات المتحدة، فقد انتقلنا من حر كان يشوي الوجوه ويكاد يجف منه الماء في الآفاق والأحداق إلى برد شديد ومطر متدافع الْتَزَمْتُ أن أشتري لهما عدتهما من هنا وأنا أترنم بقول الشاعر الجاهلي:
وفي ظهر هذا اليوم ركبنا قطارنا فَسَارَ بنا في طريقٍ بين جبلين تعلوهما غابات الصنوبر، وكان نهر فريزر يسير عن يسارنا تارة، وأخرى عن يميننا، وكانت تُغَذِّيه بعض الشلالات التي كانت تنزل من الجبل من آنٍ إلى آخر، وفي هذا الطريق تكثر الأنفاق، فكانت تضايقنا بدخانها وظلامها — وإن كانت غير طويلة — أنفاق كانت تمنع عنا تلك المناظر الجميلة، وتذكرنا بكتلة سوادها بحالتي الزمان ومره، وخيره وشره! وحتى في غربتنا هذه لا يريد الزمن أن يغفل عنا ساعة واحدة من غير أن يرينا من تأثيره وتكديره!
أمضينا ليلتنا صاعدين إلى الشمال، ولما ظهر نور النهار رأينا الوادي وقد انفرج قليلًا، والغابات كثرت وتكاثفت واتصلت خُضْرَتها بناصع الثلوج التي على قمم الجبال بما لم يكن أحسن منه وفرة ونضرة، وانعكست خضرتها في صفحة النهر البلورية بما كان يتصاعد من جوانبها من تلك السحب التي تكاثفت واستحالت إلى غَيمٍ انعقد في أفق السماء كان يحجب عنا ما تعودناه من ضوء الشمس الذي منه حياة الأرواح وانتعاش الجسوم، وما زلنا حتى وصلنا في الساعة العاشرة صباحًا من يوم ١٢ يوليو إلى قرية «جاسبر» بعد أن قطعنا لها ٥٣٥ ميلًا.
(٦٠) يوم ١٢ يوليو
بمجرد وصولنا إلى قرية جاسبر، ركبنا منها الأوتوموبيلات التي كانت في انتظارنا، وَسِرْنا في طريق مرصوف مقيَّر، وعلى جانبَيه غابات من الصنوبر لا تزال في صبوتها، وقد ضُرِبَتْ حولنا منطقة من الجبال تعلوها المثالج من كل ناحية، حتى وصلنا بعد قليل إلى لوكندة حديقة جاسبر — أو حديقة لوكاندة جاسبر — وهي من ألطف النزل في العالم؛ لأن هذه الجهة مصيف سراة القوم في كندا، نُزُلٌ حوى نظامًا وترتيبًا ونظافة، نُزُلٌ حوى من كل شيء أَلْطَفَه، ومن كل قبيل أَظْرَفَه، فكنتَ ترى فيه جمال المكان بجوار جمال المكين، وإذا أضفت إلى ذلك ما إليه من بحيرة زرقاء قد انطبعت فيها صورة السماء بما فيها من سحاب أبيض حتى لكأنك بين سماءين كليهما من لُجَيْن، وإذا لاحت منك التفاتة إلى الحمام البحري الذي يدخل في البحيرة ويعلو ماؤه ماءها ببضعة أمتار، شاهدْتَ ما يغدو فيه ويروح من أشباح نشطت، وأرواح لطفت، مما تخال معه أن أهل السماء نزلت إلى الأرض واختلطت بأهلها لتفيض عليهم سلامًا ورضوانًا!
من كل هذا يمكنك أن تتخيل صورة صادقة لهذا النزل الفخم، فلله لحظات قضيناها به قد أَنْسَتْنَا بجمالها ما صادفناه في رحلتنا من شقاء وعناء، أَنستنا بما فيها من نسيم عليل، وهواء بليل ما رأيناه في ولايات الاتحاد الأمريكي من حرٍّ قد توقدت ناره، واشتد أواره!
ولقد أنسانا الله بما فيها من طبيعة راقت، ومناظر شاقت، ما صادفناه في سفرنا من وجوه العذاب وضروب البلاء!
وفي المساء قام بنا القطار إلى جهة الشمال الشرقي حتى وصلنا إلى مدينة «أدمونتون» بعد أن قطعنا إليها ٢٣٦ ميلًا، وعدد أهل هذه المدينة ٦٧ ألف نفس.
(٦١) يوم ١٣ يوليو
ركبنا في صباح هذا اليوم الأوتوموبيلات فسارت بنا في أرض منبسطة بعيدة الأطراف فيها زراعات مختلفة أغلبها القمح وبعض الخضر، وقد زُرِعَتْ فيها غابات جديدة من أشجار الصناعة، وعدد أهل هذه المدينة ٦٧ ألف نفس، وأرض هذه الجهة سوداء ثقيلة كالتي في مديرية الشرقية، وبعد أن دُرْنا دورتنا في المدينة التي ترى منازلها متفرقة بعضها عن بعض، ويقطعها نهر سيسكا شوان وهو أشبه شيء بالرياح التوفيقي، قَصَدْنا إلى الجامعة بدعوة من رئاستها مع الغرفة التجارية، فتناولنا بها طعام الغداء، وبعد أن زُرْنا معامل الجامعة عدنا إلى قطارنا الذي قام بنا متجهًا إلى الجنوب الشرقي في أرض يلوح لنا أنها من أخصب أراضي العالم، أرض خَصَّتها الطبيعة بهذا الخصب البكر، والزراعة تنمو فيها نموًّا هائلًا رغم عدم الأيدي العاملة!
•••
وهنا نقول: إن أراضي كندا على سعتها وتباعُد أطرافها قليلة السكان إلى الدرجة التي على طول سيرنا في القطار ما كنا نشاهد في الطريق كله إنسانًا واحدًا! لأن تعدادها يبلغ عشرة ملايين نفس كما قلنا، إنهم من أصل أوروبي، ومنهم ثلاثة أرباع المليون من «الهنود» وهم الذين كانوا يسكنون البلاد قبل اكتشافها، وبهذه المناسبة نقول: إن هذا الجنس قد ضَعُفَ بكل عوامل الضعف الطبيعي والإضعاف الاستبدادي أو السياسي، حتى وصل إلى حال تنذر بالفناء والانقراض!
أراك يا حضرة القارئ تجيل بصرك في كلمة الإضعاف السياسي، وإني أوفِّر عليك زمنك الغالي من التفكير وأشرحه لك بما يحتمله المقام.
دخل الإفرنج إلى أمريكا شمالها وجنوبها فوجدوا ساكنيها من بني الإنسان الذين لم يتجاوزوا الدائرة الحيوانية إلا فيما كانت تحتاجه طبائعهم من آلة صيد وطبخ وفراء يتقون بها شدة القيظ وَحِدَّةَ الشتاء، وأحجارٍ كانوا يأوون إليها من مطر أو خطر، ومع أن حياتهم كانت محصورة في هذه الدائرة الضيقة من العيش فإنهم كانوا بحكم الفطرة الحيوانية تقوى عندهم سليقة الدفاع عن النفس إلى حدٍّ لا فرق فيه بينهم وبين الحيوانات المفترسة.
رأت الفرنجة هذا الحيوان الإنساني فأخذتهم منه الرهبة ورأوا أنه لا يمكنهم أن يعيشوا معه تحت سماءٍ واحدة، فأخذوا يصطادونه ببنادقهم من بُعد حتى لا يصل إليهم منه سوء لحرمانه من آلات القراع والدفاع، حتى أفنوا الشيوخ والرجال، ولم يَبْقَ إلا صبية استخدموهم في مصالحهم! وكأنهم خشوا من نُمُوِّ عاطفة الانتقام فيهم فأبعدوهم شمالًا وغربًا يعيشون من عشب الأرض وصيد البر والبحر، تحت سماء كلها رجوم، وأوساط كلها سموم، وليس من يعني بهم ولا من يرشدهم إلى ما فيه خيرهم، ولو كان للمحتلين للبلاد أية عناية بهم أو بعض الرعاية لهم، لكانوا فتحوا لهم دورًا للتكييف والتثقيف الذي كان ينهض بهم ويُدخلهم في دائرة العمل الذي كانت تحسن به حالهم، ولكن الدار لا تتسع لمالِكَينِ، والحجرة لا تنفسح لساكنَين.
وهكذا فعلوا بأهل أستراليا وجنوب إفريقيا! وعلى هذا القياس لو كانت الفرنجة استعمروا السودان شرقيَّه وغربيَّه من زمن بعيد، لكان نصيب هذا اللون الأسود نصيبَ قريبه في أمريكا وأستراليا من الزوال والفناء، ولكنهم جاءوه وكلمات الحرية والمساواة والشفقة والرحمة والإنسانية كانت قد اخترعت سلاحًا لينًا لطيفًا يقتلون به الناس من حيث لا يشعرون، بل وهم هاشُّون باشُّون وعنهم راضون! كمادة الكوكاكيين تقتل صاحبها وهو يمتد نحوها بكل جوارحه حنانًا إليها وتلهفًا عليها! وهل يصح أن تكون للإنسانية والرحمة والشفقة معنًى في ميدان حرب وكفاح حيوي غاية كل إنسان منه الانتصار بأي عامل من عوامل القوة والقسوة والوحشية والدهاء، والغش والخداع والكذب التي تنقلب عند الغلبة فضائل ويكسو التاريخ فظائعها حُلَلًا منسوجة بمادة التحميد والتمجيد؟ لهذا كان لا بد لكل أمة أن تنقش على قلبها هاتين الكلمتين، لِتَحْيَ القوة، لِيَمُتِ الضعف.
(٦٢) يوم ١٤ يوليو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى محطة «ساسكانون» بعد أن قطعنا إليها ٢٢٦ ميلًا، وعدد سكانها ٣٣ ألف نفس، والذي تلاحظه بصفة عامة في كندا أن محطاتها فيها قاعتان للانتظار، مكتوب على واحدة «استراحة للسيدات»، وعلى الثانية «استراحة للرجال»، وقد زرنا الجامعة فوجدنا فيها — كما وجدنا في جميع الجامعات التي زرناها بكندا — أبنية خاصة للبنات، ولا يجتمعن في الدرس مع الشبان كما هو الحال في أوروبا والولايات المتحدة، وهذا أبقى من غير شك لكرامة الجنسين وتصرف حكومة كندا ٥٨ في المائة من إيرادها في سبيل التعليم، وكله مجاني بمدارسها.
وأبنية الجامعة كثيرة ومتفرقة عن بعضها البعض، وغالبها من ذات الدور الواحد، يحيط بها حدائق جميلة في منتهى النظام، ومن ورائها مزارع التجاريب التي يشتغل طلبة القسم الزراعي بها، والذي لفت نظري هنا كثرة الخيل العظيمة الجسيمة، والخنازير الهائلة السمينة، كما لاحظت أن شجر الفاكهة يقلُّ في هذه الجهات قلَّةً محسوسة، ولكن تكثر فيها الغلال والبنجر والخضر خصوصًا الطماطم.
وأراضي هذه الولاية بصفة خاصة من خَير ما خلقه الله، ولا ينقصها غير اليد العاملة وهي سوداء كأنها مخلوطة بهباب المداخن، ومن خير ما رأيناه هنا ١٢٠ فدانًا لتربية الأشجار تابعة للحكومة، وهي مقسَّمة إلى آلاف الأقسام، وكلها مزروعة من الأشجار المختلفة، كل قسم على حدته، ففيها أشجار الغابات، وأشجار الفاكهة من كل نَوْع وشَكْل، والذي يدهشنا أنها في نظامها كأحسن البساتين ترتيبًا وعناية، لا ترى بها حشيشًا ولا مرضًا ولا ضعفًا، وقد أنشئت من عشر سنوات فقط، وكل سنة يزيدون عليها أربعة ملايين شجرة!
والمهم هنا أن الحكومة تُسَلِّم لأي طالب ثلاثمائة وعشرين فدانًا بدون ثمن، وتعطيه ألف شجرة من أي نوع يطلبه بدون ثمن، فإذا زرعها وطلب غيرها تعطيه ألفًا آخر بغير ثمن، وهكذا يجد الزارع في خزائن الحكومة الزراعية ما يطلبه من الشجر مجانًا، وكل هذا للترغيب في زيادة صفحة الأراضي المنزرعة غابات وهي ما لا تحتاج إلى عناية في مبدأ أمرها، ثم تتولاها عناية الله وجودة الأرض، وليس لهذه الأرض من واسطةٍ للري إلا المطر؛ لأنها ترتفع عن مياه النهر كثيرًا، ومقدار ما ينزل من المطر في هذه الجهة ١٤ إنش، ويبدأ من يونيو، وتنزل درجة الحرارة في الشتاء — وخصوصًا في يناير — إلى الصفر لمدة شهر تقريبًا، وفي هذه المدة يكسو الثلج سطح الأرض وتبطل الحركة العمومية.
وهناك أرضٌ للزراعات المنظمة تحت تصرف مَن يطلبها بالثمن بنسبة ٤٠ ريالًا للفدان، وقد كانوا يعطونها بِلَا ثمن من عشرين سنة، ومحصول القمح في هذه الأراضي من ١٨ بشلًا إلى ٥٠ بشلًا (والبشل ٢٩ كيلوجرامًا)، وبين الزراعة والمحصول ٤ أشهر، فيزرعون من أول مايو، ويحصدون في أول سبتمبر! وأجرة العامل في اليوم هنا خمسة ريالات.
•••
ولهذه المناسبة أقول: إن وزارة الزراعة عندنا فكَّرتْ يومًا في الإكثار من الأشجار بعد أن قضت الحرب على ما كان منها في البلاد مما كان له ظل ممدود وثمرة ومنفعة متغايرة للفلاح، فكرت في ذلك أيضًا مصلحة الزراعة، وتَبِعَتْها مجالس المديريات، وعملوا المشاتل المختلفة، ولكن لا لمساعدة المصلحة العامة، ولا لإكمال النقص الذي وَقَعَ في هذا النوع من الشجر مما هو ضروري للبلاد الحارة، ولكن لتجعله مورد كسب جديد، وأخذت تبيعه بأثمان عالية حالت بين رغبة الناس فيه، وها هم الآن يعطلون المشاتل أو يختصرونها بدعوى أن وجودها فيه بعض الخسارة، أو بعبارة أخرى ليس فيه من مكسب، إنا نفهم أن تهتم الوزارة أو مجالس المديريات بالإكثار من الأشجار النافعة، وتتخير الأصلح منها، وتستورد من الخارج كل ما يصلح في هذه البلاد من الأشجار التي تنفع للصناعة، ثم تبيع ذلك على الناس بما صرفته عليه، ولا تجعله تجارة تنافس فيها الأفراد ممن جعلوه مورد رزق لهم، وبذلك يكون لها فضل العناية بالإكثار من الأشجار، وباختيار الأصناف الجيدة التي بكثرتها تكون من أحسن الغلات التي تدخل ضمن إيراد البلاد الهامة، وبذلك تخفض من تلك الأشجار العتيقة وخصوصًا أشجار الفاكهة التي تركزت في عصارتها الميكروبات الضارة، والتي سيكون لها يومًا ما أثر سيء في إحداث وباء زراعي لا يمكن تقدير ما فيه من الضرر، ولا يمكن أن نقف في وجهه بأي حال من الأحوال.
فهل الوزارة مقلعة عن فكرة الكسب إلى فكرة المصلحة العامة؟
وهنا أقول: إن أغلب الأشجار المثمرة في البلاد استوردها محمد علي من الشام بعد انتصاره فيها على جيوش العثمانيين، وكذلك من مورة بعد انتصار إبراهيم فيها على الجيوش المختلطة من يونان وإنجليز وروس ممن كانوا يساعدون اليونان في سبيل استقلالهم، وقد مضى على ذلك نحو قرن ونحن نستوردها، وليس من تجديد ولو من طريق التلقيح الذي يخفف من شيخوختها إن لم يرجعها إلى شبابها (على رأي فورونوف).
نحن لا نريد أن تكون لبلادنا الزراعية وزارة زراعة لا تجد لها غير كلمات طيبات لنتسمع من نغماتها تلك العبارات الرقيقات: نتائج ساحرة! فوائد باهرة! إيرادات وافرة! أو ما في معنى ذلك مما تهتضمه الأذن بسرعة من غير أن يكون له أثر محسوس، ولكنا نريد أن تكون لبلادنا الزراعية وزارة عمل ليس الغرض منها أن يقضي العامل فيها شطرًا من النهار في ختم آلاف الأوراق التي كثيرًا ما تدور دورتها وهي إن تغيرت في مبناها لا تتغير في معناها!
لِمَ لا يكون في وزارة الزراعة مجلس زراعي علمي عملي يجتمع في الأسبوع مرة على الأقل للبحث في كل ما له أَثَرُه الحَسَن في الرقي الزراعي؟ لِمَ لا تهتم الوزارة في تحسين نِتاج الماشية؟ لقد فكَّرُوا من زمن في تحسين نِتاج الخيل وأوجدوا في بعض المديريات حصانًا من جياد الخيل لهذا الغرض، فما للوزارة لا تجعل في كل مركز ثورًا وفحلًا من أحسن شيء في نوعهما؛ حتى إذا أتى الفلاح بماشيته يجد أمامه ما يضمن تحسين النوع، وبهذه الطريقة لا نُمْضِي عشر سنوات حتى نرى أمامنا ماشية بحالة عامة من أحسن وخير ما يوجد من نوعها في العالم كله؟
لِمَ لا يكون للوزارة نشرة أو مجلة زراعية لا تتكلم فيها بلغة العلم، بل بلغة بينه وبين ما يفهم الناس منه، ويوزعونها باشتراكات بسيطة لا تتجاوز ما يُصْرَف على طبعها وورقها، وحسبها من ذلك أن يكون لها فَضْل البحث والنشر والتعليم؟ يزعمون أن وزارة الداخلية لها رجال يجولون في البلاد للنصح والإرشاد فيما يتعلق بالآداب والأخلاق، فما بال وزارة الزراعة لا تجعل في كل مديرية مُرْشِدًا يتجول في أنحائها على الدوام أو على الأقل قبل كل زراعة لإرشاد الناس لما فيه مصلحتهم وخيرهم؟
أمام الوزارة من ذلك شيء كثير، فيمكنها أن تفكر وتتمشى فيه مع الإصلاح ولها أجرها عند الله وشكرها من البلاد، وإذا كان مدار الزراعة في العالم الجديد على الآلات فلِمَ لا تبحث الوزارة في العائق الوحيد عن استعمالها في أرضنا؟ لا بد هناك من سبب يمكن بطبيعة الحال تذليله بعد دراسته، ويعمل عن الآلة رسم يرسل به إلى بعض الفابريقات، وبعد عمل مثال منه وتجربته فإن أتى بالغرض منه حسن استعمالنا له، وإلا فلا تزال به حتى تصل منه إلى نتيجة صالحة.
لِمَ لا تجعل الوزارة لها معملًا متسِعًا لتحليل كل نوع من أنواع الأراضي العامة بأجر زهيد جدًّا لا يقعد بصاحب الأرض عن تعرف حال أرضه؟ ويُكتب تحت التحليل «صالحة لكذا» أو «ينقصها كذا لتكون صالحة لكذا» أو تضع تحتها جدولًا بسيطًا بنوع السماد الذي تصلح به كل زراعة رئيسية في كل نوع من أنواع التربة.
إنك تعرف من مؤتمر دراسة التربة بالولايات المتحدة اهتمام العالم كله بهذا الأمر، فهل لوزارة الزراعة عندنا أن تفكر في دراسة أراضي القطر وتعمل بها خريطة مصحوبة بالنصائح العامة لإصلاح كل نوع من أنواع تربتها؟ عندنا القسم البكتريولوجي لم يَظْهَر للناس شيء من عمله! وقد يكون له عمل ولكنه محصور بين جدران معمله، ولكن ما الفائدة من ذلك؟ يقولون: إن نتائج التجارب في مزارع الوزارة مُرضية جدًّا، ولكن ما فائدة الناس منها إذا كانوا يجهلونها؟ وهلا تكون هذه النتائج الباهرة نتيجة مصروف كبير لا تفي به كمية المحصول وهو ما لا يفيدنا؟ نحن نريد أن نصل إلى نتيجة نُحَارِب بها أمراض النبات من غير مصروف كبير، وهذا لا يكون إلا نتيجة بحث ودراسة صحيحة. فهل للوزارة أن تُعْنَى بذلك ولو تستقدم من الخارج من يَصلح ويُصلح، نحن نرى وزارة المعارف تستقدم بعض العلماء الأجانب لإلقاء بعض المحاضرات في جامعتها بلغة غير اللغة التي تعرفها طلبتها مما لا يكون له فائدة قليلة أو كثيرة، مع ما يُصْرَف في ذلك من جَمِّ مالِ الوزارة وعزيز وَقْت الطلبة! فما لوزارة الزراعة لا تستقدم رجالًا ممن لهم شهرة في العلم الزراعي يُذَلِّلون ما عندها من الصعوبات، ويحللون ما في صُحُفها من المشكلات؟ أظن أنْ قد جاء الوقت لذلك، فهل هي عاملة؟
عُدْنَا إلى قطارنا فقام بنا إلى مدينة «ريجينا»، والمسافة إليها ١٦١ ميلًا، وعدد أهلها ٤٠ ألف نفس، ثم توجَّهْنا منها إلى مدينة «أندريا» وهي على بُعْد ٤٢ ميلًا، وشاهدنا ما فيها من زرع ومن ضرع، وأحسن ما رأينا تلك الخيل المسومة التي يستولدونها من الخيل الإنجليزية والكندية، وبعد ذلك عدنا إلى قطارنا الذي عاد بنا إلى ريجينا، ثم اتجه بنا نحو الشرق حتى وصلنا إلى مدينة براندون في ولاية مانيتوبا والمسافة بينهما ٢٢١ ميلًا.
(٦٣) يوم ١٥ يوليو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى «براندون»، وعدد سكانها ١٧ ألف نفس، وركبنا العربات التي كانت في انتظارنا إلى المزارع فوجدناها جيدة، والغلال فيها كما لو كانت عندنا في شهر يناير — أعني في ارتفاع عشرين سنتيمترًا تقريبًا — والأرض هنا سوداء، وطبقتها في كندا تكاد تكون واحدة، ومع أننا نزلنا كثيرًا إلى جهة الجنوب فإن الأشجار هنا لا تزال من القلة بحيث لا تراها إلا حول المدن، وتكاد الأرض تخلو من نوع الإنسان — بل ومن الحيوان — ومما يلاحَظ في حالة كندا أن الذرة لا تنمو فيها بحال جيدة تتناسب مع حالة القمح، مع جودة الأرض وكونها غنية بمواد الإنتاج؛ مما يدل على أن الحرارة ضرورية لتكوين نبات الذرة، وهنا وجدنا أيضًا مزارع زُرع فيها القمح من أسبوع فقط حتى إذا تقدم الشتاء كان غذاءً للماشية!
رجعنا إلى قطارنا فقام بنا إلى مدينة «ونبيج» بعد أن قطع إليها ١٣٤ ميلًا، وعدد سكان هذه المدينة ٢٨٣ ألف نفس، فركبنا عرباتنا وقطعنا المدينة فوجدنا شوارعها واسعة ونظيفة، وأبنيتها لطيفة، وأهم شيء فيها البرلمان، ثم خرجنا إلى المزارع، وبحثنا — أو بحث القوم — في التربة، وهي كسابقتها من الخصوبة بمكان عظيم، والروس يقولون: إن أرض كندا كأرضهم في سوادها وجودتها وتركيبها. فهل أراضي المناطق الباردة كلها على هذا الحال؟ أو أنها كان تكوينها بحال واحدة؟ نترك الحكم في هذا لأهله من علماء الجيولوجيا.
وقبل أن نترك أرض كندا نقول: إن الشوارع في جميع مدنها عظيمة الاتساع بحيث لا تنقص عن ٦٠ مترًا؛ ذلك أن المدن فيها جديدة، وتخطيطها حديث، بحيث إن المدينة وُضِعَتْ على الرسم الكروكي الذي أبيح للناس البناء على نظامه؛ لذلك لا نرى فيها بوجه عام دخولًا ولا خروجًا، بل هو ترتيب كالذي تراه في حلوان والزمالك القبلية، وكذلك المدارس فإنها مع قلة الطلبة تراها مشيدة كما هي في أحسن البلدان، ولا أبالغ إذا قلت: إني أراها هنا أحسن منها في أوروبا، وعلى الخصوص في فرنسا، وقد ترى في المدينة الصغيرة عشرات من المدارس من أولية، وثانوية، أو عالية، وكلها أبنية فخمة كَلَّفَت القومَ بدون شك مصاريف هائلة، وبهذا تجد العمار عندهم لا يعتوره خراب، ولا يعتريه زوال، ما دامت عناية القوم به كما ترى، ومنه نرى أنهم إنما يبنون للمستقبل.
وبعد زيارتنا للجامعة توجهنا إلى لوكندة «فورت جاري» بدعوة من رئاسة الجامعة ووزير الزراعة للعشاء فيها، وقد اجتمعتُ بحضرة الوزير وتكلمت معه في شئون شتى، خصوصًا عن إيرادات الحكومة، وعَلِمْتُ منه أنها من ضرائب على المشروبات الروحية، والأوتوموبيلات، ومما يباع من الأراضي، وما ينقص عن المصروفات تدفعه الولاية العامة سلفة إلى أن يُمْكِنَ أن تُغَطِّيَ إيراداتُهم مصروفاتِهم، وعرفت منه أن الحكومة رغمًا عن جودة الأرض موجِّهة اهتمامها إلى استئصال الحشائش الطفيلية في مبدأ أمرها؛ لتكفي نفسها شَرَّ كثرتها في المستقبل، وليت عمال الزراعة عندنا ينصحون إلى المزارعين بالعناية باستئصال هذا النبات المضر قبل أن تتكون تقاويه، وعرفت من جانب الوزير أن الحكومة وشركات السكك الحديدية والنقابات تملك كثيرًا من الأراضي ويمكن لأي إنسان أن يشتري ما يريده ما دام معه ثمنها الذي هو عبارة عن ١٥ ريال للفدان! وما دام معه من المصروف الزراعي ما يشتري به حصانين للحرث وبعض بقرات تساعد بألبانها على غذائه وغذاء عائلته.
وبعد العشاء ركبنا قطارنا فسار بنا متجهًا إلى الجنوب حتى دخل في حدود الولايات المتحدة من «ولاية منيزوتا»، وهناك أتى عمال الجمارك عند الحدود وفتشوا كثيرًا من الأمتعة خوفًا من أن يكون مع الركاب شيء من المشروبات الروحية الممنوع دخولها إلى أرض الاتحاد، ثم استأنف القطار مسيره حتى وصل إلى مدينة «مورهيد»، والمسافة التي قطعناها إليها ٢٢٧ ميلًا.
(٦٤) يوم ١٦ يوليو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى مورهيد، وعدد سكانها ٦ آلاف نفس، ومساكنها كلها من الخشب، وشوارعها واسعة وإن كانت أقل بكثير مما شاهدناه بكندا، وبعد أن أفطرنا في نُزُلِ كاسل ركبنا عرباتنا تحت المطر قاصدين رؤية التربة في جملةِ جهاتٍ منها، وهي أرض كلها قوية، وتربتها من أحسن ما رأيناه من نوعها، والغلال تنمو فيها نموًّا عظيمًا، ويمر في هذه الولاية نهر مايل، ولكن ليس له أثر في نظام الري؛ لأن الري هنا على المطر ويبلغ ٢٣ إنشا، والبرسيم عندهم ينمو نموًّا عظيمًا جدًّا، وخصوصًا النوع الذي يسمونه «ألفا ألفا»، وهم يقطعونه ثلاث مرات ويجففونه للشتاء! ومع هذا فثمن الفدان هنا لا يزيد في متوسطه عن ١٢٠ ريالًا.
وقد تكثر هنا زراعة البطاطس والكتان، وقد شاهدنا في بعض المزارع غيطًا من البنجر فيها مرض، ورأينا القوم يحاربون هذا المرض بواسطة عربة صغيرة عليها برميل (كعربات الغاز التي تسير في طرق الأرياف بمصر)، ومن أسفل العربة من خلفها أنبوبة يظهر منها نحو نصف متر من على يمين وشمال البرميل، وفي أسفل الأنبوبة رشاشات من نوع الحنفيات الرشاشة ذات الثقوب الرفيعة التي لغسيل الأيدي، وهذه الرشاشات مثبَّتة في الأنبوبة على نسبة أبعاد الخطوط المزروع فيها النبات، فإذا سارت المركبة «بحصانين» فُتِحَتْ حنفية الأنبوبة فتنزل المادة المجهزة التي في البرميل إلى الرشاشات فتغمر النبات من كل جهاته، وهذه المادة لم يتيسر لي معرفتها.
وهذه العملية تنفع عندنا في أمراض الخضراوات، ولا أدري إذا كانت تنفع في دودة ورق القطن؟ لأن هذا الفراش الذي ظاهره فيه الجمال، وباطنه فيه العذاب، ككثير من المخلوقات الضارة لا يضع بويضاته إلا في أسفل الورقة! ولكنها تنفع من غير شك فيه عند الفقس وانتشار الدود على الورقة، وبعد دورتنا ركبنا قطارنا الذي سار بنا إلى مدينة «أفوكا»، بعد أن قطعنا إليها ٢٢٠ ميلا، ومنها إلى مدينة «سان بول» والمسافة بينهما ٢٨ ميلًا.
(٦٥) يوم ١٧ يوليو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى محطة «سان بول» بعد أن قطعنا إليها مسافة ٢٤٨ ميلًا، وتعداد هذه المدينة ٢٣٥ ألف نفس، وهي عاصمة ولاية منيزوتا، وهي على نهر المسيسيبي، وتجاهها من الشاطئ الآخر مدينة «مينا بوليس»، وبعد إفطارنا ركبنا العربات وشققنا المدينة فوجدنا أبنيتها في غاية الجمال، وغالبها من الطوب الأحمر، وقليل فيها بالخشب، وفي المدينة حدائق عمومية كثيرة غاية في النظام، وما زلنا سائرين بين مناظر جميلة حتى وصلنا إلى حديقة عمومية كبيرة جدًّا على نهر المسيسيبي، وتكاد تكون في دائرتها غابة بشجرها الملفوف، والقوم يذهبون إليها في أوقات نزهتهم — وخصوصًا في أيام الآحاد — فيجلسون على الجازون الأخضر، ويأكلون ويشربون في ظلال أشجارها الوارقة، وهم مُطِلُّون على ذلك النهر العظيم الذي ينخفض عن الحديقة بعشرات الأمتار.
وهنا بدا لنا المسيسيبي بمائه الصافي وهو قرب منبعه هادئ مطمئن، ليست فيه أية علامة من علامات الاضطراب التي أزعج بها العالم كله من أشهر مضت بما أحيا به أناسًا وأمات آخرين! وسعته من هذه الجهة ضعف رياح المنوفية، وبعد أن استرحنا هناك زمنا تمتعنا فيه بهذه المناظر الباهرة، ركبنا عرباتنا وسرنا على ضفته الشرقية، وكان مجراه يختفي عنا أحيانًا بما على شاطئيه من الأشجار الكثيفة العالية، وما زلنا في سيرنا نخترق رياضًا بعد رياض، وغياضًا بعد غياض، حتى وصلنا إلى جامعة منيزوتا.
وهي أبنية كثيرة فخمة، بُني بعضها بعيدًا عن بعض بعشرات الأمتار وسط حديقة غناء، وليست كلها على نظامٍ واحد، بل لكل بناءٍ نظامٌ يتناسب مع صفة العلم الذي بني من أجله، ومن ضمن هذه الأقسام: القسم الطبي، والجيولوجي، ومدرسة خاصة لطب الأسنان، وقسم للصور والفنون الجميلة، نقشت على واجهته أسماء مَن ظهر في العالم في هذه الفنون مبتدئين باسم «دانت» منتهيين باسم «فيدياس».
ثم قسم للبسيكولوجيا، وقسم للصيدلة، وقسم للهندسة العمومية، وقسم للهندسة الميكانيكية، وقسم للحقوق، وقسم للتعاليم الدينية، وبجوار هذا وذاك معامل مختلفة كيماوية وطبيعية، ثم كنيسة فخمة هي كنيسة الجامعة، ثم دار كتب عظيمة فيها عشرات من آلاف الكتب في مختلف العلوم والفنون تحت تصرف طلبة الجامعة!
ولقد يخيل إليك أن هذه الأبنية كلها قسم كبير جميل من مدينة أرستقراطية تتخللها الشوارع التي لا تَقِلُّ في عرضها عن ٢٠ مترًا، وليس فيها مكان غير صالح لشيءٍ مما وجد من أَجْلِه! وفي وسط هذه المباني بناء عظيم على ثلاثة أدوار، فيه قاعات كبيرة جدًّا آية في النظام، جُعلت للاجتماعات العلمية، وهي التي استقبلونا فيها وجعلوها تحت تصرُّفنا للاستراحة جملة ساعات، وقد تغدينا في هذا القسم بدعوة من الجامعة، وبعد الظهر زُرْنا مكان التجاريب الزراعية، ومما لفت نظري نوع من البرسيم «ألفا ألفا» يبلغ ارتفاعه مترين، وساقه مثل ساق الفول قبيل زمن غلته! ومررنا ونحن في طريقنا من بعد على شيءٍ غريب في بابه، هو أسطوانات كبيرة جدًّا من الحديد، قطر الواحدة نحو ثلاثة أمتار، وارتفاعها نحو عشرة أمتار، ولها فوهة من أعلاها يرفعون إليها الغلال بواسطة آلة رافعة، فيخزنونها فيها ولا منافذ فيها إلا باب صغير في أسفلها يفتحونه عند الحاجة إلى المخزون! وهي أشبه شيء بالزواليع التي نراها على الخصوص عند فلاحي قبلي، فيضعون فيها غلالهم إلى زمن تقاويهم مدةَ ثمانية شهور، ونحن نضحك من سذاجتهم ولا نفهم أن العلم لم يصل في حفظ الغلال إلى أبعد من ذلك! ولا شك أن هذه العملية وصلت إليهم من زمن قدماء المصريين وللآن يعثرون في المقابر على زواليع صغيرة مملوءة بالغلال لم يَمَسَّها سوء طول هذه المدة إلا إذا تعرضت فيها للهواء.
وبعد أن تعشينا في الجامعة ركبنا عرباتنا إلى القطار الذي قام بنا في الساعة الحادية عشرة مساءً، وما زال في سيره حتى وصل في الصباح إلى مدينة «نافارا» بعد أن قطع إليها ٢٢٤ ميلًا.
(٦٦) يوم ١٨ يوليو
وصلنا إلى هذه المدينة التي هي من ولاية «أبيووا» وعدد سكانها ٣ آلاف نفس، وبعد إفطارنا ركبنا مركبات إلى مكان التجارب الزراعية وهي على بضعة أميال من المدينة، وكانت تنمو على جانبي الطريق زراعة الذرة نموًّا عظيمًا جدًّا، وقد رأيتها تكثر في هذه المنطقة كثرةً تأخذ منها أنها هي الزراعة الرئيسية فيها، وعلى ذكر الذرة هنا نقول: إن جميع مدن الولايات يستعملونه بكثرة مفشَّرًا، ويضعون عليه جانبًا من السكر ويبيعونه في دكاكين خاصة به! والأرض هنا كالتي يعبرون عنها بالسوداء، وزراعتها كلها على المطر الذي يبلغ ٣٠ إنشًا، أما زراعة الغلال الأخرى — حتى في أمكنة تجاربها — ليست كغيرها من النمو، ومحصولها يصل في القمح والذرة إلى ٣٠ بشلًا (والبشل ٥٦ رطلًا)، ومن الشعير إلى ٥٠ بشلًا.
والذي أعجبني هنا مكنة لضم الغلال، تضمها وتربط حزمها وترمي بها إلى جانب واحد، وهذه المكنة تعمل نحو عشرة فدادين كل يوم! والذي شاهدته أنها تعمل في غلال سوقها كالتي في أرض الباق عندنا.
- (١)
آلة تايبريتر تكتب عليها فتجمع أحرف الطبع من جهة أخرى منها.
- (٢)
آلة تايبريتر تكتب عليها فتطبع ما تكتب من جهة أخرى منها.
- (٣)
آلةٌ تقطع صفائح الرصاص وتكتبها أحرفًا للطبع.
وفي هذا الدور ٢٠ مكتبًا للعمال وإن شئت فَقُل للعاملات!
أما الدور الثاني ففيه آلات الطبع، تُقَدَّم المجلة مثلًا للطبع فتُطْبَع، ثم تسير إلى آلة تحزمها، ثم إلى آلة تغلفها، ثم إلى آلة تقطعها من طولها ومن جانبها، ثم إلى آلة تغلفها بغلاف العنوان، ثم إلى آلة تضع عليها ورق البوستة والعنوان.
وبجوار هذا عشرات العاملات لتجهزها من آلة إلى أخرى، وهناك آلة لطبع ألوان الغلافات مثلًا! وهي تطبعها على حالها مرة واحدة لا كما هو الحال عندنا في مطابع الحجر كل لون على حدته، وآلة الطبع تطبع ٤٠٠٠ نسخة من المجلة كل ساعة! وهناك سكة حديدية صغيرة متحركة على الدوام لجمع المَلازم، فكلما طُبِعَتْ ملزمة تسير على سلك متحرك إلى عاملةٍ تضعها على التي قبلها حتى إذا انتهت الملازم المكوِّنة للمجلة أو للكتاب أُخِذَتْ للتغليف أو للتجليد بهذه السرعة الهائلة وهذا النظام العجيب!
وهذه المدينة على صغرها جميلة جدًّا، وهي في الليل كأنها قطعة من أهم المدن الأمريكية؛ لكثرة ما فيها من أنوار الشوارع الكهربائية ومظاهر الإعلانات، وبعد أن تناولنا العشاء في نُزُلِ سيفري بدعوة من جمعية النشر، وقام الخطباء يتناولون المواضيع المختلفة التي أنعشني منها ما كان لمصر في قديم الزمان من الفضل على المدينة، وفي المساء توجهنا إلى القطار الذي قام بنا نصف الليل حتى وصل إلى محطة «مولين» وهي في ولاية «ألنوا» بعد أن قطع إليها ١٧٨ ميلًا.
(٦٧) يوم ١٩ يوليو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى مدينة مولين، وعدد سكانها ٣١ ألف نفس، وكان بروجرامنا دعوتنا إلى الإفطار في نزل لوكلير، وهو نزل جميل في داخل المدينة.
وفي منتصف الساعة التاسعة ركبنا الأوتوموبيلات المُعدَّة لنا وقطعنا المدينة من غربيها إلى شرقيها، وهي وإن كانت كبيرة إلا أن منازلها صغيرة، وكلها أو جلها من الخشب، ويَنْدُر ما كان فيها من الآجر؛ ذلك لأنها مدينة عمل وصنائع، زرنا فيها مصنع جون ديز لعمل الآلات الزراعية، وفيه بضعة آلاف من العمال، وكم كانت دهشتي عندما زرت المكان الذي يصهرون به الحديد الزهر ويضعونه في قوالبه المختلفة! كم كانت دهشتي عندما رأيته وقد فتح باب قزانه الهائل وأخذتْ كتلته الهائلة تنزل منه، كأنها الماء استحال إلى نار موقدة، إلى إناء كبير حتى إذا امتلأ سِيرَ به مُعَلَّقًا في قضب سكة حديد في الهواء، حتى إذا وصلوا به إلى قوالبه أخذوا يصبونه فيها، وبعد دقائق يخرجونه منها قطعة متجمدة مما تتكون منه قطع الآلة الزراعية، ثم يُنْزَل بها إلى آلة التهذيب (المخرطة) والصقل!
وكم كانت دهشتي عندما رأيت العامل يتناول العجلة الحديدية وهي قطعة من نار وينقلها بيديه وليس فيهما غير قفازان، لا أدري إذا كانا من الجلد أو من مادة لا تأكلها النيران، وكم كانت دهشتي عندما رأيت بعض الآنسات يعملن في هذا الوسط! آنسات يعملن في النار وجسمهن من نور! وربما كانت هذه هي الرابطة الوحيدة بين هذين النوعين من مخلوقات الله، وكم كنت أقول في نفسي: يا نار كوني بردًا وسلاما! نزلنا إلى آلات الثقب بالماء، وهي أنواع كثيرة بحسب ما يتطلب العمل، ثم رأينا آلات قَطْع الحديد، ووصْل الحديد، وثَنْي الحديد، وكلها من الهول بحيث لا يمكن وَصْفها، ثم رأينا آلات الصقل أو الخرط بواسطة الماء والصابون، أو الزيت أحيانًا، وبعد ذلك زرنا الأحواض التي ينزلون فيها بعض هذه الآلات لتلوينها.
ثم دخلنا إلى عنبر لعملية الأخشاب من قَطْع، ونَشْر، وتهذيب، وثقل، وتلوين، ثم إلى الجهة التي تكون فيها الآلات مركَّبة جاهزة للعمل، وهو معرض فيه جميع الآلات الزراعية من محاريث، وآلات ضم، وغير ذلك، وبعد ذلك خرجنا إلى عرباتنا للتنزه على ضفاف نهر المسيسيبي الذي يمر من شرق المدينة، وهو هنا واسع الأطراف كأنه النيل في وفائه وحمرة مائه، ثم عدنا إلى قطارنا الذي قام بنا إلى المدينة «شيكاجو» بعد أن قطع إليها ١٧٩ ميلًا، فوصلنا إليها في …
(٦٨) يوم ٢٠ يوليو
شيكاجو
شيكاجو مدينة من مدن الولايات المتحدة على بحيرة ميشيجان، وعلى مصب نهر شيكاجو الذي يمر من وسطها، وعدد سكانها ٢٧٠٢٠٠٠ نفس، ولا تزال في زيادة مستمرة مدهشة، ويكفي أنك تعرف أن هذه المدينة العظيمة لم تكن في سنة ١٨٠٤م غير قلعة بسيطة هاجمها الهنود واستولوا عليها في سنة ١٨١٢م. وفي سنة ١٨٣٣م أصبحت قريةً بسيطة عدد سكانها من ٥٠٠ إلى ٦٠٠ نفس. وفي سنة ١٨٣٧م كان عددهم ٤١٧٠ نفسًا، ومن ثَمَّ أخذ عمرانها في الزيادة حتى أصبحت من المدن الشهيرة، غير أن الحريق أتى عليها جميعها في سنة ١٨٧١م، وقد بُنِيَتْ في سنة ١٨٧١م.
وكان بها في سنة ١٨٩٣م معرض الآلات العام، وهي الآن من أكبر عواصم البلاد، ومن أكبر مراكزها التجارية والصناعية والعلمية، وتسمى بحقٍّ ملكة المدائن، ومدينة الأعاجيب والمدهشات، ترى فيها النشاط شديدًا، والحركة مستديمة في سكانها على اختلاف أجناسهم من بيض، وحمر، وسود، وتكثر فيها قُطُر الترام الكهربائية، والبخارية، والقطر الحديدية التي تذهب إلى قلب ما فيها من المعامل والمصانع، ويشقها نهر شيكاجو، وعليه عدد كبير من الكباري المتحركة، ومن تحته كثير من الأنفاق تصل أقسام المدينة بعضها ببعض وتكثر فيها الحدائق العمومية، وما إلى ذلك من الميادين التي تساعد على تنقية الهواء وسلامة الصحة، خصوصًا في مثل هذه المدينة التي ترى على الدوام دخان مداخن ما فيها من آلاف المصانع منعقدًا في سمائها، وفيها من الكنائس ما يربو على الستمائة كنيسة! أما مدارسها وبنوكها ومصانعها فشيء لا يحصيه العدد.
وكأني بك إذا سرت قليلًا في شوارعها التي على النهر، وعلى الأخص التي تقرب من بحيرة ميشيجان رأيت تلك الأبنية الشاهقة التي تُذَكِّرُك بناطحات السحاب بنيويورك، لولا أن أبنية شيكاجو متناسبة في ارتفاعها مما يزيدها جمالًا وإن كانت لا تصل إلى أكثر من ٢٠ طبقة.
وأبنية هذه المدينة بصفة عامة أذكرتني بحي الإفرنج وحي العرب ببورسعيد، أو بالأحياء الإفرنجية والوطنية بالقاهرة والإسكندرية بما بينها من تلك الفوارق في نظامها ونظافتها، كذلك ترى في شيكاجو حي الأغنياء، وحي الفقراء، والأول في عظمته وجلاله، والثاني في أتربته وأوحاله! وقصارى القول: إنها من أكبر مدن العالم تجارةً، وخصوصًا في الحبوب واللحوم المجهزة، واختلاف الصناعة والآلات البخارية والموبليات الفاخرة والسيجار والمطابع والجلود المدبوغة، وفيها أكبر بورصة للحبوب في العالم؛ لأنها أكبر موارد الحبوب في أمريكا، وهي تأتيها من كل جهة بواسطة البحيرة والنهر والسكك الحديدية، وتنصرف منها إما حبوبًا وإما دقيقًا.
بورصة القمح بشيكاجو
إذا كانت الولايات المتحدة تنتج من القطن ثلاثة أرباع ما تنتجه المسكونة من هذا النوع، فهي لا تنتج من القمح إلا ربع محصول العالم منه؛ لذلك كانت السياسة التجارية للولايات المتحدة في القمح أهم منها في القطن؛ لأنها إنما تسيطر على هذا الصنف الأخير ولها وحدَها الكلمة في أسواقه العالمية، أما القمح فترى اهتمامها به عظيمًا جدًّا.
وإذا كانت توجد بالولايات المتحدة أكثر من ألف وخمسمائة غرفة تجارية منتشرة في ولايات الاتحاد، وتمثلها جميعها الغرفة التجارية الوطنية التي مركزها في واشنطون، والتي لها نفوذها لدى الحكومة واحترام رأيها في سياستها الاقتصادية، ففي شيكاجو للقمح أكبر غرفة تجارية في العالم كله، ولهذه الغرفة الأخيرة علاقة بملايين الزراع والتجار في ولايات الاتحاد، فيتعرف أعضاؤها حالة الجو في كل الجهات التي تَزْرع القمح سواء في ولايات الاتحاد أو فيما وراءها، فتراهم يستفسرون عن حالة الفيضان في الأرجنتين، والمطر في صيف فرنسا، والبرد في هونجاريا، وحالة الجراد أو الجفاف في فصل الشتاء بشمال إفريقيا، والجفاف في ربيع أستراليا، وعمَّا إذا كانت الأخبار السياسية في الروسيا أو الشرق ملبدة بالغيوم.
ولإرشادات النقابة في شيكاجو أثرها في بورصتها، فترى القوم يندفعون في الشراء أو البيع بالتلغراف — باللاسلكي — بالتليفون سواء في دائرة الاتحاد أو في غيرها من المسكونة.
وهنا ألفت نظرك إلى أن ما مُنِيَ به القمح في جميع أسواق العالم في السنة الماضية والحالية (١٩٢٩–١٩٣٠م) إنما هو أثر لما أصاب سعره من التدهور في بورصة شيكاجو.
•••
ولقد زرنا في هذه المدينة محل إدارة شركة «سويفت»، فتناولنا بها طعام الإفطار، ثم زرنا مصانعها وبها أكبر مجازر للحيوانات في العالم كله، فإنه يُذْبَح فيها كل يوم ٣٠٠٠ خنزير، و٢٥٠٠ خروف، و٢٠٠٠ ثور! وقد شاهدنا مذابحها جميعًا، ورأينا كيف تجهز إلى علبها، ويكفي أن أُحَدِّثَك عن مذابح الثيران. يأتون بالثور في عربات سكة حديدية خاصة بالمذبح، وهي مائلة من إحدى جهتيها إلى ذلك الفناء الذي تذبح فيه، والذي يُشْرِف عليه النظارة من إيوان مرتفع، حتى إذا وقفت المركبات إلى آخر هذا الفناء، يقف عشماويها من الطرف الآخر، ذلك الرجل الذي تقرأ في وجهه آيات القسوة مجسَّمة بارزة، وفي يده مطرقة من الحديد، فيضرب بها الثور على أم ناصيته ضربة يخر منها فاقد الحياة! وقد تكون الضربة غير قاتلة فيتلوها بغيرها! وعندها يفتح الباب فتتدحرج الجثة إلى هذا الفناء حيث يتناولها أحد الجزارين — وهم كثيرون — فيربط رجلها الخلفية اليسرى في حبل يرفعها بحركة ميكانيكية إلى نحو متر فوق الأرض، وهنالك يضربها بسكين في منحرها فيسيل دمها على أرضية المكان الذي تراه فيه كالنهر يسير إلى بلاليع في جوانب هذا المكان.
وترى هذه العملية في آنٍ واحد في عشرات من الثيران، حتى إذا ذُبِحَتْ أخذ الجزارون في سلخها بسرعة هائلة، ثم تسير بحركة أوتوماتيكية إلى حمام ساخن تُغْسَل فيه غسيلًا تامًّا، ثم تُنْقَل إلى مكان آخر بنفس الحركة، فتُقْطَع فيه أرباعًا ثم يُلْقَى بها إلى من يفصلها أشلاء، ثم إلى من يجهزها قطعًا، ثم إلى أفران تُطْبَخ فيها، ثم إلى أفران أخرى تُعَقَّم فيها، ثم إلى من يضع عليها ورقة الإعلان أو البيان، ثم إلى من يضعها في صناديقها، ثم إلى من ينقلها إلى مركبات السكة الحديدية، وهذا كله بحركات ميكانيكية سريعة جدًّا بحيث تَتَّحِد فيها حركة الآلات بحركة العمال، حتى كأنها كلها أعضاء آلة واحدة!
تركنا معمعة هذه المجازر إلى زيارة بعض مصانع الآلات، فزرنا مصنع «ماك فورميك»، وهو خاص بعمل الآلات الزراعية، ولا تخرج في عملها عن المصنع على ٨٠٠ فدان! والزائرون لهذا المصنع تُقِلُّهم عربات كهربائية تسير على قضبان تتخلل المصنع جميعه، ومدينة جراي يسكنها الآن أكثر من ٥٠٠٠٠ ألف صانع، وهي مبنية على آخر رسم وأجمل هندام، فمن شوارع واسعة لا يقل عرضها عن ثلاثين مترًا، وحارات نظيفة يسير فيها الترمواي الكهربائي، وفيها أنابيب الماء، والغاز، وأسلاك الكهرباء، وفيها ما يلزمها من مدارس وحمامات، وفيها مكتبة عظيمة للعمال أهداها إليها المستر كارنجي، وفيها لوكندة يستريح إليها زوار المصنع فيها معدات الراحة جميعها.
وعلى بعد ١٤ ميلًا من شيكاجو مصانع بولمن التي تعمل مركبات السكة الحديدية، منها ما هو للنوم، أو للركوب، أو للبضائع، وأظنك سمعت عنها بمصر؛ لوجودها في بعض القُطُر المفتخرة. وسعة هذه المصانع مع المدينة التي بناها المستر بولمن للصناع ٣٥٠٠ فدان! أما المدينة ففيها شوارعها الجميلة، وفيها كل لوازم الحضارة والرفاهية، من متنزهات، وتياترات، ومساكنها على أحسن نظام صحي.
وتستنفد هذه المصانع سنويًّا أكثر من سبعين ألف طن من الفحم، ومائة وخمسين ألف طن من الحديد، و٧٥ مليون قدم من الخشب، وتصنع في كل أسبوع عشر عربات نوم، و٢٠ عربة للركاب، و٥٠٠٠ عربة للبضائع، وهي كل يوم في زيادة مستمرة في عملها وعمالها.
وأغلب مباني مدينة شيكاجو بالطوب الأحمر والأبيض والحجر، ويلوح على الأبنية مسحة من دخان المصانع مما يدل على كثرتها فيها. ومن أحسن مبانيها وأفخمها وأعظمها بناء لجرنال «تريبون دو شيكاجو». وإلى بحيرة ميشيجان متنزه كبير جدًّا، وفيها مراكب تجارية تغدو وتروح بالركاب والبضائع إلى جهات كثيرة، وإذا نظرْتَ إليها وجدْتَها كالبحر الخضم لا حدود لها ظاهرة، وعليها كثير من المصانع والمعامل التي لا حد لها. وقد ترى القوم مهتمين بردم قسم منها ليزيد في مساحتها من تجاه محطتها العمومية «سنترال استيشن»، وعلى البحيرة بناء عظيم جدًّا وهو متحف المدينة، ومن خلفه حديقة واشنطون، وفيها تمثاله على حصان أشبه شيء بتمثال إبراهيم باشا عندنا، وفي يده سيف مشهور كأنه يترنم بقول أبي تمام:
وفي جانب من هذه الحديقة مكان للألعاب الرياضية (إنفتياترو) بمدرجات رخامية يسع ١٢ ألف نفس!
ومن وراء الحديقة أبنية الجامعة، وهي كبيرة جدًّا، وهي أحسن من كثير مما رأيناه من نوعها، وقد زرت بعضها مع سكرتير عمومي المؤتمر مستر ماكول.
ومن أحسن ما زرناه كلوب الطالبات، وما أدراك ما هو! بناء فخم لطيف يسترحن إليه وقت الفراغ من العمل، وفيه جملة غرف منها ما هو للمطالعة، أو للاستراحة، أو لأخذ الشاي، أو للاستحمام، وهذا الأخير عبارة عن بحيرة من الرخام طولها نحو عشرين مترًا في عرض عشرة، وفيها تتعلم الطالبات العوم، وعلى كل حالٍ فهو مما ترتاح له النفوس، خصوصًا في وقت الحر الذي لا يُطاقُ في هذه البلاد.
وقد زرنا مكتبة الجامعة فوجدت فيها بعض الطالبات يشتغلن بالبحث والمطالعة ومنهم حمر وسود، يظهر عليهن أثر النعمة مما يدل على أن شيكاجو لا تضغط على هذين النوعين من بني الإنسان كغيرها من ولايات الاتحاد الجنوبية، وربما كان السبب في ذلك احتياجهم إليهم في الصناعات المختلفة.
وبعد ذلك زرنا كلوب الطلبة فوجدناه من أفخر شيء في بابه، جمال شكل، في فخامة رياش، وتجاهه المطعم الذي يأكلون فيه، وقد جمعتْ أصنافه بين الجودة ورخص الثمن، وهذا المكان هو الوحيد الذي يجتمع فيه الشابات بالشبان من الطلبة.
وتكثر الأوتوموبيلات في هذه المدينة بحيث ترى لكل أربعة من أهلها أوتوموبيلًا، وترى الطرق غاصة بها واقفة إلى أفاريزها طول النهار، حتى إذا أتى المساء ركب كلٌّ عربته — سواء من العمال أو غيرهم — وانصرف إلى حيث أراد.
وما زلنا نتنزه في أنحاء المدينة إلى نصف الليل، ثم قصدنا قطارنا الذي قام بنا إلى مدينة «لافييت».
•••
وقبل أن نترك الكلام على جامعة شيكاجو التي هي من أهم جامعات الاتحاد نقول: إن القوم عندهم لجان في وزارة المعارف للبحث في بروجرامات جميع الدول الأخرى، وتقدم ما تراه منها موافقًا لبلادها إلى لجنة خاصة تبحثها بحثًا دقيقًا وتُدْخِل فيها ما ثبتت التجربة بصلاحيته، وتوجد لجان أخرى تدور في الأرياف وتبحث في كل متعلقات مدارسها من بروجرامات وغيرها، وتنظر في أحوال الطلبة وما يُصْلِح من شأنهم، حتى إذا رأت تخفيض مصاريف تعليمهم في هذه المدارس أقنعت مديريها بهذا التخفيض، وتعوض عليهم ذلك بإعانات ترتبها لهم الوزارة.
وعندهم أسبوع يسمونه «أسبوع التعليم»، يجتمع فيه كلَّ سنة في كل عاصمة من عواصم الاتحاد رجالُ التعليم من جهة الحكومة برجال التعليم في الأرياف ومعهم رجال النقابات العلمية، ويبحثون في كلِّ ما من شأنه أن يُعْلِيَ حالة التعليم والمتعلمين والمعلمين، سواء من الوجهة العلمية، أو الوجهة الاقتصادية، وتذاع نتائج هذا المؤتمر في أنحاء الولايات بالراديو؛ حتى يطَّلع عليه جميع الناس.
وللفلاحين أسابيع للتعليم أيضًا؛ تَفْتَح الجامعاتُ الزراعية أبوابَها للفلاحين الذين يقصدونها في وقت معلوم، ويجلسون في العراء رجالًا ونساءً وأطفالًا، ثم يأتي المدرس ويلقي عليهم درسًا عمليًّا في الزراعة الخاصة ببلادهم، وكثيرًا ما يكون هذا بواسطة السينما أو الفانوس السحري، فيتعلم الفلاح بهذه الواسطة ما يفيده في عمله، ويرقى به في صناعته، في جانب سروره من هذه المناظر الجميلة اللطيفة التي لا تختلف في نظره عن مناظر التياترات وما يشبهها، وقد يتوجه الأساتذة إلى البلاد البعيدة عن الجامعة لإلقاء هذه الدروس على عامة الناس، وكل هذه الدروس العملية إنما تهتم بها الجامعات للمنفعة العامة، فهي لا تجعل تعليمها محصورًا بين أركان مبانيها لطلبتها، ولكنها ترى أن مأموريتها أبعد من ذلك، وهو اتساع دائرة الإرشاد إلى حدود الإفادة العامة.
وعلى بعد ٣٦٠ كيلومترًا من شرق شيكاجو توجد مدينة «دوترويت»، وهي واقعة على الخليج الموصل لبحيرة سنت كلير إلى بحيرة أريا، ويقابلها من الطرف الشرقي لهذه البحيرة مدينة وشلالات نياجرا، وفي دوترويت جملة مصانع مختلفة فيها ما هو للحديد، وللألوان، وللأقمشة، وكانت إلى سنة ١٨٩٠م لا يزيد عدد سكانها على ٢٠٠ ألف نفس، فلما ظهر تحت سمائها فورد واخترع أوتوموبيله، وأخذ في إشادة معامله في أول هذا القرن أخذ سكانها في الزيادة الهائلة إلى أن أصبحوا الآن لا يَقِلُّون عن مليون وربع من النفوس!
ومصانع فورد داخلة في بناءٍ يشغل مائة فدان مسقوفة بالحديد، وهذا الفناء كله مشغول بآلاف الآلات التي تشتغل في قطع عربات فورد وتخرج كل يوم عشرة آلاف أوتوموبيل! تنقلها السكة الحديدية إلى جهات توزيعها يوميًّا، والذي خرج من هذه المصانع إلى آخر سنة ١٩٢٦م لا يقل عن سبعة عشر مليون عربة!
وجميع المواد الأولية لهذه المركبات من أملاك فورد، فهو يملك غابات من أشجار الصناعة، ومناجم من الحديد، والنحاس، والبترول، والفحم، ويمتلك كثيرًا من فروع السكك الحديدية، ومن مراكب النقل التجارية، ومصانعه لا تعمل في صنف الأوتوموبيل فحسب، بل هناك بجوارها مصانع لاستخراج الغاز من دخان الكوك، واستخراج ما فيه من سلفات النوشادر والقطران والزيت، وعنده مصانع للزجاج، ومصانع للجلد، ومصانع للكاوتشوك، بحيث لا يحتاج في عمل عرباته إلى شيءٍ من الخارج.
وعنده معامل خاصة لعمل وابورات فوردسن بالاشتراك مع ولده، ويُصَدِّر منها عدد هائل إلى كندا وإلى جهات العالم كله، وعندنا في مصر كثير منها.
(٦٩) يوم ٢١ يوليو
وصلنا في صباح هذا اليوم إلى مدينة «لافييت» بعد أن قطعنا إليها ١٢٩ ميلًا، وعدد سكانها ٢٣ ألف نفس، وهذه المدينة سُمِّيت باسم الجنرال لافييت الفرنساوي الذي ساعد الولايات المتحدة بجيشه في حرب استقلالها، وهي مدينةٌ لا بأس بها، شوارعها جميلة وإن كانت ضيقة، والأرض هنا وإن كانت جيدة إلا أن الزراعة بها ليست على ما يرام؛ لقلة ماء المطر الذي لا يزيد على ٢٥ إنشا، مع أن حرارتها كانت وقتَ وجودنا بها ٣٠ سنتجراد! وفيها مصانع كثيرة لإصلاح الآلات الحديدية، وللسلخانات، ولقياس الغاز، وللكاوتشوك، ويمر بجوارها نهر ووباش، وفيها جامعة للزراعة، والهندسة، والطب، والعلوم، وفيها مدرسة للآلات الزراعية، وللجامعة الزراعية قسم لتربية الفراخ بناؤه جميل جدًّا.
وقد زرنا بها عزبة فرأينا مواشيها جيدة، ولكن الذباب هنا يكثر لدرجة مقلقة؛ لذلك تراهم يلبسون قميصًا يكاد يغطي كل الجسم، وهم يعطون المواشي عليقًا في الصيف من دقيق بِذْرة القطن لمدة ثلاثة أشهر فقط، ويقولون: إن الإكثار منها يجفف جلد الماشية، وربما أصابها بالعمى.
•••
وهنا انتهت مهمة مؤتمر التربة الذي كان الروس هم العضو العامل فيه؛ فقد كانوا سبَّاقِين إلى تَعَرُّف التربة، ويفيض كثير منهم بملاحظاته عليها، والكل سماعون له حتى السير جون رسل ذلك الرجل العظيم؛ لذلك كان الروس موضع احترام الجميع لعلمهم، ولقد رأيت من كثيرين منهم أدبًا ولطفًا كانا يميلان بي أحيانًا إلى سؤالهم عن حقيقة البولشفية، هذه الكلمة التي لم نَرَ لها وجودًا في الولايات المتحدة، ولكنهم كانوا يهربون من الإجابة متشاغلين بشيءٍ آخر، وكأني بهم قد أتوا إلى هنا مبشرين بعلمهم لا بمذهبهم حتى يجعلوا لهم من تحت سماء هذه الأوتوقراطية البحتة ذِكْرًا جميلًا، وفضلًا أثيلًا، ويدخلون من أبوابهما إلى حيث يُمِيطُون عن بلادهم ذلك اللباس المخيف، وتلك الصورة المزعجة التي يرتعد من ذِكْرها العالَم المُتَمَدْيِن.
تناولنا غداءنا في الجامعة، أو بعبارة أخرى في مطعم الجامعة، وعند دخولنا من الباب أعطوا كُلًّا منا شيكًا بأكْلة واحدة كما يُعطى للطلبة، إلا أنَّ ما أُعْطِيَ لنا بغير ثمن، وقَفْنَا صفًّا الواحد تلو الآخر وقد تناول كلٌّ صينيةً صغيرة، ثم دخلنا إلى غرفة يحيط بها من الداخل مائدة عليها أغذية مختلفة، ومن ورائها آنسات لطيفات، يمرر كلٌّ صينيته على إفريز للمائدة من جهته، ويشير إلى إحدى الآنسات بما يرغب فيه مما هو في دائرة توزيعها، حتى إذا انتهى من الأخيرة حمل غذاءه إلى حيث يجلس في أي مكان خالٍ بين الطلبة من الجنسين، أخَذْنا مقاعدنا في هذا الوسط الذي ذَكَّرَنا بتلك الأيام، أيام الشباب! أيام السعادة! وإن كانت أنظمة المجموع في المشرق لا تسيغ هذا الجمع الذي قد يكون من الموجبات التي قد تُلْبِس الشباب حُلَل الآداب، وتُنْمِي فيه عاطفة التهذيب والترتيب؛ لأنه لا يريد أن يكون ناقصًا في عين هذه التي يريد أن يتقرب منها ويتحبب إليها، وقد تتصل روحه بروحها، وجسمه بجسمها يومًا من الأيام بعامل الزوجية.
تذكرت هنا تلك الأيام السعيدة، أيام القوة، أيام الفتوة؛ أيامٌ كلُّ مسئولية فيها كانت على عاتق غيري! من غير أن أشعر بما فيها من فداحة أثقال، ومرارة أحوال! ولكن هل في الحياة متَّسَع لعمل هذه الدورة؟ وإن كانت كهولتنا وشيخوختنا كلها بلاء في بلاء، وشقاء في شقاء! وهل يرجع إلينا ذلك الشباب فنخبره بما فعل المشيب؟ لا لا، أنا لا أريد أن أُنَغِّصَ عليه وقته بسور المفزعات! وصور المرهبات! ولكن لأمتِّع النفس بعظيم شأنه، وأُسْعِدها بذلك التاج الذي لم يكن للشبان معرفةٌ بسلطانه، تاج مملكتَي العافية والهناء.
•••
وبعد الغداء توجَّهْنا إلى القطار الذي قام بنا في الساعة الواحدة بعد الظهر إلى واشنطون، فوصلنا إليها ظهر اليوم الثاني بعد أن قطعنا إليها ٧٦٥ ميلًا. وبعد أن تغديت بمحطتها أخذت قطارًا آخر مع بعض أعضاء المؤتمر الذين لم ينزلوا إلى واشنطون، وسِرْنا إلى نيويورك فوصلناها الساعة السابعة من مساء ٢٢ يوليو سنة ١٩٢٧م وبها انتهت سياحة المؤتمر؛ هذه السياحة التي يمكننا أن نسميها بحقٍّ سياحةً أمريكية؟
(٧٠) العودة إلى نيويورك
عُدْتُ إلى هذه المدينة، ولا أكْذبك إذا قلت لك: إني كلما عثر بصري على تلك الصروح العاليات، وتردَّدَ طرفي بين هذه المباني الشاهقات، لم تَقِفْ دهشتي منها عند حد، بل أخذ خيالي يصور لي أن علامة الاتصال — وهو ما يسمونه عند الإفرنج «تريدنيون» — قد صاغ الأمريكان منها هذه الصروح لتكون صلة بين الأرض والسماء، نعم تَجَلَّتْ لي هذه العظمة التي أنستني ما جاء في التاريخ من عظمة النمرود، تجلت لي هذه العظمة الحقة التي بُنِيَتْ على قواعد العلم، والتي صغُرتْ أمامها في عيني عظمة قصور فرساي، والتويلري، وبكنجهام، وغيرها مما يُمَثِّل عظمة الأفراد، تلقاء تلك التي تُمَثِّل عظمة الشعوب.
ولقد وصل الشعب الأمريكي إلى عظمته بجد العمل لا بمجد التاريخ؛ شعبٌ وصل إلى ما وصل إليه من تلك القوة الهائلة في ماليَّتِه، في علومه، في مدنِيَّتِه التي يعجب منها كُلُّ مَنْ رآها أو سمع بها، ولا غَرْوَ فإن هذه المدنية التي وصل إليها في قرن ونصف — وهو عمر فرد من أفراد الإنسان — لجديرة بالتحميد والتمجيد!
وإنما وصل الأمريكان إلى هذه المدنية الرائعة، وتلك الثروة الهائلة في هذه المدة الوجيز بالعمل، وتقديرهم لقيمة الزمن، وعدم حصرهم مجد أشخاصهم في شارات الأوسمة، وفخامة الألقاب التي لا أَثَرَ لها في حكومتهم، اللهم إلا هذا اللقب العلمي الوحيد «دكتور» الذي تمنحه الجامعات للذين ينالونه منها بجدارة واستحقاق.
والشعب الأمريكي شعبٌ عاملٌ سواء في أفراده، أو في مجاميعه. أو بعبارة أخرى بما يمثل أفراده من نواب، ونقابات، وشركات. ولكل طائفة من هؤلاء جهادها في دائرة عملها، ولكلٍّ اجتهادها في خدمة ممثليها، ولكلٍّ اعتبارها سواء عند الشعب أو عند الحكومة.
مهما سِرتَ في بلاد الاتحاد لا ترى غير عظمة الشعب التي تستمد منها الحكومةُ قوَّتها وعظمتها! فترى الحكومة لا تتكلم إلا باسم الشعب، ولا تعمل إلا لاسم الشعب.
أما في الشرق فاعتبار الحكومات فوق كل اعتبار! وعظمة الأفراد هي الهيكل الذي تنحني أمامه رءوس الشعوب!
وحكومة الولايات لا دأب لها إلا التفكير في كل ما يُرقي شعبها، سواء في علومه أو فنونه، أو صناعاته، أو تجاراته، فهي بقوةِ شعبها لا تفتأ تُزَحْزِح ما في طريقه من الموانع، وتُمَهِّد له السبيل إلى العمل والكسب، سواء في داخليتها أو فيما هو أَبْعَد من ذلك، وتراها على الدوام مندمجة في شعبها، وشعبها مندمج فيها، ولكن لكلٍّ حدودُهُ وأنظمته التي لا يتعداها، والشعب على كل حال لا يشعر من الحكومة بضغط ولا بسلطان، ولكنما السلطان هو لمعنى القانون ولروح الدستور، وهنا فقط يشعر الناس بأن هناك حاكم ومحكوم، أما في الشرق؛ فالسلطان كله للحاكم مهما لبس لباس الدستور، وتظاهَر بمظهر القانون.
•••
وفي ثاني يوم من وصولي إلى نيويورك أخذتُ تذكرة السفر إلى فرنسا على مركبٍ تُبْحِر في يوم ٦ أغسطس، ولما كانت نيويورك شديدة الحرارة جدًّا خطر ببالي السفر إلى مدينة نياجارا؛ لمشاهدة شلالاتها؛ هذه الشلالات التي قطعتُ إليها ذهابًا وجيئة أكثر من ألفي ميل، لا لشيءٍ إلا لمشاهدتها! وفَضَّلتُ السفر إليها ليلًا حتى لا أَشْعُرَ بمشقته نهارًا، وركبت القطار من محطة سنترال استيشن بعربة النوم، فسار بنا في الساعة التاسعة، وفي الصباح وصل إلى مدينة نياجرا التي أقمتُ بها يومين في جوٍّ لطيف جدًّا يختلف كلَّ الاختلاف عن جو نيويورك.
(٧١) شلالات نياجارا
إذا نزلتَ من محطة السكة الحديدية بمدينة نياجارا، فسِرْ قليلًا إلى الجنوب ثم انعطِفْ إلى جهة الشرق في حديقةٍ غَنَّاء قد فُرِشَتْ أرضها ببساط سندسي نضر رواؤه، وزهت أرجاؤه، في ظلال تلك الأشجار اليانعة، التي كُلَّما عانقها الهواء العليل سمِعْتَ لأوراقها أصواتًا كالتي تسمعها من عاشقَيْن قد اجتمعا بعد غيابٍ طويل!
هنالك ترى بحيرة أريو التي يبلغ طولها ٤٩٠ كيلومترًا، وعرضها ١٠٠ كيلومتر، قد انبسطت أساريرها، وصَفَا أديمها، وأخذت خطرات النسيم تعبث بصفحتها فتتماوج تماوُج مادة الجمال في وجنة الحسناء! وقد استأنس بها الطير فحنى عليها، وهوى إليها، وأخذ يغدو ويروح بين يديها، مما تَحْكُم به بأن هذا المخلوق الهادئ قد جمع بين صفحتيه من آيات الحسن، والجمال واللطف، ما لم يتيسَّر جَمْعُه في مخلوق آخر، وتشعر في وجودك بقربه بالسعادة التامة، والنعيم المقيم.
فإذا وَلَّيْتَ وجهكَ إلى الغرب وقد اتخذ الماء له مجرًى إلى الشلال، ووقفْتَ عند القناطر التي تجمع بين شاطئيه، رأيتَ عجبًا! رأيتَ هذا المخلوق الذي كُنْتَ تراه من برهة كحمَل اليسوع في وداعته، أو هو الجمال واللطافة بكل معناهما، وهو يعدو عدْو الوحش المفترس قد لمح من بُعدٍ فريسته، ولا يزال يثب من صخرة إلى صخرة، ومن عالية إلى هاوية، وهو يغلي غليان القدر، والشرر يقدح من عينيه، والزبد يتطاير من شدقيه، يضطرم اضطرامًا، ويحتدم احتدامًا، وقد علا زئيره، وصرخ نذيره بما في طريقه من خطر!
وما كنت أعرف قبل هذا الوقت أن هذه الطبيعة التي هي أرقُّ من النسيم، وألطف من التسنيم، وأصفى من أيام النعيم، هذه الطبيعة التي جعل الله فيها حياةَ خَلْقِه تنقلب هنا إلى هذا الخطر الجسيم.
وما زال الماء في هيجانه وثورانه يقصم كل شيءٍ في طريقه، حتى إذا وصل إلى غيابة الجب أخذتْه معها رعدة، وكأني به وقد أحجم قليلًا يريد النكوص على عقبيه فزعًا منها، ولكنه لم يلبث أن سقط فيها سقوطًا مروِّعًا من ارتفاع ٧٠ مترًا، واصطدم بما في قاعها من صخور تناثرتْ منها أعضاؤه، وتطايرت أشلاؤه، فملأت الجو رذاذًا كان يصل إلى وجوهنا ونحن على أكثر من مائة متر عن مَسْقَطِه! وقد تكوَّن من فضلاته ومن فضلات الشلال الذي في جنوبه نهر نياجرا الذي يصب بعد قليل في بحيرة أونتاريو.
وهذا الشلال الأخير ينزل من مجرى آخر تفصل بينهما جزيرة جميلة كلها في أرض كندا، قامت على أرضها غابةٌ أشجارها المخضلة ذات ظلال وارفة، وطرق مشرفة على مسقط الشلال.
وهذا الشلال في منتهى الوادي الذي يبدأ منه النهر، وسقوط الماء منه على شكل علامة الجزر عند الرياضيين، أو هي شكل رقم سبعة منفرجة من ضلعها الأيمن، ومع أن مسقط الماء هنا أوسع منه في الشلال الأول، فإن كتلة الماء فيه أقل، وارتفاعه ٦٧ مترًا، وإذا اتجهْتَ إلى طريق هذا الشلال الأخير، وجدْتَ ما يسمونه الجزر الثلاث، وهي ثلاث جزر صغيرة قامت وسط شلالات صغيرة كثيرة، وهي تشبه في حال من الأحوال شيئًا عندنا فيما وراء حَلفَا، يسمونه الشلال!
وشكل الماء في سقوطه من الشلالين الكبيرين لا يمكن أن أُقَرِّبَه إليك إلا برجاء واحد، هو أن تتصور دولابًا من دواليب حليج القطن بسعة الشلال وبقوةٍ تَتَنَاسَبُ مع سعته، والقطن ينزل منه مندوفًا منقوشًا بسرعة إلى الهاوية، بشرط أن تكون كتلته لا تقل في حجمها عن ٥٠ سنتيمترًا.
وهذان الشلالان الكبيران يُغَذِّيان النهر بما مقداره ٧٠٠٠ متر مكعب في الثانية الواحدة، وبما ينتج عنه قوة خمسة ملايين حصان عملية!
سار هذا النهر بين ضفتين شاهقتين، أَقَلُّ ارتفاعٍ لهما مائة متر، وقد أقيمت على ضفتيه معامل الكهرباء الكبرى تدور بقوة الماء الذي يرتب لإدارة جملة من الترابين التي تُحَرِّك موتورات هائلة بما يتولد عنها ملايين الكيلوات، وقد زرت من هذه المعامل اثنين، مجموع ما ينتجانه من الكيلوات في كل يوم نحو عشرين مليونًا أو تزيد!
وهذه القوى الكهربائية تسير تياراتها إلى جهة مدينة «بافالو» لتشغيل ما فيها من معامل الحديد، والأوتوموبيلات، والموتوسكلات، والدقيق، وهي على بُعْد ثلاثين كيلومترًا من بافالو، ثم إلى «سراقوسه»، وتَبْعُد عن نياجارا بنحو خمسين كيلومترًا؛ لإدارة ما فيهما من معامل الصناعات المختلفة.
لقد كنا نفهم من قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أن ذلك خاصٌّ بما في طبيعة الحياة من حيوان ونبات، ولكنا اليوم عَرَفْنا أنه حياةٌ لهذه الجمادات التي تنتجها المعامل، والتي أصبحت من أهم الضروريات للإنسان والحيوان والنبات جميعًا، سبحانك ما أَقْدَرَك! وما أكبر ما وراء هذه الطبيعة من خلقٍ لا نعلمه!
•••
وبمناسبة الكلام على شلالات نياجرا أقول لك: إن أعظم شلالات العالم هي شلالات الزمبيز في شرق إفريقا الجنوبية، وشلال ريوسان فرنسسكو في البرازيل، وشلالات نياجرا نصفها في الولايات المتحدة ونصفها في كندا، وشلال أجوازو في أمريكا الجنوبية، ثم شلالات جافاروني في جبال الألب العليا.
(٧٢) كلمة عن أمريكا
تاريخ الأرض الجديدة يتغلغل في ظلمات الماضي، ويظن علماء الشعوب أن أصل سكان هذه البلاد نزحوا إليها من آسيا من بوغاز بهرنج في وقت لا يُعْلَم، ويزعمون أن صور سكان ألاسكا (وهي في الشمال الغربي من أمريكا الشمالية) تشبه صور السيبريين.
وسكان العالم الجديد الأصليون ينقسمون إلى قبائل اسمهم «أتوس»، وقد كانوا يَلْجَئون إلى الحصون الطبيعية، أو إلى ما كانوا يحفرونه منها في المناطق التي كانوا يعيشون فيها لتحميهم من الحيوانات المفترسة، أو من هجوم بعضهم على بعض؛ ولذلك يسمونهم «بُناة الحصون»، وبحكم ضرورة العمران كانوا ينتقلون من ضروريٍ إلى آخر بما كانت لهم منه مدنية أخصها في بلاد المكسيك التي وَجدوا بها أخيرًا كهوفًا كانوا يحفرونها في الصخور لإيوائهم أحياء، ثم لإيداع جثتهم بها أمواتًا، وفي هذه الحفريات عَرفوا أن قد كانت لسكان أمريكا في غابر الزمان مدنية تتصل بالأجيال الحجرية ولكنها أقل منها في العالم القديم.
أما تاريخ الاستعمار فيها فقد بدأ في القرن الحادي عشر الميلادي على يد النورفيجيين، وأول ما اسْتُكْشِف من هذه البلاد جزيرة ويفلاندة، استكشفها البحار النورفيجي كانجورن، ثم هاجر إليها بعض سكان جزيرة أسلاندا، وبعض السكندانافيين ولكن الإسكيمو طردوهم، وبَقِيَتْ هذه الجهة بعيدة عن كل عمران إلى سنة ١٧٢٤م حيث استعمر شواطئَها الهولنديون.
أما الإسبان فإنهم لم يستكشفوا جزائر خليج المكسيك إلا في آخر القرن الخامس عشر، ثم أتبعهم الفرنسيون والإنجليز في منطقة الولايات المتحدة، وكان هذان العنصران على الدوام في حرب مع بعضهما البعض.
ولما زاد الضغط الديني في أوروبا في القرن السادس عشر بدأ الناس يهاجرون إلى أمريكا، وأخذت الهجرة تزداد إليها شيئًا فشيئًا، وكان كل قبيل يتجه إلى جهة خاصة به، فاستولى البورتغاليون على البرازيل سنة ١٥٥٩م، ثم تغلب عليها الإسبان، ثم استولت عليها هولندا، ثم استرجعتها البورتغال في سنة ١٦٥٤م، واستولى الفرنسيون في سنة ١٥٣٤م على كندا إلى نهر المسيسيبي، إلى أن طردهم منها الإنجليز في سنة ١٧٦٣م.
وفي سنة ١٧٧٠م كانت أمريكا كلها في يد ثلاث دول؛ فأمريكا الشمالية كانت مع الإنجليز، وكانت البرازيل مع البورتغاليين، والمكسيك وأمريكا الوسطى والجنوبية مع الإسبان.
وكانت البلاد الأمريكية التي في جنوب كندا تنقسم إلى جملة ولايات، اتحد منها ١٣ ولاية قامت ثورتها ضد الإنجليز؛ لكثرة الضرائب التي كانوا يأخذونها منهم، ولفداحة الجمارك التي كانوا يُحَصِّلونها على محاصيلهم. وفي سنة ١٧٧٥م أعلن الأمريكان على الإنجليز حرب استقلالهم التي كانت تساعدهم فيها فرنسا، فأَلَّفُوا جيشًا تحت قيادة واشنطون. وفي سنة ١٧٧٦م وضعوا لهم دستورًا أساسُه حِفْظ كل ولاية لاستقلالها الداخلي استقلالًا تامًّا، وما زال الأمريكان مع الإنجليز في حرب انتهت بانسحاب هؤلاء من الولايات المتحدة، واعترافهم في معاهدة فرساي سنة ١٧٨١م باستقلالهم.
وفي سنة ١٧٨٩م انْتُخِب واشنطون رئيسًا عامًّا لجمهورية الولايات المتحدة، وبقي في رئاستها إلى سنة ١٧٩٧م، وفيها تَرَكَ مركز الرئاسة لغيره ثم ذهب للإقامة في مزرعته حتى مات سنة ١٧٩٩م، وفي مُدَّتِه نُقِّح الدستور، وأنشئ بنك للبلاد لتنظيم ماليتها التي أَثْقَلَتْ كاهِلَها محاربةُ الإنجليز، وها هي الآن بعد قرن وربع من استقلالها تُسيِّرُ دفة العالم بالمال الذي هو أساس كل رُقِيٍّ وتقدُّم.
وما زالت الولايات الأخرى تنضم إلى هذا الاتحاد واحدة بعد الأخرى، حتى تم اتحادها في سنة ١٨٤٨م وهي ٤٨ ولاية، كل واحدة مستقلة في داخليتها استقلالها تامًّا، ومجموع مسطحها جميعًا ٣٢٦٠٠٠٠ كيلومتر مربع، وعدد سكانها ١٢٥ مليون نفس!
ولقد اتصلت نيران الثورة التي قامت بها ولايات الاتحاد إلى الجهات الأخرى من أمريكا، فأعلنت البرازيل استقلالها في سنة ١٨١٠م، ثم تَبِعَتْها المكسيك في سنة ١٨٢١م، ثم جاء بعد ذلك اتحاد جمهوريات هوندوراس، وسان سلفادور، ونيكاراجا ثم اتحاد كولومبيا، وفانزويلا، وجوبان، ثم استقلال جمهوريتَي باراجيه وأوراجيه، ثم استقلال الشيلي والأرجنتين واستيلاؤهما معًا على أراضي باثاغونيا إلى رأس ماجيلان الذي في جنوب القارة الأمريكية.
وبقيت إسبانيا في جزر الأنتيل حتى طردتها منها الولايات المتحدة سنة ١٨٩٨م بعد حرب قضت على البحرية الإسبانية التي لم تقم لها من بعدها قائمة، وأصبحت حكومات أمريكا كلها جمهوريات ليس فيها ذكرٌ لملك من الملوك، اللهم إلا في كندا وحدها لدخولها في الإمبراطورية الإنجليزية.
وقد انضمت الولايات المتحدة إلى الحلفاء في الحرب الأوروبية التي انتهت في مصلحة الحلفاء بِبرَكة شروط الرئيس وِلْسُن التي كانت تدور حول شرطين أساسيين؛ أولهما: عدم أخذ المنتصر شيئًا من أملاك المنكسر! ثانيهما: حرية الشعوب الضعيفة! تلك الشروط التي لم يتحقق منها شيءٍ خصوصًا فيما يختص بالشعوب الضعيفة المغلوبة على أمرها!
وأمريكا بصفة عامة أرضها خصبة فَتِيَّةٌ لأنها لم تشتغل بالزراعة إلا من مدة قرن تقريبًا، ولا تزال على حالتها من الخصب، خصوصًا في الأراضي التي يمر بها نهر المسيسيبي، وكذلك الأراضي البركانية التي تكثر في الجهات الشرقية من الولايات المتحدة، ولا تزال براكينها ثائرة لم تخمد، وهي في خط الاستواء وما يليه من المناطق، وليس في أمريكا كلها من الأراضي الغير الصالحة للزرع إلا نحو ١٥ من ١٠٠ من مساحتها، وهي أرض حجرية متبلورة، وأراضيها الخصبة بصفة عامة متكونة من المواد التي تحملها إليها أنهارها العظيمة، كنهر المسيسيبي الذي يخرج من بحيرات إيتاسكا في كندا، ويخترق الولايات المتحدة حتى يصب في خليج المكسيك وطوله ٤٦٢٠ كيلومترًا، ونهر مسوري الذي يصب في المسيسيبي، ونهر هيدسون، ونهر فرجان، وكنكيتكون، ودلاور، وأسكونهانا، وجمس، وكلها تسير في مناطق سهلة! ويُقَدِّرون مساحتها بأكثر من مليون وربع ميل مربع!
أما أمريكا الجنوبية فأعظم أنهارها الأمازون، وسان فرنسسكو، وريودو لابلاتا، وأكثر محاصيل أمريكا الشمالية الذرة والحبوب على اختلافها، خصوصًا القمح، وأهم محاصيل الولايات المتحدة القطن الذي يُزْرَع في ولاياتها الجنوبية.
أما أمريكا الجنوبية فأهم محاصيلها الذرة والبن وقصب السكر، وعلى الأخص القمح الذي يُصَدِّرون منه كميات هائلة إلى العالم القديم وخصوصًا من الشيلي التي يسمونها مزرعة العالم؛ وذلك لانبساط أراضيها، وتوفُّر مواد الخصوبة فيها، وكثرة ما فيها من معادن نترات الصودا، أما أحواض الأمازون فغالبها غابات كثيفة، ويُصَدِّرون منها كثيرًا من خشب العمارة، ومنها المجنو، والأبنوس، والبليسندر، أما معادن أمريكا فهي الذهب، والفضة، ويوجدان بكثرة في كاليفورنيا، وكولورادو، ومكسيكا، وتكثر في الولايات المتحدة معادن الرصاص، والحديد، وتنتج منهما أكثر مما ينتجه العالم كله، ومعادن الفحم كثيرة جدًّا في أمريكا الشمالية، ويُقَدِّرونه بخمسة وثمانين في المائة من محصول العالم كله! وكذلك معادن البترول تكثر فيها جدًّا، ويقدرون لنفاد الموجود فيها الآن بثلاثين سنة؛ وذلك لكثرة ما يستهلكونه منه أو يُصَدِّرونه إلى الخارج.
أما حيواناتها فكثيرة جدًّا، وكثير منها يختلف في شكله عن حيوانات العالم القديم، أما ما فيها من البقر والخيل والحمير والأغنام، فقد انتقل إليها مع المستعمرين الذين عنوا بتربيتها حتى أصبحت فيها بكثرة هائلة ببركة عنايتهم بها، وهم الآن يُصَدِّرون من لحومها مجهَّزَة وغير مجهَّزَة بكميات كبيرة جدًّا إلى العالم القديم.
(٧٣) معرفة الفضل لذويه
وهنا يجدر بي أن أشكر من كان يرافقنا في رحلتنا من رجال الاتحاد، كما أُثْنِي على رجال قَلَمِ الاستعلامات بوزارة الزراعة، وكذلك رجال الغرف التجارية، فقد كنت ألجأ إليهم في تعرُّف كثير من المعلومات، كما أشكر رجال مفوَّضِيَّتنا المصرية، وعلى الخصوص حضرة صاحب السعادة محمود باشا سامي، ورجال قنصلية نيويورك خصوصًا عسل بك. على ما ساعَدوني به من جمِّ التحقيقات، أما صديقي المرحوم محمود أباظة بك — أسكنه الله فسيح جناته — فقد كان لي مادةً قَيِّمَةً في المسائل الزراعية، وكذلك المستر هوبسن المندوب الزراعي عن حكومة الاتحاد، فقد كان لي نِعْم العون في كل ما كنت ألجأ إليه فيه جزاه الله خيرًا.
•••
وهنا أختم كلمتي بالذكرى الحسنة التي أحتفظ بها لحضرات أعضاء المؤتمر بصفة عامة، لا سيما مَن تشرَّفْتُ بمعرفتهم بصفة خاصة، وعَرَفْتُ فيهم العلم الجم، والآداب الفاضلة، والصفات السامية، ولا غرو فهم زينة الزمان وخلاصة بني الإنسان.
-
Ies Etats Unis par And rè Siegfried.
-
Ies Etats Unis par Iarousse.
-
Ies Etats Unis par cambon.
-
En Amerique par-jule hnret.
وبعد عودتي إلى مصر عثرت في كتبخانة بنك مصر على التقرير الرسمي المقدَّم من المفوضية المصرية إلى وزارة الخارجية المصرية، فرجعت إليه في كثير من التحقيقات والتدقيقات المالية والاقتصادية.